الاثنين، 26 يونيو 2017

الرسالة الإنسانية في هذا الوجود

مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أنار قلوب عباده الصاليحن بنور الإيمان فأستقاموا على الطريق فأرتقوا به أعلى المراتب. والصلاة والسلام على الهادي البشير، الذي هو أكمل الخلق، وأقربهم إليه سبحانه وتعالى، فصار قدوة للمتقين وهاديا إلى صراط رب العالمين.
أما بعد، فنريد هنا في هذا الموضوع أن نقف عند رسالة الإنسان في هذا الوجود، نستكنه أصلها وغرضها، ونعرف أهميتها وهدفها، ونجول النظر في الحكم الدائرة في إطارها. والسؤال عن هذا لا شك عظيم، إنه السؤال عن الرسالة الوجودية لهذا الإنسان، الذي بها تكتمل مهمته، وبها يفهم معنى وجوده، وبها يستطيع أيضا أن يحاكم أهداف وغايات مسيرته، فهو لا شك إذن السؤال الأعظم بالنسبة للإنسان، وتنبع أهميته من تحديد الهوية والهدف.
إنه سؤال الوعي والفهم الوجودي الذي يورث فقها وعلما برسالة الإنسان وهدفه، يقول سبحانه وتعالى (ضرب الله مثلا رجلين أححدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، هل يستوي هو من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم).
ونحن وإن كان طرحنا هنا إنساني عام، إلا أنه ينطلق من الرؤية الإسلامية في تفسيرها للكون والإنسان، وهي رؤية تتسم بالجمع بين الدين والعلم، فلا إختلاف بينهما عند المسلم، بل كل منهما مكمل للآخر. ويتميّز الطرح الإسلامي بالإتساع والشمول في نظرته للحياة والموت، وفلسفته عن الدنيا والآخرة، وعن العقاب والثواب. وبحثنا هنا عن الأهداف والغايات سوف يلامس هذه الفلسفة الشاملة، وإن كان هو مقتصرا على فهم هذه الغايات والأهداف.
والله سبحانه وتعالى هو الخالق والهادي، (الذي خلق فسوى، والذي قدّر فهدى). والهداية قرينة الخلق، وهي محل نظرنا في هذا الموضوع، فلننظر إليها إذن بتمعّن، ولندرسها بتأني حتى نقف على معالم هذه الهداية التي بها يحقق الإنسان مراده وغايته في هذه البسيطة، يقول سبحانه في أم القرآن (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).
وسوف نقدم موضوعنا هذه بمقدمتين مهمتين، هما المفتاح بإذن الله لما نريد ونرجو من محاولة لفهم الغايات والأهداف. وهما النظر في صفات الخالق سبحانه لنسبين شيئا من علل الخلق والأمر، ثم الوقوف مع الإنسان نفسه لنفهم طبيعته ومدى إختلافه مع غيره من المخلوقات ليكون بعد ذلك أهلا لتحمل الأمانة الإلهية.

إن الحكمَ إلا لله:
الله سبحانه وتعالى لم يخلق الأشياء عبثا، وإنما خلقها لهدف وغاية، وهو سبحانه وتعالى هداها لهذه الغاية وجعل فيها كل الأدوات والإمكانات التي تمكّنها من القيام بهذه الغايات والأهداف. ولذلك حقيق بنا أولا أن ننظر في صفات الخالق سبحانه وتعالى لنستجلي شيء من الحكم والقواعد التي تعيننا على تلمس بعضا من الغايات والأهداف.
ومن المعلوم بداية بأن الله سبحانه لا تجري عليه الأسباب ولا يتحكم في فعله شيء. ذلكم لأن الغايات نفسها مخلوقة له سبحانه وتعالى. فالله عز وجل أقام الدنيا على منهج محكم وسيرها على نظام متقن. وما ذلك إلا لحكمته وقدرته وواسع علمه. فمثلا لا يجوز أن يتصف الله بالظلم لأن أفعاله كلها حق وعدل. وليس لأن لهذه القيّم سلطان عليه سبحانه وتعالى وعلى أفعاله جل في علاه.
إن الحِكَم الربانية لأفعاله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يقاربها الإنسان فهما وإدراكا، فضلا عن أن يحكم عليها بشيء، (لا يسئل عمّا يفعل وهم يسألون). وذلك هو الفرق بين مقام الإلوهية ومقام العبودية، وبين مقام الخالق ومقام المخلوق.
والله سبحانه وتعالى ليس بجسم مادي يمكن قياسه مباشرة، تعالى الله عن ذلك، وإنما الله سبحانه هو خالق كل شيء، بما في ذلك أدوات الحس والفهم في الإنسان. فلذلك معرفة الله سبحانه وتعالى وصفاته لا تكون بأدوات الحس المباشر، وإنما لا بد من الإستدلال على الله سبحانه بالأدلة الدامغة المبثوثة في هذا الوجود، والعلم المباشر لا يكون إلا عن تجربة والله سبحانه وتعالى وأفعاله ليست من هذا القبيل بتاتا، وإنما معرفة الله سبحانه وتعالى وصفاته تكون باستنطاق أثر صفاته في هذا الوجود، وبالاستدلال العقلي أو السماع من الوحي.
إن الله سبحانه وتعالى خالق للأهداف والغايات كلها، إليه ترجع الأسباب والمسببات، فهي أثر لصفاته سبحانه وتعالى. ليس للغايات والأهداف سلطان على أفعاله، فهو الخالق الذي يرجع إليه كل شيء، ولا يضره ولا ينفعه شيء. وإنما فعله الحق، وقوله الصدق، سبحانه تاهت الأنظار عندما رأت شيئا من خلقه العظيم، وحارت الأفهام عندما رأت شيئا من تقديره الواسع.
لذلك فهناك قصور معرفي لا يقبل المقارنة بين الخالق والمخلوق، ولهذا فأصل معرفة الله سبحانه وتعالى قائمة على الإيمان والتصديق، وليست قائمة على العقل والنظر، فالمسلم قد يبحث في الأمور العقلية ويناقشها، ولكن ذلك لا يزعزع من إيمانه شيء، لأنه قد تملك فكره ووجدانه، وإنما هو يحاول تطوير العلوم وفهم الواقع بهذه الأطروحات العقلية. والإيمان يحفظه في الطريق ويرشده إلى أفضل المسالك وأقومها. وللأطروحات العقلية هذه أهمية كبرى لسبر أغوار هذا الوجود، وتطوير العلوم، والترقي في سلّم الحضارة الإنسانية.

