قصور المادية
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدّر فهدى، سبحانه المتفضّل بالكرم، والمجزل بالعطايا والنعم، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم والأمر. تعالى الله الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى، فصل بين الحق والباطل، وأظهر سبل الرشاد، فأرسل الرسل وأنزل الكتب، آيات بينات لقوم يعقلون.
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، خير من جاهد في سبيل ربه حتى آتاه اليقين، فترك الناس على المحجة البيضاء وعلى الصراط المستقيم.
أما بعد، فإن طغيان المنهج والرؤية المادية لتفسير الكون أذهب الإدراك الحقيقي لمعنى الدين وحقيقته ومغزاه. لقد أصبح المنهج المادي هو الموثوق به اليوم في كل زوايا الحياة، والخروج عنه يعتبر عبثا لا يصدّق ولا يتبع. والمتمسك بما سواه إنما هو متمسك بأسباب التخلف والجمود، وتارك لأسباب العلم وطريقته ومنهاجه. هكذا هي النظرة العامة اليوم. وهي نظرة بدأت تحاصر الشباب المسلم الذي كانت دراسته جميعها مبنية على هذا المنهج العلمي الثابت، فأصبح يرى العالم بهذا المنظار المادي فقط، ولولا بقية من إيمان وخوف من الله سبحانه وتعالى لانقلب على كثير من المفاهيم الإسلامية الثابتة، ذلك لأنها لم توافق منهجه الذي تعلمه ومضى يسبر الدنيا عليه. لذلك فإنا بإذن الله تعالى سوف نقارن في هذا الموضوع بين النظرة المادية والإسلامية للكون. ما هي أصول الإختلاف؟، وما ثمرته في حياة الناس؟.
ويكمن الخطأ المنهجي الذي تقع فيه الفلسفة المادية هو في إقتصارها على بعد واحد لرؤية الكون، وهو البعد المادي، وعدم اعترافها بما يجاوز ذلك من أبعاد مختلفة. ولذلك سوف نرى بإذن الله أوجه قصور هذا المنهج عن استيعاب مجريات الكون فضلا على أنه لا يستطيع تفسير ما وراء المادة من تصورات وقيم ومعاني وأحداث. والإسلام الحنيف إنما أتى ابتداءا ليتحدث عن ذلك القسم الذي يتجاوز المفهوم المادي. إنّ المعارف المتجاوزة للمادة هي المعارف الكبرى التي أصر الإسلام على تثبيتها، ووصم من تركها بالكفر والإلحاد واستحقاق العذاب من الله سبحانه وتعالى. وإنه من أجل تلك المعاني تم إرسال الرسل وإنزال الكتب. إن التفريق بين هذين البعدين هو الذي سوف نركز عليه بإذن الله تعالى.
إنّ المسلم اليوم، والإنسان عموما، عليه أن يعرف الفرق واضحا بين النظرتين: المادية والإسلامية، ولعلنا نزعم أن هذا الفرق غير واضح بالمرة، ولذلك ضعف الإيمان، ومن ثم قل التمسك بالدين، ولم يعد شرع الله يعمل به إلا في أطر ضيقة. بل إن البعض يزعم أن ترك الدين هو الكفيل بتقدم الإنسان وتطوره، ولم يكن الدين إلا حجر عثرة أمام تقدم الإنسان وعلمه.
وسوف نحاول بإذن الله تعالى في هذا الموضوع أن نبيّن ماهية النظرة المادية للكون وكيف تكونت، وما أوجه قصورها مقارنة بالنظرة الإسلامية. وما أثر الفلسفة المادية على الإنسان وسلوكه. وما هي الخصائص الأساسية للفلسفة المادية وكيف يمكن محاكمتها بالمنهج الإسلامي، ولن يقتصر موضوعنا هذا بتحليل الجانب النظري والفكري لأسس الخلاف، بل سوف نحاول بإذن الله أن نطرق الجوانب العمليلة والسلوكية التي أفرزتها الفلسفة المادية على سلوك الإنسان. ثم نحاول بإذن الله أن نحاكم هذه المظاهر الإجتماعية التي انتجتها المادية بمقياس القرآن الكريم.
