ملخص كتاب الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان لدكتور عبد الوهاب المسيري
الفصل الأول: الإنسان والمادة
الطبيعة البشرية:
تتسم الطبيعة البشرية في تصورنا بثنائية أساسية: الجانب الطبيعي/المادي في مقابل الجانب غير المادي أي الروحي أو الثقافي أو المعنوي.
الحاجات المادية: الأكل والشرب والنفس والنوم والتناسل، وتلبية كل ما يتعلق بالتركيب العضوي للإنسان. الإنسان هنا يخضع لقوانين الطبيعة وضرورات الحياة العضوية، الذي تسري عليه وعلى بقية الحيوانات. وهذه يمكن دراستها من خلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية، كالطب مثلا. والفلسفة المادية تركز على هذا الجانب من الوجود الإنساني وترد كل الجوانب إليه.
الجانب المتجاوز للمادة وغير خاضع لقوانينها: الطبيعة البشرية فيها جوانب تتجاوز المادة، مقتصرا على الإنسان ومرتبطا بإنسانيته، ويمكن ملاحظته من خلال:
النشاط الحضاري (الإجتماع الإنساني، الحس الخلقي، الحس الجمالي، الحس الدينيي)
الإنسان الكائن الوحيد الذي يطرح التساؤلات والعلل الأولى، يغوص في ما وراء الأشياء ليصل للمعاني ويبحث في الغرض من وجوده، فهو (الكائن الميتافيزيقي). كائن واعي بذاته والكون، قادر على تجاوز ذاته الطبيعية وعالم المادة، فهو عاقل، لذلك فهو قادر على إعادة صياغة ذاته وبيئته بحسب رؤيته.
كائن صاحب إرادة حرة على الرغم من الحدود الطبيعية والتاريخية، والتأريخ يثبت قدة الإنسان على تجاوز ذاته.
وهو كائن قادر على تطوير منظومات أخلاقية غير نابعة من البرنامج الطبيعي/المادي التي تحكم احتياجاته الجسدية وغرائزه، وهو قادر على الإلتزام بها وخرقها.
النوع الوحيد الذي يتميّز كل فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوها أو تجاهلها، لا يمكن قولبتهم في قوالب تفسيرية جاهزة، لذلك فزمن الإنسان هو زمن العقل والإبداع والتغيير والمأساة والملهاة والسقوط، به الخطيئة والتوبة، ليس زمنه مثل الحيوان الذي يخضع لدورات طبيعية. هو ظاهرة متعددة الابعاد ومركبة غاية التركيب ولا يمكن اختزال أي بعد من أبعاده.
ولا توجد أعضاء تشريحية أو غدد أو أحماض أمينية تشكل الأساس المادي لهذا الجانب الروحي. لذلك فالإنسان يشكل ثغرة معرفية كبرى في النسق المادي، فهو ليس جزءا من المادة ولا يسير بقوانينها المادية.
ولذلك ينبغي طرح مفهوم الإنسانية المشتركة، في مقابل الإنسانية الواحدة. هو لا يخضع لحتمية الطبيعة، وينبغي مخالفة أصحاب النموذج الواحدي الذين يقولون أن الإنسان عبارة عن ظاهرة مادية ثابته، فذلك يتنافى مع العقل والتجربة الإنسانية. والإنسان بطبيعة الحال قادر حتى على التجاوز على نفسه، وذلك بحد ذاته دليل على جانبه غير المادي.
الفلسفة المادية
الإنسان الطبيعية/المادي يعرف في إطار وظائفه الطبيعية البيولوجية ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويرد إليها، لذلك فهو في براءة الذئاب وتلقائية الأفعى، وفي حيادية العاصفة. الطبيعية ليست في الكوائن المادية وإنما في الصفات التالية التي تشكل أساس الفلسفة المادية:
الإيمان بوحدة الطبيعة، طبيعة شاملة لا انقطاع فيها، لا تتحمل وجود أي مسافات أو ثغرات أو ثنائيات
الإيمان بقانونية الطبيعة (لكل علة سبب)، الطبيعة شيء منتظم متسق في كل زمان ومكان.
الإيمان بأن الطبيعة لها قوانية واحدة ثابتة منتظمة صارمة حتمية مطردة آلية، فهي رياضية واضحة، وهي لا تقبل الخصوصيات
الإيمان بأن الطبيعة تتحرك بشكل تلقائي وبأن الحركة أمر مادي
الإيمان بإنه لا يوجد غائية في العالم المادي، فهي قوة متعينة لا تكترث بالخصوصية الإنسانية أو باتجاهات الفرد ورغباته، لذلك فلا مكان خاص له في هذا الكون الذي لا يختلف عنه في شيء.
الإيمان بإنه لا يوجد غيبيات أو تجاوز للنظام الطبيعية من أي نوع.
الأخطاء الفلسفية في هذا الطرح:
لذلك الفلسفة المادية لا تقبل بغير المادة، بإعتبارها الشرط الوحيد للحياة الطبيعية والبشرية، لذلك فهي ترفض الإله كشرط من شروط الحياة، كما أنها ترفض الإنسان نفسه إذا كان متجاوزا للنظام الطبيعي/المادي. لا يوجد إلا المادة وصفاتها المختلفة. المادة هي الحجم والكثافة واللون، والحرارة والصلابه، والشحنه. وهي ليست العقل والغاية والوعي، والقصد والرغبة والهدف والإتجاه والذكاء والإرادة والمحاولة والإدراك........
المادية ترى أسبقية المادة على الإنسان، وتمنح العقل مكانة تالية على المادة, والعالم قابل لأن يعرف ولمعرفته لا يحتاج الإنسان ليستعير وسائل من خارج المادة (يقصدون العقل)، فالعقل مادي، أما الأسئلة المتيافيزيقية فليست موضوعا للمعرفة.
والمادة لا تسبق العقل فقط بل تسبق الأخلاق كذلك، ولذلك فالأخلاق تفسر تفسيرا ماديا، ووفقا لقوانين الطبيعة، ولذلك فالشيء الوحيد الذي يجدر بالإنسان أن يسعى إليه هو الخيرات المادية التي تجود بها الحياة. والشيء نفسه ينطبق على المعايير الجمالية، فالشعور والإحساس والجمال يمكن فهمها بردها إلى مبدأ مادي واحد.
والمادة تسبق التأريخ، وكل تطور يعتمد فقط على الظروف المادية والإقتصادية، والبناء الفكري والعقلي والنفسي يمكن ردها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى المادة. أما الوعي فهو صفة المادة الرفعية التنظيم، ويظهر بظهور المجتمع.
النموذج المادي وجد قبولا لأنه نجح في تفسير الظواهر المادية، ولكنه لم ينجح عند تفسير الأشياء غير المادية (الأخلاق والجمال والروح). ورغم ذلك فهي لا تقول بأنها تفسر جزء من الواقع بل تقول أنها تفسر كل الواقع.
وتعود جاذببية الفلسفات المادية لسببين:
المستوى المعرفي (الإبستمولوجي): فالتفسير المادي للظواهر سهل، ويمكن الحصول على المعلومات بشكل سريع، ويمكن قياسها، والربط بين الظواهر، هنا لا إظضرار للتجريد أو التجاوز إلى الثنائيات.
المستوى النفسي (السيكولوجي): تحوّل الإنسان إلى جزء مادي، فتخليه عن الهوية الفردية المستقلة، وعن المسؤلية الأخلاقية والإختيار الحر. لذلك فالإمتزاج مع المادية هو شكل من أشكال فقدان الوعي والهوية والحدود، فهي استكمالا لجوهر كل الهرطقات المعادية للإله والإنسان، إبتداءا بالهرطقة الغنوصية وإنتهاءا إلى الهرطقات الحديثة.
ولكن برغم إغراء الفلسفة المادية، فإنها تواجه عدة مشاكل:
تدعي الفلسفة المادية أنها ليست أيدولوجية، وإنما علم طبيعي، ولكن الإستنتاجات النهائية التي قدمتها لا يوجد لها أدلة، ولا يمكن التدليل عليها. مثلا من الذي قال أنه لا يوجد إلا المادة، وغيرها الكثير، فهي أيدولوجية، وهي تواجه الواقع بميتافيزيقيا مادية. إنها تقوم على تعميمات وكليات تستند إلى الإيمان بوجود مادي ثابت متجاوز للأزاء له هدف وغاية، بوجود عقل إنساني قادر على رصد كل هذا، وهي كلها أطروحات ميتافيزيقية. فالثبات والتجاوز والهدف ليست من صفات المادة، والقدرات العقلية على التعميم والتجاوز من الصعب تفسيرها ماديا.
