نريد في هذا المبحث التجوال مع العقل الإنساني وهو يترقى في ميداني المعرفة وفهم الوجود، لننظر خطواته ومنطلقاته، حتى نكون على بيّنة بما كان عليه وبما آل إليه، نتفحص نظرته إلى النفس والكون والخالق سبحانه، فنرجع بعون من الله وتوفيقه بنظرة ولو يسيرة عن موضوع الفلسفة وأثرها في العقل البشري، وعن منطلقات عامة في موضوع الفلسفة، وعن بض المآلات التي تؤثر على نظرتنها للعالم اليوم، والله نسأل التسديد والتيسر والعون.
إن أهم وظيفية للإنسان في هذا الوجود، هي المعرفة، وبها نال الإنسان شرف الإستخلاف في هذا الوجود، وهل المعرفة إلا ثمرة لهذا التكريم الإلهي، الذي أحد أظهر مميزاته هو العقل البشري، الذي شُرّف به الإنسان عن سائر المخلوقات، كما شرًف الله الإنسان أيضا بوجود الروح التي هي سر من أسرار الله سبحانه.
وترتقي المعرفة من كونها ميزة ووظيفة إلى كونها منهاج دلالة للسير في هذا الوجود، فكيف تكون الهداية، وما هي الطريق، وكيف نتعامل مع الكون الذي نعمره، ومع الجسد الذي نسكنه، وفوق ذلك مع من أنشأ الوجود وأبدعة. أو بعبارة أخرى ما هي الحقيقة في هذا كله؟ وكيف نحصل عليها؟. ثم هل الإعتقاد والدين والإيمان إلا علم ومعرفة مرشدة إلى الحق والصواب.
وحديثنا بإذن الله في هذا الموضوع سيكون عن نظريتي المعرفة والوجود، وسيكون ذلك بشيء من الإختصار، لأنه لا مجال للإحاطة بهذين الموضوعين في مقال، ولكنه جهد متواضع لسبر أغوار هذا الموضوع المهم والحيوي.
ولا نريد أن نسهب هنا في تبيان أهمية نظرية المعرفة، ذلك لأن العلم هو الذي يرقًي الإنسان ويصنع الحضارات، ولا نريد أيضا الإسهاب في تبيان أهمية نظرية الوجود، ذلك أن النظرة إلى دور الإنسان، وإلى معنى الوجود ومكانة الخالق، هي العقيدة التي تقود الإنسان إلى العلى أو تضع من منزلته وشأنه.
ولعلنا قبل الولوج في موضوع نظرية المعرفة من الأفضل أن نعرّج على بعض التعاريف البسيطة التي نحتاجها حتى نمضي في هذا المشوار.
فالمعرفة هي حالة يدرك بها الإنسان غيره أو ذاته، وهي علاقة أحد جوانبها الذات العارفة، والجانب الآخر موضوع المعرفة، وهو ما تتجه إليه الذات العارفة بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
والصورة المباشرة: هو إتصال تجريبي مباشر، وذلك مثل معرفة الإنسان بحاله، إن كان صاحيا أو نائما، أو كل أمر يقف عليه بصورة مباشرة، ويسمى أيضا العلم الحضوري.
والصورة غير المباشرة: هو أن يكون الإدراك بصورة غير مباشرة، وإنما منقول، وهذا أكثر العلم، ويسمى أيضا العلم الحصولي.
والعلم الحصولي: هو حصول صورة للمعلوم في الذهن، ومن المعلوم أن صورة الكون في الذهن لن تكون كحالها في الواقع الخارجي، وإن حاولت الإقتراب منه، وهذا العلم الحصولي ينتقل للذهن عن طريق الحواس، ثم ينتقل إلى الذاكرة، وذلك ما يسميه الفلاسفة الاوائل بالخيال.
وهكذا تنقسم المعرفة إلى علم حضوري وحصولي، والعلم الحصولي ينقسم إلى علم تصديقي وآخر تصوري.
والعلم التصديقي: وهو أن يؤكد لك معلوم سابق أو يكون دليلا لمعلوم طارئ، وقد يكون هذا التصديق يقينيا أو ظنيا، فالتصديق هو حكم على المعرفة.
وأما المعلوم التصوري: فهي الصور الذهنية للمعلوم في العقل، وهي إما صور كليَة أو جزئية، فالكلب والكوب هي صورة ذهنية كلية، حيث أنها ليست متعيَنة، وإنما يقصد بها أي كلب أو أي كوب، وهذا تجريد يقوم به العقل ليحصل على هذه الصور الكليَة، فهذه الصورة الكليَة إذن هي عبارة عن مفاهيم وتعريفات عقليَة.
أما الصور الجزئية فهي صورة متعينة، فإذا كان "الرجل" صورة ذهنيَة كليَة، فإن محمد وسعيد وغيرهما شخوص معلومة، وهي صور جزئية لهذه الصورة الكلية. وهذه الصور الجزئية قد تكون حسية موجودة حاضرة أو متخيلة تستدعى من الذاكرة، أو حتى صور وهمية ليست لها مثال في الواقع كمثل العنقاء مثلا.
وهذه التعريفات العقلية أوما يسمى بالصور الكليّة التي ينتجها العقل بالتجريد، هي ما تميّز العقل الإنساني، ويبدع فيها، وتنقسم هذه الصور الكلية، وتسمى أيضا بالمفاهيم أو المعقولات، إلى معقولات أولية ومعقولات ثانوية.
المعقولات الأولية: هي ما كان عروضها في الخارج وتصديقها في الخارج، مثل الكتاب.
أم المعقولات الثانوية فتقسم إلى معقولات فلسفية وأخرى منطقية.
والمعقولات الثانوية المنطقية، فهذه عروضها في الذهن واتصافها في الذهن، كمثل مفهوم "الجزئي" و "الكلي" و "الجنس" و "النوع" وغيرها.
أما المعقولات الثانوية الفلسفية، فعروضها في الذهن وإتصافها في الواقع، ومثل ذلك أن ترى الغليان فتعرف أنه نتيجة للحرارة، فهذا هو مبدأ "العلة والمعلول" وهذه القوانين تتكشف بالعلم والتتبع.
وهكذا يتسلسل هذا النمط العقلي للتقسيم المعارف، فيبني عليها كل بما هو ماض فيه، كما بنى عليه أهل المنطق، وأيضا علماء الكلام وغيرهم، وهذا التقسيم بالأعلى هو ما استقر عليه الفلاسفة المسلمون وهو يختلف عمّا وضعة فلاسفة اليونان سابقا. ومن الكتب التي أعجبتني في هذا الموضوع كتاب "ضوابط المعرفة، وأصول الإستدلال والمناظرة" للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني.
ولا حاجة لنا هنا في المضي في موضوع الدلالات وأقسامها أو القضايا وتصديقاتها، فإن هذه علوم قائمة بذاتها، وإنما هدفنا هنا أن نعطي منطلقات توضح التقسيمات العقلية، وتفسر المعقولات الأولية التي ستكرر معنا بإذن الله.
أما الصور الجزئية فهي صورة متعينة، فإذا كان "الرجل" صورة ذهنيَة كليَة، فإن محمد وسعيد وغيرهما شخوص معلومة، وهي صور جزئية لهذه الصورة الكلية. وهذه الصور الجزئية قد تكون حسية موجودة حاضرة أو متخيلة تستدعى من الذاكرة، أو حتى صور وهمية ليست لها مثال في الواقع كمثل العنقاء مثلا.
وهذه التعريفات العقلية أوما يسمى بالصور الكليّة التي ينتجها العقل بالتجريد، هي ما تميّز العقل الإنساني، ويبدع فيها، وتنقسم هذه الصور الكلية، وتسمى أيضا بالمفاهيم أو المعقولات، إلى معقولات أولية ومعقولات ثانوية.
المعقولات الأولية: هي ما كان عروضها في الخارج وتصديقها في الخارج، مثل الكتاب.
أم المعقولات الثانوية فتقسم إلى معقولات فلسفية وأخرى منطقية.
والمعقولات الثانوية المنطقية، فهذه عروضها في الذهن واتصافها في الذهن، كمثل مفهوم "الجزئي" و "الكلي" و "الجنس" و "النوع" وغيرها.
أما المعقولات الثانوية الفلسفية، فعروضها في الذهن وإتصافها في الواقع، ومثل ذلك أن ترى الغليان فتعرف أنه نتيجة للحرارة، فهذا هو مبدأ "العلة والمعلول" وهذه القوانين تتكشف بالعلم والتتبع.
وهكذا يتسلسل هذا النمط العقلي للتقسيم المعارف، فيبني عليها كل بما هو ماض فيه، كما بنى عليه أهل المنطق، وأيضا علماء الكلام وغيرهم، وهذا التقسيم بالأعلى هو ما استقر عليه الفلاسفة المسلمون وهو يختلف عمّا وضعة فلاسفة اليونان سابقا. ومن الكتب التي أعجبتني في هذا الموضوع كتاب "ضوابط المعرفة، وأصول الإستدلال والمناظرة" للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني.
ولا حاجة لنا هنا في المضي في موضوع الدلالات وأقسامها أو القضايا وتصديقاتها، فإن هذه علوم قائمة بذاتها، وإنما هدفنا هنا أن نعطي منطلقات توضح التقسيمات العقلية، وتفسر المعقولات الأولية التي ستكرر معنا بإذن الله.
وإذا رجعنا إلى موضوع نظرية المعرفة، فإنها في الحقيقة تتكون من ثلاثة محاور رئيسية:
1. النظر في إمكان المعرفة
2. النظر في طبيعة المعرفة ذاتها
3. النظر في مصادر المعرفة وأدواتها.
ولعل تركيزنا بإذن الله سيكون عن المحورين الأوليين، على أن هذه المباحث مترابطة وسوف تظهر بإذن الله جميعها، لأن التداخل موجود، بل إن النظرة إلى المعرفة هي الأساس أيضا التي تقوم عليه نظرية الوجود، فكل منهما مكمل للآخر.
أولا إمكانية المعرفة:
والمقصود هنا، هل باستطاعة الإنسان أصلا أن يصل إلى المعرفة الصحيحة أم لا؟
ثم ما حدود ما يمكن أن يعرفه؟
وكيف يتأكد أن ما يعرفه هو الحقيقة ذاتها؟
وهناك إتجاهان رئيسيان في قضية إمكانية المعرفة، منهم من ينكر قدرة الإنسان على الحصول على المعارف اليقينية، وأشهر هؤلاء هم السفسطائيون، وسوف نقف معهم بعد قليل بإذن الله تعالى. وإتجاه آخر يقول بأن لدى الإنسان القدرة على الوصول إلى المعارف اليقينية، وهؤلاء هم الإعتقاديون أو أصاحب مذهب اليقين أو المذهب القطعي.
ومن أشهر السفسطائيين بروتاغوراس عاش 485 ق.م، والذي كان يقول "لا استطيع ان اعلم إن كانت الآلِهة موجودة أو غير موجودة وعلى أي صورة تكون - وذلك بسب غموض الموضوع - وقصر عُمر الإنسان"
أطلق بروتاغوراس على نفسه لقب سفسطائي، أي العالم، ومنها انطلقت الكلمة لتميّز تلك المرحلة التي كفرت بالمعرفة وإمكانها، ولم تكتسب الكلمة معناها السلبي، إلا بعد القرن الخامس قبل الميلاد، أي بعد الهجوم الذي شنه كل من سقراط وأفلاطون على هذه الفلسفة.
ومنهم جورجياس الذي كان يقول في كتاب "اللاوجود" أنه لا يوجد شيء، وإذا وُجِد فلا سبيل إلى معرفته، وإذا أمكن أن يعُرف فلا سبيل إلى إيصاله للغير. هنا إذن إنكار للمعرفة أصلا، وقد كان السفسطائيون يتفننون في إمكانية إثبات الشيء وضده، وكان معظمهم من الشعراء وأهل اللغة، فكانوا يجيدون استخدام اللغة لمآربهم. وقد تصدى لهم سقراط بالمناظرات والحوارات حتى أبعد شرهم، وقد كان هؤلاء السفسطائيون سببا للتنظير للمعارف العقلية، وذلك ما فعله أرسطو من بعد عندما أقام علم المنطق.
إن أهم وظيفية للإنسان في هذا الوجود، هي المعرفة، وبها نال الإنسان شرف الإستخلاف في هذا الوجود، وهل المعرفة إلا ثمرة لهذا التكريم الإلهي، الذي أحد أظهر مميزاته هو العقل البشري، الذي شُرّف به الإنسان عن سائر المخلوقات، كما شرًف الله الإنسان أيضا بوجود الروح التي هي سر من أسرار الله سبحانه.
وترتقي المعرفة من كونها ميزة ووظيفة إلى كونها منهاج دلالة للسير في هذا الوجود، فكيف تكون الهداية، وما هي الطريق، وكيف نتعامل مع الكون الذي نعمره، ومع الجسد الذي نسكنه، وفوق ذلك مع من أنشأ الوجود وأبدعة. أو بعبارة أخرى ما هي الحقيقة في هذا كله؟ وكيف نحصل عليها؟. ثم هل الإعتقاد والدين والإيمان إلا علم ومعرفة مرشدة إلى الحق والصواب.
وحديثنا بإذن الله في هذا الموضوع سيكون عن نظريتي المعرفة والوجود، وسيكون ذلك بشيء من الإختصار، لأنه لا مجال للإحاطة بهذين الموضوعين في مقال، ولكنه جهد متواضع لسبر أغوار هذا الموضوع المهم والحيوي.
ولا نريد أن نسهب هنا في تبيان أهمية نظرية المعرفة، ذلك لأن العلم هو الذي يرقًي الإنسان ويصنع الحضارات، ولا نريد أيضا الإسهاب في تبيان أهمية نظرية الوجود، ذلك أن النظرة إلى دور الإنسان، وإلى معنى الوجود ومكانة الخالق، هي العقيدة التي تقود الإنسان إلى العلى أو تضع من منزلته وشأنه.
ولعلنا قبل الولوج في موضوع نظرية المعرفة من الأفضل أن نعرّج على بعض التعاريف البسيطة التي نحتاجها حتى نمضي في هذا المشوار.
فالمعرفة هي حالة يدرك بها الإنسان غيره أو ذاته، وهي علاقة أحد جوانبها الذات العارفة، والجانب الآخر موضوع المعرفة، وهو ما تتجه إليه الذات العارفة بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
والصورة المباشرة: هو إتصال تجريبي مباشر، وذلك مثل معرفة الإنسان بحاله، إن كان صاحيا أو نائما، أو كل أمر يقف عليه بصورة مباشرة، ويسمى أيضا العلم الحضوري.
والصورة غير المباشرة: هو أن يكون الإدراك بصورة غير مباشرة، وإنما منقول، وهذا أكثر العلم، ويسمى أيضا العلم الحصولي.
والعلم الحصولي: هو حصول صورة للمعلوم في الذهن، ومن المعلوم أن صورة الكون في الذهن لن تكون كحالها في الواقع الخارجي، وإن حاولت الإقتراب منه، وهذا العلم الحصولي ينتقل للذهن عن طريق الحواس، ثم ينتقل إلى الذاكرة، وذلك ما يسميه الفلاسفة الاوائل بالخيال.
وهكذا تنقسم المعرفة إلى علم حضوري وحصولي، والعلم الحصولي ينقسم إلى علم تصديقي وآخر تصوري.
والعلم التصديقي: وهو أن يؤكد لك معلوم سابق أو يكون دليلا لمعلوم طارئ، وقد يكون هذا التصديق يقينيا أو ظنيا، فالتصديق هو حكم على المعرفة.
وأما المعلوم التصوري: فهي الصور الذهنية للمعلوم في العقل، وهي إما صور كليَة أو جزئية، فالكلب والكوب هي صورة ذهنية كلية، حيث أنها ليست متعيَنة، وإنما يقصد بها أي كلب أو أي كوب، وهذا تجريد يقوم به العقل ليحصل على هذه الصور الكليَة، فهذه الصورة الكليَة إذن هي عبارة عن مفاهيم وتعريفات عقليَة.
أما الصور الجزئية فهي صورة متعينة، فإذا كان "الرجل" صورة ذهنيَة كليَة، فإن محمد وسعيد وغيرهما شخوص معلومة، وهي صور جزئية لهذه الصورة الكلية. وهذه الصور الجزئية قد تكون حسية موجودة حاضرة أو متخيلة تستدعى من الذاكرة، أو حتى صور وهمية ليست لها مثال في الواقع كمثل العنقاء مثلا.
وهذه التعريفات العقلية أوما يسمى بالصور الكليّة التي ينتجها العقل بالتجريد، هي ما تميّز العقل الإنساني، ويبدع فيها، وتنقسم هذه الصور الكلية، وتسمى أيضا بالمفاهيم أو المعقولات، إلى معقولات أولية ومعقولات ثانوية.
المعقولات الأولية: هي ما كان عروضها في الخارج وتصديقها في الخارج، مثل الكتاب.
أم المعقولات الثانوية فتقسم إلى معقولات فلسفية وأخرى منطقية.
والمعقولات الثانوية المنطقية، فهذه عروضها في الذهن واتصافها في الذهن، كمثل مفهوم "الجزئي" و "الكلي" و "الجنس" و "النوع" وغيرها.
أما المعقولات الثانوية الفلسفية، فعروضها في الذهن وإتصافها في الواقع، ومثل ذلك أن ترى الغليان فتعرف أنه نتيجة للحرارة، فهذا هو مبدأ "العلة والمعلول" وهذه القوانين تتكشف بالعلم والتتبع.
وهكذا يتسلسل هذا النمط العقلي للتقسيم المعارف، فيبني عليها كل بما هو ماض فيه، كما بنى عليه أهل المنطق، وأيضا علماء الكلام وغيرهم، وهذا التقسيم بالأعلى هو ما استقر عليه الفلاسفة المسلمون وهو يختلف عمّا وضعة فلاسفة اليونان سابقا. ومن الكتب التي أعجبتني في هذا الموضوع كتاب "ضوابط المعرفة، وأصول الإستدلال والمناظرة" للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني.
ولا حاجة لنا هنا في المضي في موضوع الدلالات وأقسامها أو القضايا وتصديقاتها، فإن هذه علوم قائمة بذاتها، وإنما هدفنا هنا أن نعطي منطلقات توضح التقسيمات العقلية، وتفسر المعقولات الأولية التي ستكرر معنا بإذن الله.
أما الصور الجزئية فهي صورة متعينة، فإذا كان "الرجل" صورة ذهنيَة كليَة، فإن محمد وسعيد وغيرهما شخوص معلومة، وهي صور جزئية لهذه الصورة الكلية. وهذه الصور الجزئية قد تكون حسية موجودة حاضرة أو متخيلة تستدعى من الذاكرة، أو حتى صور وهمية ليست لها مثال في الواقع كمثل العنقاء مثلا.
وهذه التعريفات العقلية أوما يسمى بالصور الكليّة التي ينتجها العقل بالتجريد، هي ما تميّز العقل الإنساني، ويبدع فيها، وتنقسم هذه الصور الكلية، وتسمى أيضا بالمفاهيم أو المعقولات، إلى معقولات أولية ومعقولات ثانوية.
المعقولات الأولية: هي ما كان عروضها في الخارج وتصديقها في الخارج، مثل الكتاب.
أم المعقولات الثانوية فتقسم إلى معقولات فلسفية وأخرى منطقية.
والمعقولات الثانوية المنطقية، فهذه عروضها في الذهن واتصافها في الذهن، كمثل مفهوم "الجزئي" و "الكلي" و "الجنس" و "النوع" وغيرها.
أما المعقولات الثانوية الفلسفية، فعروضها في الذهن وإتصافها في الواقع، ومثل ذلك أن ترى الغليان فتعرف أنه نتيجة للحرارة، فهذا هو مبدأ "العلة والمعلول" وهذه القوانين تتكشف بالعلم والتتبع.