وقبل البدء يجدر بنا التنويه بأهل الفضل الذين استفدت منهم في هذا الموضوع وهم: الدكتور عبد الوهاب المسيري وكتابه "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان"، ثم كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" للدكتور علي عزت بيجوفيتش، وكتاب "جاهلية القرن العشرين" للشيخ المفكر محمد قطب، بالإضافة إلى عدد من الكتب والمقالات والفيديوهات. والله وحده هو المستعان وعليه التسديد والتكلان.
أصل الإختلاف بين النظرة المادية والإسلامية للكون:
إن الإنسان وهو يطالع هذا الكون الواسع الممتد على آفاق شتى، يبهره بديع مكوّناته، وعمق مكنوناته. وقد بدأ الإنسان منذ يومه الأول المطالعة في صفحات هذا الكون يستكشف أسراره، ويستفيد من خيراته، ويطوّر من سبل حياته، وهو ما زال يكتشف الكثير من الأسرار العجيبة والمتجددة والمتكاثرة. فأبى هذا الكون إلا أن يظهر هذا الإنسان بحلة الطالب الصغير التائه في بعض زواياه، وما زال مع الوقت يكتشف قصوره وضحالة حجمه وفكره.
وقد أختلف الناس في جوهر وحقيقة هذا الكون الواسع بين نظرتين على الأقل، فمنهم من نظر إلى هذا الكون فوجده يتكون من مواد، ووجد لهذه المواد خصائص عجيبة، وتمكّن من أستغلال الكثير من خيراتها لتطوير حياته، وما زال يسبر من أسرارها الكثير. فقرر عند ذلك وقبله بأن كل ما نشهده في هذا الكون العجيب إنما هو أثر لهذه المواد فقط. وإنه وإن كثرت الظواهر العجيبة في بنية هذا الكون والإنسان فإنه يمكن ردها جميعا لهذه المادة وخصائصها المختلفة في سلّم معرفي إكتشف الإنسان بعضه ولم يكتشف بعضه الآخر. وهكذا تعترف المادية بما تراه فقط من مواد، ولا تسأل بعد ذلك عن ما ورائها، ما دام أنه ممكن إرجاع كل الظواهر الكونية إلى هذه المواد، لماذا إذن مدخلات أخرى تشوش الفكر وتلفته عن التركيز في جوهر المسألة ما دامت كلها زائدة عليه، ويمكن الإستغناء عنه.
أما المؤلهون الذين يؤمنون بالرسالات السماواية، فيقررون أن الكون أعمق بكثير من هذه الظواهر المادية. وهم يتهمون الماديين بأنهم انبهروا ببعض خلق الله، وتاهوا فيه، ولم يروا الخالق البديع الذي أحكم خلقه ثم هدى، إن الظواهر الكونية هذه إنما تدل على عظمة الخالق وحكمته، وتدل على قدرته وواسع علمه. وأن خلف هذا الجانب المادي، عالم آخر أكثر أهمية منه، هو عالم يرشدك إلى وجود من أبدع كل شيء، وهدى كل حي إلى الحكم والغايات المنوطة به. إن المعاني والأخلاق والأدب في عالم الإنسان أهم بكثير من المظاهر المادية التي تزخرف حياته. فالإنسان بخلقه وفضائله ومعاملاته، لا بقدرته وقوته وصحته.
إن القرآن الكريم يصف أصحاب هذا التوجه الدنيوي المادي بقوله سبحانه (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون)، وهم الدهريون الذين وصفهم بقوله (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون).
إن الخلاف بين المادية والإسلام عميق وجوهري، فبينما تقف الفلسفة المادية على أعتاب المادة ولا تؤمن بشيء بعدها. نجد أن الأديان جميعها وعلى رأسها الإسلام تؤمن بوجود ما وراء المادة. إن أصل الخلاف في هذه المسألة خلاف على مسألة التوحيد، على مسألة هل هناك خالق للكون مدبر لشؤونه. أم أن الكون عبارة عن مادة مكتفية بنفسها عن ما سواها.
وهذه النظرة إلى الكون تتبع بالإصالة بالنظرة إلى الإنسان وطبيعته، فينما تقرر المادية بإن الإنسان مجرد نتاج مادي، أنشأته القوانين الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية، نجد المسلمين والمؤلهين عموما ينادون بإن الإنسان به نفحات روحية وظواهر لا تستطيع المادة وحدها تفسيرها. يقول الله سبحانه (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، ويقول عز شأنه (ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون).