وكيف تصبر على ما لم تحط بها خبرا:
إن عظمة الله سبحانه وتعالى تتجلى هنا لتنزل الإنسان منزلته الحقيقية، فلا يستطيع الإنسان هنا أن يقيم نفسه محل الله سبحانه فيعلم الحكم كلها التي من أجلها خلق ما خلق وصرّف ما صرّف، لأن هذا من اختصاص مقام الأولوهية، (وما قدروا الله حق قدره)، فلا سبيل إذن للمعرفة التامة لهذه الغايات والحكم. والإنسان مهما ارتقى في مقام المعرفة فإن علمه يظل قليلا وضئيلا في هذا المجال (وما أتيتم من العلم إلا قليلا).
والإسلام بعكس المادية قائم في الأساس على شق مهم وهو الإيمان بالغيب، (ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون). إن أدوات الحس في الإنسان محدودة، وهي وإن كانت تترقى ببطأ في مجال المادة والمحسوسات، فإنه لا سبيل أبدا للتسوّر على جانب الروح والغيب إلا بخبر من الله سبحانه وتعالى.
إن المجال الذي تدور فيه معارف الإنسان ضيّق، لذلك فعليه أن لا يرد المعارف والعلوم التي تأتيه من رب العالمين، يقول الله سبحانه وتعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فأنظر كيف كان عاقبة الظالمين، ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين). ويقول عز شأنه (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)
ونحن إذا نظرنا إلى الآيات التي تتحدث عن علّة اختيار آدم لمهمة الخلافة في الأرض، نجدها تحيل إلى هذا المسلك، فالعلم الكامل لله وحده، يقول سبحانه ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون) ثم تتابع الآيات (وعلّم آدم الأسماء كلها...) في إشارة إلى أهمية العلم وإشارة إلى الرحلة العلمية التي ابتدئها الإنسان.
إنّ مبدأ التسليم لله سبحانه وتعالى هو القاعدة الذي ينبغي أن يقوم عليها بناءه، فهو أثبت وأرسخ للإنسان مما لو أقام رسالة حياته على تقلبات الفهم والفكر. وهو الميزان الحق الذي يضع علم الإنسان في المقام الصحيح أمام علم الله الخالق القدير.
كما أن هذه الإحالة في هذه الآية الكريمة تشير إلى أمر آخر مهم، وهو أنّ قضية الغايات والأهداف تحتاج إلى بحث وتقصي، وليست معطاة هكذا على صحن من ذهب، بل إنها كسائر العلوم تحتاج إلى تقص ومتابعة، ولا شك أن في ذلك إحترام للإنسان وعقله وحريّته. فمبحثنا هنا في هذا الموضوع يحتاج إلى جهود عقلية كثيرة حتى تكتشف أبعاده وتزيدها جلاءا مع الوقت.
وإذا كانت الرسالة العامة للإنسان ترسمها هذه الرسالة الربانية من الخالق العليم، فإن هناك مجالات أخرى للأهداف يحددها العلم ويرسمها الفكر. والعلم طريقه طويل، فهو رحلة للإنسان يبحث فيها عن خطة الله في هذا الوجود، وهو بطبيعته يرتقي ويتطوّر، لذلك أتت النصوص هنا مفتوحة وغير قطعية حتى يكون هناك مجال للإنسان فيبحث فيه ويرتقي.
وممن سار في طريق هذه المعارف إبراهيم الخليل وموسى الكليم عليهما الصلاة وأزكى التسليم. وقد لبى الله سبحانه وتعالى طلب الباحثين حتي يتعلموا ويعرفوا. وقد رأينا في قصة موسى عليه السلام أن موضوع القدر متشعبة أحواله ودقيق ميزانه، لا يحيط به إلا من ملك الحكمة وأحاط بها من كل جانب، ولا شك أن هذا بعيد عن الإنسان وقدراته، بل هو من اختصاص الله العليم الحكيم.
والمطالع للقرآن الكريم يجد أنه وهو الرسالة الربانية يدور حديثه حول الإنسان ليهديه ويرشده إلى سواء الصراط، فالقرآن ينطلق من الإنسان ليريه صفات الخالق سبحانه وآياته. ولا ينطلق من الله سبحانه وتعالى ليعلل أفعله وأحكامه، تعالى الله عن ذلك، فهو لا يحاكم ولا يحاسب على أفعاله، إنما القرآن الكريم والكون العظيم كتابان يقرأ فيهما الإنسان عظمة الله وصفاته.
ولذلك فيتميّز الطرح الإسلامي بمبدأ التسليم هذا، وهو منهج يختلف كليا عن المنهج الغربي المادي الذي لا يسلم إلا للعقل والتجربة وحدهما، ويرد كل ما هو خارج عن هذا الإطار وينكره.

صفة الملك:
إن البحث في المسائل الوجودية يقرب الإنسان من ربه، فمدخل البحث في صفات الله سبحانه وتعالى هو الذي يبيّن ويوضح هذه المسائل الوجودية كلها، فقد تجلّت معنا هنا صفة العلم، كما تجلّت صفة الخلق كثيرا ونحن نبحث في أدلة وجود الله تعالى، وموضوع الغايات والأهداف هذا سوف يجلي لنا صفة أخرى من صفات الله سبحانه وتعالى، وهي صفة المُلك كما سوف نرى بإذن الله.
إن صفات الله سبحانه وتعالى جوهرية تختلف عن الصفات الموجودة في المخلوقات، بل ما في المخلوقات هو أثر لصفات الله سبحانه. إن الرحمة على سبيل المثال تختلف بين المقامين، مقام الله سبحانه وتعالى وبين غيره من المخلوقات. والفرق في صفة الملك أكثر وضوحا في هذا المقام، فملك الله يختلف عن ملك غيره. الله سبحانه وتعالى هو المالك الحقيقي لهذا الوجود، وما مُلك غيره إلا على سبيل المجاز والتجاوز. الله سبحانه هو الخالق والصانع لهذا الكون العظيم المحكم، وهو الذي قدّر ما فيه من قوانين وأحكام، وهو الذي هدى خلقه لكل خير فيه، وأعطاهم من الإمكانات والملكات ما يمكنهم من العيش الرغيد فيه.
يقول الله سبحانه (قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت، وتخرج الميت من الحي، وترزق من تشاء بغير حساب)
ويقول سبحانه وتعالى (قل من يرزقكم من السماء والأرض، أمّن يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر، فسيقولون الله، فقل أفلا تعقلون)
إن دراسة صفات الله سبحانه هي التي تهدي العقول لتعرف مقام الربوبية وبالتالي مقام العبودية. ذلك لأن رسالة الإنسان مبنية على هذه المقدمة المهمة، الكون مخلوق لله تعالى وهو تحت ملكه وسلطانه، هو مالك الملك الذي بيده تدبير كل شيء، إليه يرجع الأمر كله. والله هو المالك العظيم، ذي الرحمة والكبرياء، حكمه العدل وقوله الفصل، لا تجوز فيه صفات النقص ولا العيب، فلا يظلم مثقال ذرة، ولا يحيف عنده الميزان.

فما حيلة الإنسان العبد المخلوق في هذا المقام، إلا أن يحاول الفهم، ويستقبل النور، ولا يسد عليه منافذ عقله وقلبه فيستلسم إلى الظلام والضلال. إن الإنسان وهو يطالع هذا الخلق ليعلم أن قد صاغه خالق حكيم، وأن تقدير الأمور بين ييده، هو العليم الحكيم، والرحمن الرحيم، لذلك فمنتهى العلم عنده هو استكناه هذه الأسباب ومعرفة كيف تعمل.

يقول الله سبحانه (قل لمن ما في السموات وما في الأرض، قل لله كتب على نفسه الرحمة، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون، وله ما سكن في الليل والنهار، وهو السميع العليم، قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم، قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين، وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير).

ويقول سبحانه (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار، ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون، وهو القاهر فوق عباده، ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون، ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق، ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين، قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر، تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين، قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون، قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ومن تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض، أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون).

إن الكون بأجمعه في قبضة الله العليم الحكيم، فالإنسان وهو يطالع هذا الكون يعلم أنه مسيطر عليه من عظيم قدير. والله سبحانه تعالى يصف نفسه في كتابه العزيز بالرحمة والمغفرة، وذلك ما يظمئن الإنسان، فيعلم أنه في حضرة ملك كريم رحيم، قد أسبغ عليه من النعم ما لا تحصى ومن الآلاء ما لا يستقصى.

