أخواني الكرام
حضرت قبل فترة دورة لتدبر القرآن الكريم مع شيخنا الكريم داوود بو سنان
وقد كانت دورة غزيرة النفع عميقة الأثر في نفوس كل من حضر.
وإني رأيت هنا أن أعرض شيئا مما استفدته منها نشرا لفضلها ودعوة للناس لحضورها.
وقد سئل الشيخ داوود عن النقل من الدورة، فقال لا بأس على أن يشار أن ذلك ما استفاده الناقل منها، وهذا تماما ما سيكون هنا، فأنا أعرض هنا استفادتي من هذه الدورة العظيمة الأثر، ولا شك أنه فاتني الكثير منها، فهي دورة كما ذكرت غزيرة عميقة، على أنني أضفت في بعض المواضع بعض الآيات والأفكار من معي زيادة في إيضاح المعنى وتتبعا له.
وسوف يكون عرضي للدورة في أربع سلاسل بإذن الله تعالى، وذلك طلبا لعدم التطويل في العرض، وهذه السلاسل، سوف تكون تحت المسميات التالية:
- حديث القرآن عن القرآن
-في رحاب التسبيح
-اهدنا الصراط المستقيم
- بين رحلتي النور والظلمات
والله أسئل التوفيق والسداد
###########################
حديث القرآن عن القرآن (1)
بعيدا عن التعريف الاصطلاحي عن القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم هو رسالة، والرسالة لا بد لها من مرسل، ومرسل إليه وفحوى الرسالة.
والمرسل هو الله سبحانه:
تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ يس (5)
تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الزمر (1)
تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافر (2)
تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ فصلت (2)
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ الواقعة (80)
تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فصلت (42)
تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى طه (4)
فهذا هو المرسل سبحانه، ذو الصفات العلى، والأسماء الحسنى، الذي أحاط بكل شيء علما، وخلق الإنسان وعلّمه.
والمرسل إليه هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته من بعده:
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ آل عمران (3)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ الشعراء (193-195)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الفرقان (1)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا النساء (136)
وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ البقرة (99)
هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ (إبراهيم:52)
والآيات في هذا كثيرة جدا.
حديث القرآن عن القرآن (٢)
تكلمنا سابقا عن كون القرآن مرسل من الله سبحانه وهو مرسل لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، والآيات في هذا كثيرة جدا.
أما فحوى الرسالة فسوف نتحدث عنها مستقبلا في موضوع مستقل، أما غرضنا هنا هو أن نبيّن كيف تحدث القرآن الكريم عن نفسه لنرى المنزلة والمكانة التي يضعها الله سبحانه وتعالى لهذه الرسالة.
ويتميّر القرآن الكريم بكثرة الحديث عن القرآن، بل أن كثيرا من السور تبدأ بتوطئة عن القرآن الكريم نفسه، وكثرة هذا الحديث يدل دلالة واضحة على أهمية هذا القرآن وعلو مكانته، ولو اكتفى الله سبحانه وتعالى بمدحه في موضع واحد لكفاه، وكيف والحال أنه يتكرر الحديث عنه كثيرا بأعلى صفات التبجيل والتكريم:
فهو القرآن العظيم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر : 87]
وهو الحكيم: {يس *وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس :1-2]
وهو المجيد: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق : 1]
وهو العليّ:{وَإنَّهُ فِي أمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم}(الزخرف:4)
وهو العزيز: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * َ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}... (فصلت : 42 -41)
وهو المبارك: {َهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ}... (الأنعام : 92)
وهو الموعظة : (يَاأيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).يونس:57
وهو البصائر التي تنير القلوب :{هَذَا بصَائِرُ لِلنَّاسِ}(الجاثية:20)
وهو البرهان والنور: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء : 174]
وهو الروح التي تحيا به النفوس والقلوب: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى : 52]
ويقول سبحانه: {أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}... (الأنعام : 122).
حديث القرآن عن القرآن (٣)
والقرآن شفاء ورحمة: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء : 82]
وهو مصدر السعادة، لا يشقى صاحبه : {طه *مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه : 1-2]
وهو المهيّمن على غيره من الكتب:{مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيِمناً عَلَيْهِ}(المائدة:48)
وهو الفصل ليس بالهزل:{إنَّه لَقَوْلُ فَصْلٌ}(الطارق:13)
وهو فوق ذلك واضح بيّن، غير معقد، ولا متكلف يخترق الأعماق ليبين عنها بكل وضوح وجلاء {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر : 1]
والقرآن لا تفنى عجائبه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن : 1]
والقرآن ذكر وتذكرة، فهو ذكر لله رب العالمين : {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص : 1]
وهو تذكرة لهم: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) ص (87) -
والقرآن نذير للعباد لعبادة ربهم وخالقهم: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام : 19]
وهو بشرى للمؤمنين: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}... (النمل : 1 – 2)
وتلاحظون أخواني الكرام أننا هنا نمر على المعاني دونما استقصاء، وذلك طلبا للأختصار، وإلا فإن المعاني المطروحة عميقة بعيدة الغور.