إن الإختلاف واسع بين النظرتين فهو كما سوف نرى بإذن الله يصيب كل جوانب الحياة، وذلك لأن النموذج المعرفي لكل منها مختلف. فبينما تقتصر المادية على المنهج التجريبي المادي، وبالتالي فإن كل شيء إنما يمضي بحسب القوانين المادية. نجد أن المؤلهين لا يكتفون بهذا المنهج المنفرد، بل يأخذون بالوحي من الله سبحانه وتعالى، وبالمعطيات العقلية والفلسفية التي تتجاوز قوانين المادة وحدها. وهم يؤمنون بالغيب والشهادة، ويؤمنون بأن ما وراء المادة أهم من المادة نفسها. إن المنهج التجريبي برأيهم قاصر أيما قصور في تفسير كل جوانب الحياة، فهو منهج يعطي تفسيرا للظواهر المادية وحسب، ولا يبحث في العلل، وما وراء هذه الظواهر الطبيعية. والسؤال عن لماذا دائما أهم عن السؤال عن كيف؟. والمادية وقفت عند حدود كيف ولم تتجاوزها إلى ما وراء ذلك من علل وحكم.
مثال على قصور المنهج المادي:
أن الفلسفة المادية تقول بأن للكون طبيعة واحدة فقط، هي المادة، بينما المؤلهون يقولون بالثنائية في طبيعة الكون.
ذلك لأن هناك مادة وروح، خالق ومخلوق، قوانيين مادية، وقوانيين غير مادية. وعندهم أن هناك تواصل وتمازج كبير بين المادة وماوراء المادة، بين الجسد والروح. ولعل صعوبة الفصل بينهما وعدم إمكانية إجراء التجارب على المظاهر غير الروحية هو سبب الإشكال لدى الماديين.
ولنأخذ مثالا بالخلية الحية. إن العلماء اليوم يعرفون بدقة عالية مما تتركب منه الخلية، ويمكنهم تفسير كل شيء يجري فيها عن طريق القوانين المادية، ورغم ذلك فهم لا يعرفون كيف يعرّفون الحياة فيها. ذلك لأن الخلية عندهم تمضي بقوانين بيولوجية بحتة، وما دام يمكن تفسير كل شيء بقوانين المادة، فما الداعي إلى عنصر آخر ينتمي إلى ما وراء المادة. إن الخلية عندما تعمل فهي حية، وإذا فشلت عن العمل فإنها قد ماتت. إن أكبر سمة للمخلوقات وهي الحياة غابت في هذا المنهج الإختزالي التي تتبعه المادية. حيث حلل كل شيء إلى عناصره الأولية، ثم غاب المعنى العام، وهو الحياة هنا، وغاب كل ما ورائه من حكم وعلل. إن المدقق في بنية الخلية يجد آيات الله ظاهرة على قدرته وحكمته. هناك إعجاز في البناء، وهناك تكامل في المهام، سواء داخل الخلية أو خارجها، هناك عمليات كبرى تحدث في الجسد، هي التي مكنت ثباته وقدرته وصحته. إنّ حياة الخلية ليست إلا بتقدير من الله العزيز العليم، الذي أحسن كل شيء خلقه، وهو الذي يحي ويميت، سبحانه وتعالى. (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم إليه ترجعون).
ومن الأمثلة الظاهرة أيضا على قصور المنهج المادي: أن المادية لا ترى في معزوفات بت هوفن مثلا، إلا أمواجا صوتية، وإضطرابات هوائية، فلا تعرف النغم والذائقة الفنية، بل وكل المعاني المتجاوزة للمادة. إن عالم المادية عالم رقمي مشابه للقاعدة التي يعمل عليها الكمبيوتر. أمّا الحركة عندهم فسببها خواص المواد وتفاعلاتها. وهكذا يغيب عالم الحكم والقيّم والفن وهو الأصل.
إن فهم المعنى والحكمة هو ما يميّز الإنسان. كما أن المعلومة هي الأصل وهي السابقة على كل ما عداها. والمواد إنما تمضي بقوانين غالبة عليها، فليست المادة هي الأصل وإنما القوانين الحاكمة. فكل بناء لا بد أن يسبق بمخطط وتصميم. وأسبقية هذه المعلومات على المادة دليل على وجود مصمم مبدع حكيم.