العلم التجريبي محدود، بل هي تجارب محدود، ثم تعمم على الظواهر كلها،.
ظهر الفكر المادي في أحضان نظرة نيوتن للكون، نموذج الساعة الآلية، وهونموذج أسقطته نظرية الكم، وسقطت فكرة السببية الصلبة إلى الإحتمال.
أدعت الفلسفة المادية في البداية أن المادي ما تدركه الحواس فقط، ولكن الذرات وما تحتها لا يمكن إدراكه إلا بالاستنتاج.
مسألة أزلية المادة أصبحت مشكوكا فيها علميا. فالمادة تتحول إلى طاقة والطاقة تتحول إلى مادة، وقابليتها للتحول تعني أنها كانت بتلك الصورة لأسباب خارجية، فلما زالت الظروف زالت الهيئة.
خلق العالم بالصدفة أصبح مجرد تخمين وليس حقيقة عليمة.
ولكن التحدي الأكبر للفلسفة المادية هو ظاهرة الإنسان بكل ما فيها من أسرار وتراكيب، والتي أخفق العلم الطبيعية تماما في إدخالها في قفص السببية الصلبة.
المادية القديمة والمادية الجديدة:
المادية القديمة: هي التي تستند على العقلانية المادية، أي الإيمان بأن العالم يحوي بداخله ما يكفي لتفسيره دون الحاجة إلى وحي وغيب، هي عبارة تعني الآتي:
أن العقل مستقل بذاته، قادر على التفاعل مع الطبيعة والوصول إلى القوانين الكامنة في المادة، وأنه يمكنه أيضا أن يطور منظومات معرفية وأخلاقية ودلالية وجمالية تهديه في حياته.
الواقع الموضوعي ليس أجزاء متفرقة غير مترابطة، ولا تحركه العشوائية، بل يحوي قوانيين يمكن للعقل أن يستوعبها
والعقلانية المادية تستند إلى افتراضين فلسفيين أساسين:
العقل قادر على إدراك الكليات
الكل المادي الثابت المتماسك المتجاوز ذو غرض.
ولو أن الواقع هو هذا "الكل المادي الثابت المتماسك المتجاوز ذي الغرض" ولا يوجد عقل يدركه، فإنه لا يمكن أن تنشأ منظومات معرفية وأخلاقية عقلانية بمفردها. لذلك ظهر من أنتقدها بإعتبارها ميتافيريقا مادية أو إنسانية ميتافيزيقية. فالسؤال ما هو هذا العقل الكلي القادر على إدراك الكليات؟ كيف للعقل أن يتجاوز الدماغ. إن العقل يعمل في شيء يتجاوزه، هناك الخير والشر، والقبح والجمال، وهذه ليس لها أي أساس مادي. إن هذا التجاوز هو ما وراء المادة (ميتافيزيقيا).
"والكل المادي الثابت المتماسك المتجاوز ذو الغرض" هو أيضا وهم مادي، فالمادة أجزاء وليست كلا، وهي متغيرة وليست ثابته، والمادة لا تعرف التجاوز لذاتها، وكيف يمكن أن تكون خاضعه لسبب والمادة بلا هدف ولا غاية؟
إن العقلانية المادية في تصورهم شكل من أشكال المرجعية المتجاوزة المادية، وهذا تناقض كامل، بل إن أي حديث عن تجاوزز وثبات هو سقوط في الميتافيزيقيا، بالرغم من المادية المعلنة، بل هو إشارة للأصل الإلهي للكون.
المادية الجديدة: هنا يصرون على الإبتعاد عن أي تجاوز أن ثبات والخضوع التام للمادية الحقيقية، أي لصيرورة. وهذا يعني إلغاء الثنائيات، وكل الحدود والكليات والثوابت والسببية وأي شكل من أشكال الصلابة. فيدخل الإنسان في قبضة الصيرورة، ولا يتمتع بأي تجاوز، وإلغاء المركزية للإنسان، وإلغاء للإله، وإلغاء للثنائيات، ثنائية الذات والموضوع، والدال والمدلول، والشكل والمضمون، والخير والشر، والوسائل والغايات، والإنسان والطبيعة، والمقدّس والمدنس، والأزلي والزمني. ولا يبقى سوى المادة المتغيرة المتحركة التي لا هي كلية ولا ثابتة ولا متجاوزة، ولا إتجاه ولا معنى لها.
المادية القديمة كانت تحاول أن توجد أسس مادية للنظم الأخلاقية والمعرفية. أما المادية الحديثة فترفض تماما فكرة الأساس، لأن فكرة الأساس ذاتها هي جوهر ميتافيزيقي، والمطلوب هو الإرتباط بالصيرورة ورفض الأساس. ورفض الأساس هذا لا بد أن يكون جذريا، فهم لا يضعون الوجود مقابل العدم، والمطلق مقابل النسبي، بل يتجاوزون هذه الثنائية ذاتها، فيبحثون عن (الثابت/المتغي) و(المطلق/النسبي)، (موضوعي/ذاتي). فهو الشي وضده في نفس الوقت!!.
وظلت الفلسفة المادية القديمة حتى القرن التاسع عشر، ويحن بدأ شوبنهاور مرحلة السيولة الشاملة، جعل من الإرادة مطلقة النسبي، ثابته المتغير، وهكذا تتابعوا، نيتشه......العقل الهيجلي: هو مشروع مستمر يدور حول ثابت متغير، مطلق نسبي لا يصل إلى ثباته وإطلاقه الكاملين إلا في نهاية التأريخ. ثم ظهر دريدا ليقول أنه حتى المادية الجديدة تسقط في الميتافيزيقيا، فهو مازال يثبت لنفسه التجاوز والثبات، لذلك لا بد من الإصرار على الصيرورة والنسبية والإحتمالية الكاملة، وإنكار أي سببية، والإصرار على أسبقية اللغة على الواقع، وهو الذي يعني أن الدوال (التعاريف اللغوية) وتراقصها هو الحقيقة الوحيدة.
ولذلك فالمادية الجديدة ليست ثورة ضد الميتافيزيقيا الإيمانية وحسب، وإنما هي ثورة أيضا ضد الميتافيزيقا المادية، بكل إيمانها بالثبات والتجاوز والإنسانية ومقدرة العقل على إدراك الواقع وتجريد قوانينه منه.
العقلانية المادية واللاعقلانية المادية:
العقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة من خلال قنوات إدراكية مختلفة من بينها الحسابات المادية الصارمة دون استبعاد العاطفة والإلهام والحدس والوحي. والحقيقة هنا إما أن تكون مادية بسيطة أوإنسانية مركبة أو حقاشف تشكل إنقطاعا في النظام الطبيعي. والعقل هنا يدرك تماما أنه لا يؤسس نظما أخلاقية أو معرفية، فهو يتلقى بعض الأفكار الأولية ويصوغها استنادا إلى منطومة أخلاقية ومعرفية مسبقة.
وهناك من يذهب بان العقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على الحقيقة بمفرده، دوم مساعدة من عاطفة وإلهام ووحي، وبأن الحقيقة هي الحقيقة المادية فقط التي يتلقاها العقل وحدها من خلال الحواس، وأن العقل بسبب ماديته قادر على التفاعل مع المادة ويمكنه إنطلاقا منها وحدها أن يؤسس لمنظومات معرفية وأخلاقية ودلالية وجمالية تهديه في حياته، وينكنه من فهم الماضي والحاضر، والتخطيط للمستقبل.
ونحن نذهب أنه لا توجد علاقة بين العقلانية والمادية، فهناك نظم سياسية مادية عقلانية وأخرى غير عقلانية، بل أن العقلانية المادية عندما تنضج وتقدم تتحول إلى اللاعقلانية المادية. فالعقل المادي عقل تفكيكي عدمي غير قادر على التركيب والتجاوز. وهو عقل عاجز عن إنتا القصص الكبرى والمنظومات الشاملة، وعاجز عن التوصل لللحقيقة الكلية الكبرى التي تقع خارج نطاق التجريب. وينتهي به الأمر بالهجوم على العقل الإنساني والعقل النقدي، لأنهما يتمتعان بقدر من الاستقلال عن حركة المادة، وبذلك يختفي الإنسان بوصفه مرجعية وتختفي كل المرجعيات، وهنا لا يتحرر من الأخلاق وحسب، وإنما من الكليات والهدف والغاية والعقل، ومن ثم تتحول العقلانية المادية إلى اللاعقلانية المادية.