وهكذا يتسلسل هذا النمط العقلي للتقسيم المعارف، فيبني عليها كل بما هو ماض فيه، كما بنى عليه أهل المنطق، وأيضا علماء الكلام وغيرهم، وهذا التقسيم بالأعلى هو ما استقر عليه الفلاسفة المسلمون وهو يختلف عمّا وضعة فلاسفة اليونان سابقا. ومن الكتب التي أعجبتني في هذا الموضوع كتاب "ضوابط المعرفة، وأصول الإستدلال والمناظرة" للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني.
ولا حاجة لنا هنا في المضي في موضوع الدلالات وأقسامها أو القضايا وتصديقاتها، فإن هذه علوم قائمة بذاتها، وإنما هدفنا هنا أن نعطي منطلقات توضح التقسيمات العقلية، وتفسر المعقولات الأولية التي ستكرر معنا بإذن الله.
وإذا رجعنا إلى موضوع نظرية المعرفة، فإنها في الحقيقة تتكون من ثلاثة محاور رئيسية:
1. النظر في إمكان المعرفة
2. النظر في طبيعة المعرفة ذاتها
3. النظر في مصادر المعرفة وأدواتها.
ولعل تركيزنا بإذن الله سيكون عن المحورين الأوليين، على أن هذه المباحث مترابطة وسوف تظهر بإذن الله جميعها، لأن التداخل موجود، بل إن النظرة إلى المعرفة هي الأساس أيضا التي تقوم عليه نظرية الوجود، فكل منهما مكمل للآخر.
أولا إمكانية المعرفة:
والمقصود هنا، هل باستطاعة الإنسان أصلا أن يصل إلى المعرفة الصحيحة أم لا؟
ثم ما حدود ما يمكن أن يعرفه؟
وكيف يتأكد أن ما يعرفه هو الحقيقة ذاتها؟
وهناك إتجاهان رئيسيان في قضية إمكانية المعرفة، منهم من ينكر قدرة الإنسان على الحصول على المعارف اليقينية، وأشهر هؤلاء هم السفسطائيون، وسوف نقف معهم بعد قليل بإذن الله تعالى. وإتجاه آخر يقول بأن لدى الإنسان القدرة على الوصول إلى المعارف اليقينية، وهؤلاء هم الإعتقاديون أو أصاحب مذهب اليقين أو المذهب القطعي.
ومن أشهر السفسطائيين بروتاغوراس عاش 485 ق.م، والذي كان يقول "لا استطيع ان اعلم إن كانت الآلِهة موجودة أو غير موجودة وعلى أي صورة تكون - وذلك بسب غموض الموضوع - وقصر عُمر الإنسان"
أطلق بروتاغوراس على نفسه لقب سفسطائي، أي العالم، ومنها انطلقت الكلمة لتميّز تلك المرحلة التي كفرت بالمعرفة وإمكانها، ولم تكتسب الكلمة معناها السلبي، إلا بعد القرن الخامس قبل الميلاد، أي بعد الهجوم الذي شنه كل من سقراط وأفلاطون على هذه الفلسفة.
ومنهم جورجياس الذي كان يقول في كتاب "اللاوجود" أنه لا يوجد شيء، وإذا وُجِد فلا سبيل إلى معرفته، وإذا أمكن أن يعُرف فلا سبيل إلى إيصاله للغير. هنا إذن إنكار للمعرفة أصلا، وقد كان السفسطائيون يتفننون في إمكانية إثبات الشيء وضده، وكان معظمهم من الشعراء وأهل اللغة، فكانوا يجيدون استخدام اللغة لمآربهم. وقد تصدى لهم سقراط بالمناظرات والحوارات حتى أبعد شرهم، وقد كان هؤلاء السفسطائيون سببا للتنظير للمعارف العقلية، وذلك ما فعله أرسطو من بعد عندما أقام علم المنطق.
وهناك مناظرة شهيرة بين جورجياس هذا و سقراط، ولا بأس هنا أن نقتطع شيئا منها، بشيء من الإختصار:
سقراط: حسن ويأتي دورك الآن يا جورجياس. إن البيان فيما قلنا هو أحد الفنون التي تستخدم الكلام وحده لتحقيق وإنجاز مهمتها. اليس ذلك صحيحاً ؟
- جورجياس: بلى أنه صحيح جداً.
- سقراط: أخبرني الآن إذن على أي الموضوعات تنصًب أحاديثه ؟ وما هو الشيء من بين كل الأشياء الموجودة الذي يتألف منه موضوع البيان؟
- جورجياس : إنه يا سقراط أعظم وأفضل الأمور الإنسانية.
- سقراط: ولكن هذا الذي تقول يا جورجياس إنما هو موضوع المناقشة. وما زال يفتقر تماماً للدقة.
- جورجياس: إنه في الواقع الخير الأسمى، ذاك الذي يمنح الحائز عليه الحرية بالنسبة لنفسه، والسيادة على الآخرين في وطنه.
- سقراط: ولكن ما تعني في النهاية بذلك؟
- جورجياس: إني أعني القدرة على إقناع المرء بواسطة الحديث القضائي في محاكمهم، والشيوخ في مجلسهم، وفي الجمعية الشعبية، وكذلك في كل إجتماع آخر، يجتمع فيه المواطنون، وتستطيع بهذه القدرة أن تسخٍر كلاً من الطبيب ومدرب الالعاب.
- سقراط: يبدو لي الآن يا جورجياس أنك حددت بقدر الإمكان أي فن هو البيان في رأيك، وإذا كنت قد فهمتك جيداً، فأنت تؤكد أن البيان عامل إقناع، وأن كل جهده يتجه إلى ذلك، وينتهي عنده. أترى شيئاً آخر يمكن أن تنسبه إليه غير هذه القدرة على توليد الإقناع في نفوس السامعين؟
- جورجياس: أبداً يا سقراط. ويلوح أنك حددته تماماً،
- سقراط: حسن، وفيما يتعلق بالبيان قل لي - أهو وحده الذي يُنتج الإقناع؟ أم ثمة فنون أخرى تنتجه أيضاً ؟ اني أوضح الأمر، فأقول : مهما نعلم أمر من الأشياء، فاننا نقنعه بما نعلمه اياه، أحق ذلك أم لا ؟
- جورجياس: إننا نقنعه بما نعلمه إلى أعلى درجة يا سقراط.
- سقراط: فلنعد إلى الفنون التي كنا نتكلم عنها منذ هنيهة. ألا يعلمنا علم الحساب ما يتصل بالأعداد وكذلك معلم الحساب ؟
- جورجياس : بالتأكيد.
- سقراط: إذن فهو يقنعنا أيضاً.
- جورجياس: نعم.
- سقراط: فالحساب إذن هو أيضاً عامل إقناع.
- جورجياس: هذا واضح.
- سقراط: والآن أقترح عليك أن تُميز بين نوعين من الإعتقاد. أحدهما ذلك الذي يُنتج الإعتقاد دون علم. والآخر ذلك الذي يكسب العلم فحسب ؟
- جورجياس: تماماً.
- سقراط: وإذا سلمنا بذلك، فأي إقناع ذلك الذي يُنتجه البيان أمام المحاكم والجمعيات فيما يخص العدل والظلم؟؟ أهو ذلك الذي يُنتج العقيدة المجردة من العلم؟ أم ذلك الذي يُنتج العلم؟
- جورجياس: واضح يا سقراط أنه ذلك الذي تَنتج عنه العقيدة.
- سقراط: وإذن هل البيان بهذا الإعتبار في موضوع العدل والظلم عامل إقناع عقيدة لا عامل إقناع علم؟
- جورجياس : نعم.
- جورجياس: يجب أن نستعل البيان وفقاً للعدالة مثلما نستعمل الأسلحة الاخرى، فإذا صار أحدهم ماهراً في البيان واستعمل بعد ذلك قوته في فعل الشر، فليس هو في رأيي الأستاذ الذي يستحق أن نلومه وننفيه، لأنه علم فنه بقصد أن يُستعمل إستعمالاً عادلاً، وإنما التلميذ هو الذي أساء على العكس إستعماله. فالجدير إذن بالكره والنفي والموت هو من يستعمله إستعمالاً ضاراً وليس الأستاذ.
- سقراط: وهكذا فإن جاهلاً يتحدث أمام جهلة هو الذي يتغلب على العالم، عندما ينتصر الخطيب على الطبيب، هل الأمر على خلا ذلك ؟
- جورجياس : إنه كذلك في هذه الحالة على الأقل.
إن الذي يتابع أمر تلك المرحلة يجد أن شأن السفسطائية كان عظيما، وأنه كان لها ردة فعل واضحة فيما أتى بعدها من فلسفات. وقد تلى تلك المرحلة مرحلة تؤمن بالعقل بإمتياز وأنه هو ما ينبغي أن يكون له قدم السبق في كل شيء.
سقراط: حسن ويأتي دورك الآن يا جورجياس. إن البيان فيما قلنا هو أحد الفنون التي تستخدم الكلام وحده لتحقيق وإنجاز مهمتها. اليس ذلك صحيحاً ؟
- جورجياس: بلى أنه صحيح جداً.
- سقراط: أخبرني الآن إذن على أي الموضوعات تنصًب أحاديثه ؟ وما هو الشيء من بين كل الأشياء الموجودة الذي يتألف منه موضوع البيان؟
- جورجياس : إنه يا سقراط أعظم وأفضل الأمور الإنسانية.
- سقراط: ولكن هذا الذي تقول يا جورجياس إنما هو موضوع المناقشة. وما زال يفتقر تماماً للدقة.
- جورجياس: إنه في الواقع الخير الأسمى، ذاك الذي يمنح الحائز عليه الحرية بالنسبة لنفسه، والسيادة على الآخرين في وطنه.
- سقراط: ولكن ما تعني في النهاية بذلك؟
- جورجياس: إني أعني القدرة على إقناع المرء بواسطة الحديث القضائي في محاكمهم، والشيوخ في مجلسهم، وفي الجمعية الشعبية، وكذلك في كل إجتماع آخر، يجتمع فيه المواطنون، وتستطيع بهذه القدرة أن تسخٍر كلاً من الطبيب ومدرب الالعاب.
- سقراط: يبدو لي الآن يا جورجياس أنك حددت بقدر الإمكان أي فن هو البيان في رأيك، وإذا كنت قد فهمتك جيداً، فأنت تؤكد أن البيان عامل إقناع، وأن كل جهده يتجه إلى ذلك، وينتهي عنده. أترى شيئاً آخر يمكن أن تنسبه إليه غير هذه القدرة على توليد الإقناع في نفوس السامعين؟
- جورجياس: أبداً يا سقراط. ويلوح أنك حددته تماماً،
- سقراط: حسن، وفيما يتعلق بالبيان قل لي - أهو وحده الذي يُنتج الإقناع؟ أم ثمة فنون أخرى تنتجه أيضاً ؟ اني أوضح الأمر، فأقول : مهما نعلم أمر من الأشياء، فاننا نقنعه بما نعلمه اياه، أحق ذلك أم لا ؟
- جورجياس: إننا نقنعه بما نعلمه إلى أعلى درجة يا سقراط.
- سقراط: فلنعد إلى الفنون التي كنا نتكلم عنها منذ هنيهة. ألا يعلمنا علم الحساب ما يتصل بالأعداد وكذلك معلم الحساب ؟
- جورجياس : بالتأكيد.
- سقراط: إذن فهو يقنعنا أيضاً.
- جورجياس: نعم.
- سقراط: فالحساب إذن هو أيضاً عامل إقناع.
- جورجياس: هذا واضح.
- سقراط: والآن أقترح عليك أن تُميز بين نوعين من الإعتقاد. أحدهما ذلك الذي يُنتج الإعتقاد دون علم. والآخر ذلك الذي يكسب العلم فحسب ؟
- جورجياس: تماماً.
- سقراط: وإذا سلمنا بذلك، فأي إقناع ذلك الذي يُنتجه البيان أمام المحاكم والجمعيات فيما يخص العدل والظلم؟؟ أهو ذلك الذي يُنتج العقيدة المجردة من العلم؟ أم ذلك الذي يُنتج العلم؟
- جورجياس: واضح يا سقراط أنه ذلك الذي تَنتج عنه العقيدة.
- سقراط: وإذن هل البيان بهذا الإعتبار في موضوع العدل والظلم عامل إقناع عقيدة لا عامل إقناع علم؟
- جورجياس : نعم.
- جورجياس: يجب أن نستعل البيان وفقاً للعدالة مثلما نستعمل الأسلحة الاخرى، فإذا صار أحدهم ماهراً في البيان واستعمل بعد ذلك قوته في فعل الشر، فليس هو في رأيي الأستاذ الذي يستحق أن نلومه وننفيه، لأنه علم فنه بقصد أن يُستعمل إستعمالاً عادلاً، وإنما التلميذ هو الذي أساء على العكس إستعماله. فالجدير إذن بالكره والنفي والموت هو من يستعمله إستعمالاً ضاراً وليس الأستاذ.
- سقراط: وهكذا فإن جاهلاً يتحدث أمام جهلة هو الذي يتغلب على العالم، عندما ينتصر الخطيب على الطبيب، هل الأمر على خلا ذلك ؟
- جورجياس : إنه كذلك في هذه الحالة على الأقل.
إن الذي يتابع أمر تلك المرحلة يجد أن شأن السفسطائية كان عظيما، وأنه كان لها ردة فعل واضحة فيما أتى بعدها من فلسفات. وقد تلى تلك المرحلة مرحلة تؤمن بالعقل بإمتياز وأنه هو ما ينبغي أن يكون له قدم السبق في كل شيء.
وقد قسّم الفلاسفة المسلمون الشكّاك والسفسطائيين إلى ثلاثة أقسام:
أ. العندية: وهؤلاء يقولون هو عندي حق أو عندي باطل، فالصحيح عندي قد يكون باطل عندك، فهنا الحقائق نسبية لا مطلقة، ولا توجد معايير مطلقة. وهذا هو أصل البرجماتية الحديثة، فبعض البرجماتيين، قد يدرس العقيدة الإسلامية ويرجح فيها، وهو غير مسلم أصلا.
وكثيرا ما تستخدم الدول الحديثة معيار البرجماتية هذا، فهي لا تنظر مثلا أن الحق يتبع لأنه حق مهما اختلفت الظروف، بل مبدأهم أنه لا يهم إن كان حقا، بل المهم أنه هو الذي يصلح في هذه الحالة، وهكذا قد يقول البرجماتي أن اليهودية مثلا تنفع لإسرائيل ولكنه لا تنفع لأمريكا، ولا يهمه مثلا أن يتفاعلى ويشجع فكرا معيّنا في جهة ما، ويحاربه في جهة أخرى، إنه إذن ليس البحث عن الحقيقة وإنما هو البحث عن المصالح. ومن أشهر فلاسفة الشك العندية، بروتابالاس كما مر، وكان معاصرا لسقراط، وهو أول من تصدى له، فبيّن أن هناك معايير ثابتة يمكن أن يعرف بها الحق والخير.
ب. العنادية: ويسمى اليوم بالشك المطلق، وهؤلاء ينكرون المعارف كلها، ومن أشهرهم جورجياس، الذي ألف كتابا أسمهاه "اللاوجود"، وهو من مرت المناظرة معه.
ت. اللا أدرية: وهو مذهب تعليق الحكم، تسأله هل يمكن أن تعرف الأشياء، يقول "لا أدري"، وهو مذهب الغنوصية “Agnostic”. وهو المذهب السائد اليوم، تسأل معظم الناس اليوم، هل يوجد إله، فيقول لك لا أدري، لعله موجود، ولعله غير موجود، ولا يوجد لديي مرجح، ولا يوجد قطع أصلا في المسائل، بل كل شيء نسبي بالأصل.
ومتكأ هؤلاء الشكاك هو:
1. أخطاء الحواس، فأخطائها كثيرة جدا، فكيف إذن يمكن الإعتماد عليها في المعرفة.
2. لا ثقة بالعقل، لأنه كم من مرة آمنا بشيء ثم بعد البحث والعلم تبيّن أنّا كنا خاطئيين.
وهكذا طعون الشكاك كثيرة، يرجعونها إلى قصر الحواس، وقصر العقل، وربما عدم وجود الحقيقة أصلا، أو أنه لا يمكن التعرف على هذه الحقيقة. وقد توسعت الردود عليهم، ولست أرى داعي لذكر هذه الردود. ويعتبر مذهب الشك بمثابة أزمة في حياة العقل، يتوه في صاحبه في ظلمات الحيرة والقلق. وهذا المذهب الذي يلغي الحقائق رأسا يكاد أن يكون منقرضا لأنه يلغي حقيقة الإنسان وميزته في المعرفة، ولكنّ الشكاك عموما لم ينتهوا، بل لعلهم التيار السائد اليوم، وهكذا مر التأريخ العقل البشري بفترات سادها الشك وأخرى سادها اليقين.
وحتى التأريخ الإسلامي لم يخلوا من الشكاك، ومنهم الباطنية الذين يقولون أن لا سبيل للمعرفة إلا عن طريق الإمام المعصوم، فهم مقلدة، يقولون أن الإنسان بنفسه لا يستطيع الوصول إلى الحقيقة لكثرة ما يعتري الطريق من شبه، لذلك من أسلم الطرق هو الرجوع إلى المعصوم، فهو مصدر المعرفة اليقينية، وهو منبع العلم الإلهي. كما شاع أيضا عند الكنيسة أن لا علم إلا منها، فطريق العلم إنما هو الوحي وحده.
والغرب يرمي المسلمين اليوم بالدجماتية، وهي أن علمه يأتي من الإتباع للأشخاص، لا من البحث والتقصي، بل يقادون بأصوات بشرية يحسبونها دين، والدجماتية هي أن تكون تابعا للأشخاص ومقلدا لهم.
كما أن العلم اليوم يفتح أبواب النسبية والإحتمالات بدل العلم اليقيني الذي كان سائدا، ولعل هذا ما سنطرقه بعد قليل عندما نتحدث عن مذاهب اليقين. ولذلك فكثير من الناس اليوم يتذرعون باللاأدرية كما أسلفنا.
وعلاقة المعرفة بالحقيقة تحتاج إلى بُعد نظر، ذلك أنها ليست علاقة بسيطة، فنحن نعلم الآن أن الحقيقة تتوارى كلما اقتربنا منها، وأنه ليس هناك مجال للوصول للحقيقة، بل هناك مجال للبحث المستمر.
وهناك دراسات عن موضوع الشك وأسبابه، وعلاجه، وإذا كنا هنا تحدثنا عن المذهب الشكي، فإن الشك أيضا يستخدم كمنهج للوصول للحقيقة، والشك كمنهج يختلف كثيرا عن الشك كمذهب.
فالمنهج الشكي: هو أن تبدأ العلم بالتشكيك في كل شيء، ثم لا تصدق بشي حتى يتبيّن لك الدليل عليه، وهذا هو شك الغزالي، وديكارت، وهيجل، وشك الفلاسفة الذين اتخذوا الشك منهجا للعلم، وهؤلاء يبحثون عن اليقين، فالذي لا يصل لديهم إلى دائرة اليقين، يظل في دائرة الشك.
الغزالي والشك المنهجي:
والغزالي يأسس المعرفة على الحل الصوفي، أو لنقل على مصدر الإلهام، فيقول عن نفسه
"فلما خطرت لي هذه الخواطر-ويقصد قصر الحواس، وقصور العقل- وانقدحت في النفس، حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بدليل، ولم يمكن نصب الدليل، فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال، حتى شفى الله تعالى وعادت النفس إلى الصحة واعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقة بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو أكثر المعارف فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله تعالى الواسعة".