إن الكون شاهد على وجود الله سبحانه، الخالق المدبر، وقد فصلنا هذا في موضوع آخر "الأدلة على وجود الله سبحانه وتعالى". وأكثر ما يميّز المنهج الإسلامي المتجاوز للمادية هو الإعجاز. فالناظر مثلا في القرآن الكريم يعلم يقينا أنه يستعصي على بشر أن يأتي بمثله، فهو ناطق بإنه من الله سبحانه وتعالى، وهكذا سائر خلق الله، تتجلى فيهم مظاهر الإعجاز حتى في الجوانب المادية الخالصة. إن إجتماع الصفات المختلفة في الماء مثلا لدليل في حد ذاته على أنّ الذي قدّر وجمع فيه هذه الخصائص حكيم عليم قدير. ففي الماء خصائص فيزيائية نادرة، مكنَته من تبوء المكانة الكبرى له في عالم المادة.
إن الجوانب التي يتجاوزها المنهج المادي أهم بكثير من الجوانب التي يركز عليها. فهو يركز على كيفية حدوث الأشياء. وذلكم هو حصيلة تلكم القوانيين المادية. ولا يلتفت المنهج المادي من حيث الأصل إلى عالم المعاني والعلل والحكم. فذلك بطبيعته يقع خارج عالم المادة، فهو مما لا يسأل عنه ولا يهتم به.
إلا أن المنهج المادي أراد أن يكون له فلسفة عامة، تعيد قراءة كل شيء لتجعل من المادة والطبيعية أساسا لتفسير كل سلوك وتصرف بشري وغير بشري. وكيف للمادية القائمة على العشوائية أن تفسر العلل والحكم، ثم كيف يمكن انتزاع القيّم من عالم جامد لا تحكمه سوى الفوضى.
وسوف نقوم هنا في هذا الموضوع بإذن الله بوضع مزيد من المقارنات الواضحة بين الإتجاهين اللذين يفسران الوجود: المادي والإلهي.
الطبيعة البشرية بين النظرة المادية والنظرة الإسلامية:
إن الخلاف بين النظرتين المادية والإلهية عميق ويشمل كل جوانب الكون، ولكن الذي يهمنها هنا هو التركيز على الجانب الإنساني، لنرى أثر الفرق بين النظرتين فيما يخص حياة الإنسان.
وتتسم الطبيعة البشرية بتلك الثنائية الأساسية: الجانب الطبيعي/المادي والجانب الروحي غير المادي. الجانب الطبيعي المادي هو ما تمثله الحاجات المادية كالأكل والشرب والتنفس والنوم والتناسل وتلبية كل الحاجات العضوية للجسد.
الإنسان هنا يخضع لقوانين الطبيعة الآلية الصارمة وضرورات الحياة العضوية الذي تسري عليه وعلى بقية الحيوانات. إن هذه الجوانب تحكم حركاتها قوانين آلية غير إرادية في المجمل، وإن كان هناك تمازج في الإنسان بين الجوانب المادية والجوانب الغير مادية. وهذه الجوانب الآلية يمكن دراستها عن طريق العلوم الطبيعية كالطب مثلا.
وهناك جوانب وسمات غير مادية في الإنسان، وهي مظاهر لا يمكن إرجاعها إلى الخصائص المادية المعروفة، وذلك كالوعي والإحساس واالترجيح والإختيار. إن الله سبحانه وتعالى جعل الخلق أطوارا، بداية من المادة الصماء ثم كانت الكائنات الحية، وأقلها درجة النبات ثم الحيوانات ثم أعلاها منزلة هو الإنسان الذي يتميّز بتمام الوعي والعقل فكانت الإرادة والإختيار أهم ما يميّزه، لذلك تميّز بالنشاط الحضاري والمدني، فكانت له حياة مختلفة ومركبة بأنظمة إجتماعية وإقتصادية وبمنظومات خلقية ودينية. هذا هو الجوهر الإنساني وهذا الذي يميّزه عن غيره.
إن الجوانب المتجاوزة للمادة هي التي تشكل الإنسان وليس الجوانب المادية الصرفة.
تؤمن الفلسفة المادية بالإنسان المادي الذي يعرف في إطار الوظائف البيولوجية ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويرد إليها، إنه يتصرف بتلقائية وحيادية بحسب ما تمليه عليه القوانين المادية.