وإذا كانت العقلانية المادية أفرزت فكر الإستنارة والوضعية المنطقية والكل المادي المتجاوز للإنسان، فقد أفرزت اللاعقلانية المادية النيتشوية والوجودية والفينومولوجية وهايدجر وما بعد الحداثة. والإنتقال من التحديث والحداثة إلى ما بعد الحداثة هو انتقال من العقلانية المادية التي تربط بين التجريب والعقلانية (مرحلة الثنائية الصلبة) إلى اللاعقلانية المادية التي تفصل بين التجريب والعقلانية، فيتم التجريب دون ضابط أو إطار. والوضعية العلمية اليوم تعبير عن تعايش بين القديمة والحديثة حيث هي عقلانية مادية (حيث لا يؤمن الإنسان الا بالتجريد والأرقام، ولكنها في الوقت ذاته تعبير عن اللاعقلانية المادية، فهي لا تشغل بالها بالكليات والمنطلقات الفلسفية). والنازية هي قمة العقلانية المادية، وهي تمثل الحالتين أيضا، ما بعد الحداثة. ولعل الفلسفة العلمانية الشاملة الأساسية، أي الدارونية الاجتماعية هي تعبير عن هذا التعايش والترابط بين العقلانية واللاعقلانية المادية.
ملاحطة: اللاعقلانية هي عندما تحتكم للمادة، فإن قضية التجاوز العقلي والحكم الخارجي على الأشياء يترك. القضية أن العمليات العقلية كلها عمليات فلسفية ، وهي تقوم على أساسين الثبات والتجاوز للواقع. ولذلك اللاعقلانية تحاول أن تهرب من أن توصف بأنها ميتافيزيقية.
المرجعية النهائية: المتجاوزة والكامنة:
تشكل المرجعيات المطلقة تمنح العالم تماسكه ونظامه ومعناه ويحدد حلاله وحرامه، وهي أعلى مستويات التجريد، تتجاوز كل شيء، ولا يتجاوزها شيء. ويمكن الحديث عن مرجعيتين: متجاوزة وكامنة.
المرجعية النهائية المتجاوزة: تكون خارج عالم المطبيعة ومتجاوزة له، كالإله المتنزه عن الطبيعة والتأريخ، يحركهما ولا يحل فيهما، وبه يكون الإنسان في مركز الكون، لأنه حمّل الأمانة. وهذا يعني أن الإنسان يحوي بداخله بشكل مطلق الرغبة في التجاوز ورض الذوبان في الطبيعة، وهذا يعني أن الإنسان مرتبط تمام الإرتباط بالعنصر الرباني الذي فيه.
المرجعية النهائية الكامنة: تكون كامنة في العالم، وفي هذا الإطار ينظر للعالم باعتبار أنه يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون الحاجة إلى اللجوء إلى أي شيء خارج النظام الطبيعي. ولذا لابد من أن تسيطر الواحدية، وإن ظهرت ثنائيات فهي مؤقتة. لا يوجد سوى جوهر واحد في الكون، المادة وحدها. وهي التي تحوي ذلك المركز الكامن ذاته. وجميع النظم المادية تدور في إطار المرجعية الكامنة، فهي إذن وحدة وجود مادية.
هناك إذن وحدة وجود روحية وأخرى مادية:
وحدة الوجود الروحية: هي المنظومات الحلولية الكمونية الروحية، المبدأ الواحد الإله، ولكنه إله يحل في مخلوقاته ويمتزج ثم يتوحد معها ويذوب فيها تماما بحيث لا يصير له وجود من دونها. هو الإله إسما ولكنه الطبيعة فعلا. وتحدث هيجل عن الروح المطلق الذي يسري في الواقع.
وحدة الوجود المادية: هي المنظومات الحلولية الكمونية المادية، يتم الإستغناء عن أي لغة روحية أو مثالية ويسمى المبدأ الواحد، قوانين الطبيعة أو القوانين العلمية. هذا القانون هو القانون الشامل الذي يمكن أن يفسر كل الظواهر من بينها الظاهرة الإنسانية.
إذن الروحية: فيها إله يسري في الوجود، والآخر ترك الوجود وجعل القانون هو الحاكم. والأثنان يمحوان الثنائية والمقدرة على التجاوز.
الواحدية المادية:
توحد الإنسان والطبيعة بحيث يرد كل شيء إلى الطبيعة، فتغييب الثنائيات (الخالق والمخلوق، الإنسان والطبيعة، الخير والشر، الأعلى والأدنى)، ويتم تطهيره تماما من المطلقات والقيم، وتم اختزاله إلى مستوى واحد، هو المستوى القانون المادي. وهنا لا يمكن القول بأن الإنسان يحوي من الأسرار ما لا يمكن الوصول إليه وأن ثمة جوانب فيه غير خاضعة لقوانين الحركة المادية. العالم واقع حسي مادي نسبي خاضع للقواني العامة للحركة وإلى مادة استعمالية يمكن توظيفها. والمعرفة تستند إلى الحواس فقط، ويصبح العالم الطبيعي هو المصدر الوحيد للمنظومات المعرفية والأخلاقية، وترد الأخلاق إلى اعتبارات مادية (إقتصادية، وإجتماعية، وسياسية). وتنفصل الحقائق المادية تماما عن القيمة، ويظهر العلم المنفصل عن الأخلاق وعن الغائيات الإنسانية والدينية والعاطفية والأخلاقية، وتصبح الحقائق المادية (الصلبة والسائلة) المتغيرة هي وحدها المرجعية المعرفية والأخلاقية المقبولة. وتصبح كل هذه الأمور قابلة لتتوظيف والإستخدام. بل أن هذه الرؤية الواحدية المادية في مراحلها المتقدمة ينتهي بها الأمر إلى إنكار الماهيات والجوهر، بل والطبيعة البشرية نفسها، بإعبارها جميعا أشكال من الثبات الميتافيزيقي. إنه عالم العلمانية الشاملة والترشيد في الإطار المادي.
الفصل الثاني: إشكالية الطبيعي والإنساني
الفرق بين الظاهرة الطبيعية والطاهرة الإنسانية
هناك ثنائيات في الوجود، ومن أهمها ثنائية الإنسان/الطبيعة. وهذه هي سبب الجدل الموجود هل هناك علم طبيعية ختلف عن العلوم الطبيعية أم هناك وحدة (واحدية) للعلوم؟
العلم الطبيعي: يطلق على كل دراسة تتناول معطيات الواقع المادي بكلياته وجزئياته، ووسيلته هي منهج الملاحطة المباشرة والتجربة المتكررة والمتنوعة، وهكذا تكتشف العلاقات المطردة الثابتة بين الظواهر، وهي القوانين. والتي هي دقيقة وعامة ومتخطية للزمان والمكان، وهي حتمية، وإن كانت الآن ضربت بسبب نظرية الكم.
وقد بيّن عدد من العلماء في الشرق والغرب الفروق بين الظواهر الإنسانية والظواهر الطبيعية: ويمكن إيجازها في التالي:
الظاهرة الطبيعية مكونة من عدد محدود نسبيا من العناصرذات الخصائص البسيطة، وتوجد داخل شبكة من العلاقات الواضحة والبسيطة. بينما الظاهرة الإنسانية فتتكون من عدد غير محدود من العناصر التي تتميّز بقدر عال من التركيب، ويستحيل تفتيتها، لأن العناصر مترابطة بشكل غير مفهوم، وحينما تفصل الجزء يفقد معناه، وهي توجد داخل شبكة من العلاقات المتشابكة والمتداخلة ولا يمكن ملاحظتها.
تنشأ الظواهر الطبيعية عن علل يسهل تحديدها وحصرها، وبالتالي يسهل تحديد أثر كل علة تحديدا رياضيا. أما الظاهر الإنسانية فيصعب تحديد وحصر كل أسبابها، وقد تعرف بعض الأسباب لا كلها، والأسباب تكون متداخلة ومتشابكة، ولذا يتعذر حصرها وتحديد نصيب كل منها في توجيه الظاهرة.