وقصة الغزالي هذه مشهورة، ويستنتج منها أنه مضى في بحث إمكانية المعرفة حتى منتهاه، فقلّب أقوال الفلاسفة فيها، حتى وصل إلى أن الحس والعقل، وهو ما سنتذاكره بإذن الله في المبحث القادم، والذي هو عن طبيعة المعرفة وطرقها- لأ يؤمَن بهما في تلقي المعارف، وإنما السبيل فقط بالوحي والإلهام، ويذكرني هذا بمذهب الإمام أبي سعيد الكدمي، كما ينقل عنه الشيخ السالمي:
العلم إلهام من الحميد في مذهب الشيخ إبي سعيد
والناظر فيما ذهب إليه الإمام الغزالي من حالة الشك، يرى أن الرجل قد تأثر بقرائاته الفلسفية. ولا شك أن مسألة صدق الحس والعقل في الوصول المعارف الدنيوية مسلم بها، وهي أكثر بداهة مما يتصور من هذه القصة. كما أن الأدلة العقلية على وجود الخالق سبحانه أيضا ظاهرة، إلا أن السؤال الذي يمر على خلدي دائما وأنا أمر على هذا المبحث، هل الإيمان بالله مبني بالدرجة الأولى على الأدلة العقلية، أم هو مبني على تصديق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أتى ليخبر العالمين أنه رسول من رب العالمين؟.
ومن الناس من يشبه شك الغزالي بشك إبراهيم النبي عليه السلام، (قال أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)، ورأيي أن هناك فرق بين الشكين كبير، فإبراهيم عليه السلام لا أظن أنه هنا أتى ليقيم دليلا على قصور الحواس والعقل عن معرفة الله، بل كان قبلها بقليل يسوق الأدلة العقلية على وجود الخالق سبحانه، وإنما هنا منازل لليقين، وليملئ ذلك الشوق القلبي في قلبه بعظمة الخالق وقدرته، وهو يراها تتجلى عيانا أمام ناظريه.
وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم، فإنه لا يطرح هذا السؤال عن قضية الشك في إمكانية المعرفة، بل نجد أن الإنسان إنما خلق وكرّم بالعلم، وهو أساس خلقه. فالله هو موجد الإنسان ومعلمه، وتأتي الأدلة تترى لتنبه الإنسان عقلا وحسا إلى النظر في الكون والآيات، وهو بهذا ينهي كل خلاف في المسألة، ولذلك لا نجد لهذه المسألة كبير أثر في التأريخ الإسلامي، بل حسمها القرآن لهم، فما عادوا يطرحونها، ولكن من لم يجد هذا النور، لا بد أن يخوض في هذا السؤال بداية بطبعه البشري القاصر، وهكذا نعلم أن الله ميّز الإنسان بالتعلم والإطلاع، ذلك لأنه مخوّل لوظيفة عظيمة قد خلق بصددها، وهكذا نجد أن القرآن يطوي المسائل هذه طيا، حتى يوصل الإنسان إلى هدفه وغايته.
أ. العندية: وهؤلاء يقولون هو عندي حق أو عندي باطل، فالصحيح عندي قد يكون باطل عندك، فهنا الحقائق نسبية لا مطلقة، ولا توجد معايير مطلقة. وهذا هو أصل البرجماتية الحديثة، فبعض البرجماتيين، قد يدرس العقيدة الإسلامية ويرجح فيها، وهو غير مسلم أصلا.
وكثيرا ما تستخدم الدول الحديثة معيار البرجماتية هذا، فهي لا تنظر مثلا أن الحق يتبع لأنه حق مهما اختلفت الظروف، بل مبدأهم أنه لا يهم إن كان حقا، بل المهم أنه هو الذي يصلح في هذه الحالة، وهكذا قد يقول البرجماتي أن اليهودية مثلا تنفع لإسرائيل ولكنه لا تنفع لأمريكا، ولا يهمه مثلا أن يتفاعلى ويشجع فكرا معيّنا في جهة ما، ويحاربه في جهة أخرى، إنه إذن ليس البحث عن الحقيقة وإنما هو البحث عن المصالح. ومن أشهر فلاسفة الشك العندية، بروتابالاس كما مر، وكان معاصرا لسقراط، وهو أول من تصدى له، فبيّن أن هناك معايير ثابتة يمكن أن يعرف بها الحق والخير.
ب. العنادية: ويسمى اليوم بالشك المطلق، وهؤلاء ينكرون المعارف كلها، ومن أشهرهم جورجياس، الذي ألف كتابا أسمهاه "اللاوجود"، وهو من مرت المناظرة معه.
ت. اللا أدرية: وهو مذهب تعليق الحكم، تسأله هل يمكن أن تعرف الأشياء، يقول "لا أدري"، وهو مذهب الغنوصية “Agnostic”. وهو المذهب السائد اليوم، تسأل معظم الناس اليوم، هل يوجد إله، فيقول لك لا أدري، لعله موجود، ولعله غير موجود، ولا يوجد لديي مرجح، ولا يوجد قطع أصلا في المسائل، بل كل شيء نسبي بالأصل.
ومتكأ هؤلاء الشكاك هو:
1. أخطاء الحواس، فأخطائها كثيرة جدا، فكيف إذن يمكن الإعتماد عليها في المعرفة.
2. لا ثقة بالعقل، لأنه كم من مرة آمنا بشيء ثم بعد البحث والعلم تبيّن أنّا كنا خاطئيين.
وهكذا طعون الشكاك كثيرة، يرجعونها إلى قصر الحواس، وقصر العقل، وربما عدم وجود الحقيقة أصلا، أو أنه لا يمكن التعرف على هذه الحقيقة. وقد توسعت الردود عليهم، ولست أرى داعي لذكر هذه الردود. ويعتبر مذهب الشك بمثابة أزمة في حياة العقل، يتوه في صاحبه في ظلمات الحيرة والقلق. وهذا المذهب الذي يلغي الحقائق رأسا يكاد أن يكون منقرضا لأنه يلغي حقيقة الإنسان وميزته في المعرفة، ولكنّ الشكاك عموما لم ينتهوا، بل لعلهم التيار السائد اليوم، وهكذا مر التأريخ العقل البشري بفترات سادها الشك وأخرى سادها اليقين.
وحتى التأريخ الإسلامي لم يخلوا من الشكاك، ومنهم الباطنية الذين يقولون أن لا سبيل للمعرفة إلا عن طريق الإمام المعصوم، فهم مقلدة، يقولون أن الإنسان بنفسه لا يستطيع الوصول إلى الحقيقة لكثرة ما يعتري الطريق من شبه، لذلك من أسلم الطرق هو الرجوع إلى المعصوم، فهو مصدر المعرفة اليقينية، وهو منبع العلم الإلهي. كما شاع أيضا عند الكنيسة أن لا علم إلا منها، فطريق العلم إنما هو الوحي وحده.
والغرب يرمي المسلمين اليوم بالدجماتية، وهي أن علمه يأتي من الإتباع للأشخاص، لا من البحث والتقصي، بل يقادون بأصوات بشرية يحسبونها دين، والدجماتية هي أن تكون تابعا للأشخاص ومقلدا لهم.
كما أن العلم اليوم يفتح أبواب النسبية والإحتمالات بدل العلم اليقيني الذي كان سائدا، ولعل هذا ما سنطرقه بعد قليل عندما نتحدث عن مذاهب اليقين. ولذلك فكثير من الناس اليوم يتذرعون باللاأدرية كما أسلفنا.
وعلاقة المعرفة بالحقيقة تحتاج إلى بُعد نظر، ذلك أنها ليست علاقة بسيطة، فنحن نعلم الآن أن الحقيقة تتوارى كلما اقتربنا منها، وأنه ليس هناك مجال للوصول للحقيقة، بل هناك مجال للبحث المستمر.
وهناك دراسات عن موضوع الشك وأسبابه، وعلاجه، وإذا كنا هنا تحدثنا عن المذهب الشكي، فإن الشك أيضا يستخدم كمنهج للوصول للحقيقة، والشك كمنهج يختلف كثيرا عن الشك كمذهب.
فالمنهج الشكي: هو أن تبدأ العلم بالتشكيك في كل شيء، ثم لا تصدق بشي حتى يتبيّن لك الدليل عليه، وهذا هو شك الغزالي، وديكارت، وهيجل، وشك الفلاسفة الذين اتخذوا الشك منهجا للعلم، وهؤلاء يبحثون عن اليقين، فالذي لا يصل لديهم إلى دائرة اليقين، يظل في دائرة الشك.
الغزالي والشك المنهجي:
والغزالي يأسس المعرفة على الحل الصوفي، أو لنقل على مصدر الإلهام، فيقول عن نفسه
"فلما خطرت لي هذه الخواطر-ويقصد قصر الحواس، وقصور العقل- وانقدحت في النفس، حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بدليل، ولم يمكن نصب الدليل، فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال، حتى شفى الله تعالى وعادت النفس إلى الصحة واعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقة بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو أكثر المعارف فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله تعالى الواسعة".
وقصة الغزالي هذه مشهورة، ويستنتج منها أنه مضى في بحث إمكانية المعرفة حتى منتهاه، فقلّب أقوال الفلاسفة فيها، حتى وصل إلى أن الحس والعقل، وهو ما سنتذاكره بإذن الله في المبحث القادم، والذي هو عن طبيعة المعرفة وطرقها- لأ يؤمَن بهما في تلقي المعارف، وإنما السبيل فقط بالوحي والإلهام، ويذكرني هذا بمذهب الإمام أبي سعيد الكدمي، كما ينقل عنه الشيخ السالمي:
العلم إلهام من الحميد في مذهب الشيخ إبي سعيد
والناظر فيما ذهب إليه الإمام الغزالي من حالة الشك، يرى أن الرجل قد تأثر بقرائاته الفلسفية. ولا شك أن مسألة صدق الحس والعقل في الوصول المعارف الدنيوية مسلم بها، وهي أكثر بداهة مما يتصور من هذه القصة. كما أن الأدلة العقلية على وجود الخالق سبحانه أيضا ظاهرة، إلا أن السؤال الذي يمر على خلدي دائما وأنا أمر على هذا المبحث، هل الإيمان بالله مبني بالدرجة الأولى على الأدلة العقلية، أم هو مبني على تصديق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أتى ليخبر العالمين أنه رسول من رب العالمين؟.
ومن الناس من يشبه شك الغزالي بشك إبراهيم النبي عليه السلام، (قال أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)، ورأيي أن هناك فرق بين الشكين كبير، فإبراهيم عليه السلام لا أظن أنه هنا أتى ليقيم دليلا على قصور الحواس والعقل عن معرفة الله، بل كان قبلها بقليل يسوق الأدلة العقلية على وجود الخالق سبحانه، وإنما هنا منازل لليقين، وليملئ ذلك الشوق القلبي في قلبه بعظمة الخالق وقدرته، وهو يراها تتجلى عيانا أمام ناظريه.
وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم، فإنه لا يطرح هذا السؤال عن قضية الشك في إمكانية المعرفة، بل نجد أن الإنسان إنما خلق وكرّم بالعلم، وهو أساس خلقه. فالله هو موجد الإنسان ومعلمه، وتأتي الأدلة تترى لتنبه الإنسان عقلا وحسا إلى النظر في الكون والآيات، وهو بهذا ينهي كل خلاف في المسألة، ولذلك لا نجد لهذه المسألة كبير أثر في التأريخ الإسلامي، بل حسمها القرآن لهم، فما عادوا يطرحونها، ولكن من لم يجد هذا النور، لا بد أن يخوض في هذا السؤال بداية بطبعه البشري القاصر، وهكذا نعلم أن الله ميّز الإنسان بالتعلم والإطلاع، ذلك لأنه مخوّل لوظيفة عظيمة قد خلق بصددها، وهكذا نجد أن القرآن يطوي المسائل هذه طيا، حتى يوصل الإنسان إلى هدفه وغايته.
مذهب اليقين:
وهو المذهب الإعتقادي، وهو يقف مقابلا لمذهب الشك، لذلك رأينا سقراط يتصدى لدحض مذاهب السوفسطائيين لكي يقيم بناء آخر يتمثل في الثقة المطلقة في العقل الإنساني وقدراته. ثم يأتي من بعده أفلاطون ليقيم نظرية المُثُل التي سوف نقف معها بإذن الله تعالى. ثم يأتي أرسطو ليكشف أغاليط السفسطائيين ويثبت إمكانية المعرفة، بل ويبني منهجا عقليا لهذا، وهو علم المنطق.
ونظرية المُثُل التي أتى بها أفلاطون تعتبر فرع من نظريته في النفس، ويقرر أفلاطون أن النفس خالدة وسابقة للجسد، الذي يعتبر عائقا عن وصولها للمعارف، وقد أتت هذه النفس من عالم خالص كانت فيه محيطة بالعلوم، ولكنها نسيت عندما امتزجت بهذا الجسد، ذلك أن طبيعة النفس تختلف عن طبيعة الجسد، والنفس أو العقل دائمة البحث عن الحقيقة، وهي تتذكر الأشياء عندما تمر عليها، فالعقل البشري كان عارفا لكل المعارف في عالم المُثُل، العالم الحقيقي حيث الكمال والحقيقة الكاملة، ثم انتقل إلى هذا العالم المشابه للعالم الحقيقي ولكنه غير حقيقي، بل مستنسخ منه، وبه أخطاء كثيرة، وهو مملوء بالشر. ويعتقد أفلاطون أن ما نراه أو نلمسه غير حقيقي، بل الحق في التخلص من صنوف هذه الحياة وشرورها، والمعرفة والخير هي في التجرد من هذه الحياة والعيش حياة مشابهة لعالم المثل، عالم العقل والفكر وحده، وترك هذه الحياة وشرورها.
والعقل يتذكر ما مر عليه في رحلته بهذه الحياة، فعندما مثلا يرى العقل الشجرة، يتذكر الشجرة الحقيقة التي علمها سابقا، ومنها استنسخت جميع الشجر في هذا العالم الذي نعيش فيه. فالمفهوم العقلي الكلي للشجرة متولد من تلك المرحلة، وهكذا يعتبر أفلاطون أن المصدر الوحيد للمعرفة هو العقل، وأن هناك عالما متكاملا حقيقيا هو عبارة عن مملكة للعقل.
ولا شك أنّ هذا غلو واضح في إعطاء العقل منزلة كبرى، ولعل هذا ناتج عن الردة فعل على السفسطائيين الذي نظّروا لتيّه، بعيدا عن نور العلم. وبقي هذا المذهب المثالي العقلي موجودا، وقد زاده أفلاطين تنظيرا فوق هذا، ثم أخذه فلاسفة المسلمين، الفارابي وابن سينا، وأكثر ما أخذوا هو من زيادات أفلاطين.
وإذا كنا وقفنا مع نظرية المثل التي جاء بها أفلاطون، فلنتوسع ولنذكر فلسفة أرسطو، الذي بدأ فيها الأخذ ولو قليلا بمدركات الحس كمصدر ثاني للمعرفة. ويتميّز فكر أرسطو بالنضج والتوسع، فالرجل قام بجمع العلوم كلها، وتبويبها، وكان يحاول أن ينزع منها بقايا الخرافات التي كانت ملتصقة بها، وأخذ في التنظير لكل العلوم، حتى أبدع علم المنطق، وهو ما شكل منهجا شاملا قامت عليه علوم كثيرة، ويقرر أرسطو أن المعرفة ينبغي أن تبدأ بما تدركه الحواس، وأخذ في تصنيف المدركات، وعرّف الجوهر والعرَض. وأكثر ما يميّز فلسفة أرسطو أو ما تقوم عليه هي نظريته في المفاهيم والغايات.
يقرر أرسطو أن هناك عالما واقعيا حسيا يسميه بالعالم الطبيعي، وعن طريقه يمكن الوصول إلى الغايات التي تحدث عنها أفلاطون، فيمكن العبور عن طريق مقولات العقل ومنطقه إلى هذه الغايات. وأهتم أرسطو بالماهيات وتعريفها ووضع الحدود لها، والماهية هنا تعتبر الجوهر التي هي أصل الشيء وذاته، وبها يتحدد معنى الوجود لذلك الشيء.
وتعريف الماهيات حاضرٌ بقوة في التراث الإسلامي، فانظر مثلا إلى تعريف الشيخ السالمي للماهية في حق الله الخالق الموجود.
ونفس رب العالمين ذاته وذاته تفسيرها ثباته
يعنى به نفس الوجود الواجب فالذات لا تحد في التخاطب
كما ويقرر أرسطو أن لكل شيء غاية وهدف، ولما كان الإنسان جزئا من العالم، فلا بد من أن نعرف الغرض من العالم ليستبين لنا الغرض من الإنسان وفعله ومنفعته ورتبته، ولما كان العلم الذي ينبغي أن يتعلمه الإنسان ويعمل بموجبه هو العلم اليقيني دون غيره، لزمه أن يتوخى في كل ما يفحص العلم اليقيني، ولذلك عمد أرسطو إلى تعريف علم اليقين وموضوعاته، ورد على السفسطائية بقوانين المنطق الجدلي، وهكذا نجد أرسطو يبني بنيانا قويا متماسكا للعلم، ويقيمه على منطق العقل أيضا، وإن كان بدايته من المدركات الحسية التي يستفيد منها العقل ليصل إلى الماهيات والغايات.
وهكذا نجد أن العلم في الفلسفة اليونانية يقصد به العلم اليقيني، لا الظني، كما أن المصدر الأصلي له هو العقل، وإن كان هناك دورا للحواس فيها، كما أن المنهج أو الفلسفة هنا فلسفة مثالية، تبحث عن عالم المثل، وعن الغايات والأهداف التي تقوم عليه الأشياء. لذلك نجد هنا كل الصلات والتفسيرات للعلم هي تفسيرات عقلية، ولذلك هناك توسع كبير في مبدأ السببية وأنه هو المبدأ الوحيد التي تحدث به الأشياء، وتوسعت الفلسفة في ذكر السببية وشروطها، وذلك ما توسع فيه المسلمون بعد ذلك.
وقبل أن نذكر المنهج التجريبي وهو المنهج المقابل للفلسفة المثالية، والذي تبلور في الفلسفة مع التطوّر الحديث لأوروبا، يجدر بنا هنا الإشارة إلى المنهج النقدي الذي جاء به كانط.
وكلا المذهبين الشكي واليقيني لم يعد لهما وجود بعد تفنيد كانط لهما، فاستبدل العلم اليقيني بالنقد المستمر، وقد قام كانط بنقد العقل نفسه، في كتابه "نقد العقل المحض"، وهو هنا يذهب مذهب الغزالي حيث لا بد من الشك أو النقد حتى تستقيم المعرفة يقينا، وإنما تقبل المعرفة إذا إجتازت بوابة النقد.
إن النجاح والتقدم العلمي الذي أتى مع النهضة الأوروبية الحديثة كان مبناه استخدام الرياضيات كمنهج دقيق وصارم، وذلك ما أغرى الفلاسفة حينها لإيجاد هذا النوع من الاستدلال اليقيني، وهنا لا بد من الإنطلاق من مسلمات عقلية أصيلة ويقينية تكون قاعدة لغيرها من سبل الإستدلال، وكان مبحث كانط الطويل والمضني هو في إيجاد تلك الآراء الفطرية التي وجدت في العقل قبل كل شيء، عن المعاني الفطرية للخير والشر التي خلقت في الإنسان قبل أن تغيرها أحداث لاحقة للحياة. وكانط في منهجه هذا ينطلق أيضا من العقل ليجعله مصدرا للمعرفة كحال من سبقه، فهو إذن فيلسوف مثالي شديد الإيمان بالله الذي ابدع العقل، وجعل فيه الميزان لمعرفة الحقائق، وإن كانت تلك الحقائق ينبغي أن تمحص في منهج نقدي دقيق قبل أن تؤخذ ويسلم بها، وهذا هو حال العلم، والرياضيات التي بلغت شئنا عظيما.