إن الذئب عندما يجوع يبطش ويهجم، والعاصفة تنتج من عوامل طبيعية وهي لا تفرق بين صالح وطالح فتأتي على كل شيء أمامها.
إن كل شيء هنا يحكمه القانون الطبيعي الحتمي، فالأفعال والتصرفات إنما ترد لقوانينها الحاكمة لا لغاياتها؛ حميدة كانت أم مذمومة.
والقوانين الطبيعية لا تكترث بالخصوصيات أو الإتجاهات الفردية. والإنسان هنا جزء من هذا الكون الذي تحركه أنظمته الطبيعية، فلا قداسة له فيه ولا غاية.
والفلسفة المادية لا تقبل بغير المادة بإعتبارها الشرط الوحيد للحياة الطبيعية والبشرية، لذلك فهي ترفض الإله كشرط من شروط الحياة، كما أنها ترفض الإنسان نفسه إذا كان متجاوزا للنظام الطبيعي المادي.
إن المادية تعيد قراءة الإنسان وتصرفاته لتلبسه ثوب المادية في كل ما يأتي أو يذر. وهي ترى أسبقية المادة على الإنسان، بل إن الإنسان هو نتاج مادي، وتمنح العقل أيضا مكانة تالية على المادة. إن العالم مكتف بذاته ولا نحتاج إلى وسائل خارجية لنتعرف عليه ونمضي فيه.
أما الأسئلة العقدية فليست موضوعا للمعرفة. والمادة لا تسبق العقل فقط، بل وتسبق الأخلاق أيضا، ولذلك فتفسر الأخلاق تفسيرا ماديا، والشيء الوحيد الذي يجدر بالإنسان أن يسع إليه هو الخيرات المادية التي تجود بها الحياة، وينبغي للإنسان أن ينفع نفسه أولا وقبل كل شيء.
إن الجوهر الإنساني المتمثل في القّم الحميدة والغايات النبيلة يسقط هنا ويفرغ من محتواه. كما أن المادية لا ترى خصوصية للإنسان وإنما هو مادة أخرى من المواد الموجودة في هذا الكون. لا مسؤولية له فيه ولا غاية تحكم تصرفاته.
إن الفكر المادي يغذيه التأريخ العلمي. فعندما أكتشف نيوتن قوانين الحركة غلب الفكر المادي النموذج الميكانيكي الآلي، فظُن أن الكون عبارة عن ساعة آليه محكمة، كل شيء إنما تحكمه قوانين الميكانيكا الفيزيائية والكيميائية.
وعندما أتى داروين بنظرية التطوّر صارت هي النموذج المتخذ لتفسير كل المظاهر الحيوية، ثم لما أتت النظرية النسبية ونظرية الكم أصبح الكل يتحدث عن الإحتمالية وإلغاء الثوابت في ما بات يعرف لاحقا بفلسفة ما بعد الحداثة. أما اليوم فيشبه الإنسان بإنه كالكمبيوتر المتطور جدا، وأن آلية الذكاء الصناعي سوف تتقدم على الإنسان نفسه قريبا.
وما يهمنا هنا هو المقارنة الفكرية بين المنظور المادي والإسلامي لأصل الإنسان، أما فلسفة ما بعد الحداثة فإنها تعتبر تطور طبيعي للمذهب المادي الذي نزعت منه الغائية من أول الأمر.
والتحدي الأكبر بالنسبة للمادية هنا هو تعريف الحياة. ذلك لأنها حقيقة غير مادية.
إن السؤال الأول كان عن موضوع الخَلق من عدم. أمّا السؤال الثاني فهو سؤال الإحياء، وهو موضع وقفتنا هنا. أمّا السؤال الثالث فهو سؤال الهداية، يقول الله سبحانه وتعالى (سبّح إسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى)، وكل هذه أسئلة لا تستطيع المادية الإجابة عليها؛ سؤال الخلق، وسؤال الحياة، وسؤال الهداية.
فالحياة لغز بالنسبة للإنسان، وهو لا يستطيع إلا أن يكون متمتعا بمظاهرها، ومسخرا لها لخدمته. أما فوق ذلك ففوق إستطاعتة، وإلاّ هل يستطيع أن يحيي الجماد؟
هذا هو التحدي الذي تقف أمامه المادية. يقول الله تعالى (أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون)، ويقول سبحانه (لن يخلقوا ذبابا ولو أجتمعوا له)، ويقول عز شأنه (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين، والذي يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين).