فالقران لصاحبه برهان، أي حجة تظهر له معالم المنهج في الدنيا والمآل في الآخرة.
وهو النور الذي يضيء لك الطريق حتى تمضي على الطريق المستقيم، وهو النور للصدور من الآفات والأمراض.
تلكم لمحة عن بعض المعاني التي مرت في ثنايا الآيات التي مرت.
والآن من باب التذاكر والتدارس؛ ما معنى كون القرآن ذكر، فالله سبحانه يقول (إن هو إلا ذكر للعالمين)؟
حديث القرآن عن القرآن (٤)
الله سبحانه وتعالى قد أعطى القرآن الكريم بعض المسميات الخاصة به، وذلك زيادة في تعظيمه وإجلاله، وظاهرة تعدد الأسماء موجودة في جوانب أخرى في المنهج الإسلامي ليعطى ذلك المسمى القدر الائق به، ومن ذلك أسماء الله الحسنى، وأسماء يوم القيامة، وأسماء الجنة والنار، وهي أسماء كلها ينبغي أن تدرس بعناية وتركيز، وأوضح ذلك أسماء الله الحسنى التي ينبغي أن تدرس، ويذكر الله بها كل حين.
ومنهجنا هنا الوقوف عند الآيات دونما إعطاء مزيد شرح لها أو تفسير، وذلك لإيقاننا بأن في الظاهر البيّن منها الخير وزيادة.
وأول أسمائه وأشهرها القرآن {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء : 41]
وهو الكتاب: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر : 1]
وهو الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل: {تبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}... (الفرقان : 1).
وهو الذكر: (أنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَكُمْ وَإنَّهُ لِكَتَابٌ عَزِيزٌ).فصلت:15
وهو الوحي:{إنَّمَا أٌنْذِرُكُمْ بالْوَحْيِ}(الأنبياء:45)
وهو النور: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن : 8]
وهو كلام الله {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}... (التوبة : 6)
وهو أحسن الجديث: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}... (الزمر : 23).
وهو النبأ العظيم: فقال:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ النَّبإ الْعَظِيمِ}(النبأ:1-2)
ويتسامى الوصف الإلهي للقرآن الكريم في بعض الآيات شأنا عظيما يعجز عنه الوصف ويقصر عنه التعبير:
فيقول سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر : 21
ويقول عز شأنه {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد : 31]
ويصف سعة كلماته، فيقول: {ُقلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}... (الكهف : 109).
ويقول عز شأنه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}... (لقمان : 27).
]
وقد تحدى الله به الإنس والجن أن يأتوا بمثله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء : 88]
حديث القرآن عن القرآن (٥).
ولنقف الآن مع بعض سمات القرآن الكريم:
وأول ذلك: لا ريب في القرآن ولا إعوجاج: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس : 37]، ويقول سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء (82) -
لا يأتيه الباطل، فهو الحق الخالص : قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * َ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}... (فصلت : 42 -41) .
لا تمازجه الأهواء النفسية أو الوساوس الشيطانية : (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) التكوير (25)
وقد خصه الله بكل الأمثال فائدة للناس في حياتهم، فلا تأتيهم حادثة إلا يوجد لها المخرج في القرآن الكريم، : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء : 89]، ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف : 54]
وقد خصه الله بأحسن القصص: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف : 3]
وهو كتاب مفرق من حيث النزول، ليكون علاجا للحوادث حين تنزل {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء : 106]
وهو كتاب مفصل : {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت : 3]
وقد جعله الله ميسرا {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر : 17]
وبه علاج لأدواء الأمم السابقة ليعتبر المسلمين بهم، ولا يسلكوا منهاجهم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل : 76]
حديث القرآن عن القرآن (٦):
ولنتحدث الآن عن بعض الآداب التي أقرها القرآن الكريم عند قراءته
وأول ذلك الإستعاذة من الشيطان الرجيم: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل : 98]
وثانيا الإنصات له: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف : 204]
ثم ترتيله {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل : 4]
وعدم الإستعجال فيه: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه : 114]
بل المكوث معه {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء : 106]
وأهم من ذلكم كله، تدبره: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء : 82]
وهم يخشعون له أيما خشوع: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}... (الزمر : 23)
ويسجدون له: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق : 21]
ومن أفضل الأوقات للقراءته الفجر: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء : 78]
وقيام الليل: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) الإسراء (79) ، فبالتلاوة في هذا الوقت نال رسولنا الكريم منزلة المقام المحمود يوم القيامة.
ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس : 61]، ويظهر هنا أن قراءة القرآن هي شأن المؤمن في كل وقت.
ويحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من هجران القرآن الكريم {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان : 30]
كما ويحذر من عدم تدبره {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد : 24]
حديث القرآن عن القرآن(٧):
ولنعرض الآن إلى موقف المشركين من القرآن الكريم:
هم في نفور منه : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء : 41]
ويحاولون تشويهه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت : 26]
بل وتبديله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس : 15]
لذلك فالله سبحانه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء : 45-46]
والقرآن في مجمله هو رسالة هداية، هداية للناس بداية، يقول سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى والفرقان} [البقرة : 185]، ولكن الذين يستفيدون منه هم المتقون وحدهم: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}... (البقرة : 1 – 2)
فهو النور الهادي في الظلمات إلى الصراط المستقيم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) ). المائدة.
لذلك فإن التكذيب بالآيات هو من أسباب دخول النار، وذلك مما يلتفت إليه الكافر عند موته: (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ) الأعراف (36-37).
أما في المحشر فيحشر من نساه أعمى، يقول سبحانه (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىٰ) طه ١٢٤-١٢٦
بل وذلك ما يقرع به الملائكة أصحاب النار وهم في وسط جهنم (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ( 105 ) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ( 106 ) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ( 107 ) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ( 108 ) المؤمنون
.
حديث القرآن عن القرآن (٨)
ومن أطول المقاطع القرآنية التي تكلمت عن القرآن الكريم، ما في سورة التكوير:
يقول سبحانه (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ *فَأَيْنَ تَذهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ *لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ *وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) التكوير (15-29)
وهنا تأكيدات قرآنية كثيرة تدل على أن مصدر القرآن الكريم هو الله سبحانه وتعالى. والقرآن الكريم ذكر للعالمين، يرجعهم لله سبحانه وتعالى ويذكرهم برسالته إليهم فيرجعون إليه، والقرآن الكريم كما مر حوى كل شيء وفصلّه تفصيلا، به كل ما يحتاجه الإنسان في حياته.
(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ َ) الأنعام 38
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ۚ) الكهف 54
فهو بمثابة الدليل العملي للإنسان من خالقه سبحانه وتعالى، فهو العلم الأوحد والأصيل، وغيره إنما فروع، لا يغني عنه شيء من العلوم قط.
حديث القرآن عن القرآن (٩)
والقرآن أتى ليطبق واقعا على الأرض، كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس ليكون معرفة تسكن العقول وحسب، فليس من الأنبياء من كان فيلسوفا ينظّر للمعلومات، بل كلهم أتوا لتغيير واقع جميع الناس ليسلكوا الطريق المستقيم.
يقول سبحانه ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)﴾ الشعراء
فهو إذن ينزل على القلوب، لا على العقول، فيغير الطباع، ويشفي الصدور.
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) الحديد (16)
والقلوب القاسية إنما تولد الصراع والشنئان والشقاء، وإ ذا أخذ القرآن بهذا المعنى فلن يتغير من الحال المسلم والأمة شيء، فليس المطلوب المعرفة، وإنما المطلوب إصغاء القلب والتطبيق، وحال الأمة اليوم هي إنها لا تقرأ للتطبيق وتطهير القلوب، وإنما تتوسع في المعارف الدماغية التي لا تغني هنا شيئا.
والله سبحانه يقول (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ) العنكبوت (49)
والصدور هي محل الأمراض، من شرك، وما دونه، وإليه تصدر الوساوس الشيطانية، فلذلك فالقرآن أتي ليكون مصلحا لهذه الصدور.
والدعوة الإسلامية ثقيلة الحمل، حالها كما حال القرآن الكريم، فلذلك على الإنسان أن يتبتل إلى ربه بكثرة قراءة القرآن الكريم، خاصة في قيام الليل:
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا *إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا *إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلا *إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا *رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا *وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا ) المزمل (1-10).
ومن هنا يكون معنى الذكر، هو التذكير القلبي، وليس المعرفة العقلية، فالمعرفة تسكن العقل بمجرد معرفتها، ولكن الذكر يكون للإستشعار والاستعظام، فلذلك وجد التكرار، فهذا التكرار هو في المقياس العقلي مضيعة للوقت، ولكنه في الميزان القلبي، ذكر يجدد الإيمان، ويضاعف الشعور، وهو لذلك غذاء متكرر تحتاجه الروح، كما يحتاج البدن للغذاء المتكرر أيضا. وهكذا هي سنة الحياة، تجدد لمعانيها في كل وقت.