لم نذكر هنا التفاصيل الكاملة عن فلسفة أفلاطون وأرسطو وكانط من بعدهم، ولكنا حاولنا أن نظهر شيئا مما يميّز فلسفتهم، ويعطي هذا الطرح برأينا شيئا من التصور العام عن هذه الفلسفة يخرج عن مبحثنا هنا عن إمكانية المعرفة، والأختلاف في ذلك بين مذهب الشكاك والمذهب اليقيني، إلى إعطاء نبذة مختصرة عن هذه الفلسفات، وهذا هو غرضنا من هذه المختصرات.
وهو المذهب الإعتقادي، وهو يقف مقابلا لمذهب الشك، لذلك رأينا سقراط يتصدى لدحض مذاهب السوفسطائيين لكي يقيم بناء آخر يتمثل في الثقة المطلقة في العقل الإنساني وقدراته. ثم يأتي من بعده أفلاطون ليقيم نظرية المُثُل التي سوف نقف معها بإذن الله تعالى. ثم يأتي أرسطو ليكشف أغاليط السفسطائيين ويثبت إمكانية المعرفة، بل ويبني منهجا عقليا لهذا، وهو علم المنطق.
ونظرية المُثُل التي أتى بها أفلاطون تعتبر فرع من نظريته في النفس، ويقرر أفلاطون أن النفس خالدة وسابقة للجسد، الذي يعتبر عائقا عن وصولها للمعارف، وقد أتت هذه النفس من عالم خالص كانت فيه محيطة بالعلوم، ولكنها نسيت عندما امتزجت بهذا الجسد، ذلك أن طبيعة النفس تختلف عن طبيعة الجسد، والنفس أو العقل دائمة البحث عن الحقيقة، وهي تتذكر الأشياء عندما تمر عليها، فالعقل البشري كان عارفا لكل المعارف في عالم المُثُل، العالم الحقيقي حيث الكمال والحقيقة الكاملة، ثم انتقل إلى هذا العالم المشابه للعالم الحقيقي ولكنه غير حقيقي، بل مستنسخ منه، وبه أخطاء كثيرة، وهو مملوء بالشر. ويعتقد أفلاطون أن ما نراه أو نلمسه غير حقيقي، بل الحق في التخلص من صنوف هذه الحياة وشرورها، والمعرفة والخير هي في التجرد من هذه الحياة والعيش حياة مشابهة لعالم المثل، عالم العقل والفكر وحده، وترك هذه الحياة وشرورها.
والعقل يتذكر ما مر عليه في رحلته بهذه الحياة، فعندما مثلا يرى العقل الشجرة، يتذكر الشجرة الحقيقة التي علمها سابقا، ومنها استنسخت جميع الشجر في هذا العالم الذي نعيش فيه. فالمفهوم العقلي الكلي للشجرة متولد من تلك المرحلة، وهكذا يعتبر أفلاطون أن المصدر الوحيد للمعرفة هو العقل، وأن هناك عالما متكاملا حقيقيا هو عبارة عن مملكة للعقل.
ولا شك أنّ هذا غلو واضح في إعطاء العقل منزلة كبرى، ولعل هذا ناتج عن الردة فعل على السفسطائيين الذي نظّروا لتيّه، بعيدا عن نور العلم. وبقي هذا المذهب المثالي العقلي موجودا، وقد زاده أفلاطين تنظيرا فوق هذا، ثم أخذه فلاسفة المسلمين، الفارابي وابن سينا، وأكثر ما أخذوا هو من زيادات أفلاطين.
وإذا كنا وقفنا مع نظرية المثل التي جاء بها أفلاطون، فلنتوسع ولنذكر فلسفة أرسطو، الذي بدأ فيها الأخذ ولو قليلا بمدركات الحس كمصدر ثاني للمعرفة. ويتميّز فكر أرسطو بالنضج والتوسع، فالرجل قام بجمع العلوم كلها، وتبويبها، وكان يحاول أن ينزع منها بقايا الخرافات التي كانت ملتصقة بها، وأخذ في التنظير لكل العلوم، حتى أبدع علم المنطق، وهو ما شكل منهجا شاملا قامت عليه علوم كثيرة، ويقرر أرسطو أن المعرفة ينبغي أن تبدأ بما تدركه الحواس، وأخذ في تصنيف المدركات، وعرّف الجوهر والعرَض. وأكثر ما يميّز فلسفة أرسطو أو ما تقوم عليه هي نظريته في المفاهيم والغايات.
يقرر أرسطو أن هناك عالما واقعيا حسيا يسميه بالعالم الطبيعي، وعن طريقه يمكن الوصول إلى الغايات التي تحدث عنها أفلاطون، فيمكن العبور عن طريق مقولات العقل ومنطقه إلى هذه الغايات. وأهتم أرسطو بالماهيات وتعريفها ووضع الحدود لها، والماهية هنا تعتبر الجوهر التي هي أصل الشيء وذاته، وبها يتحدد معنى الوجود لذلك الشيء.
وتعريف الماهيات حاضرٌ بقوة في التراث الإسلامي، فانظر مثلا إلى تعريف الشيخ السالمي للماهية في حق الله الخالق الموجود.
ونفس رب العالمين ذاته وذاته تفسيرها ثباته
يعنى به نفس الوجود الواجب فالذات لا تحد في التخاطب
كما ويقرر أرسطو أن لكل شيء غاية وهدف، ولما كان الإنسان جزئا من العالم، فلا بد من أن نعرف الغرض من العالم ليستبين لنا الغرض من الإنسان وفعله ومنفعته ورتبته، ولما كان العلم الذي ينبغي أن يتعلمه الإنسان ويعمل بموجبه هو العلم اليقيني دون غيره، لزمه أن يتوخى في كل ما يفحص العلم اليقيني، ولذلك عمد أرسطو إلى تعريف علم اليقين وموضوعاته، ورد على السفسطائية بقوانين المنطق الجدلي، وهكذا نجد أرسطو يبني بنيانا قويا متماسكا للعلم، ويقيمه على منطق العقل أيضا، وإن كان بدايته من المدركات الحسية التي يستفيد منها العقل ليصل إلى الماهيات والغايات.
وهكذا نجد أن العلم في الفلسفة اليونانية يقصد به العلم اليقيني، لا الظني، كما أن المصدر الأصلي له هو العقل، وإن كان هناك دورا للحواس فيها، كما أن المنهج أو الفلسفة هنا فلسفة مثالية، تبحث عن عالم المثل، وعن الغايات والأهداف التي تقوم عليه الأشياء. لذلك نجد هنا كل الصلات والتفسيرات للعلم هي تفسيرات عقلية، ولذلك هناك توسع كبير في مبدأ السببية وأنه هو المبدأ الوحيد التي تحدث به الأشياء، وتوسعت الفلسفة في ذكر السببية وشروطها، وذلك ما توسع فيه المسلمون بعد ذلك.
وقبل أن نذكر المنهج التجريبي وهو المنهج المقابل للفلسفة المثالية، والذي تبلور في الفلسفة مع التطوّر الحديث لأوروبا، يجدر بنا هنا الإشارة إلى المنهج النقدي الذي جاء به كانط.
وكلا المذهبين الشكي واليقيني لم يعد لهما وجود بعد تفنيد كانط لهما، فاستبدل العلم اليقيني بالنقد المستمر، وقد قام كانط بنقد العقل نفسه، في كتابه "نقد العقل المحض"، وهو هنا يذهب مذهب الغزالي حيث لا بد من الشك أو النقد حتى تستقيم المعرفة يقينا، وإنما تقبل المعرفة إذا إجتازت بوابة النقد.
إن النجاح والتقدم العلمي الذي أتى مع النهضة الأوروبية الحديثة كان مبناه استخدام الرياضيات كمنهج دقيق وصارم، وذلك ما أغرى الفلاسفة حينها لإيجاد هذا النوع من الاستدلال اليقيني، وهنا لا بد من الإنطلاق من مسلمات عقلية أصيلة ويقينية تكون قاعدة لغيرها من سبل الإستدلال، وكان مبحث كانط الطويل والمضني هو في إيجاد تلك الآراء الفطرية التي وجدت في العقل قبل كل شيء، عن المعاني الفطرية للخير والشر التي خلقت في الإنسان قبل أن تغيرها أحداث لاحقة للحياة. وكانط في منهجه هذا ينطلق أيضا من العقل ليجعله مصدرا للمعرفة كحال من سبقه، فهو إذن فيلسوف مثالي شديد الإيمان بالله الذي ابدع العقل، وجعل فيه الميزان لمعرفة الحقائق، وإن كانت تلك الحقائق ينبغي أن تمحص في منهج نقدي دقيق قبل أن تؤخذ ويسلم بها، وهذا هو حال العلم، والرياضيات التي بلغت شئنا عظيما.
لم نذكر هنا التفاصيل الكاملة عن فلسفة أفلاطون وأرسطو وكانط من بعدهم، ولكنا حاولنا أن نظهر شيئا مما يميّز فلسفتهم، ويعطي هذا الطرح برأينا شيئا من التصور العام عن هذه الفلسفة يخرج عن مبحثنا هنا عن إمكانية المعرفة، والأختلاف في ذلك بين مذهب الشكاك والمذهب اليقيني، إلى إعطاء نبذة مختصرة عن هذه الفلسفات، وهذا هو غرضنا من هذه المختصرات.
وإذا أردنا التلخيص فإن هناك قسمان بالنسبة لمبحث إمكانية المعرفة، هما الشكاك واليقينيين، ثم يأتي الإمام الغزالي ليقيم منهجا للشك، ويقوم الفيلسوف كانط بالبناء عليه ليوجد منهجا نقديا بديلا عن المذهب اليقيني.
ثم إن هذا العرض يبين أن المذهب اليقيني يختلف في طبيعته بين فلسفتين، هما الفلسفة المثالية والفلسفة التجريبية التي سنذكرها بعون الله بعد قليل، وذكرنا في المدرسة المثالية فلسفة أفلاطون التي تختلف عن فلسفة أرسطو، ثم ذكرنا منهج كانط الذي يحاول أن يقيم منهجه على علم الرياضيات، ولنتحدث الآن عن الفلسفة التجريبية وخير من يمثلها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك.
المذهب التجريبي يرفض كل التأملات الميتافيزيقية للمذهب العقلي، ويعتبرها تلاعبا للمفاهيم لا ثمرة له، ويؤكد لو أن هناك مبادئ فطرية لوجدت عند كل الناس، وعند الإطفال، فيقول جون لوك (1632-1704) "إنها ليست مطبوعة في العقل بطبيعتها لأنها ليست معروفة بالنسبة الأطفال والبلهاء وغيرهم"، ويقول " إنه أقرب إلى التناقض أن نقول هناك حقائق مطبوعة على الروح وهي لا تدركها، فكيف تكون مطبوعة في العقل وهو لا يدركها".
وكرس جون لوك أبحاثه عن كيفية المعرفة، فقد لبث 20 سنة يؤلف كتابه المهم (مقالة حول الفهم البشري)، ليصل إلى نتيجة مغايرة تماما عمّا يقوله العقلانيون، فالمعارف إنما تأتي من الحواس، والعقل به آليات مختلفة يكوّن منها وبها العلوم، فلا علم إلا وقد أتى من مصدر حسي، ولا ينبع أبدا من العقل.
وهكذا المذهب التجريبي يقول لا وجود لأفكار فطرية، النفس عند الولادة كالصفحة البيضاء، والمعارف إنما تصل إليها عن طريق الخبرة والحس، والمعارف كلها تتأسس على هذا، وهناك عمليات عقلية هي التي تكون كل معارفنا. وهكذا كل المعارف بعدية (أي ليست أولية في العقل، ولكنها حدثت بعد التجارب المختلفة)، والعقل إنما يستمد خبراته ومعلوماته من التجربة وحدها.
ويقول جون لوك، إذا سألنا أحدهم، متى بدأت تفكر، فيقول بعد أن حسست بكذا، فالإحساس سابق على التفكير، وليس هناك شيء في العقل سابق لذلك الحس.
ثم يأتي هيوم (1711-1776)م ليقول أن الإحساس إما خارجي أو باطني، وتتمثل مهمة العقل في أمر واحد وهو خلط هذه المادة وتركيبها، وإن كانت المعارف تأتي من الخبرة، فإنها ليس لها أن تعلو فوق نطاق الخبرة، ولذلك فالميتافيزيقيا بإعتبارها معرفة هي خارج نطاق كل خبرة، فتعتبر مستحيلة.
وهكذا يرفض المذهب التجريبي الجانب المثالي تماما، ويقول أنها لا تتحلى بالواقعية، بل الواقعية فيما تقرره الحواس، وتبني عليه ولا يمكن معرفة ما هو فوق الحس أصلا، لأنه خارج عن إطار ما يمكن معرفته.
ولذلك يقول إبجور، في عبارته المشهورة (لو لم يوجد شيء في الحس، لم يوجد في الذهن).
ومن الفلاسفة التجريبين أيضا جورج باركلي، وهو فيلسوف مثالي، وهذا يثبت أنه يمكن للفلاسفة التجريبين أن يؤمنوا بوجود الخالق، وأنه لا يمنع أن يكون حسيا ومثاليا في نفس الوقت، إنما الحس تقابل العقل كمصدر أولي للمعرفة
وقد كان باركلي يقول (أن يوجد معناه أن يدرك). وكأنه لا يوجد شيء في الوجود، إذا لم يكن محسوسا أو مدركا، الحواس هنا إذن هي ليست أصل المعرفة بل أصل الوجود أيضا.
موقف القرآن الكريم من مسألة إمكانية المعرفة:
لم يهتم القرآن الكريم كثيرا بهذه المسألة، بل أتت منسجمة مع مبدأ خلق الله سبحانه لعبادة ووظيفتهم في هذه الحياة، ولذلك نرى أن مبحث الوجود هو الذي يشكل هذه القضية ويؤطرها ليكون هدف المعرفة منسجما مع هدف الوجود.
الله سبحانه وتعالى يقول: (فجعلناه سميعا بصيرا)، ويقول (وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه).
وفي قصة الإستخلاف يذكر تيمييز الله للإنسان بالعلم، فللعلم في ميزان الله منزلة عظمى جوهرية، لا يضاهيا شيئا إلا الخلق، (الرحمن، خلق الإنسان، علّمه البيان)، ويقول سبحانه (إقرأ باسم ربك الذي خلق).
والقرآن الكريم يؤسس لاتجاه يقيني في المعرفة، بل ويعتبر الشك خروجا على الفطرة، قد ذمّه الله سبحانه (أفي الله شك فاطر السموات والأرض)، (وإنهم لفي شك منه مريب).
والشك هنا في معرفة وجود الخالق سبحانه، أما عن طبيعة هذا الوجود، فإنه سر لله وحده. والعقل الإنساني اليوم بطبيعة الحال لم يصل إلى حقيقة ماهية الأشياء وجواهرها، بل ما زال يحوم حول الحقيقة ولم يصلها.
ثم إن هذا العرض يبين أن المذهب اليقيني يختلف في طبيعته بين فلسفتين، هما الفلسفة المثالية والفلسفة التجريبية التي سنذكرها بعون الله بعد قليل، وذكرنا في المدرسة المثالية فلسفة أفلاطون التي تختلف عن فلسفة أرسطو، ثم ذكرنا منهج كانط الذي يحاول أن يقيم منهجه على علم الرياضيات، ولنتحدث الآن عن الفلسفة التجريبية وخير من يمثلها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك.
المذهب التجريبي يرفض كل التأملات الميتافيزيقية للمذهب العقلي، ويعتبرها تلاعبا للمفاهيم لا ثمرة له، ويؤكد لو أن هناك مبادئ فطرية لوجدت عند كل الناس، وعند الإطفال، فيقول جون لوك (1632-1704) "إنها ليست مطبوعة في العقل بطبيعتها لأنها ليست معروفة بالنسبة الأطفال والبلهاء وغيرهم"، ويقول " إنه أقرب إلى التناقض أن نقول هناك حقائق مطبوعة على الروح وهي لا تدركها، فكيف تكون مطبوعة في العقل وهو لا يدركها".
وكرس جون لوك أبحاثه عن كيفية المعرفة، فقد لبث 20 سنة يؤلف كتابه المهم (مقالة حول الفهم البشري)، ليصل إلى نتيجة مغايرة تماما عمّا يقوله العقلانيون، فالمعارف إنما تأتي من الحواس، والعقل به آليات مختلفة يكوّن منها وبها العلوم، فلا علم إلا وقد أتى من مصدر حسي، ولا ينبع أبدا من العقل.
وهكذا المذهب التجريبي يقول لا وجود لأفكار فطرية، النفس عند الولادة كالصفحة البيضاء، والمعارف إنما تصل إليها عن طريق الخبرة والحس، والمعارف كلها تتأسس على هذا، وهناك عمليات عقلية هي التي تكون كل معارفنا. وهكذا كل المعارف بعدية (أي ليست أولية في العقل، ولكنها حدثت بعد التجارب المختلفة)، والعقل إنما يستمد خبراته ومعلوماته من التجربة وحدها.
ويقول جون لوك، إذا سألنا أحدهم، متى بدأت تفكر، فيقول بعد أن حسست بكذا، فالإحساس سابق على التفكير، وليس هناك شيء في العقل سابق لذلك الحس.
ثم يأتي هيوم (1711-1776)م ليقول أن الإحساس إما خارجي أو باطني، وتتمثل مهمة العقل في أمر واحد وهو خلط هذه المادة وتركيبها، وإن كانت المعارف تأتي من الخبرة، فإنها ليس لها أن تعلو فوق نطاق الخبرة، ولذلك فالميتافيزيقيا بإعتبارها معرفة هي خارج نطاق كل خبرة، فتعتبر مستحيلة.
وهكذا يرفض المذهب التجريبي الجانب المثالي تماما، ويقول أنها لا تتحلى بالواقعية، بل الواقعية فيما تقرره الحواس، وتبني عليه ولا يمكن معرفة ما هو فوق الحس أصلا، لأنه خارج عن إطار ما يمكن معرفته.
ولذلك يقول إبجور، في عبارته المشهورة (لو لم يوجد شيء في الحس، لم يوجد في الذهن).
ومن الفلاسفة التجريبين أيضا جورج باركلي، وهو فيلسوف مثالي، وهذا يثبت أنه يمكن للفلاسفة التجريبين أن يؤمنوا بوجود الخالق، وأنه لا يمنع أن يكون حسيا ومثاليا في نفس الوقت، إنما الحس تقابل العقل كمصدر أولي للمعرفة
وقد كان باركلي يقول (أن يوجد معناه أن يدرك). وكأنه لا يوجد شيء في الوجود، إذا لم يكن محسوسا أو مدركا، الحواس هنا إذن هي ليست أصل المعرفة بل أصل الوجود أيضا.
موقف القرآن الكريم من مسألة إمكانية المعرفة:
لم يهتم القرآن الكريم كثيرا بهذه المسألة، بل أتت منسجمة مع مبدأ خلق الله سبحانه لعبادة ووظيفتهم في هذه الحياة، ولذلك نرى أن مبحث الوجود هو الذي يشكل هذه القضية ويؤطرها ليكون هدف المعرفة منسجما مع هدف الوجود.
الله سبحانه وتعالى يقول: (فجعلناه سميعا بصيرا)، ويقول (وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه).
وفي قصة الإستخلاف يذكر تيمييز الله للإنسان بالعلم، فللعلم في ميزان الله منزلة عظمى جوهرية، لا يضاهيا شيئا إلا الخلق، (الرحمن، خلق الإنسان، علّمه البيان)، ويقول سبحانه (إقرأ باسم ربك الذي خلق).