الظاهرة الطبيعية وحدة متكررة تطّرد على غرار واحد، بينما الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تطّرد بدرجة الظاهرة الطبيعية نفسها، لأن كل إنسان حالة متفردة، ولذلك فالتعميمات قاصرة ومحدودة، وإن وجدت فليست هي في مثابة الرياضيات الصلبة.
الظاهرة الطبيعية ليست لها إرادة حرة ولا وعي ولا ذاكرة ولا ضمير ولا شعور ولا أنساق رمزية. أما الظاهرة الإنسانية فعلى خلاف ذلك، لأنه يتسم بحرية الإرادة التي تتدخل في سير الظواهر الإنسانية.
الظواهر الطبيعية ينم مظهرها عن مخبرها، بسبب ما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوي. بينما الظواهر الإنسانية فضاهرها غير باطنها، بسبب فعاليات الضمير والأحلام والرموز.
الظاهر الطبيعية لا تحوي مكوّن شخصي أو ثقافي أو تراثي، بل يستلزم التخلص منها عند القيام بالتجربة. بينما المكون الشخصي والثقافي والذاتي مكون أساسي من بينة الظاهرة الإنسانية
معدل تحوّل الظاهرة الطبيعية يكاد يكون منعدما، فهو ثابت مطلق، بينما معدل التغير في الظواهر الإنسانية أسرع بكثير، ويتم على مقياس تأريخي
بعد دراسة الظواهر الطبيعية والوصول إلى القوانين العامة يمكن التثبت من وجودها بالرجوع للواقع. بعد الدراسة يصل الإنسان إلى تعميميات، فإن حاول تطبيقها أكتشف مواقف جديدة تحتوي على عناصر جديدة وكونات خاصة.
لا تتأثر الظواهر الطبيعية بالتجربة التي تقام عليها، بينما تتأثر العناصر الإنسانية بالتجربة، فالأفراد يحولون من سلوكهم كل مرة
يمكن للباحث الدارس للظواهر الطبيعية أن يتجرد إلى حد كبير من أهوائه ومصالحه. أما الدارس للظواهر الإنسانية فلا يمكن إلا أن يستحيب بعواطفه وكيانه وتحيزاته، فلا يمكن التجرد
لذلك فيمكن إجراء التجارب المباشرة والمنضبطة والمتكررة على العناصر الطبيعية، ويمكن قياسها بمقاييس كمية رياضية، ويمكن الوصول إلى قوانين ثابتة. أما الظواهر الإنسانية فلا يمكن إجراء التجارب المباشرة المنضبطة عليها ويستحيل تصويرها بالمعادلات الرياضية الدقيقة، وهي دائما لا تخلو من استثناءات. هناك عدد من المفكرين الغربيين من يميزون بين الإنسان والطبيعية، ولكن غالبية المفكرين الغربيين يدورون في إطار الواحدية المادية، ويحاولون القضاء على هذه الثنائية تماما، وإلغاء الحيز الإنساني وبالتالي يدافعون عن وحدة العلوم.
إشكالية الإنسانية والطبيعي في العالم العربي:
العدد الأكبر من علمائنا الأجلاء كانوا يدافعون عن الخصوصية الإنسانية ضد المادية والطبيعة.
الشرح والتفسير:
التفسير- Interpret: الإجتهاد في فهم الظاهرة وجعلها مفومة إلى حد ما من خلال التعاطف معها وفهمها. هناك إذن جهد ذاتي لعملية الإدراك.
الشرح- Explain: إدخال الظاهرة في شبكة السببية الصلبة المطلقة والقوانين الطبيعية وكشف العلاقة الموضوعية بين السبب والنتيجة.
إنطلاقا من ثنائية الإنسان والطبيعة يتم التمييز بين الشرح والتفسير. التفسير أقرب إلى الظاهرة الإنسانية، والشرح أقرب إلى الظاهرة الطبيعية.
العلوم الطبيعية الرياضية تلقي بظلالها على العلوم الإنسانية. الإستنباط العقلاني هو منهج العلوم الرياضية. والاستقراء التجريبي هو منهج العلوم الطبيعية. ومن هنا يحاول بعض علماء الدراسات الإنسانية تبني المناهج السائدة في العلوم الطبيعية والرياضية (العلوم الدقيقة).
يحاولون تفسير الظواهر الإجتماعية والإنسانية تماما مثلما تفسر الظواهر الطبيعية بطريقة كمية. فيتبنون نماذج رصد موضوعية عقلانية مادية، تسقط الأبعاد الجوانية والخاصة والكيفية للظاهرة الإنسانية، تهمل الدوافع والوعي والقيمة تماما، ثم ترد الظاهرة في كل تفاصيلها إلى قانون أو مبدأ عام واحد، وتزال كل المسافات والثغرات والثنائيات والخصوصيات. لذلك فدراسة الإنسان لا يختلف عن دراسة سلوك اليرقات فكلاهما يدرس من خلال سلوكه الخارجي، مع أن العلوم الطبيعية نفسها انسلخت من هذه الرؤية وأصبحت أكثر إحتمالية في رؤيتها.
وقد اكتشف كثير من العلماء سذاجة هذا الطرح، بأن العلوم الإنسانية والطبيعية متشابهة، فرفضوا هذه التسوية، ومن مظاهر هذا الرفض هو التمييز بين الشرح والتفسير. وأول من بدأ هذا هم الألمان الذين استخدموا الفعل يفهم بدل يشرح. إن المحاولة لفهم سلوك البشر من خلال المراقبة الخارجية مكتوب عليه بالفشل، ومحكوم عليها بأن تظل سطحية وتافهة، ذلك لأنها تستبعد القضايا الإنسانية الأساسية، الشعور والاشتغال بالشعور. لكن هذا لا يعني أن السلوك الإنساني لا يخضع لأي سببية، وإنما يعني أن الرصد الخارجي لا يكفي، ولكن المطلوب هو الإدراك المبدع لتركيبة الدوافع الإنسانية وغموضها.
فشل النموذج المادي في تفسير ظاهرة الإنسان:
تؤكد العقلانية المادية عناصر التجانس والتكرار والكم والسببية والآلية، ولذا هي تتسم بمقدرة عالية على الرصد، ولكنها لم تستطع أن تدرس الإنسان لأنه ظاهرة تتجاوز حدود الواحدية المادية، لأن سلوكه ليس بظاهرة مادية محضة، وإنما ظاهرة مركبة لأقصى حد:
عقل الإنسان له مقدرات تتحدى الإنسان. تشومسكي مثلا ينكر أن يكون العقل صفحة بيضاء، ومثلا معجزة اللغة لا يمكن تفسيرها في إطار مادي، يحتاج إلى نموذج توليدي يفترض كمون المقدرة اللغوية في عقل الطفل، فالعقل يحوي معلومات سابقة.
مشكلة الفكر: يدعي الماديون أن الفكر صورة من صور المادة. ولكن هناك أسئلة يصعب حلها. لماذا الفكر يأخذ هذه الصورة بالذات؟ ولماذا تختلف أفكار الأشخاص عن بعضهم؟ هل الأفكار عصارات وأنزيمات؟ وما علاقة المؤثر المادي بالاستجابة الفكرية والعاطفية؟ كيف للأفكار أن تتجاوز الواقع؟ لقد بدأت المادية بمحاولة تحطيم خرافة الميتافيزيقيا وانتهت بالهجوم على فكرة الحقيقة ذاتها.
هناك الحس الخلقي والديني والجمالي، وقلقه وأسئلته الوجودية، وهي أحاسيس لا يمكن تفسيرها على أساس مادي. فهو أمر أكثر صعوبة من تفسير وجود الأفكار ذاتها. وكما ينتهي الفكر المادي بإنكار الفكر والكل، ينتهي بنكران الحس الخلقي والجمالي، ويسقط الأسئلة الوجودية.