ما أصل الإنسان:
إن قضية أصل الإنسان هي حجر الزاوية لفهمه ومعرفة كيف ينبغي له أن يحيا. وهنا أختلفت التوجهات، فبينما يقول الماديون أن الإنسان وجد نتيجة لعملية آلية طويلة من التطور والبناء من أدنى أشكال الحياة، ولا يوجد لذلك تمايز بين الإنسان والحيوان، والإنسان هو ابن الطبيعية، وهي السيدة عليه. نجد أن الدين يتحدث عن خلق الإنسان، وعن ربطه بربه، الذي نفخ فيه من روحه، وجعل فيه صفة التسامي عن الماديات إلى غايات وأهداف سامية، هو سيد الكون ومستخلف فيه، وقد أعطي حرية التصرف، كما أنه مسؤول عن تصرفاته، وعليه أن يتصرف وفق أخلاق وقيّم معيّنة.
إن الإنسان منذ يومه الأول كان يستشعر تلكم المسؤولية. إن الحيوانات لا تستشعر الحلال والحرام في تصرفاتها، ولكن الإنسان كان همه الأكبر أن يعرف إن كان تصرفه وسلوكه صحيحا، وهل هو مسؤول عن تصرفاته أم لا. إن الإنسان الأول استخدم الحجر لغرضين للصيد والعبادة. وما ثم تجمع بشري إلا ووجدت فيه العبادة. إن هذين السلوكين لازما الإنسان في كل أطواره، وهما مسلكان مع ما بينهما من تداخل يمثلان الجانب المادي في الإنسان والجانب الروحي، الجانب التجريبي والجانب المثالي. إن هذا السلوك البشري الذي جمع بين حاجات الجسد والروح هو الذي صنع الفارق عند الإنسان فبنى له حضارة ومدنية أوصلته إلى ما هو عليه اليوم من تطوّر وتقدم. وهكذا تقوم الحياة البشرية على شقين: بناء مادي وآخر معنوي وبهما معا تستقيم الحياة البشرية ووتقدم.
الله سبحانه وتعالى كما أقام القوانين التي تحكم الجانب الطبيعي وأمر الإنسان بإكتشافها والإستفادة منها. جعل هناك منهجا متكاملا للحياة البشرية هي التي تحفظ الإنسان وتحكم الجانب المعنوي عنده، فلا تستقيم له حياة سعيدة ومتزنة إلا بها.
إن الشريعة الإسلامية أتت لترفع من شأن الإنسان في كل جوانب حياته الإجتماعية والخلقية والإقتصادية وغيرها من مجالات السعي الإنساني. إن فكرتي التوحيد والعبادة ليستا من البذخ الفكري، ولكنها الفارق التي تحافظ على الجوهر الإنساني الروحي بداية وتهديه إلى السلوك الأقوم في النهاية، وذلكم ما تقصر دونه الفلسفة المادية. الفلسفة المادية لا تهتم بالغايات الكبرى بقدر إهتمامها بالذات ومتعها ولو على حساب الآخر، لأن العالم في نظرها عبارة عن صراع من أجل البقاء.
إن النظرة المادية أسقطت المسؤلية البشرية وأسقطت القيّم المرجعية المطلقة، ثم صوّرت نظرية التطور العالم بالغابة التي ينتصر فيها من يغلب غيره ويصرعه. وهكذا ظهرت خاصيتين في الإنسان المادي وهما الشهوة والطغيان.
والإسلام يقيم السلوك الإنساني على نظام واضح، مبدأه النية وأساسه المسؤولية ومنتهاه الجزاء، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى).
إن التسليم بوجود الحرية الإنسانية -التي تتجاوز الفكر الآلي للمادة- هو تسليم بوجود الله الخالق، ذلك لأن خاصية الحرية تتجاوز المادة، ولا يمكن أن تكون إلا بفعل الخلق. والسؤال الأعمق الذي كان وما زال يطرحه الإنسان على نفسه، هو هل هناك قيمة لعمله؟ أم أنه غير مسؤول عن ما يأتي ويذر. والشعور الإنساني لا شك أنه يبحث ويسأل عن تلكم القيمة، ولذلك أحدث الإنسان الفارق في حياته.