والقرآن الكريم يؤسس لاتجاه يقيني في المعرفة، بل ويعتبر الشك خروجا على الفطرة، قد ذمّه الله سبحانه (أفي الله شك فاطر السموات والأرض)، (وإنهم لفي شك منه مريب).
والشك هنا في معرفة وجود الخالق سبحانه، أما عن طبيعة هذا الوجود، فإنه سر لله وحده. والعقل الإنساني اليوم بطبيعة الحال لم يصل إلى حقيقة ماهية الأشياء وجواهرها، بل ما زال يحوم حول الحقيقة ولم يصلها.
أمّا إتخاذ الشك منهجا لليقين، فهو كما يقر أصحابه ليس المنهج الوحيد له.
والإنسان بالفطرة يرى الحقائق، وكثير من الآيات القرآنية تحيل إلى النظر البسيط في آيات الكون، فهو المنهج الأهم في القرآن الكريم لمعرفة الله سبحانه.
والناظر للقرآن الكريم لا يرى التعقيد في قضية الحصول على المعارف، بل هي متاحة للإنسان، والكون كله عبارة عن مجال مفتوح للعقل ليسبر أعماقه وأغواره.
ورغم هذا التبسيط لا يخلوا القرآن الكريم من إشارات تحتاج إلى تحقيق وبعد نظر، فهناك آيات تحيل إلى الفطرة، وآيات تشير إلى أن الإنسان يولد وهو لا يعلم شيئا، (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا).
كما أن قصة إبراهيم عليه السلام (قال أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) تحتاج أيضا إلى بحث لمعرفة أغوار منهج الشك في القرآن الكريم.
والقرآن في غالبه استخدم العقل بعد أن تمده الحواس بالنظر إلى الكون. (قل إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة، إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
والإنسان بالفطرة يرى الحقائق، وكثير من الآيات القرآنية تحيل إلى النظر البسيط في آيات الكون، فهو المنهج الأهم في القرآن الكريم لمعرفة الله سبحانه.
والناظر للقرآن الكريم لا يرى التعقيد في قضية الحصول على المعارف، بل هي متاحة للإنسان، والكون كله عبارة عن مجال مفتوح للعقل ليسبر أعماقه وأغواره.
ورغم هذا التبسيط لا يخلوا القرآن الكريم من إشارات تحتاج إلى تحقيق وبعد نظر، فهناك آيات تحيل إلى الفطرة، وآيات تشير إلى أن الإنسان يولد وهو لا يعلم شيئا، (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا).
كما أن قصة إبراهيم عليه السلام (قال أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) تحتاج أيضا إلى بحث لمعرفة أغوار منهج الشك في القرآن الكريم.
والقرآن في غالبه استخدم العقل بعد أن تمده الحواس بالنظر إلى الكون. (قل إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة، إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
وتعريف العلم في القرآن يختلف عما تعرضه الفلسفة، فهناك تمايز بين ذات الإنسان وعلمه وهذا التمايز غير واضح فيما يخص الفلسفة.
العلم إنما هو صفة من صفات الإنسان. فالعلم معطى للإنسان وليس ذاتيا (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
والمعارف في الفلسفة المثالية ضرورية مخلوقة أصلا في الإنسان حتى قبل ولادته، كما أن المسيحية فيها مبدأ الخطئية حتى قبل أن يولد الإنسان.
ويقرر القرآن أن علم الإنسان قليل (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، وأن المعلوم يتجاوز عالم الشهادة إلى عالم آخر هو عالم الغيب.
ومن المسائل التي أصل فيها المسلمون في قضية إمكانية المعرفة، هو في من لم يصله الوحي، هل هو مكلف بالشريعة أم لا، فهل هو مخاطب ومكلف بالعقل وحده، وهذه مسألة مشهورة والاختلاف فيها أيضا معروف، ولعل المتابع يظهر له أن إرسال الرسل أتى ليقطع هذه الحجة من أساسها، (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل).
ثانيا المذهب المثالي:
يقول أن الذي يُدرك هو العقل، وكل ما يدركه إنما في أصله شيء عقلي. فالإتجاهات المثالية ترى بأن العالم الخارجي يرجع الى أفكار وتصورات، ووجوده ليس مستقلا عن العقل الذي يدركه، بل مرتبط به، وهناك اتجاهات مختلفة للمثالية:
1. المثالية الواقعية: ويمثلها أفلاطون، حيث هناك عالم مثالي قائم بذاته، يقع خارج فكر البشر والأشياء.
2. المثالية النقدية: ويمثلها كانط، الذي يقول بأن العالم الخارجي يتمثل في مجموعة من الظواهر التي يحدد بنائها قوانين عقولنا، وعند كانط هناك معرفة أولية في العقل سابقة على كل تجربة، وهي المعقولات الأولية، والمعارف البعدية إنما تأتي إلى العقل بعد أن يمر بتجربة معينة.
3. المثالية الذاتية:
والتي يمثلها بركلي (1684-1735)م، والذي يرى أن وجود العالم الخارجي كله يتمثل في إدراكه، فالوجود هو الإدراك، وهو يصف مذهبه بأنه غير مادي، غير أنه في نفس الوقت لا ينكر وجود المحسوسات في الخارج بدليل أنا ندركها، وكل المثاليين لا يصلون إلى حد إنكار العالم الخارجي، فليس هو وهم عندهم، فالعقل البشري لا يخترع المدركات الحسية. لكن هؤلاء يشترطون الإدراك للأشياء لكي توجد، وكأن الإدراك هو الأصل والوجود تبع لهذا الإدراك، وهنا لا يوجد شيء إلا وهو مدرك، والمدرك الأول هو الله سبحانه، العقل الإلهي، فهم إذن يربطون كل شيء بمفهوم الله، فإدراك الله للوجود هو الذي يحفظه، وذلك بقطع النظر هل هناك عقول إنسانية تقوم بعملية الإدراك أم لا.
وهذا الطرح فيه مبالغة واضحة، ولا أدري إن كان هذا ناتج عن تشوه في فهم معنى الخلق والهيمنة الإلهية.
4. المثالية المطلقة: وهذا يمثله هيجل، الذي يرى أن الوعي سابق للمادة، وكان هيجل يحاول أن يجمع كل التناقضات الفلسفية في موضوع واحد، كان يريد حلا واحدا لكل الإشكالات. وكان يرى أن هناك ارتباطا بين العقل والواقع، وأن تطور الواقع مرتبط بتطور العقل.
وترقى الفكر المثالي في الغرب بين هيجل ونيتشه وهورسل وغيرهم.
ثم تتوج الفلسفة الغربية بالفلسفة الماركسية التي هي على رأس الفلسفات المادية الواقعية في تفاصيل كثيرة لا نسعى لعرضها هنا في هذا المقال البسيط والذي سيطول كثيرا إن أخذنا في تتبع الفكر الثر لهؤلاء الفلاسفة الذين شكلوا فكر هذه المرحلة، وإنما همنا هنا أن نعطي بعض التصور عن بعض جوانب الفلسفة وروادها، ثم لننظهر أصالة الفكر الإسلامي لو انبرى لعلاج هذه المواضيع.
وإن أكبر أخطاء المثالية أنها تجعل المعرفة قبل الوجود، وأرقى منه، وفي بعض الأوقات سببا له، كمثل قول بعضهم بأن الإدراك هو شرط الوجود، كما كان يقول ديكارت (كل ما ندركه بوضوح لا بد أن يكون موجودا).
فالمثالية تنطلق بداية من الذهن، وهذا لعله بسبب أن الصراع في أصله كان صراعا معرفيا أشتد أواره، وأن هؤلاء الفلاسفة كانوا يبحثون عن تمجيد العلم ورفعه فوق كل منزلة، وهنا لا شك تلاصق بين مبحثي المعرفة والوجود.
والاختلاف في نظرية المعرفة بين المذهبين الواقعي والمثالي أيضا سببه تفسير كل منهما لقطبي المعرفة، فالمثالي يقدم العقل بداية، يقدم الإنسان، بينما الواقعي يقدم الوقع الخارجي.
لذلك فالواقعية لا تسأل هل الواقع الخارجي موجود، بل هي مسلمة بوجوده، وذلك عكس ما تفعله بعض أقسام المثالية. إن المثالية تقرأ الطبيعة من خلال الذات، بينما الواقعية تقرأ الطبيعة من خلال الطبيعة.
المثالية تقدس القيّم، فالمعرفة معها مرتبطة بالخير والحق، بينما الواقعية لا تتطلع إلى شيء من هذا ولا تؤمن به. وذلك أن المثالية تنطلق في أن الوجود أصله روحي، بينما الواقعية تنطلق من الوجود أصله مادي فقط.
إن الطبيعة البشرية وخاصة فيما يخص الإدراك وليس فقط الروح في المثالية أعلى من الوجود ذاته، وهذا ما يفسر اللغط الذي وقعوا فيه في تفسير العلم، حيث أنه يلاحظ أن العلم مقدم حتى على الوجود. بينما الواقعية تنطلق من البشرية جزء لا يتجزأ من الطبيعة، وليست لها فضل عليه في شيء، بل قد تفضله.
وواضح من هذا التقصي أن الفكر الإسلامي يتفادى هذا العثرات التي وقعت فيها كلا الفلسفتين. إن المعرفة تابعة للوجود، بل هي ليست إلا فصلا من باب نظرية الوجود، والله ميّز الإنسان بالعلم، وهي صفة له وميزة. والإنسان فوق ذلك مستخلف في هذا الكون ليعمره ويعبد الله الخالق فيه.
أما الواقعية فلم تقتصر على إدراج أهمية الواقع في قضية المعرفة والإنطلاق منه وهو أمر محمود ولا شك، ولكنه تجاوزت ذلك لجعله كل شيء، فالمعارف كلها من جنس المادة، لقد وافقوا الطبيعة وتركوا ما وراء الطبيعة، وتلك هي السمة العامة فيها.
وإذا كان المعيار المستخدم في معرفة الحقيقة هو معيار الترابط المثالي في الفلسفة المثالية، فالأشياء لابد أن تترابط ذهنيا في سلاسل منطقية، فإن المعيار المستخدم لدى الواقعية هو مدى التطابق مع الواقع، ليكون هناك مجالا لتجريب هذه النتائج واقعيا.
ولا شك أنه يظهر جليا الآن مصادر المعرفة تدور بين ثلاثة مصادر، هي العقل والحس والوحي، وأن هذه الفلسفات إنحاز كل منها لمصدر واحد من مصادر المعرفة وليحارب المصادر الأخرى، لذلك وقع كل منها في قصور واضح.
إن الله خالق الوجود ليس بمادة، ولا يمكن لحس أن يدركه، ولذلك فلا ينبغي الاستدلال عليه بدليل الحس أبدا، إنما لابد أن يكون الدليل إما عقليا أو نقليا.
العلم إنما هو صفة من صفات الإنسان. فالعلم معطى للإنسان وليس ذاتيا (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
والمعارف في الفلسفة المثالية ضرورية مخلوقة أصلا في الإنسان حتى قبل ولادته، كما أن المسيحية فيها مبدأ الخطئية حتى قبل أن يولد الإنسان.
ويقرر القرآن أن علم الإنسان قليل (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، وأن المعلوم يتجاوز عالم الشهادة إلى عالم آخر هو عالم الغيب.
ومن المسائل التي أصل فيها المسلمون في قضية إمكانية المعرفة، هو في من لم يصله الوحي، هل هو مكلف بالشريعة أم لا، فهل هو مخاطب ومكلف بالعقل وحده، وهذه مسألة مشهورة والاختلاف فيها أيضا معروف، ولعل المتابع يظهر له أن إرسال الرسل أتى ليقطع هذه الحجة من أساسها، (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل).
وهناك بعض المسائل التي أيضا تعالج هذا الجانب، ومنها ما يخص الجاهل وأحكامه.
ثانيا: مبحث طبيعة المعرفة:
يبحث هذا المبحث في كيفية العلم بالأشياء، وكيف تتصل القوى المدركة في الإنسان بالموضوعات المدركة؟ وفي بينان علاقة المعرفة بمبحث الوجود، والمعرفة هل هي فطرية أم مكتسبة، وعن معايير صدق المعرفة.
وقد طرقنا شيء من هذا الموضوع في ما مر من هذا التلخيص.
وهناك مذهبان في طبيعة المعرفة، هما: المذهب الواقعي والمذهب المثالي.، فمنهم من قال بأن العلوم عبارة عن حقائق واقعية، والآخر قال بل هي حقائق مثالية لا توجد واقعا.
أولا المذهب الواقعي:
يقول بوجود عالم خارجي واقعي مستقل عن أي عقل يدركه، وعن جميع أفكار وأحوال ذلك العقل، فهما عالمان مختلفا، الواقع الذي ما ينبغي أن يعلم، والعقل الذي هو أداة العلم.
والإدراك أو العلم ليس إلا رموزا في العقل، ولكنها رموز تدل على الحقائق الخارجية الواقعية، وهو على صورتين رئيستين:
1. الواقعية الساذجة: والتي تقول بأن إدراكنا للحقائق الخارجية كاملا، علاقة مماثلة، كمثل آلة التصوير التي تقوم بالتقاط صورة مطابقة للواقع تماما. وهذا عادة ما يفعله عامة الناس حيث لا تفكير علمي فلسفي في الواقع.
2. الواقعية النقدية: والتي تتخذ العلم منهجا لها، فالحس يدرك حقائق الأشياء، ولكن هذه الحقائق لابد من إخضاعها للنقد والتمحيص في ضوء قوانين العلوم الطبيعية.
والعقل عادة ما يقوم بالتآليف والتركيب للحقائق قبل تخزينها. كما أن الصور العقلية تختلف عن الواقع، كمثل اللون الأحمر، فإنما هو أشعة ضوئية بترددات معينة، وكذا الصوت موجات اهتزازية. فالعلاقة بين الشيء المدرك والصورة الإدراكية ليست علاقة تطابق على الإصلاق.
يبحث هذا المبحث في كيفية العلم بالأشياء، وكيف تتصل القوى المدركة في الإنسان بالموضوعات المدركة؟ وفي بينان علاقة المعرفة بمبحث الوجود، والمعرفة هل هي فطرية أم مكتسبة، وعن معايير صدق المعرفة.
وقد طرقنا شيء من هذا الموضوع في ما مر من هذا التلخيص.
وهناك مذهبان في طبيعة المعرفة، هما: المذهب الواقعي والمذهب المثالي.، فمنهم من قال بأن العلوم عبارة عن حقائق واقعية، والآخر قال بل هي حقائق مثالية لا توجد واقعا.
أولا المذهب الواقعي:
يقول بوجود عالم خارجي واقعي مستقل عن أي عقل يدركه، وعن جميع أفكار وأحوال ذلك العقل، فهما عالمان مختلفا، الواقع الذي ما ينبغي أن يعلم، والعقل الذي هو أداة العلم.
والإدراك أو العلم ليس إلا رموزا في العقل، ولكنها رموز تدل على الحقائق الخارجية الواقعية، وهو على صورتين رئيستين:
1. الواقعية الساذجة: والتي تقول بأن إدراكنا للحقائق الخارجية كاملا، علاقة مماثلة، كمثل آلة التصوير التي تقوم بالتقاط صورة مطابقة للواقع تماما. وهذا عادة ما يفعله عامة الناس حيث لا تفكير علمي فلسفي في الواقع.
2. الواقعية النقدية: والتي تتخذ العلم منهجا لها، فالحس يدرك حقائق الأشياء، ولكن هذه الحقائق لابد من إخضاعها للنقد والتمحيص في ضوء قوانين العلوم الطبيعية.
والعقل عادة ما يقوم بالتآليف والتركيب للحقائق قبل تخزينها. كما أن الصور العقلية تختلف عن الواقع، كمثل اللون الأحمر، فإنما هو أشعة ضوئية بترددات معينة، وكذا الصوت موجات اهتزازية. فالعلاقة بين الشيء المدرك والصورة الإدراكية ليست علاقة تطابق على الإصلاق.
ثانيا المذهب المثالي:
يقول أن الذي يُدرك هو العقل، وكل ما يدركه إنما في أصله شيء عقلي. فالإتجاهات المثالية ترى بأن العالم الخارجي يرجع الى أفكار وتصورات، ووجوده ليس مستقلا عن العقل الذي يدركه، بل مرتبط به، وهناك اتجاهات مختلفة للمثالية:
1. المثالية الواقعية: ويمثلها أفلاطون، حيث هناك عالم مثالي قائم بذاته، يقع خارج فكر البشر والأشياء.
2. المثالية النقدية: ويمثلها كانط، الذي يقول بأن العالم الخارجي يتمثل في مجموعة من الظواهر التي يحدد بنائها قوانين عقولنا، وعند كانط هناك معرفة أولية في العقل سابقة على كل تجربة، وهي المعقولات الأولية، والمعارف البعدية إنما تأتي إلى العقل بعد أن يمر بتجربة معينة.
3. المثالية الذاتية:
والتي يمثلها بركلي (1684-1735)م، والذي يرى أن وجود العالم الخارجي كله يتمثل في إدراكه، فالوجود هو الإدراك، وهو يصف مذهبه بأنه غير مادي، غير أنه في نفس الوقت لا ينكر وجود المحسوسات في الخارج بدليل أنا ندركها، وكل المثاليين لا يصلون إلى حد إنكار العالم الخارجي، فليس هو وهم عندهم، فالعقل البشري لا يخترع المدركات الحسية. لكن هؤلاء يشترطون الإدراك للأشياء لكي توجد، وكأن الإدراك هو الأصل والوجود تبع لهذا الإدراك، وهنا لا يوجد شيء إلا وهو مدرك، والمدرك الأول هو الله سبحانه، العقل الإلهي، فهم إذن يربطون كل شيء بمفهوم الله، فإدراك الله للوجود هو الذي يحفظه، وذلك بقطع النظر هل هناك عقول إنسانية تقوم بعملية الإدراك أم لا.
وهذا الطرح فيه مبالغة واضحة، ولا أدري إن كان هذا ناتج عن تشوه في فهم معنى الخلق والهيمنة الإلهية.
4. المثالية المطلقة: وهذا يمثله هيجل، الذي يرى أن الوعي سابق للمادة، وكان هيجل يحاول أن يجمع كل التناقضات الفلسفية في موضوع واحد، كان يريد حلا واحدا لكل الإشكالات. وكان يرى أن هناك ارتباطا بين العقل والواقع، وأن تطور الواقع مرتبط بتطور العقل.
وترقى الفكر المثالي في الغرب بين هيجل ونيتشه وهورسل وغيرهم.
ثم تتوج الفلسفة الغربية بالفلسفة الماركسية التي هي على رأس الفلسفات المادية الواقعية في تفاصيل كثيرة لا نسعى لعرضها هنا في هذا المقال البسيط والذي سيطول كثيرا إن أخذنا في تتبع الفكر الثر لهؤلاء الفلاسفة الذين شكلوا فكر هذه المرحلة، وإنما همنا هنا أن نعطي بعض التصور عن بعض جوانب الفلسفة وروادها، ثم لننظهر أصالة الفكر الإسلامي لو انبرى لعلاج هذه المواضيع.
وإن أكبر أخطاء المثالية أنها تجعل المعرفة قبل الوجود، وأرقى منه، وفي بعض الأوقات سببا له، كمثل قول بعضهم بأن الإدراك هو شرط الوجود، كما كان يقول ديكارت (كل ما ندركه بوضوح لا بد أن يكون موجودا).
فالمثالية تنطلق بداية من الذهن، وهذا لعله بسبب أن الصراع في أصله كان صراعا معرفيا أشتد أواره، وأن هؤلاء الفلاسفة كانوا يبحثون عن تمجيد العلم ورفعه فوق كل منزلة، وهنا لا شك تلاصق بين مبحثي المعرفة والوجود.