الفلسفات المادية تدور في إطار المرجعية المادية، ولذا ترسم صورة واحدية للإنسان. إما باعتباره شخصية صراعية دموية قادرة على خرق الحدود وإعلاء إرادته وتوظيف قوانين الحركة لحسابه، أو بإعتباره شخصية قادرة على التكييف مع الواقع والخضوع لقوانين الحركة، وهذه صورة مستقطبة وغير حقيقية. فالصورة الأولى تفشل في رصد تلك الجوانب النبيلة في الإنسان، والصورة الثانية تؤكد أن الإنسان غير قادر على الثورة والتجاوز.
المادية تفشل في تفسير إصرار الإنسان على أن يجد معنى في الكون ومركزا له، وقضية المعنى تزداد حدة مع تزايد إشباع الجانب المادي في الإنسان
المسواة والتسوية:
إن الرصد العلمي للإنسان سوف يقوم بالتالي:
رصد الفروق المادية بين الشعوب والأفراد بكل دقة وعناية، وسيتم تسجيل الاختلافات في الذكاء، وسيتم التأكيد على الاختلافات التشريحية بين الرجل والمرأة، وبين الأقوياء والضعفاء. وفي هذا نزعة لتأليه الكون في النظم المادية. وهنا تلبس العنصرية لباس العلم، وبأسم العلم تم إبادة الملايين، وهذه المنظومة العلمية لا تعرف الرحمة، هي لا تعرف سوى القوة والعنف والبقاء والهلاك، هذه هي عنصرية التفاوت وعدم المساواة
يمكن للرصد أن يتجاهل كل الفروق ويركز على الصفات المادية العامة المشتركة بين كل البشر ووظائفهم البيولوجية، وفي هذا تعبيرا لنزعة إنكار الكون، ولكن الصفات المادية العامة مشتركة بين البشر والقرود العليا يمكن أن تدل أن الإنسان والقرد متساويان. الرؤية العلمي ترصد فقط الاختلافات المادية الواضحة، كما ترصد الصفات العامة المادية المشتركة، أما مفهوم الإنسان فقد اختفى في هذه المعادلة. وهناك إذن عنصرية التسوية، كما عرفنا من قبل عنصرية مبنية على الاختلاف. إن المساواة في أصله مفهوم إنساني أخلاقي ديني يستند على أن كل البشر أبناء آدم.
الهجوم على الطبيعة البشرية:
تنكر الفلسفة المادية وجود أي جوهر مستقل عن حركة المادة، فهي تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة، ووحدة الوجود المادية. الإنسان هنا عنصر مادي فقط، تستبعد عنه كل خصائصه غير الطبيعية، مثل: تركيبته وقدرته على التجاوز، واستقلاله عن المقولات المادية. ثم تقوم بتفكيكه إلى عناصره الأولية المادية، وترده في كليته إلى مبدأ مادي واحد، (أي تعيد قراءته)، وهكذا يلغى الجوهر الإنساني. ومن الأمثلة على هذا الهجوم الشرس على الإنسان وطبيعته البشرية:
وحدة العلوم: هناك صراع منذ عصر النهضة، هل هي علم واحد أم علوم مختلفة، وهو خلاف بين المرجعيتين: المرجعية المتجاوزة، والمرجعية الكامنة. العلوم الطبيعية هي مجرد حركة في الزمان والمكان. أما الوقائع الإنسانية فإنها مرتبطة بعالم الدوافع التي تحركها أمور كثيرة. وانطلاقا من وحدة العلوم يبدأ تأسيس علوم طبيعية تستبعد جوهر الإنسان. وكما يقول على عزت بيجوفيتش: لقد تم طرد النفس من علم النفس. وهكذا أصبحت العلوم الإنسانية تسير في طريق آخر، منها علم الإقتصاد، والإجتماع. أين صوت الضمير في التأريخ الإنساني، في المقابل علم التاريخ يقول أن الإنسان تشكل عبر التأريخ وعبر علاقات مع الطبيعة ومع الآخرين وأنه قبل ذلك لم يكن إنسانا، وليس في طبيعة الإنسان خاصيات أولية مشتركة، لأن ليس للإنسان طبيعة. فالإنسان هو مجموع علاقاته الإنتاجية وهو لحظة من لحظات جدل الطبيعة. إن العلوم الواحدية تسقط في حلم نهاية التأريخ. أما المنهج الذي يؤمن بأن للإنسان طبيعة إنسانية مختلفة عن المادة فتقول أن الإنسان لا يشرح ولا يفسر، وإنما يفهم ويؤول، ومن هنا ظهرت مدرسة الهرمنيوطيقا والتأويل، التي تنظر إلى الإنسان باعتباره ظاهرة مركبة تستعصي على التفسير من خلال النماذج الطبيعية المادية.
نظرية الحقوق الجديدة: كثير من الحركات التحررية الجديدة الداعية للمساواة في عصر ما بعد الحداثة تختلف تماما عن الحركات التحررية القديمة في عصر الحداثة، تدعو في واقع الأمر إلى التسوية، هي ترفض الطبيعة مفهوم الطبيعة البشرية المتجاوزة للطبيعة. فنجد جماعات تدافع عن الفقراء والسود والشواذ جنسيا والأشجار وحقوق الحيوانات والأطفال والعراة والمخدرات وفقدان الوعي، وعن كل ما يطرأ ولا يطرأ على بال. ولعل شيوع الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية هو الذي يفسر سر انتشار الديانات الطبيعية والعبادات الجديدة النزعات الكونية. في هذا الإطار يمكنا أن نعيد النظر في هذا الدفاع الشرس عن الشذوذ الجنسي والدعوة إلى الطبيعة، فهو في جوهره ليس دعوة للتسامح أو لتفهم وضع الشواذ جنسيا، بل هو هجوم على المعيارية البشرية. الشذوذ الجنسي هو محاولة إخرى لإلغاء ثنائية أساسية وهي الذكر والأنثى التي تستند إليها المعيارية الإنسانية. كما أن الحديث المتواتر عن حقوق الإنسان التي تقوده الدول الإمبريالية هو هجوم على جوهر الإنسان، إنهم هنا يتحدثون عن وحدة مستقلة بسيطة لا علاقة له بأسرة أو مجتمع أو دولة.
حركة التمركز حول الأنثى: نظريات الحقوق اليوم تدعو إلى تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها. هنا أيضا أعيد تعريف المرأة، المرأة كانت في إطار تعاقدي وكانت مركز الأسرة وعمودها الفقري، ولكن هذا المركز قد ضرب، لذلك فقد ضربت الإنسانية. إن دعوات التحرير لا تدعو للحفاظ على إنسانية المرأة باعتبارها أما وزوجة وابنة وعضوا في الأسرة والمجتمع، وإنما يدعو لتفكيك المرأة لتصبح إنسانا طبيعيا.
مشكلة القيمة في المجتمعات العلمانية (الرأسمالية والاشتراكية) الحديثة: ثمة مشكلة أساسية كامنة في المجتمعات العلمانية التي تستند إلى عقد إجتماعي نابع من الإيمان بحقوق الإنسان الطبيعية، وعقد ينص على مساواة كل البشر بحسب المرجعية المادية الكامنة، فتستبعد القيم المطلقة، ومن ثم يصبح نموذج المجتمع هو حركة الذرات المتساوية المتحركة المتصارعة. الذرات تتحرك من تلقاء نفسها، ويسود النظام بشكل آلي من تلقاء نفسه، ليس هناك هرمية وربط قيمي. ويؤدي هذا إلى نسبية أخلاقية يتساوى داخلها الخير والشر. وتعبر هذه المرجعية عن نفسها في مفهوم السوق/المصنع وآليات العرض والطلب واليد الخفية في النظام الرأسمالي. وفي مفهوم السوق/المصنع والإيمان بأن كل شي يرد إلى المادة وبأن البناء الفوقي يمكن تفسيره في كليته في ضوء البناء التحتي في النظام الإشتراكي. ولا يوجد هنا إيمان بعزة النفس والكرامة والحقوق المطلقة وبالعدالة. إذن من الذي يحدد القيم المجتمعية: إنها الأغلبية العددية، أو العلم الطبيعية الذي يسوي بين الإنسان والطبيعة. وهنا لا قيم ثابتة فالمجتمع يمكن يغير رأيه في أي وقت.