والله سبحانه يخاطب الكون من مقام الألوهية، وهو مقام يختلف عن مستوى خطاب البشر وحوارهم، والكون كله يظهر بإنه طائع ذليل لأمر الله وحكمه. الله سبحانه وتعالى يتصرف في ملكه بما يشاء، ولا نملك نحن أن نحاج الله في ملكه وتدبيره. لا نملك نحن هذا الحق. وعلى سبيل المثال، لو أراد الله سبحانه أن يخلق خلقا للنار يعذبهم فيها، فهل نملك نحن أن نحاج الله في ذلك. الذي نوقن به من أنفسنا أن الله فعّال مريد وأنه قد كتب على نفسه الرحمة والعدل، فهو لا يظلم أحدا، تعالى الله عن ذلك. إلا أن الإنسان بجهله وهنجهيته قد لا يفرق بين مقام الألوهية والعبودية، ومقام البشر ورب البشر.
يقول الله تعالى (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) فالله سبحانه له الحق ابتداءا أن يُحمِّل الإنسان فوق طاقته، ولكنه خالق رحيم، يجزل النوال ويعطي دون حساب. إن الإيمان هو الإطار الذي يقيم هذه العلاقة بين الإنسان وربه، فيضع كل في مقامه الصحيح، وهو الذي يزكي النفس، ويعلي الإنسان في مقام العلم.
والله سبحانه من رحمته أقام نظاما قِيَميّا للحكم على الأمور، فيُعرف الحق من الباطل، ويتمايز الصحيح من السقيم، وقد هيئ للإنسان العقل والفكر حتى يتعلم ويترقى في نظام المعرفة. فيحسن التعلم من الله الذي تنتهي إليه كل العلوم وكل القيّم، فهو سبحانه أحكم الحاكمين، أبدع في خلقه المادي والمعنوي.

إن مظاهر الإلوهية واضحة في هذا الوجود، وإذا كان الملحد لا يراها لإنه قد حجب عن معرفة الله سبحانه، فإن المؤمن يراها تتجلى في كل شيء. يرى عظمة الله سبحانه وتعالى في الخلق العظيم المتنوع، ويراها في تقلب الأمور والأحوال. وإنّ مبدأ الإلوهية هذا هو الذي يقيم مبدأ العبودية للإنسان، وهو الذي يرشده إلى موقعه ومكانته.

الكون ساجد لله وعابد له:
وهكذا يظهر أن الكون يخضع لأمر الله فطريا وتقديريا، وكيف لا يخضع لله الخالق المهيمن. إن الكون بحاجة لله سبحانه وتعالى في كل لحظة، فهو قائم بأمر الله الذي يحفظه ويربيه ويرعاه، ومن دون ذلك يذهب إلى غير قرار. ولذلك فالكون مذعن لله سبحانه وتعالى ومسلم له، فالتسليم هي لغة الوجود.
يقول الله سبحانه وتعالى (خالق كل شيء فاعبدوه)، إن العبادة نتيجة للخلق. ولا يستطيع المخلوق إلا أن يكون مذعنا بطبيعته للخالق، الذي يرزقه ويحفظه ويرعاه. وذلكم هو معنى العبادة: الإذعان والخضوع.
ولذلك فالعبادة حق لله سبحانه وتعالى على الإنسان، كما في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين قال: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حقهم عليه؟ قال الله ورسوله أعلم. قال: أن لا يعذبهم.
إن الوقوف عند مقام الإلوهية هو الذي يفتح الباب للعبودية الحقة، ولا تكون الثانية إلا بتمكّن الأولى من النفس. والله بجنب أنه هو الخالق المبدع، الذي أحسن كل شيء وقدّره تقديرا، وبجنب أنه هو المنعم والمتفضل بشتى النعم، هو أيضا يعلم السر وأخفى، ويعلم ما يصلح شأن الإنسان وما يفسده، وهو الذي يدبر له شؤونه كلها، فيهديه في كل المسالك ويعينه في كل مقام.
والعبادة هي أن تكون الإرادة البشرية تبعا للإرادة الخالق المعبود، فلا يضاد الإنسان خالقه والنظام البديع الذي أقامه، فيسعى في الأرض فسادا، فيقيم القسط ولا يتبع سبل الباطل والضلال. بل يعترف أن الله هو الخالق الرازق سبحانه جل في علاه. وأنه هو الملك الذي أقام هذا الوجود بكل تفاصيله البديعة. فيرى حكمة الله تتجلى في كل جوانب هذا الوجود، كما تجلت له من قبل قدرته سبحانه في الإبداع والخلق. إن العبودية وحدها التي تكشف سر هذا الوجود، وتضع كل شيء في موضعه الصحيح. والمعرفة بالله وحدها التي تبلّغ الإنسان لهذا المقام الراقي من العبودية لله سبحانه وتعالى.


ماهية الإنسان وطبيعته:
ونحن نبحث في موضوع الغايات ورسالة الإنسان، يجدر بنا الوقوف مع هذا الإنسان نفسه، لنعرف ماهيته، وما يميّزه عن غيره، وما هي الصفات التي تجعل من الإنسان إنسانا؟.
قد يبدوا هذا السؤال بسيطا، ولكنه في الواقع هو الذي يحدد ما بعده، فالنظرة إلى الإنسان هي التي تحدد الأهداف والغايات، فإذا كانت النظرة للإنسان قاصرة، فإنها ولا شك ستكون النظرة إلى الأهداف والغايات قاصرة أيضا. وهناك ولا شك فرق بين من يرى الإنسان خليفة لله في هذه الأرض، ومن يراه مجرد حيوان ناطق ذكي.
وإذا ابتدئنا بالقرآن الكريم فإنه يجعل الإنسان محورا للحديث، تدور حوله كل الشرائع والنصائح والحكم، فهو مركز الإهتمام، وما القرآن الكريم إلا رسالة ربانية لهداية هذا الإنسان لما فيه مصلحته ورقيّه، فالإنسان هو القطب والمركز لكل أمر وهداية ربانية. يقول سبحانه وتعالى (ولقد كرمنا بني ءادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). فالإنسان مخلوق مكرّم مفضّل على كثير من الخلق.
يرتقي الإنسان على هرم المخلوقات جميعا، فهو أرقاها وأكملها، وبه من الصفات ما لا يوجد في غيره. وأكثر ما يميّز الإنسان عن غيره هو الرقي العقلي والروحي. وهناك عدد من الأسرار البشرية التي أعييت من كرّس نفسه لدراستها. ذلك لأن في الإنسان نفخة روحية علوية من رب العالمين. يقول سبحانه وتعالى في ذلكم المشهد الرباني الذي أقيم لتكريم هذا الإنسان (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، ويقول عز شأنه (ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون).
لذلك فهنا فرق واضح بين الطرح الإسلامي والطرح المادي في قضية ماهية الإنسان وطبيعته. فبينما تقرر المادية بإن الإنسان مجرد نتاج مادي، إنشأته القوانين الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية، نجد أنّ المسلمين والمؤلهين عموما ينادون بإن الإنسان به نفحات روحية وظواهر لا تستطيع المادة وحدها تفسيرها، ومن ذلك الحياة والوعي واللغة والحرية، إلى غيرها من الصفات التي يتقاسم بعضها مع بقية الحيوانات، ويستقل ببعضها الآخر. وهذا التمايز لا شك يؤثر في طرح كل منها للغايات والأهداف التي ينبغي ان يسعى إليها الإنسان.
إنه وكما يقول على عزت بيجوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب: "ليس الأنسان مفصلا على طراز داروين، ولا الكون مفصلا على طراز نيوتن". إن التسطيح المادي لطبيعة الإنسان واضح للعيان. إن العلوم المادية ترسم صورة فوتوغرافية دقيقة عن العالم، ولكنها تفتقد إلى البعد الجوهري للحياة. إن ما يميّز الإنسان ليس جانبه المادي، وإنما جانبه الروحي. ما يميّز الإنسان هو سموه الأخلاقي، وعلو كعبه العلمي والمعرفي، ما يميّزه هي الآمال والأحلام، الفن والشعر، وفهم المعنى والبناء والعمران. إن هذا الجوهر الإنساني يغيب عن منظور الفلسفة المادية، فلا يغدو الإنسان إلا ظاهرة ونظام متطوّر خاضع بشكل حتمي لقوانين الطبيعة. ونظرية دارون، التي تعتبرها المادية اليوم الطريقة المفسرة لظهور الإنسان، تقوم على مبدأ الإنتخاب الطبيعي لأكثر الحيوانات تأقلما على ظروف الطبيعة ولها قدرة على العيش فيها والتكاثر بها. وهي ولا شك لا تفسر الصفات العظيمة التي توجد في الإنسان. ولا غرو بعد ذلك أن تقوم الفلسفات المادية على مبدأ المصالح والمنفعة الذاتية. وتقف الفلسفات المادية عاجزة على سبيل المثال من تفسير ظاهرة التضحية بالنفس من أجل الأهداف والغايات، ذلك لأن مبناها إنما قائم على المنفعة الذاتية، وعلى إشباع الغرائز والرغبات.