وفي مقابل مبدأ المسؤولية نجد أن المادية قائمة على العبثية والعشوائية، ولا تهتم بالقيمة بقدر اهتمامها بالنتيجة. يقول الله سبحانه (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا، وإنكم إلينا لا ترجعون).
إن الحياة البشرية لا يمكن تفسيرها في ضوء العلم التجريبي وحده. إن القدرة التلقائية للخلايا لخلق الأعضاء، ومن ثم المضي في السلوك الإجتماعي، يمكن مراقبتها بسهولة ولكن لا يوجد تفسير علمي مادي لها. إن السمو الإنساني والأخلاقي لا يمكن إكتشافه عن طريق علم الأحياء أو علم النفس، ذلك لأن السمو الإنساني مسألة روحية. إن قضية المساواة والإخاء لا تتساوق وفكر داروين في إعتبار أن البقاء للأصلح. وهكذا يظهر الفرق كبيرا وجوهريا بين الإتجاهيين المادي والإسلامي.
التأريخ الإجتماعي للإنسان:
التأريخ الإنساني في هذه المعمورة هو تأريخ لفكر هذا الإنسان، فالسلوك والحضارة الإنسانية منبعها الأصيل هو الفكر والمنهج. ومحاكمة هذا التأريخ تقتضي محاكمة ذلكم المنهج وذلكم الفكر. والتأريخ الإنساني يشوبه النجاح والتطور كما يشوبه الكثير من الزلل والخطأ والظلم.
بدأ الإنسان في مراحله الأولى بفترات الصيد، ثم بدأ في مراحل الاستقرار حين بدأ عصر الزراعة ثم التعدين بعد ذلك، ثم قامت الإمبراطوريات الإنسانية القديمة التي كانت فيها الإشارات لتطور هذا الإنسان وتقدمه العلمي في الاستفادة من هذه الكون الواسع. إن التصاعد المعرفي كان تراكميا عند الإنسان لذلك استفاد فيه اللاحق من السابق. وكان هناك دائما خطين لتقدم الإنسان، هما خط التقدم العمراني المدني، وخط تمسك الإنسان بالأخلاق والقيّم.
إن الإنسان حتى في أرقى أنظمته الإجتماعية تطورا كان يتكبّر ويتجبر على أخيه الإنسان فيظلمه ويقتله. إن التقدم المدني ظل ثابت التطوّر على العموم. إمّا الجانب الخُلقي فظل متأرجحا، بل إن الإنسان في العموم كان شديد الظلم لأخيه الإنسان. لذلك فلا بد أن تنظم الحياة البشرية بعيدا عن الظلم والجور، وإذا كان لا بد لهذه الحياة البشرية من دستور يحكمها ومنهج يسوسها ونظام يسيّر شؤونها، فإنه ينبغي أن يكون هذا الدستور وهذا النظام قائما على القسط والعدل وخدمة الإنسانية جمعاء. لا أن يكون قائما على الظلم والتعسف وخدمة الذات وشهواتها.
والأنظمة الإجتماعية التي تحكم حياة البشر لا بد لها أن تقوم على فكرة أو فلسفة ما تدور حولها حتي يتم لها بنائها وهيكلها. إن كل نظام لا بد له من أن يرتكز حول فكرة ما. والأفكار لها تأثير قوي على تأريخ الإنسان، فكل الحركات الإجتماعية والسياسية تبدأ من فكرة ما، حتى إذا آمن بها الناس نمت لتكون واقعا معاشا في واقعهم، وإن من أقوى الأفكار فاعلية وثباتا وتغييرا للواقع هي الأفكار الدينية. إن السؤال الذي يواجه الإنسان إذن هو هل يستطيع أن يتحكم في مسار التأريخ والسير به نحو الخير والصلاح أم إنه سيسقط ضحية لنوزاته وأهوائه.
إن المشروع الإنساني الذي يسعى إليه الإنسان ينبغي أن ألا يدور حول التقدم العلمي والمدني فقط، ولكنه ينبغي أن ينشر العدل والرحمة بين الناس. وإن المشاريع البشرية التي لا تراعي هذا الجانب، سرعان من تفشل وتتلاشى. والإسلام أتى لخدمة هذا الإنسان، أتى لتهذيب النيات وجعلها خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى، أتى بالقيّم النبيلة التي ينبغي أن يسعى لها وأن لا يتجاوزها.