الثقافة الشعبية والهجوم على الطبيعة البشرية: هذا الهجوم الواضح على الإنسان في العلوم الإنسانية الغربية العلمانية يظهر في أشكال كثيرة من جوانب الحياة اليومية. أفلام هوليود مثلا مليئة بالأشخاص الذين ليس لهم علاقة بالطبيعة البشرية. ومع أن سلوك الإنسان الجنسي وأحلامه شأن خاص، إلا أن نجد أن الهجوم على الطبيعة البشرية في مجال الثقافة اليومية ركز ببراعة فائقة على صياغة أحلام الإنسان الجنسية بطريقة تجعله يقبل بإختفاء المعيارية الإنسانية المركبة المتجاوزة للمادة. وإنتشار الإباحية في العالم الغربي ليست مشكلة أخلاقية فحسب، ولكنها قضية معرفية، فهي جزء من الهجوم على الطبيعة البشرية وعلى قداسة الإنسان ومحاولة تفكيكه. إنزع الثوب عن الجسد هو تعبير لنزع القداسة، فتغيب المعاني السامية وتحضر اللذة. ولذلك الإبادة النازية لليهود هي شكل من أشكال الإباحية، ليست ثمة قداسة للإنسان وإنما هو مادة مستعملة.
الفصل الثالث: العقل والمادة
العقل المادي:
ليست كلمة العقل واضحة المعالم محددة الأبعاد، ولكنها تدور في إطار مرجعية معينة تشكله وتحدد مجاله.
العقل لغويا: الحجر والنهى، والعقل في الخطاب الفلسفي كلمة غامضة لها معان كثيرة، وعادة ما يوضع في مقابل الخيال والتجرب والإيمان والعاطفة.
وعرّف الفلاسفة الماديون العقل بأنه صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات الحسية لتصبح أفكارا بسيطة ثم تتجمع لتصبح أفكارا مركبة. أما الفلسفات المثالية فترى العقل قوة في الإنسان تدرك المبادئ العامة التي تتحكم في الواقع، كما تدرك المعاني العامة غير المادية.
إذن الإختلاف قديم بين المثالية والمادية، بين المتجاوز للطبيعة والكامن فيها. ودامت عملية التأرجح هذه لمئات السنوات، أدت في نهاية الأمر إلى ظهور المادية الجديدة واللاعقلانية المادية التي أعلنت إفلاس العقل ونهايته، وللأسف العالم العربي لا يعرف عن هذه القضية شيئا، وهو يريد أن يبدأ الصراع مرة أخرى، وهنا نوجز نقاط قصور العقل المادي:
العقل المادي يوجد داخل حيز التجربة المادية، محكوم بحدودها، فهو لا يكتشف إلا ذاته.
ينسحب هذا على العقل المادي ذاته، فقد سلب من الأدوات العقلية التي تمكنه من تجاوز ذاته، فأصبح جزءا من المادة، فلا يمكمن الوصول إلى الكليات
العقل المادي أصبح أداة مادية للهجوم على الإنسان، بدلا من أن يكون علامة انفصاله عنها وأسبقيته عليها.
العقل المادي محايد، يرصد المتغيرات، ولا يستطيع إصدار الأحكام، وعلى التعرف على ما ينبغي أن يكون، يتعرف على الحقائق المادية، ولا يمكنه أن يتعرف على قيمتها.
العقل المادي معاد للتأريخ، فالتأريخ بنية إنسانية متجاوزة للمادة، وهي تتسم بالتنوع والتركيب والإبهام
ولذلك نجد العقل المادي بعد حقبة ثورية أولية يتحول إلى عقل تكنوقراطي محافظ رجعي يذعن للأمر الواقع وقوانين الواقع الثابتة.
العقل المادي لا يرصد سوى التشابه والتواتر والتجانس والعمومية، ولا يرصد عدم الاستمرار والفرادة، فهو يسحب من الإنسان خصوصيته التي خلق بها.
العقل المادي يرصد الواقع بمنظار كمي، فالواقع عبارة عن أرقام وأسطح بسيطة خالية من الأسرار، وما لا يستطيع أن يقيسه يظل بمنأى عنه ويعتبره غير موجود.
العقل المادي سطحي لا يمكنه أن يسأل أيا من الأسئلة الكلية والنهائي الكبرى، (ما الإنسان؟ ما مصيره؟ كيف يواجه الموت) فهي أسئلة لا معنى لها في منظوره، فهي قضايا فارغة لا يمكن البرهنة على صدقها وكذبها.
العقل المادي لا يرصد سوى التفاصيل المتناثرة التي لا يربط بينها رابط، لذلك فهو يؤدي إلى التشظي وغير قادر رصد التماثل والعمومية، مثاله كمثل أشعة أكس تصور العظام، ولا تنقل لنا صورة الوجه وأحزانه وأفراحه.
العقل المادي غير قادر على إدراك القداسة والأسرار، ولا يعرف الحرمات، بل هو ينزع القداسة.
العقل المادي لا يمكنه إدراك الكليات، بل هو عقل تفكيكي عدمي، يفكك الأشياء وعاجز عن إعادة تركيبها، فيختزلها.
عقل إمبريالي لا يلتزم بأي مقاييس أخلاقية.
العقل الأداتي والعقل النقدي:
العقل الآداتي هو العقل الذي يلتزم على المستوى الشكلي بالإجراءات دون هدف أو غاية، هو الذي يوظف الوسائل في خدمة الغايات دون تساؤل عن مضمون هذه الغايات، هل هي إنسانية أم معادية للإنسان؟ وهو يحدد غاياته وأولوياته وحركته انطلاقا من نموذج عملي مادي بهدف السيطرة على الطبيعة والإنسان وتحويلهما إلى وسائل. الهدف النهائي من الوجود هو الحفاظ على بقاء الذات وهيمنتها وتفوقها، ولفرض هذا الواقع يلجأ العقل الآداتي إلى فرض المقولات الكمية على الواقع وإخضاع جميع الوقائع والظواهر الطبيعية والإنسان للقوانين الشكلية والقواعد القياسية والنماذج الرياضية، حتى يمكن التحكم في الواقع ويصل هذا إلى ذروته في الفلسفة الوضعية. وينتج عن هذا ما يلي:
العقل الأداتي عاجز تماما عن إدراك العمليات الإجتماعية والسياسية والتأريخية في سياقها الشامل الذي يتخطى حدوده المباشرة. وعاجز تماما عن إدراك غائيات نهائية أو كليات متجاوزة، لذلك فهو عقل جزئي.
يسقط تماما في اللازمنية واللاتأريخية فهو غير قادر عن تجاوز الحاضر للوصول إلى الماضي وإستشراف المستقبل.
يسقط في النسبية المعرفية والأخلاقية، لأنه غائبة عنه أي أرضية معرفية ثابتة، يمكن أن يستند إليها معايير عامة. وإن كان هناك نموذج كامن ومهيمن، وهو المادة/السلعة/الشيء في ذاته/علاقات التبادل المجردة.
العقل الأداتي قادر على شيء واحد وهو قبول الأمر الواقع والتكيف مع ما أمامه، وهو ما يعني تثبيت دعائم السلطة وعلاقات القوة والسيادة القائمة في مجتمع معين، وكبح أي نزعات إبداعية تتجاوز المألوف.
لذلك ورغم تحرر العقل من الأساطير، إلا أنه تحوّل هو نفسه إلى قوة عقلانية تحاول السيطرة على الطبيعة وعلى الإنسان.
وفي مقابل العقل الأداتي (العقل الذاتي أو الجزئي) يوجد العقل النقدي (أو ما يسمى بالعقل الكلي أو العقل الموضوعي). وكلمة نقدي هنا مبهمة، وربما تعود إلى مفهوم كانط في النقد، الذي رفض جميع الحجج التقليدية القائمة وأخضع كل شيء للنقد، بما في ذلك العقل نفسه. ويتسم العقل النقدي بما يلي:
لا ينظر العقل النقدي إلى الإنسان باعتباره جزءا من كل أكبر منه يعيش دخل أشكال إجتماعية ثابتة، وإنما باعتباره كيانا مستقلا مبدعا لكل ما حوله.
العقل النقدي يدرك العالم لا كم تدركه العلوم الطبيعية التي تعتبره معطى ثابتنا وصلبا، وإنما باعتباره وضعا قائما وإمكانية كامنة.
العقل النقدي لاي يقنع بإدراك الجزئيات المباشرة، بل يروم الحقيقة الكبرى والغاية من الوجود الإنساني
العقل النقدي قادر على التعرف على الإنسان ودوافعه وإمكانياته والغرض من وجوده.