إن الوقوف مع الفلسفة المادية يحتاج إلى موضوع مستقل، وبحسبي هنا أن أذكر بعض النقاط التي تبيّن قصور المادية وتوضح الطبيعة البشرية للإنسان.
يقف على عزت بيجوفيتش في نفس الكتاب، الإسلام بين الشرق والغرب، مع ظاهرة تعلق الإنسان بالدين والرسم والفن منذ يومه الأول، فيبيّن قصور فكرة داروين عن تفسير هذه الظاهرة، فيذكر:
"أن الإنسان في الحقيقة حيوان قاصر جدا عن أداء دوره كبقية الحيوانات. فبينما نجد الحيوانات تسعى سعيا دؤوبا من أجل اصطياد فرائسها دون تضييع للوقت، بجانب غريزي واضح ليس فيه تلكأ أو توقف، نجد الإنسان يضيع كثير من وقته في عمل الطقوس الدينية قبل أن يصطاد فريسته. بالنسبة للحيوان تبدوا الأمور على ما هي عليه، أما بالنسبة للإنسان فإن الأشياء لها عنده دلالات متخيّلة، تكون أحيانا أكثر أهمية في نظره من دلالتها الواقعية. من اليسير أن تفهم منطق حيوان يقاتل من أجل البقاء، فماذا عن دوافع الإنسان البدائي؟
قبل الذهاب للصيد، كان على الصيادين البدائيين وعائلاتهم أحيانا أن يُخضعوا أنفسهم لأنواع مختلفة من المحرّمات كالصيام والصلوات، وأن يمارسوا رقصات خاصة، وأن تحدث أحلام معينة، وأن تراعى علامات خاصة، وعندما تكون اللعبة على وشك الإبتداء، تأتي سلسلة أخرى من الشعائر، حتى النساء في البيوت يخضعن لكثير من المحظورات إذا انتهكت فإن بعثة الصيد قد تفشل وتتعرض حياة أزاوجهن للمخاطر.
إن الإنسان يراعي الجانب الديني والفني، فهو يضيع كثير من وقته من أجل الرسم على الكهوف، ولذلك فالإنسان بسلوكه لهذا الطريق تغير عن النطاق تفكير الحيوانات فأقام له حضارة ممتدة، قائمة على العلم والفن والثقافة. ثم يخلص.  علي عزت بيجوفيتش إلى الآتي:  "إن الإنسان بصفة أساسية هو عنصر روحي وليس عنصرا بيولوجيا أو إجتماعيا، ولا يمكن أن يوجد إلا بفعل الخلق الإلهي، ومن ثم فإذا لم يكن إله فلن يوجد الإنسان، وإذا لم يوجد الإنسان فلن توجد الثقافة، وإنما فقط الحاجات وما يشبع هذه الحاجات".
إن الدراسات لليوم لم تكتشف سر الحياة، ولا سر الفهم والوعي والإدراك، وأنى لها أن تتسوّر على هذا كله. إن الدراسة للعمليات الحيوية في الإنسان ومراقبتها لا يعطي تصورا عن حقيقة الإنسان، وإنما تظهر الجانب البيولوجي فيه، ذلك لأن الحياة والروح ليستا من الظواهر الطبيعية، وإنما هي ظواهر روحية لا يمكن قياسها بالأدوات المادية.
ولنذكر هنا قصة مصطفى محمود الذي كرّس نفسه لدراسة الإنسان لكي يصل إلى حقيقتة ويعرف أسراره، فأقام الرجل في مختبر الجامعة مدة من الزمن يُشرّح الجسد البشري، وقد أشترى جثة ليتعمق في دراستها، وعندما وقف على الجثة ظهرت له حقيقة شاخصة بأن الذي أمامه ليس هو الإنسان، وإنما هذا هو الشكل الخارجي للإنسان والمادة التي يتكوّن منها، وليس هو الإنسان في حقيقته وجوهره. لأن ذلك يختلف تماما عن الجسد الشاخص أمامه، فما ذلك إلا الثوب الذي يلبسه الإنسان، أو لنقل تلبسه الروح التي هي شيء مختلف تماما. إن العمليات البيولوجية التي يدرسها الأطباء والتي تعمل في جسم الإنسان بشكل آلي ومادي تختلف عن حقيقته وجوهره.
وكذلك الشأن بالنسبة للعمليات العقلية التي تجري في الدماغ، كما يبيّن ذلك الدكتور عمرو الشريف في كتابه "ثم صار المخ عقلا". وهو كتاب ثميين يدرس هذه المسألة المهمة بشيء من التفصيل.

إن سرّ الحياة نفسها لم يُعرف، فكيف يمكن معرفة سر النفخة الربانية في بني آدم. إن الروح الربانية التي تشير إليها الآية الكريمة (ونفخت فيه من روحي) لخاصة للإنسان وحده. أما النفس فهي مشترك بين الإنسان وبقية الحيوانات. وفي الحيوانات من الصفات النفسية الكثير، ففيها الغضب والشهوة، كما فيها الرأفة والرحمة. أما كمال العقل وتمام الوعي فيوجد في الإنسان وحده.
والإنسان كائن مركب، وهو كثير التعقيد، فهو إنسان بعقله وحكمته، وهو إنسان بوجدانه وشجاعته، وهو إنسان بحفظه لشهواته وعفته، فعليه أن يعطي كل شيء حقه، من جسم وعقل وقلب وروح. إن جميع هذه الجوانب بحاجة إلى عناية وتطوير. ولا يكتمل بناء الإنسان إلا بجسم سليم، وعقل حصيف، وقلب مطمئن، وروح عابدة راضية. إن في الإنسان أسرار عظيمة دالة على عظمة الخالق البديع، فكل خلية حيّة إعجاز في حد ذاته. ومنها النفس الإنسانية التي هي محل التقوى أوالفجور كما يقول الله سبحانه وتعالى "ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها".  أما الروح فهي كما قلنا نفخة إلهية في الإنسان، فهي مخلوق إلهي مكرم، يقرب الإنسان من خالقه، وغذائها إنما يكون بالتسبيح والتقديس له سبحانه وتعالى.