والاختلاف في نظرية المعرفة بين المذهبين الواقعي والمثالي أيضا سببه تفسير كل منهما لقطبي المعرفة، فالمثالي يقدم العقل بداية، يقدم الإنسان، بينما الواقعي يقدم الوقع الخارجي.
لذلك فالواقعية لا تسأل هل الواقع الخارجي موجود، بل هي مسلمة بوجوده، وذلك عكس ما تفعله بعض أقسام المثالية. إن المثالية تقرأ الطبيعة من خلال الذات، بينما الواقعية تقرأ الطبيعة من خلال الطبيعة.
المثالية تقدس القيّم، فالمعرفة معها مرتبطة بالخير والحق، بينما الواقعية لا تتطلع إلى شيء من هذا ولا تؤمن به. وذلك أن المثالية تنطلق في أن الوجود أصله روحي، بينما الواقعية تنطلق من الوجود أصله مادي فقط.
إن الطبيعة البشرية وخاصة فيما يخص الإدراك وليس فقط الروح في المثالية أعلى من الوجود ذاته، وهذا ما يفسر اللغط الذي وقعوا فيه في تفسير العلم، حيث أنه يلاحظ أن العلم مقدم حتى على الوجود. بينما الواقعية تنطلق من البشرية جزء لا يتجزأ من الطبيعة، وليست لها فضل عليه في شيء، بل قد تفضله.
وواضح من هذا التقصي أن الفكر الإسلامي يتفادى هذا العثرات التي وقعت فيها كلا الفلسفتين. إن المعرفة تابعة للوجود، بل هي ليست إلا فصلا من باب نظرية الوجود، والله ميّز الإنسان بالعلم، وهي صفة له وميزة. والإنسان فوق ذلك مستخلف في هذا الكون ليعمره ويعبد الله الخالق فيه.
أما الواقعية فلم تقتصر على إدراج أهمية الواقع في قضية المعرفة والإنطلاق منه وهو أمر محمود ولا شك، ولكنه تجاوزت ذلك لجعله كل شيء، فالمعارف كلها من جنس المادة، لقد وافقوا الطبيعة وتركوا ما وراء الطبيعة، وتلك هي السمة العامة فيها.
وإذا كان المعيار المستخدم في معرفة الحقيقة هو معيار الترابط المثالي في الفلسفة المثالية، فالأشياء لابد أن تترابط ذهنيا في سلاسل منطقية، فإن المعيار المستخدم لدى الواقعية هو مدى التطابق مع الواقع، ليكون هناك مجالا لتجريب هذه النتائج واقعيا.
ولا شك أنه يظهر جليا الآن مصادر المعرفة تدور بين ثلاثة مصادر، هي العقل والحس والوحي، وأن هذه الفلسفات إنحاز كل منها لمصدر واحد من مصادر المعرفة وليحارب المصادر الأخرى، لذلك وقع كل منها في قصور واضح.
إن الله خالق الوجود ليس بمادة، ولا يمكن لحس أن يدركه، ولذلك فلا ينبغي الاستدلال عليه بدليل الحس أبدا، إنما لابد أن يكون الدليل إما عقليا أو نقليا.
طبيعة العرفة لدى فلاسفة المسلمين:
الفكر الإنساني متصل الحلقات، ولا ينفصل عن ما سبقه أو لحقه، ومن ظن أنه سيعيش وحده منفردا عن فكر العالم، فلعله يعيش خارج التأريخ وهو لا يدري.
نعم إن المطلوب هو المحافظة على أصالة المنهج، وعلى وضوح الغاية، وهو هدف لا شك عزيز، لا يكون إلا ببذل الغالي والنفيس في ميدان العلم الذي يحتاج إلى عوامل كثيرة للنهوض به، ولن ينهض قوم تخلوا عن العلم وتركوه جانبا.
إن طبيعة الطرح القرآني لا تستثني من حوار وجدال أي فكر وأي رأي، بل هو منهج أتى لهداية العالمين، وكما أن لكل قوم لسان، فإن لكل زمان منهج ومسائل ملحة تحتاج إلى طرح وتقصي.
المسلمون الذين عاشو في بيئة إسلامية تأثروا بها، وانطلقوا منها للبحث عن الحق والحقيقة، فهم لم يعرضوا عنها ولم يتنكبوا لها، بل عملوا بجهدهم للرقي بها والإمدادها بحسب إجتهادهم بالنافع والمفيد،
ولذلك نجد أن طبيعة المعرفة عند الفلاسفة المسلمين أو المتكلمين تبع لنظرية الوجود، والعلم هو ميزة للإنسان ميزها الله سبحانه وتعالى به، وهم لا شك يوحدون الله ويؤمنون به. وإن كنا نجد أن بعضهم تأثر بقرآته من فلاسفة اليونان!
إن التقديس الذي أحاطته المثالية بالعلم وجد آذانا صاغية لدى الفلاسفة المسلمين، ولذلك تأثر المسلمون كثيرا بفلسفة أفلاطون المثالية، وأرسطوا
واسمع إذا أردت لقصيدة ابن سينا في النفس.
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن مقلة كل عارف
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
إن الفلاسفة المسلمين تأثروا بالفكر اليوناني، وأخذوا من أفلاطون وزيادات أفلاطين عليه، ولعله أشتبه على بعضهم كتب هؤلاء بسبب الترجمات. وهم أيضا حاولوا التوفيق بين فلسفة أرسطو وفلسفة أفلاطون من جهة وبين الدين والفلسفة من جهة أخرى، وأكثر ما يميّز هؤلاء الفلاسفة المسلمين الطابع العقلي لأطروحاتهم، فكانوا ينطلقون من أن العقل هو القادر على إدراك الحقيقة.
والناظر إلى تأريخ الفكر الإسلامي يجد ما يشبه الصراع بين من أرتضى المنهج العقلي دليلا وبين من لم يرتضيه بل أقتصر على موضوع النقل والسماع، والفلاسفة يعتبرون على رأس المنهج العقلي، ثم تلاهم بعض المتكلمة من المعتزلة وغيرهم.
والناظر إلى هذا التراث يرى أن الصراع كان في أشده بين هذين المنهجين، وأن الأمة أقتصرت في نهاية الأمر على موضوع النقل، وأن المنهج العقلي توارى مع إنتهاء المعتزلة والرد الفكري الذي قاده الغزالي على الفلاسفة.
إلا أن الناظر إلى علم الكلام يجده يتبع المنهج العقلي إلى أقصى الدرجات، ولعلنا بإذن الله نورد بعض الأمثلة على ذلك.
والفلاسفة المسلمون عندهم تفسير عقلي للمعرفة، سواء في مجال نظرية المعرفة أو نظرية الوجود، لذلك هم حاولوا عقلنة مسألة الخلق. وهم وإن كانوا يرون أن الكون يمضي على نظام آلي، إلا أنه يسير وفق حكمة عقلية ونظام أخلاقي. وهم في جانب المعرفة أقرب إلى الواقعية، وهم يختلفون في فلسفاتهم.
فبينما نجد الكندي ينافح عن وجود الخالق، ولا يختلف طرحه عن المنهج القرآني، نجد الفارابي ينافح عن نظرية الفيض التي جاء بها أفلاطين، ويعتبرها الطريقة التي خلق الله بها الكون.
إن المشكلة التي وقع فيها الفلاسفة هي الشروط التي وضعوها لقضية العلة والمعلول، فإن المعلول عندهم لا يتأخر عن علته، وأن التأخر دليل نقص، وهو ما لا ينبغي في حق الله تعالى، ثم إنه لا تنشأ الكثرة من الواحد.
ونظرية الفيض هي تشبيه لما عليه الشمس، حيث أنها تفيض بالنور الدائم ولكنها لا تنقص، والله سبحانه الخالق، هكذا يخلق الكون، تفيض منه الأشياء، وهو لا ينقص.
إن التفسير العقلي هنا يوقع في ورطات عدة، بل إنه يضيع هنا معنا الألوهية، ومعنى الخلق، وإن الشخص ليعجب كيف لعقول مسلمة يتغبش فكرها في تفسير معنى الخلق، ولكنه المنهج العقلي عندما يستحكم على العقول.
وشروط العلية هذه أوقعت الكثير في أزمة فقال بعضهم بقدم العالم، كمثل ابن تيمية مثلا. وينطلق ابن تيمية من أن الخالق سبحانه لم يزل خالقا، وأن هذا هو الكمال في حقه سبحانه، وأنه لا داعي للفترة التي سبقت الخلق، وبهذا يكون العالم قديما زمنا ولكنه أقل رتبة من الخالق سبحانه، فهو مخلوق له، ويقدم ابن تيمية صفة الخلق على صفة الإرادة، وذلك يخالف الظاهر من قول الله تعالى (إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون).
ويمضي ابن سينا على خطى الفارابي في شرح والدفاع عن نظرية الفيض، بل ويتهم المتكلمين بقصور الفهم لعدم إدراكهم وإلمامهم بأدوات العقل والترجيح. ولكن ابن رشد ينتقد هذه النظرية كثيرا ويقول بنظرية الخلق المباشر، وإن كان ما زال يقيمها على مبدأ العلة والمعلول، ويقول أن الله سبحانه وتعالى يخلق خلقا مستمرا، لا في زمن، فهو إذن يقول بقدم العالم.
والله سبحانه وإن كان خالقا، ولكنه أيضا مريد (يخلق ما يشاء ويختار)، وليست هناك علة وضرورة في حقه سبحانه، فهنا لا شك مطب واضح في موضوع الخلق. فالخلق هو إخراج من عدم، وليس هو إخراج للشيء من القوة إلى الفعل كما يدعي الفلاسفة، فهؤلاء تسوقهم عقولهم أنه لا يمكن أن يخرج الشيء من العدم، بل عليه أن يتحول من حالة إلى حالة، وقد فاتهم أن الله ليس بحاجة إلى مادة أولية لكي يخلق، وأن قضية الخلق هي فوق مستوى العقل أصلا.
والمعتزلة قسموا الموجودات إلى ثلاثة أقسام هي القديم والمعدوم والمحدث. والمعدوم عندهم ما كان له حظ من الوجود، والله سبحانه خلق الأشياء ليس من لا شيء، وإنما خلقها من شيء هو المعدوم، فهنا توسيع لدائرة الشيء، والخلق هو إنتقال من الشيئة إلى الجسمية.
لذلك هنا نشب خلاف بين المعتزلة والأشاعرة في مفهوم الشيء، فالأشاعرة ترى أن الشيء هو كل موجود، بينما تراه المعتزلة بأنه كل معلوم، وهو خلاف لا أراه عميقا، ولكن المعتزلة قالوا تبعا لذلك بقدم العالم، لأن المعدومات قديمة، وأن صفتها الذاتية كانت موجودة، حتى قبل وجودها الخارجي، والخلق هو منح الوجود للمعدومات.
أما الأشاعرة فيقول بأن العالم حادث، وأن الموجود هو الشيء وليس المعدوم، والله مُوجد كل شيء من لا شيء.
وشيئة المعدوم عند المعتزلة تأتي من تفريقهم بين الماهية والوجود، وذلك تتبعا لخطوات المنطق الأرسطي.
واليوم يتساؤل العلماء الفيزيائيون عن طبيعة الكون قبل الإنفجار العظيم، ويتكلمون عن ما يسمى بكثيف بوز أنشاتاين، وهي جزئيات إشعاعية قد لا تحمل أي كتلة تفاعلت بسبب زيادة ضخمة في الجاذبية لتنشيء الجسيمات.
كما ويقوم ابن رشد بالرد على الأشاعرة، فيقول بأن الله قديم وفعله لا بد أن يكون قديما، إلا أن يكون هناك ما يحول عن إتمام هذا الفعل، وهذا لا يليق بالله سبحانه، وليس في القرآن آية تقول أن الله كان مع العدم المحض، بل يوجد ما يظهر العكس، (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)، إن السماء خلقت من مادة قديمة هي الدخان، وأن الخلق لم يكن في زمان.
والحقيقة أن قضية القدم والحدث ليس لها معنى علمي اليوم، ذلك لأن الزمن هو بُعد مرتبط بالمكان أصلا ولا يوجد منفردا، فالزمان والمكان يمضيان معا، فهما مخلوقان ووجودهما متلازم، فعندما وجدت الأشياء وجد الزمن.
وكما أشتد حوار الفلاسفة والمتكلمين في تفسير معنى الخلق وفي قضية قدم العالم، أختلفوا أيضا في قضية السببية، ذلك لأن السببية هي الرباط العقلي الذي استخدمه من يقول بقدم العالم.
الفكر الإنساني متصل الحلقات، ولا ينفصل عن ما سبقه أو لحقه، ومن ظن أنه سيعيش وحده منفردا عن فكر العالم، فلعله يعيش خارج التأريخ وهو لا يدري.
نعم إن المطلوب هو المحافظة على أصالة المنهج، وعلى وضوح الغاية، وهو هدف لا شك عزيز، لا يكون إلا ببذل الغالي والنفيس في ميدان العلم الذي يحتاج إلى عوامل كثيرة للنهوض به، ولن ينهض قوم تخلوا عن العلم وتركوه جانبا.
إن طبيعة الطرح القرآني لا تستثني من حوار وجدال أي فكر وأي رأي، بل هو منهج أتى لهداية العالمين، وكما أن لكل قوم لسان، فإن لكل زمان منهج ومسائل ملحة تحتاج إلى طرح وتقصي.
المسلمون الذين عاشو في بيئة إسلامية تأثروا بها، وانطلقوا منها للبحث عن الحق والحقيقة، فهم لم يعرضوا عنها ولم يتنكبوا لها، بل عملوا بجهدهم للرقي بها والإمدادها بحسب إجتهادهم بالنافع والمفيد،
ولذلك نجد أن طبيعة المعرفة عند الفلاسفة المسلمين أو المتكلمين تبع لنظرية الوجود، والعلم هو ميزة للإنسان ميزها الله سبحانه وتعالى به، وهم لا شك يوحدون الله ويؤمنون به. وإن كنا نجد أن بعضهم تأثر بقرآته من فلاسفة اليونان!
إن التقديس الذي أحاطته المثالية بالعلم وجد آذانا صاغية لدى الفلاسفة المسلمين، ولذلك تأثر المسلمون كثيرا بفلسفة أفلاطون المثالية، وأرسطوا
واسمع إذا أردت لقصيدة ابن سينا في النفس.
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن مقلة كل عارف
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
إن الفلاسفة المسلمين تأثروا بالفكر اليوناني، وأخذوا من أفلاطون وزيادات أفلاطين عليه، ولعله أشتبه على بعضهم كتب هؤلاء بسبب الترجمات. وهم أيضا حاولوا التوفيق بين فلسفة أرسطو وفلسفة أفلاطون من جهة وبين الدين والفلسفة من جهة أخرى، وأكثر ما يميّز هؤلاء الفلاسفة المسلمين الطابع العقلي لأطروحاتهم، فكانوا ينطلقون من أن العقل هو القادر على إدراك الحقيقة.
والناظر إلى تأريخ الفكر الإسلامي يجد ما يشبه الصراع بين من أرتضى المنهج العقلي دليلا وبين من لم يرتضيه بل أقتصر على موضوع النقل والسماع، والفلاسفة يعتبرون على رأس المنهج العقلي، ثم تلاهم بعض المتكلمة من المعتزلة وغيرهم.
والناظر إلى هذا التراث يرى أن الصراع كان في أشده بين هذين المنهجين، وأن الأمة أقتصرت في نهاية الأمر على موضوع النقل، وأن المنهج العقلي توارى مع إنتهاء المعتزلة والرد الفكري الذي قاده الغزالي على الفلاسفة.
إلا أن الناظر إلى علم الكلام يجده يتبع المنهج العقلي إلى أقصى الدرجات، ولعلنا بإذن الله نورد بعض الأمثلة على ذلك.
والفلاسفة المسلمون عندهم تفسير عقلي للمعرفة، سواء في مجال نظرية المعرفة أو نظرية الوجود، لذلك هم حاولوا عقلنة مسألة الخلق. وهم وإن كانوا يرون أن الكون يمضي على نظام آلي، إلا أنه يسير وفق حكمة عقلية ونظام أخلاقي. وهم في جانب المعرفة أقرب إلى الواقعية، وهم يختلفون في فلسفاتهم.
فبينما نجد الكندي ينافح عن وجود الخالق، ولا يختلف طرحه عن المنهج القرآني، نجد الفارابي ينافح عن نظرية الفيض التي جاء بها أفلاطين، ويعتبرها الطريقة التي خلق الله بها الكون.
إن المشكلة التي وقع فيها الفلاسفة هي الشروط التي وضعوها لقضية العلة والمعلول، فإن المعلول عندهم لا يتأخر عن علته، وأن التأخر دليل نقص، وهو ما لا ينبغي في حق الله تعالى، ثم إنه لا تنشأ الكثرة من الواحد.
ونظرية الفيض هي تشبيه لما عليه الشمس، حيث أنها تفيض بالنور الدائم ولكنها لا تنقص، والله سبحانه الخالق، هكذا يخلق الكون، تفيض منه الأشياء، وهو لا ينقص.
إن التفسير العقلي هنا يوقع في ورطات عدة، بل إنه يضيع هنا معنا الألوهية، ومعنى الخلق، وإن الشخص ليعجب كيف لعقول مسلمة يتغبش فكرها في تفسير معنى الخلق، ولكنه المنهج العقلي عندما يستحكم على العقول.
وشروط العلية هذه أوقعت الكثير في أزمة فقال بعضهم بقدم العالم، كمثل ابن تيمية مثلا. وينطلق ابن تيمية من أن الخالق سبحانه لم يزل خالقا، وأن هذا هو الكمال في حقه سبحانه، وأنه لا داعي للفترة التي سبقت الخلق، وبهذا يكون العالم قديما زمنا ولكنه أقل رتبة من الخالق سبحانه، فهو مخلوق له، ويقدم ابن تيمية صفة الخلق على صفة الإرادة، وذلك يخالف الظاهر من قول الله تعالى (إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون).
ويمضي ابن سينا على خطى الفارابي في شرح والدفاع عن نظرية الفيض، بل ويتهم المتكلمين بقصور الفهم لعدم إدراكهم وإلمامهم بأدوات العقل والترجيح. ولكن ابن رشد ينتقد هذه النظرية كثيرا ويقول بنظرية الخلق المباشر، وإن كان ما زال يقيمها على مبدأ العلة والمعلول، ويقول أن الله سبحانه وتعالى يخلق خلقا مستمرا، لا في زمن، فهو إذن يقول بقدم العالم.
والله سبحانه وإن كان خالقا، ولكنه أيضا مريد (يخلق ما يشاء ويختار)، وليست هناك علة وضرورة في حقه سبحانه، فهنا لا شك مطب واضح في موضوع الخلق. فالخلق هو إخراج من عدم، وليس هو إخراج للشيء من القوة إلى الفعل كما يدعي الفلاسفة، فهؤلاء تسوقهم عقولهم أنه لا يمكن أن يخرج الشيء من العدم، بل عليه أن يتحول من حالة إلى حالة، وقد فاتهم أن الله ليس بحاجة إلى مادة أولية لكي يخلق، وأن قضية الخلق هي فوق مستوى العقل أصلا.
والمعتزلة قسموا الموجودات إلى ثلاثة أقسام هي القديم والمعدوم والمحدث. والمعدوم عندهم ما كان له حظ من الوجود، والله سبحانه خلق الأشياء ليس من لا شيء، وإنما خلقها من شيء هو المعدوم، فهنا توسيع لدائرة الشيء، والخلق هو إنتقال من الشيئة إلى الجسمية.