لذلك يمكن تسميته بالعقل المتجاوز، وهو لا يذعن لما هو قائم ويتقبله.
الحقيقة لا توجد في الواقع بذاته، وإنما تقع بين الواقع الملموس كما يحدده المجتمع من جهة، والخبرة من جهة أخرى، لذا فالوضع الأمثل هو وضع التوازن بين الذات والموضوع، وهذا ما يقدر على إنجازه العقل النقدي، وما يفشل فيه تماما العقل الأداتي.
التأريخ هو عملية كاملة تتحقق من خلالها الذاتية الإنسانية، التأريخ يرجع للإنسان، وليس الإنسان الذي يرد للتأريخ، ولذا فإن المجتمع في كل لحظة هو تجل فريد للإنسان، وتحقق الإمكانية الإنسانية في التأريخ هو الهدف من الوجود الإنساني.
هناك ثمة غياب كامل لإي إدراك للإمكانيات الإنسانية الكامنة وللغائية الإنسانية. وحينما يدخل المجتمع الليبرالي في مرحلة الأزمة تحل الدولة محل اليد الخفية، وتستمر في إدارة المجتمع، وإلا فإن إدارة المجتمع تكون تحت رحمة السوق والإعلام.
الفصل الربع: المادية في التاريخ
الدارونية الإجتماعية:
رأينا بعض من معالم الفلسفة المادية وكيف أنها فشلت في تفسير ظاهرة الإنسان بإعتباره ظاهرة مركبة. والرؤية المادية تترجم نفسها في الدارونية الإجتماعية (أو ما يمكن أن يسمى بالعالمانية الشاملة أو الرؤية العلمانية الإمبريالية).
والدارونية الإجتماعية هي فلسفة شاملة، واحدية عقلانية مادية كمونية تنكر أي مرجعة غير مادية، تستبعد الخالق عن المنظومة المعرفية والخلقية، وترد العالم بأسره إلى مبدأ واحد يكمن في المادة وتدور في نطاق الصورة المجازية العضوية والآلية للكون.
والآلية الكبرى للحركة هي الصراع والتقدم اللانهائي، وهي صفة من صفات الوجود الإنساني، والدارونية اتسعت في أواخر القرن التاسع عشر، عند التوسع الجغرافي، ويمكن القول بأنها النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة.
---يعني بعد نيتوتن، أتى مشروع داروين، وهو الكون العضوي.---
يرى دعاة الدارونية أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي ذاتها التي تسري على الظواهر الإنسانية، التأريخية والإجتماعية، الإنتخاب الطبيعي والملائمة في الصراع من أجل الحياة، والكون كله عبارة عن حركة من أسفل إلى أعلى، وأن الإنسان ما هو إلا أحد هذه الحلقات. إن عالم داروين عالم مستمر ومغلق ولا ثغرات فيه، ولا مسافات، كل حلقة تؤدي إلى التي تليها. ولذلك وصف أحدهم داروين بأنه نيوتن العلوم البيولوجية.
--داروين يتكلم عن البيولوجيا، لا عن الإنسان، عن الطب، لا عن المشاعر والأحاسيس.----
وهكذا تؤدي اليرقة إلى القرد، والقرد إلى إنسان بطريقة آلية تماما كما تتحرك الأجسام تحت تأثير قانون الجاذبية، وكما تتحول الأفكار الجزئية إلى أفكار آلية بطريقة آلية في منظومة لوك.
---(وماذا في هذا!!، الحل أن الإتصال بين المادة وما ورائها مفتوح، ثم أن هناك توجيه، ليست الآلية هنا حرة، بل موجهه)--
وهكذا قرروا أن العلاقة بين الكائنات الحية في الطبيعة لا تختلف عن العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات الإنسانية ولا عن العلاقات بين المجتمعات والدول. ومن أهم مخرجاتها الطبقية والعنصرية، واستخدام مبدأ القوة. وتبرير المشروع الإمبريالي العالمي.
ويمكن تلخيص الأطروحات الأساسية في الدارونية الإجتماعية على النحو التالي:
كل الأنواع العضوية ظهرت من خلال عملية طويلة من التطور، وهي عملية حثيثة شاملة، تشمل كل الكائنات، وضمن ذلك الإنسان، وكل المجتمعات التأريخية كافة.
العالم كله في حالة تطور (نعم فكرة الشمول والتطور أتت من داروين) دائم، وهذا التطور يتبع نمطا واضحا ومتكررا، قد يكون بظيئا وغير ملحوظ، وقد يكون على شكل طفرات أحيانا.
تتم عملية التطور من خلال صراع دائم بين الكائنات والأنواع، والصراع دموي حتمي، وهو صراع جماعي لا فردي.
السبب الذي يؤدي إلى تغيّر الأنواع هو الأختيار الطبيعي الذي يؤثر في جماعات الكائنات العضوية ويترك عليها آثارا مختلفة.
الكائن أو النوع الذي ينتصر على الكائنات والأنواع الأخرى، يحقق البقاء المادي لنفسه، هو الأرقى فحقه البقاء، أما هي فمصيرها الفناء.
تحقق الكائنات البقاء إما من خلال التكيف البرجماتي مع الواقع، فتتلون بألوانه وتخضع لقوانينه، أو تحقق البقاء من خلال القوة وتأكيد الإرادة النيتشوية على الواقع. البقاء من نصيب الأصلح القادر على التكيف وفرض إرادته.
مهما كانت آلية البقاء، لا علاقة لها بأية قيم مطلقة متجاوزة. فالبقاء هو القيمة المحورية في المنظومة الدارونية، التي تتجاوز الخير والشر والحزن والفرح.
النوع الذي ينتصر يورث الخصائص التي أدت إلى انتصاره سر بقائه إلى بقية أعضاء النوع، بمعنى أن التفوق يصبح عنصرا وراثيا.
هذا يعني استحالة وجود مساواة مبدئية بين الأنواع أو بين أعضاء الجنس البشري.
الرؤية المعرفية العلمانية والإمبريالية الشاملة:
العلمانية الشاملة: هي رؤية شاملة للعالم، عقلانية مادية، واحدية، فالعالم بأسره مكون من مادة واحدة، ليس لها أي قداسة، وهي في حركة دائمة لا غاية ولا هدف لها، لا تكترث بالخصوصيات أو الثوابت.
فهي إذن ليست مجرد فصل الدين أو القيمة عن الدولة أو الحياة العامة، وإنما فصل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية المتجاوزة عن العالم. والمادة نفعية لا قداسة لها، توظف وتسخر، والهدف من وجود الإنسان في الأرض هو زيادة معرفة قوانين الحركة والطبيعة البشرية من أجل الهيمنة عليها من خلال التقدم المستمر الذي لا ينتهي. فتجيّر المعرفة من أجل السيطرة. والعلوم هي المعارف المادية، فأصبح العالم وحدة واحدة مغلة على المادة، تحركة شبكة المصالح الإقتصادية والعلاقات المادية. فيصبح الواقع أشبه ما يكون بالسوق والمصنع، كل شيء فيه محسوب وضبوط بعد استبعاد كل الاعتبارات غير المادية، مثل الغيبيات والمطلقات والخصوصيات. لأن كل ذلك لا يمكن معرفته وقياسه ومن ثم التحكم فيه.
وبعد إلغاء الإله بإسم الإنسان وبعد إلغاء المرجعية المتجاوزة، تظهر المرجعية الكامنة، فيصبح الإنسان هو مركز الكون دون أي استخلاف من الإله، وتظهر هنا الحركة الإنسانية ولكن ظمن إظار المرجعية الكامنة. فيصبح الإنسان مادي غير قادر على تجاوز المادة، ولا يؤمن أصلا إلا بها.
--يعني فقد الإله، وفقد معه كينونته الإنسانية--
والإنسان الطبيعي إنسان لا حدود ولا قيود عليه، يقف وراء الخير والشر، متمركز حول منفعته ولذته، ولا راد لقضائه أو رغبته في البقاء. ومع الدارونية، بدل أن تكون مركزية الإنسان في الكون، تظهر مركزية الإنسان الأبيض في الكون. وبدلا من الدفاع عن مصالج البشرية، يتم الدفاع عن مصالح الإنسان الأبيض. ذلك أن بقية البشر إنما هم جزء من المادة الموجودة في الكون. ويحاول هو أن يبين أفضليته وأسبقيته عليهم فيصبح همه هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وتحويلها إلى وسيلة له، وهكذا تظهر الإمبريالية.