والإنسان كائن حضاري، يتعلم أسلافه من أخلافه، ويبني اللاحق على ما حصله السابق، فيشيد بذلك العلوم ويبني المجتمعات، ويعمر الأرض. وما ذلك إلا بسبب إقتران العلم والعمل لدى الإنسان. وبسبب أنه يخلف بعضه بعضا في البناء والتطوير والعمران. ولذلك فسّر بعض العلماء قوله سبحانه وتعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) أي أن الإنسان يخلف بعضه بعضا في العلم ونقل الخبرات، فيقول سبحانه (وأذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا، فأذكروا ءالاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، ويقول عز شأنه (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون). ومنهم من فسّرها بأنها تكريم للإنسان في هذه الأرض بإن يقيم شرع الله فيها وينميها.

والبناء الحضاري يتطلب أن يقيم الإنسان نظاما إجتماعيا وأخلاقيا يحفظه ويضمن تقدمه وتطوّره. وما رحلة الإنسان في هذه الأرض إلا رحلة عمران وبناء وتطوير، ولا ينهض ذلك إلا بحفظ الحقوق وسيطرة العدل، ونشر العلم.

وإذا رجعنا إلى حوار الملائكة في الآية الكريمة (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون، وعلّم آدم الأسماء كلها...)  فهي تشير إلى تكريم الإنسان بسبب هذا العلم. إن الملائكة كانت تظن أن العبادة مقدمة على كل شيء، ولكنّ الآيات الكريمات تشير إلى أن العلم والمعرفة بالله هي الأصل التي ترجع إليه العبادة. والإنسان إنما كرّم على الملائكة بسبب هذا العلم، الملائكة أكثر عبادة لله من الإنسان، لكن الإنسان العارف بالله أكثر قربا لله، لأنه عرف الله حق معرفته، ولم يعبده جبلة وطبعا. إن العلم الذي يتبعه العمل هو الذي يرقي الإنسان في هذا الدنيا ويعلي من شأنه ماديا وروحيا. والعلم هي الجوهرة الكبرى التي بنت حضارة هذا الإنسان وجعلته متقدما في كل الميادين.

غايات عامة في موضوع الخلق:
إنه قد تقرر معنا من المقدمتين السابقتين أنّا لا نستطيع أن نستوعب غايات الله من الخلق ولا أن نحصي حكمته في هذا الشأن، فكيف نستوعب أشياء لم نحط بها خبرا، فضلا من أن نستوعبها دراسة وعلما. وإنّ الحكمة الربانية مبثوثة في هذا الكون، فمن ترقى في معرفته، ترقى في معرفة أسرار هذه الحكمة، وزاد قربا من الله وإيمانا به. ونحن في هذا الموضوع لن نستطيع أن نكشف عن الغايات والأهداف كلها، ولكن يكفينا المحاولة، والله هو المعين والهادي إلى الصواب.
والله سبحانه وتعالى يقرر أن الكون إنما خلق لغاية وهدف، فهو لم يخلقنا عبثا. يقول سبحانه (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا، وإنكم إلينا لا ترجعون، فتعالى الله الملك الحق، لا إله إلا هو رب العرش الكريم). إن الله هو الملك، وتعالى ملكه عن العبث. بل هنا كل الجد والصرامة في القواعد الماضية التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وهنا النظام المحكم، والإبداع المتقن. فلا بد إذن من محاسبة كل أحد على ما قدم ليستقيم العدل والحق، وليذهب العبث والظلم.
يقول الله سبحانه (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى، والذين كفروا عما أنذروا معرضين).
إن الحياة الدنيا من دون آخرة تعتبر عبثا لا يستقيم معها العدل، وهو أساس كل شيء. والدنيا من دون نظام يحكمها، وقواعد تسوسها تعتبر أيضا عبثا لا يستقيم معها جهد وعمل، وليس حال الدنيا هكذا، بل هي مكان التفاضل في العلم والعمل، وميدان التسابق في مضمار النجاح والفلاح، وليس فيها مكان للمتكاسلين والعابثين.
وخَلَق الله الكون تجسيدا لعظمته ورحمته، والخلق والأمر فيهما تمام القدرة والعظمة. وإن المتأمل لآيات الخلق يجد تجلي الله فيها بأسمه الرحمن، يقول الله سبحانه وتعالى (الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا). والأستواء على العرش والملك بإسم الرحمة يعني بأن الله مَلِك عظيم رحيم، ليس في ملكه ظلم ولا جور، بل هنا منتهى الرحمة. إن تكرار أسم الله الرحمن في آيات الخلق يعني حضور هذه الصفة في موضوع الخلق وغايته، وقد مر علينا أن من أدلة وجود الله سبحانه وتعالى في هذا الوجود، هو دليل العناية، والعناية مرتبطة بالرحمة، فالكون إنما هو محفوظ من الله، ومهيء للإنسان وغيره من المخلوقات أن تعيش فيه، وتلكم هي الرحمة، وتدبير الله لجميع شؤون الكون وجميع المخلوقات إنما هونوع من الرحمة.
والكون معْرِض لصنع الله وقدرته، فيه تتجلى آياته ويتضح أمره، والإنسان في هذا الوجود إنما يسعى لفهم هذا الوجود ويستفيد منه، وهو بذلك ينمو في سلّم المعرفة والرقي. إن صفات الله جميعها تتجلى في هذا الوجود، فتظهر آثار ملكه سبحانه، ويظهر إذعان هذا الكون لهذا الخالق العظيم، وتظهر آثار الرحمة، فالكون إنما يسبّح لله العظيم حمدا وإذعانا وتعظيما لله الخالق الكريم.
يقول الله سبحانه (سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، يعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، وهو معكم أين ما كنتم، والله بما تعملون بصير، له ملك السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وهو عليم بذات الصدور).


ليست الدنيا كل شيء:
إن الناظر في فحوى الرسالة الربانية للإنسان يظهر له أمورا تنقله إلى بعد آخر، وتضعه أمام حقائق كبرى عليه أن يجعله في حسبانه، وهي مع ذلك تظهر أن الحكمة الربانية فوق تصوّرات البشر وإرهاصاتهم.

إن الرسالة الربانية تقرر بأن الرحلة أمام الإنسان طويلة، وما الحياة الدنيا إلا مرحلة من مراحلها، فهي ليست كل القصة. بل هي فصل من فصولها. وإنّ الآخرة ليست فقط دار الجزاء لما عمل في الدنيا، بل هي الحياة الحقيقية للإنسان. يقول الله سبحانه وتعالى (وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون). والحياة الدنيا في ميزان الآخرة قصيرة بحيث أنها لا تعتبر أمامها، يقول سبحانه (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنيين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون).