لذلك هنا نشب خلاف بين المعتزلة والأشاعرة في مفهوم الشيء، فالأشاعرة ترى أن الشيء هو كل موجود، بينما تراه المعتزلة بأنه كل معلوم، وهو خلاف لا أراه عميقا، ولكن المعتزلة قالوا تبعا لذلك بقدم العالم، لأن المعدومات قديمة، وأن صفتها الذاتية كانت موجودة، حتى قبل وجودها الخارجي، والخلق هو منح الوجود للمعدومات.
أما الأشاعرة فيقول بأن العالم حادث، وأن الموجود هو الشيء وليس المعدوم، والله مُوجد كل شيء من لا شيء.
وشيئة المعدوم عند المعتزلة تأتي من تفريقهم بين الماهية والوجود، وذلك تتبعا لخطوات المنطق الأرسطي.
واليوم يتساؤل العلماء الفيزيائيون عن طبيعة الكون قبل الإنفجار العظيم، ويتكلمون عن ما يسمى بكثيف بوز أنشاتاين، وهي جزئيات إشعاعية قد لا تحمل أي كتلة تفاعلت بسبب زيادة ضخمة في الجاذبية لتنشيء الجسيمات.
كما ويقوم ابن رشد بالرد على الأشاعرة، فيقول بأن الله قديم وفعله لا بد أن يكون قديما، إلا أن يكون هناك ما يحول عن إتمام هذا الفعل، وهذا لا يليق بالله سبحانه، وليس في القرآن آية تقول أن الله كان مع العدم المحض، بل يوجد ما يظهر العكس، (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)، إن السماء خلقت من مادة قديمة هي الدخان، وأن الخلق لم يكن في زمان.
والحقيقة أن قضية القدم والحدث ليس لها معنى علمي اليوم، ذلك لأن الزمن هو بُعد مرتبط بالمكان أصلا ولا يوجد منفردا، فالزمان والمكان يمضيان معا، فهما مخلوقان ووجودهما متلازم، فعندما وجدت الأشياء وجد الزمن.
وكما أشتد حوار الفلاسفة والمتكلمين في تفسير معنى الخلق وفي قضية قدم العالم، أختلفوا أيضا في قضية السببية، ذلك لأن السببية هي الرباط العقلي الذي استخدمه من يقول بقدم العالم.
والمناطقة يقسمون العلة إلى أنواع، أهمها أربع علل جاء بها أرسطو هي العلة المادية، فإذا كان السيف من حديد، فإن العلة المادية للسيف هي الحديد، والعلة الصورية، وهي شكل السيف، والعلة الفاعلية، وهي هنا من قام بصنع السيف، ثم العلة الغائية، وهي الوظيفة التي سيستخدم فيها السيف.
والحوادث لا تحصل إلا بواسطة، وهي الأسباب، فالنار مثلا تحرق، والماء يروي، وهكذا، إلا أن الأشاعرة نازعوا في هذا فقالوا إنه ليس للمادة إمكانية، وإنما الله هو الذي يحدث السبب والمسبب، فالنار ليست هي من تحرق، ولكن الله هو الفاعل لهذا الحرق، ونحن نرى أن الحرق يتم بعد تلاقي الأشياء بالنار فنقول أن النار تحرق، ولكنها في الحقيقة ليس لها طول أو قوة في الحرق، وإنما الفاعل هو الله سبحانه.
أما الآخرون فيرون أن الله أعطى للمواد خواصا يمكنها من أن القيام بما تقوم به، فهذه الخواص تقوم بما تقوم به بإذن الله، وليست هي مشاركة في الخلق والفعل بسبب هذا، ويظل أن الله هو وحده الفاعل المنفرد، ولكنه جعل خواصا لبعض المواد كطبائع ذاتية فيها.
ورفض الأشاعرة وبعض المتعتزلة القول بالطبائع المؤثرة، وبعض المعتزلة قالوا بالطبع، وأغلب المتكلمين ينكرون هذه الحتمية الضرورية في المواد، أما الفلاسفة فيقولون أنه إذا توفرت شروط العلة وانتفت موانعها، فالعلة لازمة لمعلولها.
ويعزي بعض المفكرين الفصل بين العلة والمعلول هذا الذي ساد الفكر الإسلامي بأنه هو السبب الذي أدى إلى تخلف المسلمين، وإنتشار الفكر الصوفي فيها. ويرون أن هذا القول ينسف بالمعقولية وبمبدأ التحري والبحث الذي ينبغي أن يصرف لمعرفة هذه الأسباب والقوانين التي تسوس الطبيعة.
والحق أن الله يدعونا لربط الأسباب بالمسببات، وينبه إلى أن النظام الكوني مطّرد السنن، والله سبحانه يقول (فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا).
ويقول سبحانه (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)، فكأن الخلق والهدى حق للمخلوقات وقد أعطاهن الله كاملا، والهداية هنا هو ما يسر للمخلوق من عمل يصنعه أو طبع يتطبعه، والمادة ليس لها اختيار ولكنها الطبيعة التي خلقت بها.
ويستدل ابن رشد على أن العلية والقوانين الحاكمة هي الوسيلة لمعرفة وجود الله سبحانه، وأنه لا شيء يخضع للصدفة وأن القول بالمشيئة بأن الله تعالى هو الذي يرجح أحد الوجوه الممكنة، يتعارض مع دليل العناية الإلهية، وهو الدليل الأقوى برأيه على وجود الله سبحانه.
ودليل العناية يتلخص في أن من يلاحظ نظام الكون يستدل على وجود مدبر مبدع أحكم سننه حتى يستقيم فيه كل شيء، إن الكون به نظام خاص يسير عليه، وهذا النظام يدل على وجود المبدع الحكيم، وأن هذا النظام ينحل إذا قلنا بمبدأ المشئية هذا.
ونريد هنا أن ;كما وعدنا أن نضرب مثالا على الإستخدام الأدلة العقلية، وللنظر مثلا كتاب الإقتصاد في الإعتقاد للإمام الغزالي، ولنأخذ مبحث الرؤية، على سبيل المثال، فإنه يلاحظ بجلاء الإستلال العقلي الذي يأخذ معظم المبحث، ليأتي بعدها الكلام عن الأدلة القرآنية سريعا جدا. ولنمضي مع هذا المختصر
"ندعي أن الله سبحانه وتعالى مرئي، خلافاً للمعتزلة، وأردنا أن نبين كيف يجمع بين نفي الجهة وإثبات الرؤية. وكل موجود ذات فواجب أن يكون مرئياً، كما أنه واجب أن يكون معلوماً، ولست أعني به أنه واجب أن يكون معلوماً ومرئياً بالفعل بل بالقوة، أي هو من حيث ذاته له، فإن امتنع وجود الرؤية فلأمر آخر خارج عن ذاته.
فإذا فهم المراد منه فالنظر في طرفين: أحدهما في الجواز العقلي، والثاني في الوقوع الذي لا سبيل إلى دركه إلا بالشرع.
وفي الطرف الأول، وهو الجواز العقلي للرؤية، نستدل بمسلكين واقعين عقليين على جوازه.
المسلك الأول، هو أنا نقول أن الباري سبحانه موجود وذات، وله ثبوت وحقيقة، وجائز تعلق العلم بذاته وصفاته. والرؤية نوع علم، فإن قيل: فكونه مرئياً يوجب كونه بجهة وكونه بجهة يوجب كونه عرضاً أو جوهراً وهو محال، فنقول لم قلتم إنه إن كان مرئياً فهو بجهة، أعلمتم ذلك بضرورة، أم بنظر ؟ ولا سبيل إلى دعوى الضرورة.
وأما النظر فلا بد من بيانه، ومنتهاهم أنهم لم يروا إلى الآن شيئاً إلا وكان بجهة من الرأي مخصوصة، فيقال: وما لم ير فلا يحكم باستحالته. على أن هؤلاء لا يغفل عن معارضتهم بأن الله يرى نفسه ويرى العالم وهو ليس بجهة من نفسه ولا من العالم، فإذا جاز ذلك فقد بطل هذا الخيال. فبهذا يستبين ضيق حوصلة هؤلاء عن التصديق بما لم يألفوه ولم تأنس به حواسهم.
المسلك الثاني، وهو الكشف البالغ أن تقول إنما أنكر الخصم الرؤية لأنه لم يفهم ما تريده، وظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرأي عند النظر إلى الأجسام والألوان وهيهات ! فنحن نعترف باستحالة ذلك في حق الله سبحانه، ولكن ينبغي أن نحصل معنى هذا اللفظ في الموضع المتفق، ونسبكه ثم نحذف منه ما يستحيل في حق الله سبحانه وتعالى.
وتحصيله، أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين، وله متعلق وهو اللون والقدر والجسم وسائر المرئيات، فلننظر إلى حقيقة معناه ومحله، وإلى متعلقه ولنتأمل أن الركن من جملتها في إطلاق هذا الاسم ما هو.
فنقول: أما المحل فليس بركن في صحة هذه التسمية، فإن الحالة التي ندركها بالعين من المرئي لو أدركناها بالقلب أو بالجبهة مثلاً لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق كلامنا، فإن العين محل وآلة لا تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة، فحيث حلت الحالة تمت الحقيقة وصح الاسم.
وأما المتعلق بعينه فليس ركناً في إطلاق هذا الاسم وثبوت هذه الحقيقة. فإن الرؤية لو كانت رؤية لتعلقها بالسواد لما كان المتعلق بالبياض رؤية، ولو كان لتعلقها باللون لما كان المتعلق بالحركة رؤية، فدل أن خصوص صفات المتعلق ليس ركناً لوجود هذه الحقيقة، وإطلاق هذا الاسم، بل الركن فيه من حيث أنه صفة متعلقة أن يكون لها متعلق موجود؛ أي موجود كان وأي ذات كان.
فإذاً الركن الذي الاسم مطلق عليه هو الأمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات إلى محله ومتعلقه، فلنبحث عن الحقيقة ما هي، ولا حقيقة لها إلا أنها نوع إدراك هو كمال ومزيد. ومن الأشياء ما نعلمه ولا نتخيله وهو ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وكل ما لا صورة له، أي لا لون له ولا قدر مثل القدرة والعلم والعشق والإبصار والخيال؛ فإن هذه أمور نعلمها ولا نتخيلها والعلم بها نوع إدراك.
فلننظر هل يحيل العقل أن يكون لهذا الادراك مزيد استكمال نسبته إليه نسبة الإبصار إلى التخيل؛ فإن كان ذلك ممكناً سمينا ذلك الكشف والاستكمال بالاضافة إلى العلم رؤية.
ومعلوم أن تقدير هذا الاستكمال في الاستيضاح والاستكشاف غير محال في الموجودات المعلومة التي ليست متخيلة كالعلم والقدرة وغيرهما، وكذا في ذات الله سبحانه وصفاته، بل نكاد ندرك ضرورة من الطبع أنه يتقاضى طلب مزيد استيضاح في ذات الله وصفاته وفي ذوات هذه المعاني المعلومة كلها.
فحن نقول إن ذلك غير محال فإنه لا محيل له بل العقل دليل على إمكانه بل على استدعاء الطبع له. إلا أن هذا الكمال في الكشف غير مبذول في هذا العالم، والنفس في شغل البدن وكدورة صفائه، فهو مجوب عنه. فإذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وزكيت القلوب بالشراب الطهور، وصفيت بأنوع التصفية والتنقية، لم يمتنع أن تشتغل بسببها لمزيد استكمال واستيضاح في ذات الله سبحانه أو في سائر المعلومات، يكون ارتفاع درجته عن العلم المعهود كارتفاع درجة الإبصار عن التخيل، يعبر عن ذلك بلقاء الله تعالى ومشاهدته أو رؤيته أو إبصاره أو ما شئت من العبارات.
فإذا فهم المراد بما أطلقه أهل الحق من الرؤية، علم أن العقل لا يحيله بل يوجبه، وأن الشرع قد شهد له فلا يبقى للمنازعة وجه إلا على سبيل العناد أو المشاحنة في إطلاق عبارة الرؤية أو القصور عن درك هذه المعاني الدقيقة التي ذكرناها.
الطرف الثاني في وقوعه شرعاً. وقد دل الشرع على وقوعه ومداركه كثيرة، ولكثرتها يمكن دعوى الإجماع على الأولين في ابتهالهم إلى الله سبحانه في طلب لذة النظر إلى وجهه الكريم. ونعلم قطعاً من عقائدهم أنهم كانوا ينتظرون ذلك وأنهم كانوا قد فهموا جواز انتظار ذلك وسؤاله من الله سبحانه، بقرائن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجملة من ألفاظه الصريحة التي لا تدخل في الحضر، بالاجماع الذي يدل على خروج المدارك عن الحصر. ومن أقوى ما يدل عليه سؤال موسى صلى الله عليه وسلم أرني أنظر إليك فإنه يستحيل أن يخفى عن نبي من أنبياء الله تعالى انتهى منصبه إلى أن يكلمه الله سبحانه شفاهاً أن يجهل من صفات ذاته تعالى ما عرفه المعتزلة".
هذه كانت جولة مع بعض أراء المتكلمين وفلاسفة المسلمين، ولا شك أنها جولة سريعة، وبرأيي أن هذه التجربة بحاجة إلى تقييم دقيق، ولعل ذلك ما يفعله بعض المهتمين بالأستمولوجيا أو نظرية المعرفة وكيفية تطَورها مع المسلمين، وما هي العوامل التي شكلت وجدان ومنهج المسلم اليوم.
وبرأيي البسيط أن هذا المنهج العقلي بحاجة إلى تقييم، فمعروف أن هذه المنهج ليس يقينيا وإنما ظني، وما يمكن أن يتصوره العقل تأتي الحقائق بعدها لتبيّن أمور أخرى فيها، وهكذا العلم ليس من شأنه الثبوت بل الترقي مع زيادة الوعي الإنساني.
ولا شك أن المنهج العقلي يعتبر جانب واحد فقط من مصادر المعرفة عند المسلمين، فهم كان إعتمادهم على الوحي والنقل، وخاصة الفقهاء والمحدثين، ثم كان هناك قسم آخر مضى في فضاء الوجدان ليصوغ معارف وجدانية ثرية وذلك ما سطره الصوفية على اختلاف أقسامهم.
وإذا كانت التجربة الإسلامية ثرية في هذا الجانب، فإن القرآن الكريم أيضا ثري بشتى أنواع المعارف، فهو دستور إلهي أتى ليقيم الأمة على السواء فيما يخص علاقتها بالله وكيفية النهوض بنفسها حتى تكون حقا مستخلفة في الأرض، فالقرآن الكريم هو مصدر المعرفة لدى المسلمين، وهو المنهج الرباني الشامل الذي إن طبقوه ارتفعوا ورقوا.
والقرآن الكريم يحض على السعي في الأرض والبحث والتفكر، كما أنه لا يخلو من وجود منافذ لسبر أغوار العلم الروحي أو ما يمكن أن نسميه بالحالات غير المعتادة، فالكون خلقه الله مليء بالأسرار، وهنا مجال للبحث في كافة المسائل.
ولا يوجد في القرآن الكريم تحيّز لمنهج أو مصدر واحد للمعرفة، بل أن الظاهر أن هذه المصادر جميعا تتكامل لتأتي بالصورة كاملة.
ولا شك أن بعض هذه المصادر إنما هي متخصصة في بعض أنواع المعارف، فالحس يبحث في عالم المادة، ونظرا لقصور الحس البشري فإن الإنسان استعان بالآلات ليطور من قدراته الحسية فأقام التجارب لتسبر أغوار عميقة في عالم المادة، ويقتصر تعريف العلم في الغرب اليوم على هذا النوع من المصادر فقط، فالعلم تبدأ دائرته هنا وتنتهي أيضا هنا، لذلك فهم يحسبون أن العلم، بهذا المعنى، قادر على حل كل إشكالات الكون والإنسان.
وإذا كانت الحضارة الغربية قائمة على العلوم المادية فقط، فإن الأمة الإسلامية مدعومة بالوحي الذي نهضت به سابقا وسادت به الأمم، قادرة على الرجوع مجدد إلى هذا الصف الذي كانت به، وهي حرية به لأن الله بعثها لتكون أمة وسطا، معلمة للأمم وهادية للناس إلى الصراط المستقيم. إلا أنها بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة لتجربتها التأريخية فتقوم أماكن الإعوجاج، ولن يكون هذا إلا بالبحث والنقد والتصحيح. وتقصي هذه المثالب يحتاج إلى جهد وعلم.
وظاهر من هذا أنه لا يوجد تصادم أو تمايز بين الوحي والحس أو العقل، بل كل منهم مكمل للآخر، حتى يأتي بالصورة كاملة كما قلنا، ولن يتمكن الحس من إدراك عالم الغيب، بل هو مقيد في دائرة خاصة، على أن الحس يأتي فقط بالظاهر من الأمور، ولا يسبر عالم العلل والمثل والقيّم، ولا قيمة للإنسان من دون هدف يسوقه للخير أو مبدأ ينهاه عن منكر، أو حساب وعقاب يطمئن نفسه بأن وراء مشاور الدنيا، هدف أسمى وعدل أقوم. والدين جاء ليقيم أمة وينشئ حضارة متكاملة الفروع.
وإذا أمكن تحديد دائرتي العلم التجريبي والوحي، فإن المنهج العقلي يدخل في هذين المجالين أيضا، وإن كان يظهر بأنه أشد إلتصاقا بالفلسفة، ولعل ذلك لأسباب تأريخية، حيث نرى اليوم أن العلم التجريبي يخوض غمار الفلسفة ويحدد طريقها، كما كان الوحي يعمل على بلورة هذا الجانب أيضا. ومع الأهمية القصوى لمباحث الفلسفة إلا أن المناهج المعرفية التي يمكن أن تقيم الفلسفة لا ينبغي أن تقتصر على المنهج العقلي فقط، بل هو أمر تتناوله المناهج جميعها. والله خلق الكتاب المنظور والكتاب المسطور ليستقي الإنسان منه معارفة، على أن العصمة فقط للوحي فهو من رب العالمين، أما المنهاج العقلي والتجريبي فكليهما عبارة عن طريق طويل يتبعه الإنسان ليرتقي في سلّم العلم.
إن القرآن الكريم مكتنز بالقواعد الغيبية التي لا يمكن لتجربة أن تأتي بها، كمثل قوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)، نعم إن سبب العداوة والبغضاء هو اتباع وساوس الشيطان، إلى قواعد أخرى كثيرة يبينه القرآن ويجليها من عالم الغيب لنا.
وأريد هنا أن أنهي هذا الموضوع بوقفة مع ما كتبه الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه "كبرى اليقينات الكونية"، حيث يبدأ كتابه عن المنهج العلم للبحث عن الحقيقة، وهم مبحث جميل وعميق، ويعجبني هنا أن أشير على بعض ما أورده من منهج. ويلخص المنهج في القاعدة العلمية، (إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعيا فالدليل). ثم يمضي في سرد طرق التحقق من الخبر، وذلك ما سطره المسلمون فيما يخص الخبر اليقيني أو الخبر الظني.
أما فيما يخص السبل المتخذة في التحقق من الإدعاء، فيقول بأنه يختلف بإختلاف الإدعاء، فإن كان يمكن التحقق منه بالشواهد والبراهين الحسية أو ما يسمى حديثا بالتجربة والمشاهده، فإن الإسلام لا يتردد في تبنيى كل ما يثبت تحقيقا بهذه الوسيلة. وينبه أنه لم يحدث إلى الآن أن يأتي العلم بدليل حسي يخالف ما أتى به الوحي، بل هو منسجم معه أشد الإنسجام. والكلام هنا عن ما أثبته العلم لا ما يدعيه.