وهكذا حوّلت الإنسان الغربي إلى مستغل يلتهم الكون، وحولت الطبيعة وبقية الشعوب إلى مجرد مادة استعمالية توظف وتسخر. وقسم البشر إلى مستغِلين ومستغَلين بالمعنى الإقتصادي وحسب. والإنسان الغربي نفسه تم استخدامه واستغلاله وترشيده من الداخل والخارج في بنيته الاجتماعية والإنسانية حتى تم التحكم فيه تماما، فأصبح محاصرا تماما بأجهزة الإعلام التي تدمر البنية الإجتماعية. وبصناعات تدمر البيئة وبالسلاح الذي يمكن له أن يدمر العالم، وبإيقاع حياة آلي سريع رتيب يقضي على كل ما هو نبيل، وبمؤسسات عامة تضبط حياته وحياة أسرته، وما تبقى من الأسرة، وبصناعات اللذة التي تصوغ أحلامه وتصعد توقعاته. فأصبح مهيمن عليه تماما.
--البنية الإجتماعية والتأريخية هي التمثل الإنسان حقيقة، إنه السلوك البشري--
الهيمنة تتجلى في التحكم بساعات العمل واللهو، وفي الإحتياجات والأحلام، يراد له أن يكون منتجا للسوق ومستهلكا، يخدم أرباب العمل. فقد أصبح سلعة. النظام أصبح يكفل له حياة مادية هانئة من الناحية الإقتصادية، لا الإجتماعية، وهو ذلك النظام نفسه الذي يتحكم فيه وفي حياته.
--تتطور النظام، وأصبح بإمكانه أن يعيد تشكيل الإنسان، ويستعبده من الداخل وليس من الخارج فقط---
لقد بدأت هذه كرؤية إمبريالية قبل أن تظهر واقعا بعد ذلك، لذلك ينبغي التفريق بين الرؤية الإمبريالية المعرفية والواقع، وهذا ما يشير إليه العنوان. وهذا هو الإختلاف بين العلمانية والإمبريالية، فالإختلاف بينهما هو في مجال التطبيق، فالرؤية إنما هي واحدة. والرؤية العلمانية عبرت عن نفسها من خلال عمليتين تاريخيتين: الدولة القومية المطلقة ثم التشكيل الاستعماري الإمبريالي الغربي. وآلية التطبيق: هي جيوش الدولة المطلقة، وفي الداخل الدولة المطلقة. فجلبت الأموال من الخارج وزادت الرأسمالية الإمبريالية، وزيدت كفاءة التجارة في الداخل.
--وهكذا قادت المعرفة إلى السلطة والمال، فأصبح الكل مادة خام. الدولة عبارة عن مصنع أو شركة--
المطلق العلماني الشامل:
كل نسق معرفي يدور حول مطلق معيّن أو ركيزة نهائية، حيث أن لكل نسق فلسفي مركز يشكل مطلقه ويقبل أتباعه هذا النسق دون تسائل بشأنه. وقد تنكر العلمانية أنها نتطلق من مرجعية ، ولكنها في الحقيقة ترتكز على مبدأ واحدي هو الطبيعة/المادة. وهو المطلق الوحيد الثابت وغيره متغير، إنها قوانين الطبيعة.
ويسمي الماركسيون هؤلاء الفلاسفة بالماديين الآليين أو الماديين السذج، وقد أدى ذلك إلى رد فعل غربي وظهرت محاولات لاستعادة مفهوم أكثر تركيبية للإنسان ولعقله ولعلاقته بالطبيعة والمجتمع، فظهرت مرجعيات نهائية مادية كامنة أكثر تركيبية ، مثل: اليد الخفية عند آدم سمث، المنفعة عند بنتام، وسائل الإنتاج عند ماركس، الجنس عند فرويد، إرادة القوة عند نيتشه، قانون البقاء عند داروين، الطفرة الحيوية عند برجسون، الروح المطلقة عند هيجل. وكل هذه إنما مجرد تنويع مركب لمفهوم الطبيعة/المادة نفسه.
وهناك تشابه كبير بين الصورة الكامنة وراء الطبيعة/المادة بإعتبارها مفهوما فلسفيا وصورة السوق/المصنع:
السوق/المصنع شامل لا انقطاع فيه ولا فراغات، نسق يشمل الوطن بل والعالم.
السوق/المصنع شيء منتظم متسق مع نفسه، خاضع لقوانين ثابتة منتظمة مطرده
السوق/المصنع لا يكترث بالفرد والإنسان ولا بالخصوصيات
السوق/المصنع يتحرك بشكل تلقائي آلي بحسب قواني العرض والطلب
هناك تطابق بين السوق/المصنع والطبيعة/المادة في كل شيء، وبه صراع من أجل البقاء. وفي منتصف الستينات أضيف عنصر ثالث: أصبحت دورة الإنسان ثلاثية : الإنتاج في المصنع، الاستهلاك في السوق، واللذة في الملى. وهكذا تمت دورته. والدولة اليوم واجبة الوجود لتحقيق هذه الدورة، هي بمثابة المؤسسة التي تربط كل شيء. وهي لا تكترث بالفرد أو الإنسان وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق غاياتها ومصلحتها. والإنسان الحديث تم تهجينه ليكون متكيفا مع المجردات المطلقة اللانسانية، مصلحة الدولة وقانون الحركة.
ومصطلح العودة للطبيعة هي دعوة للإنسان لأن يعود لحركة المادة ويقبلها ويذعن لها، متجاوزا بذلك وجوده وحسه، وخصوصيته وفرديته، وفطرته، فهي عملية تنميط للإنسان وبرمجته، وتدريب وجدان على قبول الطبيعة/المادة كمرجعية نهائية.
وهكذا بدأت المتتالية العلمانية بأن جعلت الإنسان هو المطلق العلماني، فهو المركز الأخير للكون، آخر مراحل تتطوره، فأصبح الإنسان هو المطلق الذي لا يمكن محاكمته، التمركز حول الذات، ثم مع معدلات الترشيد والتحويل إلى وسيلة، بدأ الإنسان يتراجع كنقطة مرجعية، وظهرت مطلقات مادية علمانية غير إنسانية، مثل الدولة المطلقة (هذا قبل الحرب العالمية)، ثم قرر التراجع عن أي مركزية غير المادية الصلبة، ثم تتلاشى المرجعيات ليصبح المطلق هو الإجراءات، قوانين اللعبة، أما نوعية اللعبة والهدف منها فهي أمور يمكن مناقشتها، فهي ليست مطلقة، وهكذا دخلنا في المرحلة السائلة.
وهكذا يلغى الهدف، ويحرر المطلق مها، إن عالم ما بعد الحداثة عالم صفي وطهر تماما من كل المطلقات والمرجعيات النهائية. لذا فهو عالم خالي من المعنى، عالم نسبي تماما.
--كأننا دخلنا في عالم فيزياء الكم---
اللحظة العلمانية الشاملة النماذجية:
يعبر المطلق العلماني عن نفسه من خلال النماذج المعرفية، مثل الرؤية الدارونية أو النيتشوية، ولكن اللحظة التي يمكن أن يتحقق ذلك فيمكن أن يسمى باللحظة العلمانية الشاملة النماذجية.
والمنطلق هو لحظة الصفر العلمانية: لأن أسطورة العلمانية تذهب إلى أن العالم ظهر بالصدفة من مادة أولية سائلة غير مشكلة، ومن خلال تفاعل كيمائي بسيط أنتج خلية واحدة تطورت بالصدفة حسب قانون صارم، ثم نمت وتطورت إلى أن أصبحت الإنسان الطبيعي/المادي، الذي هو بغير هوية، لأن عقله عباردة عن صفحة بيضاء، ولا يمكنه أن يتجاوز ذاته، وهو يعيش خاضعا لقوانين الضرورة والصيرورة. فيمكن للإنسان هنا أن يتحول بفعل القوانين إلى أي شيء، السيولة. فيصبح الإنسان كائن طبيعي يشبه الآلة.