وهذه الحقيقة عظيمة تجعل الأهداف أولا تخترق مدة الحياة الدنيا إلى مرحلة أخرى، وتطمئن الإنسان بإن مقايس الحق والعدل راسخة وثابة بعكس ما قد يبدوا في هذه الدنيا، فتطمئن نفسه بالاستقرار في العمل على المبادئ الحقة التي ينبغي أن يمضي عليها. هنا إذن فلسفة ضخمة تعطي الأولوية للمبادئ وقيم الحق والعدل، وليست للمصالح الدنيوية العاجلة. وهذه الحقيقة لا تعلي من شأن القيم والمبادئ فقط، بل تغيّر مبنى الغايات البشرية أيضا. فتنقل أهدافه من النجاح في هذه الدنيا فقط إلى النجاح والفوز في الدارين.
كما أن الناظر لهذه الحياة يعلم أنها مرحلة إعداد وإفرز لمن فيها، هل يستحقون الحياة الآخرة أم لا. فالحياة الآخرى غالية ولا يستحق الفوز فيها إلا من سلمت مبادئه.
وإذا أردنا أن نظرب مثالا على حال الدنيا، فهي مرحلة كالمرحلة التي كان فيها الإنسان جنينا في رحم أمه، إنها فترة قصيرة نسبيا، وحالها مختلف تماما عن الحال في الدنيا، فهو محل ضيق ومظلم مقارنة بالحال في الدنيا، ولكنها مرحلة مهمه للإنسان، فهي مرحلة الخلق والتكوين، حتي يستقيم الإنسان مخلوقا كاملا.
وهكذا حال الدنيا فهي مرحلة للإعداد والتعلم وكسب الخبرات، فالإنسان يولد جنينا لا يعلم شيئا، ولكنه يترقى في سلم العلم والخبرة، وهكذا كل الإنسانية تسير في طريق العلم والبناء والتعمير حتى تترقى في البناء المادي والمعنوي. والإنسان على كل حال تختلف كفائته ورغباته بحيث أن كل منهم يستطيع أن يضيف شيئا في هذا المشوار، وكل يكمّل بعضه بعضا.

(يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وعن الآخرة هم غافلون),

حرية الإختيار في ظل العبودية لله:
إن مظاهر حاجة المخلوق لله سبحانه وتعالى المدبر لشؤونه، والمهيمن على حاله ظاهرة جدا في كل زوايا هذا الوجود، فالكون إنما هو قائم بأمر الله سبحانه وتعالى. وكذلك هو حال البشر أيضا إنما هم مخلوقون لله ومذعن كل ما فيهم له سبحانه وتعالى.
إلا أن الله سبحانه وتعالى قد كرّم هذا الإنسان وأعطاه ما لم يعط غيره من المخلوقات. إن الإنسان وهو يقف على هرم الكمال الحيوي في هذه البسيطة قد أعطي حرية الإرادة، وحرية الفكر، وحرية البحث والتنقيب في ملكوت الله سبحانه وتعالى، وهذا تكريم ما وراءه تكريم. إن مبدأ الحرية هذا له تغيير جذري على حياة الإنسان واختلافه عن بقية المخلوقات، إنه مبدأ العلم والفهم، ومبدأ إعطاء الحكم، إنه مبدأ التجريب لكل ما في هذا الكون لأجل الصنع والتشييد والبناء، إن الإنسان بفضل هذا المبدأ كوّن حضارة، وعمّر الأرض وبناءها، واكتشف خزائنها وصاغ منها أمورا كثيرة في قمة الإبداع والإتقان.
ومبدأ الحرية هذا يمكّن الإنسان من أشياء كثيرة في هذا الكون، ولكنه لا يجعله خالقا أو مالكا، بل الملك إنما هو الله سبحانه، وإنما هو متمتع في هذه الحياة الدنيا. ولا يستطيع أصلا أن يخالف أمر الله سبحانه وتعالى. يقول الله سبحانه لنبيه الكريم (وإن كان كبر عليك إعراضهم، فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعكم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين).
إن على الإنسان أن يكتشف القوانين التي تمضي عليه الأمور ثم ليستفيد منها، هذا هو تمام الحريّة. والله سبحانه وتعالى على كل حال لا يضره ولا ينفعه أمر الإنسان وحريّته، فقدرة الله وعظمة خلقه فوق ما يستطيعه الإنسان ويصبو إليه. فليست الحريّة هنا في مقابل العبودية، وإنما العبودية لله متحققه بكل حال.
إن مبدأ حرية الإختيار يفتح آفاقا من فهم أبعاد الخلق وسبر أسراره وعجائبه، ثم الإستفادة من الخزائن والطاقات المبثوثة  فيه بسلاح العلم والمثابرة والجهد. ليظهر أن الكون قائم بالقسط مع جملة من القوانيين الكونية والتشريعية الأخرى. ومبدأ حريّة الإختيار هذا لا ينبغي أن يكون مجالا للعبث وترك الإنضباط والسير به إلى موارد ومصادر الفوضى والهدم بدل التعمير والبناء. والحرية هنا تامة في كل مجالاتها، لأن الحرية لا يستقيم أمرها مع الكبت وإعطاء طرفا منها دون الآخر. فيمكن للإنسان أن يفعل الخير كما يمكنه أن يقترف الشر. لذلك لابد من بناء وسور يحفظ هذه الحرية ويسير بها إلى الطريق المستقيم، لذلك فالحرية ليست من دون ضابط،، كما أنها ليست للظلم والتعدي. وهكذا وجدت القوانيين، كما وجدت قبل ذلك الأخلاق والقيم. إنّ في الكون بناء معنوي رصين، كما يوجد هناك بناء مادي محكم. لذلك فالحكمة بناء معنوي شامخ، منه تستقى العلوم والحكم والقيّم.
لهذا كله فإن حرية الإختيار مسؤولية وأمانة وليست أمرا عبثيا، لأنه يتوقف عليها تقدم الإنسان وتأخره، وتقدم الحضارة وتخلفها. ليست حرية الإختيار أمرا جانبيا وإنما هو أمر جوهري بالنسبة لمسيرة الإنسان وعمارته لهذه الأرض. وإذا وجدت المسؤولية وجد الجزاء في فلسفة إسلامية واسعة تشمل الدنيا والآخرة.
ومبدأ الحرية هذا أعطى الإنسان وظيفة البناء لهذا الكون وتعميره، بجنب حق العبادة لله سبحانه، ولابد من انسجام هذين المبدأين مع بعضهما. وهكذا يظهر بأن لمبدأ الحرية أثر بالغ في تحديد أهداف وغايات البشر، كما ويظهر مدى سعة التباين التي تكون بينهم. إن الجوهر الإنساني يظهره حرية الإختيار هذا، وكم من تنوع بين الناس بسب هذه الإختيارات.  وهنا يظهر المحسن والمسيء، كل بحسب جوهره. والإنسان إنما أعطي القدرة على العلم والعمل من أجل سبر أغوار هذا الكون، ومعرفة أسراره وحكمه، ثم بناءه وتعميره.