والقرآن أحترم العقل الإنساني فلم يلزمة بالمعارف المادية، بل جعل له المجال ليكشف اللثام عنها بنفسه، ولذلك تجده في هذا المجال لا يزيد على أن يدفع أرباب العقول إلى البحث بوسائلهم العلمية الكاشفة، أما فيما يخص الإخبارات الغيبية فإنه قد فصل القول فيها بحكم مبرم.
وأما فيما يخص الدعاوي المتعلقة بالأمور التجريدية أو الغير خاضعة لشيء من الحواس، فمنه ما تجد نصوصا واضحة فيه من الكتاب والسنة المتواترة، ومنها ما لا تجد.
فأما المنصوص عليه في أحدهما، فهو داخل بهذا في المدركات اليقينية، والقرآن في كثير من الأحيان مع ذلك يحملنا على التأمل والنظر في كل ما يخبرنا به. ولا شك هنا طريقين، فإما أن نبحث في كيفية التأكد من الخبر، وهو ما ذكرنا سابقا من منهج دقيق لتأكد من الخبر وأنواعه، والطريق الثاني بأن يبحث في هدي الفكر المجرد والبراهين العقليلة المحضة، وكلا الطريقين يشد بعضهما بعضا ليوصلان إلى الحقيقة.
وأما ما لم يتعرض له الخبر اليقيني بأي نص واضح، فينحصر سبيل المعرفة فيه بالنظر العقلي وحده، ويتحقق ذلك بمسلكين إثنين، هما إتباع دلالة الإلتزام، فإن النحول الشديد في الجسم دال على المرض، وكذا دلالة المآذن هو وجود المصلين في البلدة، والمسلك الثاني هو القياس، وقد فصل في كلا السبيلين في كتابه "كبرى اليقينيات الكونية".
هذا والله ولي التوفيق
أما الآخرون فيرون أن الله أعطى للمواد خواصا يمكنها من أن القيام بما تقوم به، فهذه الخواص تقوم بما تقوم به بإذن الله، وليست هي مشاركة في الخلق والفعل بسبب هذا، ويظل أن الله هو وحده الفاعل المنفرد، ولكنه جعل خواصا لبعض المواد كطبائع ذاتية فيها.
ورفض الأشاعرة وبعض المتعتزلة القول بالطبائع المؤثرة، وبعض المعتزلة قالوا بالطبع، وأغلب المتكلمين ينكرون هذه الحتمية الضرورية في المواد، أما الفلاسفة فيقولون أنه إذا توفرت شروط العلة وانتفت موانعها، فالعلة لازمة لمعلولها.
ويعزي بعض المفكرين الفصل بين العلة والمعلول هذا الذي ساد الفكر الإسلامي بأنه هو السبب الذي أدى إلى تخلف المسلمين، وإنتشار الفكر الصوفي فيها. ويرون أن هذا القول ينسف بالمعقولية وبمبدأ التحري والبحث الذي ينبغي أن يصرف لمعرفة هذه الأسباب والقوانين التي تسوس الطبيعة.
والحق أن الله يدعونا لربط الأسباب بالمسببات، وينبه إلى أن النظام الكوني مطّرد السنن، والله سبحانه يقول (فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا).
ويقول سبحانه (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)، فكأن الخلق والهدى حق للمخلوقات وقد أعطاهن الله كاملا، والهداية هنا هو ما يسر للمخلوق من عمل يصنعه أو طبع يتطبعه، والمادة ليس لها اختيار ولكنها الطبيعة التي خلقت بها.
ويستدل ابن رشد على أن العلية والقوانين الحاكمة هي الوسيلة لمعرفة وجود الله سبحانه، وأنه لا شيء يخضع للصدفة وأن القول بالمشيئة بأن الله تعالى هو الذي يرجح أحد الوجوه الممكنة، يتعارض مع دليل العناية الإلهية، وهو الدليل الأقوى برأيه على وجود الله سبحانه.
ودليل العناية يتلخص في أن من يلاحظ نظام الكون يستدل على وجود مدبر مبدع أحكم سننه حتى يستقيم فيه كل شيء، إن الكون به نظام خاص يسير عليه، وهذا النظام يدل على وجود المبدع الحكيم، وأن هذا النظام ينحل إذا قلنا بمبدأ المشئية هذا.
ونريد هنا أن ;كما وعدنا أن نضرب مثالا على الإستخدام الأدلة العقلية، وللنظر مثلا كتاب الإقتصاد في الإعتقاد للإمام الغزالي، ولنأخذ مبحث الرؤية، على سبيل المثال، فإنه يلاحظ بجلاء الإستلال العقلي الذي يأخذ معظم المبحث، ليأتي بعدها الكلام عن الأدلة القرآنية سريعا جدا. ولنمضي مع هذا المختصر
"ندعي أن الله سبحانه وتعالى مرئي، خلافاً للمعتزلة، وأردنا أن نبين كيف يجمع بين نفي الجهة وإثبات الرؤية. وكل موجود ذات فواجب أن يكون مرئياً، كما أنه واجب أن يكون معلوماً، ولست أعني به أنه واجب أن يكون معلوماً ومرئياً بالفعل بل بالقوة، أي هو من حيث ذاته له، فإن امتنع وجود الرؤية فلأمر آخر خارج عن ذاته.
فإذا فهم المراد منه فالنظر في طرفين: أحدهما في الجواز العقلي، والثاني في الوقوع الذي لا سبيل إلى دركه إلا بالشرع.
وفي الطرف الأول، وهو الجواز العقلي للرؤية، نستدل بمسلكين واقعين عقليين على جوازه.
المسلك الأول، هو أنا نقول أن الباري سبحانه موجود وذات، وله ثبوت وحقيقة، وجائز تعلق العلم بذاته وصفاته. والرؤية نوع علم، فإن قيل: فكونه مرئياً يوجب كونه بجهة وكونه بجهة يوجب كونه عرضاً أو جوهراً وهو محال، فنقول لم قلتم إنه إن كان مرئياً فهو بجهة، أعلمتم ذلك بضرورة، أم بنظر ؟ ولا سبيل إلى دعوى الضرورة.
وأما النظر فلا بد من بيانه، ومنتهاهم أنهم لم يروا إلى الآن شيئاً إلا وكان بجهة من الرأي مخصوصة، فيقال: وما لم ير فلا يحكم باستحالته. على أن هؤلاء لا يغفل عن معارضتهم بأن الله يرى نفسه ويرى العالم وهو ليس بجهة من نفسه ولا من العالم، فإذا جاز ذلك فقد بطل هذا الخيال. فبهذا يستبين ضيق حوصلة هؤلاء عن التصديق بما لم يألفوه ولم تأنس به حواسهم.
المسلك الثاني، وهو الكشف البالغ أن تقول إنما أنكر الخصم الرؤية لأنه لم يفهم ما تريده، وظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرأي عند النظر إلى الأجسام والألوان وهيهات ! فنحن نعترف باستحالة ذلك في حق الله سبحانه، ولكن ينبغي أن نحصل معنى هذا اللفظ في الموضع المتفق، ونسبكه ثم نحذف منه ما يستحيل في حق الله سبحانه وتعالى.
وتحصيله، أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين، وله متعلق وهو اللون والقدر والجسم وسائر المرئيات، فلننظر إلى حقيقة معناه ومحله، وإلى متعلقه ولنتأمل أن الركن من جملتها في إطلاق هذا الاسم ما هو.
فنقول: أما المحل فليس بركن في صحة هذه التسمية، فإن الحالة التي ندركها بالعين من المرئي لو أدركناها بالقلب أو بالجبهة مثلاً لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق كلامنا، فإن العين محل وآلة لا تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة، فحيث حلت الحالة تمت الحقيقة وصح الاسم.
وأما المتعلق بعينه فليس ركناً في إطلاق هذا الاسم وثبوت هذه الحقيقة. فإن الرؤية لو كانت رؤية لتعلقها بالسواد لما كان المتعلق بالبياض رؤية، ولو كان لتعلقها باللون لما كان المتعلق بالحركة رؤية، فدل أن خصوص صفات المتعلق ليس ركناً لوجود هذه الحقيقة، وإطلاق هذا الاسم، بل الركن فيه من حيث أنه صفة متعلقة أن يكون لها متعلق موجود؛ أي موجود كان وأي ذات كان.
فإذاً الركن الذي الاسم مطلق عليه هو الأمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات إلى محله ومتعلقه، فلنبحث عن الحقيقة ما هي، ولا حقيقة لها إلا أنها نوع إدراك هو كمال ومزيد. ومن الأشياء ما نعلمه ولا نتخيله وهو ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وكل ما لا صورة له، أي لا لون له ولا قدر مثل القدرة والعلم والعشق والإبصار والخيال؛ فإن هذه أمور نعلمها ولا نتخيلها والعلم بها نوع إدراك.
فلننظر هل يحيل العقل أن يكون لهذا الادراك مزيد استكمال نسبته إليه نسبة الإبصار إلى التخيل؛ فإن كان ذلك ممكناً سمينا ذلك الكشف والاستكمال بالاضافة إلى العلم رؤية.
ومعلوم أن تقدير هذا الاستكمال في الاستيضاح والاستكشاف غير محال في الموجودات المعلومة التي ليست متخيلة كالعلم والقدرة وغيرهما، وكذا في ذات الله سبحانه وصفاته، بل نكاد ندرك ضرورة من الطبع أنه يتقاضى طلب مزيد استيضاح في ذات الله وصفاته وفي ذوات هذه المعاني المعلومة كلها.
فحن نقول إن ذلك غير محال فإنه لا محيل له بل العقل دليل على إمكانه بل على استدعاء الطبع له. إلا أن هذا الكمال في الكشف غير مبذول في هذا العالم، والنفس في شغل البدن وكدورة صفائه، فهو مجوب عنه. فإذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وزكيت القلوب بالشراب الطهور، وصفيت بأنوع التصفية والتنقية، لم يمتنع أن تشتغل بسببها لمزيد استكمال واستيضاح في ذات الله سبحانه أو في سائر المعلومات، يكون ارتفاع درجته عن العلم المعهود كارتفاع درجة الإبصار عن التخيل، يعبر عن ذلك بلقاء الله تعالى ومشاهدته أو رؤيته أو إبصاره أو ما شئت من العبارات.
فإذا فهم المراد بما أطلقه أهل الحق من الرؤية، علم أن العقل لا يحيله بل يوجبه، وأن الشرع قد شهد له فلا يبقى للمنازعة وجه إلا على سبيل العناد أو المشاحنة في إطلاق عبارة الرؤية أو القصور عن درك هذه المعاني الدقيقة التي ذكرناها.
الطرف الثاني في وقوعه شرعاً. وقد دل الشرع على وقوعه ومداركه كثيرة، ولكثرتها يمكن دعوى الإجماع على الأولين في ابتهالهم إلى الله سبحانه في طلب لذة النظر إلى وجهه الكريم. ونعلم قطعاً من عقائدهم أنهم كانوا ينتظرون ذلك وأنهم كانوا قد فهموا جواز انتظار ذلك وسؤاله من الله سبحانه، بقرائن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجملة من ألفاظه الصريحة التي لا تدخل في الحضر، بالاجماع الذي يدل على خروج المدارك عن الحصر. ومن أقوى ما يدل عليه سؤال موسى صلى الله عليه وسلم أرني أنظر إليك فإنه يستحيل أن يخفى عن نبي من أنبياء الله تعالى انتهى منصبه إلى أن يكلمه الله سبحانه شفاهاً أن يجهل من صفات ذاته تعالى ما عرفه المعتزلة".
هذه كانت جولة مع بعض أراء المتكلمين وفلاسفة المسلمين، ولا شك أنها جولة سريعة، وبرأيي أن هذه التجربة بحاجة إلى تقييم دقيق، ولعل ذلك ما يفعله بعض المهتمين بالأستمولوجيا أو نظرية المعرفة وكيفية تطَورها مع المسلمين، وما هي العوامل التي شكلت وجدان ومنهج المسلم اليوم.
وبرأيي البسيط أن هذا المنهج العقلي بحاجة إلى تقييم، فمعروف أن هذه المنهج ليس يقينيا وإنما ظني، وما يمكن أن يتصوره العقل تأتي الحقائق بعدها لتبيّن أمور أخرى فيها، وهكذا العلم ليس من شأنه الثبوت بل الترقي مع زيادة الوعي الإنساني.
ولا شك أن المنهج العقلي يعتبر جانب واحد فقط من مصادر المعرفة عند المسلمين، فهم كان إعتمادهم على الوحي والنقل، وخاصة الفقهاء والمحدثين، ثم كان هناك قسم آخر مضى في فضاء الوجدان ليصوغ معارف وجدانية ثرية وذلك ما سطره الصوفية على اختلاف أقسامهم.
وإذا كانت التجربة الإسلامية ثرية في هذا الجانب، فإن القرآن الكريم أيضا ثري بشتى أنواع المعارف، فهو دستور إلهي أتى ليقيم الأمة على السواء فيما يخص علاقتها بالله وكيفية النهوض بنفسها حتى تكون حقا مستخلفة في الأرض، فالقرآن الكريم هو مصدر المعرفة لدى المسلمين، وهو المنهج الرباني الشامل الذي إن طبقوه ارتفعوا ورقوا.
والقرآن الكريم يحض على السعي في الأرض والبحث والتفكر، كما أنه لا يخلو من وجود منافذ لسبر أغوار العلم الروحي أو ما يمكن أن نسميه بالحالات غير المعتادة، فالكون خلقه الله مليء بالأسرار، وهنا مجال للبحث في كافة المسائل.
ولا يوجد في القرآن الكريم تحيّز لمنهج أو مصدر واحد للمعرفة، بل أن الظاهر أن هذه المصادر جميعا تتكامل لتأتي بالصورة كاملة.
ولا شك أن بعض هذه المصادر إنما هي متخصصة في بعض أنواع المعارف، فالحس يبحث في عالم المادة، ونظرا لقصور الحس البشري فإن الإنسان استعان بالآلات ليطور من قدراته الحسية فأقام التجارب لتسبر أغوار عميقة في عالم المادة، ويقتصر تعريف العلم في الغرب اليوم على هذا النوع من المصادر فقط، فالعلم تبدأ دائرته هنا وتنتهي أيضا هنا، لذلك فهم يحسبون أن العلم، بهذا المعنى، قادر على حل كل إشكالات الكون والإنسان.
وإذا كانت الحضارة الغربية قائمة على العلوم المادية فقط، فإن الأمة الإسلامية مدعومة بالوحي الذي نهضت به سابقا وسادت به الأمم، قادرة على الرجوع مجدد إلى هذا الصف الذي كانت به، وهي حرية به لأن الله بعثها لتكون أمة وسطا، معلمة للأمم وهادية للناس إلى الصراط المستقيم. إلا أنها بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة لتجربتها التأريخية فتقوم أماكن الإعوجاج، ولن يكون هذا إلا بالبحث والنقد والتصحيح. وتقصي هذه المثالب يحتاج إلى جهد وعلم.
وظاهر من هذا أنه لا يوجد تصادم أو تمايز بين الوحي والحس أو العقل، بل كل منهم مكمل للآخر، حتى يأتي بالصورة كاملة كما قلنا، ولن يتمكن الحس من إدراك عالم الغيب، بل هو مقيد في دائرة خاصة، على أن الحس يأتي فقط بالظاهر من الأمور، ولا يسبر عالم العلل والمثل والقيّم، ولا قيمة للإنسان من دون هدف يسوقه للخير أو مبدأ ينهاه عن منكر، أو حساب وعقاب يطمئن نفسه بأن وراء مشاور الدنيا، هدف أسمى وعدل أقوم. والدين جاء ليقيم أمة وينشئ حضارة متكاملة الفروع.
وإذا أمكن تحديد دائرتي العلم التجريبي والوحي، فإن المنهج العقلي يدخل في هذين المجالين أيضا، وإن كان يظهر بأنه أشد إلتصاقا بالفلسفة، ولعل ذلك لأسباب تأريخية، حيث نرى اليوم أن العلم التجريبي يخوض غمار الفلسفة ويحدد طريقها، كما كان الوحي يعمل على بلورة هذا الجانب أيضا. ومع الأهمية القصوى لمباحث الفلسفة إلا أن المناهج المعرفية التي يمكن أن تقيم الفلسفة لا ينبغي أن تقتصر على المنهج العقلي فقط، بل هو أمر تتناوله المناهج جميعها. والله خلق الكتاب المنظور والكتاب المسطور ليستقي الإنسان منه معارفة، على أن العصمة فقط للوحي فهو من رب العالمين، أما المنهاج العقلي والتجريبي فكليهما عبارة عن طريق طويل يتبعه الإنسان ليرتقي في سلّم العلم.
إن القرآن الكريم مكتنز بالقواعد الغيبية التي لا يمكن لتجربة أن تأتي بها، كمثل قوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)، نعم إن سبب العداوة والبغضاء هو اتباع وساوس الشيطان، إلى قواعد أخرى كثيرة يبينه القرآن ويجليها من عالم الغيب لنا.
وأريد هنا أن أنهي هذا الموضوع بوقفة مع ما كتبه الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه "كبرى اليقينات الكونية"، حيث يبدأ كتابه عن المنهج العلم للبحث عن الحقيقة، وهم مبحث جميل وعميق، ويعجبني هنا أن أشير على بعض ما أورده من منهج. ويلخص المنهج في القاعدة العلمية، (إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعيا فالدليل). ثم يمضي في سرد طرق التحقق من الخبر، وذلك ما سطره المسلمون فيما يخص الخبر اليقيني أو الخبر الظني.
أما فيما يخص السبل المتخذة في التحقق من الإدعاء، فيقول بأنه يختلف بإختلاف الإدعاء، فإن كان يمكن التحقق منه بالشواهد والبراهين الحسية أو ما يسمى حديثا بالتجربة والمشاهده، فإن الإسلام لا يتردد في تبنيى كل ما يثبت تحقيقا بهذه الوسيلة. وينبه أنه لم يحدث إلى الآن أن يأتي العلم بدليل حسي يخالف ما أتى به الوحي، بل هو منسجم معه أشد الإنسجام. والكلام هنا عن ما أثبته العلم لا ما يدعيه.
والقرآن أحترم العقل الإنساني فلم يلزمة بالمعارف المادية، بل جعل له المجال ليكشف اللثام عنها بنفسه، ولذلك تجده في هذا المجال لا يزيد على أن يدفع أرباب العقول إلى البحث بوسائلهم العلمية الكاشفة، أما فيما يخص الإخبارات الغيبية فإنه قد فصل القول فيها بحكم مبرم.
وأما فيما يخص الدعاوي المتعلقة بالأمور التجريدية أو الغير خاضعة لشيء من الحواس، فمنه ما تجد نصوصا واضحة فيه من الكتاب والسنة المتواترة، ومنها ما لا تجد.
فأما المنصوص عليه في أحدهما، فهو داخل بهذا في المدركات اليقينية، والقرآن في كثير من الأحيان مع ذلك يحملنا على التأمل والنظر في كل ما يخبرنا به. ولا شك هنا طريقين، فإما أن نبحث في كيفية التأكد من الخبر، وهو ما ذكرنا سابقا من منهج دقيق لتأكد من الخبر وأنواعه، والطريق الثاني بأن يبحث في هدي الفكر المجرد والبراهين العقليلة المحضة، وكلا الطريقين يشد بعضهما بعضا ليوصلان إلى الحقيقة.
وأما ما لم يتعرض له الخبر اليقيني بأي نص واضح، فينحصر سبيل المعرفة فيه بالنظر العقلي وحده، ويتحقق ذلك بمسلكين إثنين، هما إتباع دلالة الإلتزام، فإن النحول الشديد في الجسم دال على المرض، وكذا دلالة المآذن هو وجود المصلين في البلدة، والمسلك الثاني هو القياس، وقد فصل في كلا السبيلين في كتابه "كبرى اليقينيات الكونية".
هذا والله ولي التوفيق