المشروع البشري:
المطالع والمتأمل لرحلة الإنسان يرى أنها رحلة نمو وتقدم في شتى المجالات، إنها رحلة إستكشاف لمظاهر الخلق، ثم الإستفادة منه ليزيد الحضور الإنساني على هذا الكوكب وليبني عليه حضارة شامخة له. وهذه الرحلة يتقدمها العلم الذي يسبر الأغوار، ويتبعها العمل والمثابرة من أجل تغيير الواقع. وكم فتح العلم والعمل من أبواب. والإنسان كما مر كائن روحي وإجتماعي تؤطر أفعاله الأخلاق ويحكمها النظام. هذا هو حظ هذه الدنيا من الأهداف.
والخيارات الإنسانية مفتوحة على كثير من الطرق، فهو إنما يسبر أغوار هذا الكون والحياة بالعلم والعمل، فتكون أمامه العثرات والعقبات، لأن طريق التعلم والتطوّر ليس سهلا بل يجتازه المثابر وحده. من هنا كان الإختلاف بين البشر،  فمنهم المثابر ومنهم الذي يسلك طرق ملتوية ليصل إلى مراده، فيظلم ويجور. إن السعي البشري إختلف بين طريقين: منهج الحق ، ومنهج الباطل، والله سبحانه وتعالى أقام الكون على حكم من العدل والحق، فمن تبع الحق رقى، ومن تبع الباطل ضل وغوى. إن الحضارة الإنسانية لا تسقيم بمقياس الحق والعدل بين الناس إلا بمنهج واحد، هو منهج الله سبحانه وتعالى.
غير أن هناك رحلة أخرى وراء هذه كله، إنها رحلة معرفة الله الخالق المعبود، الذي أوجد الكون وما فيه. فكل الحكم المبثوثة في الكون إنما هي أثر لصفات الله الحكيم العليم، ومن استقى من معين هذا العلم إنما هو يقترب من مصدره وخالقه، فيزيد علما وإيمانا بالله العظيم. والمسيرة الإنسانية لا تستقيم إلا على منهج واحد أقامه الحق سبحانه، إنها مسيرة البناء والنماء والتزكية والعلم. يقول الله سبحانه وتعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
إن المسير في الدنيا يحتاج إلى منهج عدل قويم، لا تحيد به الأهواء، ولا يركن للظلم والعدوان. وهذا كله لا يكون إلا بالتباع شرائع الحق والمنهج المستقيم من الله سبحانه وتعالى. إن الهداية الربانية هي التي  تحفظ الإنسان على صراط الحق والعدل، وبها ينال الرقي والنجاح والسعادة. أما التنكب لهذا الهدى فإنه يؤدي إلى الضلالة والشقاء في الدارين، الدنيا والآخرة، ولنستمع هنا إلى قول الله سبحانه وهو يصف هذه المسيرة الإنسانية:
(ولقد عهدنا إلى ءادم من قبل فنسي ولم نجد له عزما، وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى، فقلنا يا أدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألّا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى، فوسوس إليه الشيطان، قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وعصى ءادم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى، قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو، فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك ءاياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بإيات ربه، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم، إن في ذلك لأيات لأولي النهى).

والقرآن الكريم وهو الرسالة الربانية لهداية البشرية، يقدم العلاجات لهذه النفس البشرية حتى تتمسك بالحق، وتمضي في سبيله، وتجاهد من أجله. إنه يسوق النماذج المختلفة للأمم السابقة، كيف ضلت عن الطريق، رغم سبل الهداية. إنّ العنصر البشري شديد الظلم لبني جنسه، وسهل الإنقياد لأهوائه وأطماعه، والقرآن الكريم أتى ليعالج هذه الأهواء، وليوقف الظلم. يقول سبحانه (فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهوائهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير). والإنسان شديد الظلم لغيره.  وإنّ من أشد أنواع الظلم وأعتاه، هو الإنكار الله الخالق المعبود، رغم عطائه وآلائه، لذلك (وإن الشرك لظلم عظيم)، ولا يستقيم معه أي هدف سام أو غاية نبيلة. وإن أكرم البشر هو من آمن بالله وأتقاه (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، فذلكم هو الخُلُق العظيم والمنهج القويم الذي يهدي الإنسان إلى كل خير ونجاح، فيرتقي به في سلّم المعرفة الحقة ويبني به الحضارة الإنسانية الراقية العادلة. وما النفس الإنسانية من دون هدي الإيمان إلا غرائز جامحة للظلم وحب الذات.

تلخيص لأهم الغايات والأهداف:
وبعد هذا التطواف، يجدر بنا تلخيص هذه الغايات. والذي يظهر أن هذه الغايات الإنسانية تدور حول محورين أثنيين:
أولهما عبادة الله سبحانه وتعالى، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون): ويمكن إرجاع كل الغايات الإنسانية إليه.
وللعبادة هنا تفسير عميق، فليست العبادة هنا مقابلة للحرية الإختيار البشرية، وإنما هي إعتراف بأن الله هو الخالق المعبود، وأنه هو مالك الملك، ومدبر الأمر، بيده تصريف كل شيء. ثم إن وراء كل شيء في هذا الوجود توجد آية دالة على الله وقدرته وحكمته، فالترقي في سبيل العلم إنما هو ترقي في معرفة هذه الحكمة والقدرة، وذلكم مجال واسع لا يزيد مع كثرة البحث إلا إتساعا. كما أن هذه العبادة وهذا الإيمان هو الذي يزكي النفس ويقوّم السلوك البشري حتى يستقيم على طريق الحق والخير.

ولذلك فمن الغايات الكبرى التابعة لمبدأ العبادة هذه:
1.الترقي في سلّم المعرفة والأخلاق:
فيشكل مبدأ الإيمان بالله: القاعدة الفكرية لرؤية كل ما في الوجود، ومنه تنطلق كل القوانين والقواعد الحاكمة للسلوك، وبه تحفظ الحقوق، وتصان الأعراض. والترقي في رحلة الإيمان بالله هو الترقي نحو الكمال البشري، خلقا وعلما. ولذلك فسّر ابن عباس وغيره قول الله سبحانه وتعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، أي إلا ليعرفون. فالرحلة المعرفية إنما مأداها التقرب من الله العليم، بمعرفة أسرار الخلق والتقرب من صفات الكمال والجمال.

2.إقامة العدل ورفع الظلم:
والإيمان أيضا يحفظ الإنسان من أن يظلم أخيه الإنسان. بل إن رسالة المسلم هي رفع الظلم عموما، ونشر قيّم العدل والحق. وتلك هي رسالة الأنبياء والمرسلين، هداية الناس إلى طريق الحق والخير، صراط الله المستقيم. يقول سبحانه وتعالى على لسان شعيب عليه السلام (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب). لذلك فالعمل الصالح قرين الإيمان، (الذين آمنوا وعملوا الصالحات).

3.تزكية الأنفس:
إن تزكية النفس نحو الكمال البشري هو مطلب إلهي. ولا يزكي النفس إلا الإيمان والتقوى. يقول الله سبحانه وتعالى (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلوا عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). إن حصاد الإنسان في المال أو أي شيء خارجي، بل حصاده فيما حصّل من خصال ونال من خلال، يقول الله سبحانه وتعالى (إلا من أتى الله بقلب سليم)، ويقول عز شأنه (وحصل ما في الصدور).

4.الإستعداد للقاء الله سبحانه وتعالى:
إن الدنيا ليست كل القصة، بل إن الآخرة هي الحيوان. لذلك فالرسالة الربانية تعنى أشد ما تعنى بأمر هذا اللقاء مع الله سبحانه وتعالى. يقول الله سبحانه وتعالى (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم، قال الكافرون إنّ هذا لساحر مبين).
إن الإيمان بوجود الآخرة هو الفيصل بين المؤمن بالله المعترف له بالربوبية وبين من يجحد ذلك. والإيمان بالغيب هي الحقيقة الكبرى التي يختص بها المؤمن عن غيره، وعليها مبنى كل فلسفته الوجودية. يقول الله سبحانه (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون).
إن أمر الدنيا لا يصلح من دون تحمل المسؤولية، ومعرفة أن هناك يوم يحاسب فيه الناس على ما قدموا في هذه الحياة الدنيا، يقول الله سبحانه وتعالى (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهو العزيز الغفور).
الفلسفة الإسلامية جميعها قائمة على تصديق هذه الحقيقة الغيبية. وفيها يقام عدل الله سبحانه وتعالى، وفيها توضع الموازين. إن أمر الظلم عظيم. سواء في حق الله سبحانه وتعالى أو في حق البشر. لذلك لابد من إقامة العدل، وتحقيق الجزاء لكل عمل، كبر أو صغر.
وهذه أهم الغايات المنبثقة من الإيمان، ولا شك أن هناك غايات أخرى عظيمة للإيمان، وأسرار أخرى عميقة وكثيرة.

وثانيهما الإستخلاف في الأرض، (إني جاعل في الأرض خليفة):
وهذا مبحث عمران الأرض، والتعلم من أسرار هذا الكون، والأخذ من مصادره حتي يترقى الإنسان في سلّم الحضارة. والأرض مهيئة للعمارة البشرية، يقول سبحانه وتعالى (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض، والفلك تجري في البحر بأمره، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، إن الله بالناس لرؤوف رحيم). وما زال الإنسان يترقى في سلّم الحضارة والمعرفة حتى وصل شأنا بعيدا، فسبحان من مكّن له ذلك، وآتاه من الملكات ما يستطيع بها أن يكشف أسرار هذا الكون ويستفيد منها لخدمته ورقيه. إنّ الكون مهيئ لأن يكون كتابا مقروئا ذو أسرار عميقة، من أكتشفها فإنه يرقى ويصعد، ومن تفكّر فيه جوانبه إزداد يقينا وعلما بعظمة الله وقدرته.
ويبيّن القرآن الكريم أن الأمم لا تتقدم إلا بمنهاج قويم من الله العزيز. وإنّ العمران الداخلي للنفس بقيّم الحق والخير أولى من عمارة الأرض. وكم نوّه القرآن على هذه الحقيقة، فما هي الفائدة المرجوة من عمران للمباني مع نفس خالية من حياة الخير والكمال. يقول الله سبحانه وتعالى (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة، فهي خاوية على عروشها، وبئر معطلة وقصر مشيد). إن العمران والبناء مع الظلم والجور لا يدوم. لذلك فلكي يرقى الإنسان في سلّم الحضارة عليه أن يسير على نهج من العدل والقسط. وإن المطالع لمصير الأمم يظهر له أن العدل قوام الترقي في سلّم الحضارة، وإن أتى من كافر، يقول سبحانه وتعالى (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا).
إن منهاج الله سبحانه وتعالى هو الذي يحفظ الأمم. والتطوّر العمراني لا يستمر مع الظلم والفساد. يقول الله سبحانه (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين، فما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون، لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون، قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين، وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين). إنّ هذه هي سنة الله في الأمم التي لا تستجيب لنداء الله سبحانه وتعالى. (فلما نسوا ما ذكروا به، فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة وهم مبلسون)، ويقول سبحانه (وكذلك العذاب، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).
لذلك فطريق الحضارة الإنسانية وإستمرارها وازدهارها يكون بطاعة الله سبحانه وتعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). إن رسالة الربانية أتت لحفظ الإنسان في الدنيا والآخرة، ولترقيه في سلّم العلم والأخلاق والحضارة. وهناك سنة ثابتة بأن من لم يمض على نهج الله سبحانه، فإنه يخالف الحق إلى الباطل، ومن العدل إلى الظلم. ولهذا وجدت الهداية الربانية لترجع الناس إلى طريق الخير والعدل قبل أن يمسهم بما كسبت أيديهم العذاب الشديد من الله سبحانه وتعالى.

أمثلة حية:
ثم إنّ الله سبحانه وتعالى لم يترك أمر الغايات والأهداف لمجال التحليل والنظر فقط، بل أقام أمثلة حيّة يمكن أن يستقى منها دلالات الكمال الإنساني. وما هي أهم الغايات التي ينبغي التركيز عليها. وتلكم هي حياة الأنبياء والرسل.
إنّ الأنبياء والرسل أتوا لهداية الناس نحو سبل الحق والعدل، وإبعاد الناس عن مسالك الغواية والضلالة. أرشدوهم لعبادة الله سبحانه، ولرفع مكانة الإنسان في هذا الكون، ولإقامة الحضارات، وترسيخ مبادئ وقيم العدل والرحمة. ولإنذارهم بلقاء الله سبحانه وتعالى. وهناك الكثير من الآيات التي تصف أهداف هؤلاء الأنبياء والرسل.
يقول الله سبحانه وتعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، فسيروا في الأرض، فأنظروا كيف كان عاقبة المكذبين). إنّ عبادة الله سبحانه وتعالى بمعناها العام هي هدف هذه الدعوة وغايتها.
ولكن الإنسان لا يسلم بالحق ولا يتبعه، بل يستسلم لعاداته ونزعاته وشهواته، يقول الله تعالى: (ثم بعثنا من بعدهم رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل، كذلك نطبع على قلوب المعتدين، ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملإيه بإياتنا فاستكبروا وكانوا مجرمين).
وذالك حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أرسل رحمة للعالمين، ليهديهم إلى صراط مستقيم، وليقيم العدل والحق، ويرفع الظلم والجور، ولينشئ حضارة إنسانية مهتدية بشرع الله، فلا سبيل للرقي الإنساني الحق إلا إذا اهتدى بنور الله في إقامة هذه الحضارة الإنسانية. وهذا ما ينقص الإنسانية اليوم، الملائمة بين شرع الله وترقي الإنسان في سبيل التقدم والتطور، وما الويلات الموجودة اليوم، إلا بسبب المطامع الشخصية والمنافع الآنانية التي يروم فيها القوي السيطرة على الضعيف واستعباده.

الأهداف والغايات على المستوى الشخصي:
ما الذي ستفعله على المستوى الشخصي لو لم تكن محتاجا للمال. هل ستغرق أيامك في اللهو والسفر والمرح، أم سوف تبحث عن مشروع ما تحاول تنفيذه. هل ستبحث عن مشروع يأتي يدر لك ما لا أكثر. أم ستوجد مشروعا اقتصاديا ينمي بلدك ويوجد الوظائف لأبنائها. هل ستقوم بمشروع ثقافي أو علمي ينفع أمتك ويهديها إلى الحق من التيه التي هي واقعة فيه.
إن الإنسان يسعى أولا لتحقيق احتياجاته الأصلية، من مأكل ومشرب ومسكن. ثم يسعى لتحقيق الأهداف الأخرى التي تنفع مجتمعه وأمته. وما أحسن الذي يجمع بين هذه الأهداف كلها. إن المجتمعات الآمنة والمستقرة تبحث في أهداف أسمى من تلك التي تبحثها المجتمعات التي تعاني من ويلات الحروب والفقر.
لذلك فأعظم الأهداف هي التي تهدي الأمم إلى الاستقرار والرقي، وتسعى جاهدة على الحفاظ على ما تحقق لها من نعمة الأمن والآمان. ولرب شخص حفظ أمة، ولرب رأي جعلها تتردى في غياهب الجهل والحروب. إن المصلح هو الذي يسعى لرقي أمته ورفعة شأنها، ويبعدها عن كل ما من شأنه أن يحيد بها عن المنهج القويم.

وإنه من فضل الله عز وجل أن أقام منهجا للرقي، من أخلص في إتباعه سمى ورقى، ومن تنكب عنه غوى وهوى. والله سبحانه وتعالى أراد لناس أن ينجحوا في كل الميادين. ولكم رأينا من شخص تشهد له إنجازاته ومواقفه في إنه ارتقى بأمته وبمجتعه حتى جاوز بها الجوزاء، فانتفع به خلق كثير، ولكم رأينا من شخص حاد عن الطريق، فتأخرت بسبب خلق كثير، وما زالوا يتخبطون في الجهل والفقر.

وإذا كان العلم هو المنهج الذي يحدد مسار النجاح في الغايات والأهداف، فإن القرآن الكريم يرسم صورة واضحة عن جزاء الأعمال. فالمسلم يملك دستورا متكاملا يحدد له إن كانت أعماله صالحة أم طالحة، وهل هي سترفعه أم ستهوي به. فسبحان الله الذي بيّن للإنسان ما يأتي وما يذر، وأبان له سبيل الحق والباطل.

هذا والله الموفق لما فيه الخير