إن الله سبحانه وتعالى هو خالق القوانين كلها، المادي والغير مادي، والفرق الجوهري بالنسبة للإنسان أنه يستطيع مخالفة القوانين، وغيره لا يستطيع، ومن هنا طلب منه أن يعبد الله ولا يتخلى عنه، ليكون التزامه عن معرفة ومسؤولية.
والإسلام رسالة إنسانية، سابقة على واقع الإنسان اليوم، ولم يصل الإنسان بعد إلى حالة تطبيق الإسلام كاملا، نعم أخذت الحضارة الإسلامية جزءا بسيطا من الإسلام، ولم تطبق كل الإسلام. فالإسلام رسالة قديمة، وكل الأمم أخذت منه بقدرها.
إن الإسلام يهتم بتلكم الجوانب الثابتة في الإنسان التي تنفع لكل زمان ومكان، لأنها تخص تلكم الأطر المحددة للنية، وتلكم القيّم التي ينبغي أن لا تتجاوز، ولا تخص الجانب المتطور من حياة الناس، إن الجانب المتطور ينبغي أن يبنيه الإنسان بنفسه مستلهما إيها من تلكم القواعد والأصول.
والقرآن الكريم أتى هاديا للبشر، والإنسان قادر على أن يمضي بنفسه في طريقه، ويحدد الأهداف التي يريد. وكل هذا لا يزيد في ملك الله شيئا ولا ينقص منه شيء.
إن دور الرسل والمصلحين هو حمل همّ هذه التعاليم الربانية الثابة وغرسها في النظام الإجتماعي البشري. فالنظام البشري لا يستقيم توازنا من دون تلكم البذرة الدينية الطاهرة، وهل تستقيم حياة من دون خُلق أو غاية. إلا أن النظام الإجتماعي للبشر ليس دينيا فقط، بل إن الدين يخدم الإنسان لينطلق في هذا الوجود.
إن وجود الرسل لا يعني أن الحياة الإنسانية ينبغي أن تكون شريعة فقط، وإنما الهدف هو إقامة حضارة إنسانية شاملة بمباديء إسلامية. إن هدف الرسالة الإسلامية هو نقل الناس من النظرة الدنيوية إلى النظرة الإلهية، فهي تعرفهم بالله الخالق، وهي الخطوة الأعظم ولا شك.
إن المشروع الإنساني المرتبط بخالق الوجود أحق بالنجاح في جوانب الحياة جميعا.
والإنسان مخلوق مرتبط بالله، فهو يتميّز عن غيره بوجود الروح الربانية فيه، ولذلك تجد الإنسان يسعى دائما للوصول إلى الله سبحانه وتعالى.
والتشريعات الربانية مع التعلق الإيماني بالله لها أثر عميق في تطهير الإنسان وتزكيته ليكون مستعدا للخلافة الربانية الحقة في هذا الكون، وذلك لا يستقيم إلا بجناحي العلم والخلق.
الخصائص الأساسية للفلسفة المادية الحديثة:
والفلسفة المادية منهج قديم عند الإنسان، ويمكن تتبع التنظير الفلسفي فيه منذ أيام سقراط. إلا أن هذه الفلسفة توسعت وكثرت أطروحاتها المختلفة منذ عصر النهضة الأوروبية الحديثة، وهي رغم اختلافاتها الكثيرة إلا أنه يمكن القول بأن الخصائص التالية، تعتبر الجذور والأسس الأساسية لهذه الفلسفة، وهي:
-النزعة الإنسانية،
-والإحتفاء بالعقل،
-والحداثة.
إن التجربة الغربية الحديثة تعطينا تصورا تاما لماهية الفلسفية المادية، ويمكن عندئذ محاكمة هذه الفلسفة على المتسوى النظري والمستوى العملي، للنظر أين نجحت وأين أخفقت.
*النزعة الإنسانية: المركزية ليست لله وإنما للإنسان*
قامت الفلسفة المادية الحديثة كردة فعل على الديانة المسيحية، لذلك قررت أن تكون المركزية للإنسان وليست لله. رمت بالوحي والتشريعات الربانية وآمنت بداية بالعقل كمصدر للمعرفة، وجعلت المنفعة الإنسانية هي الهدف الأسمى لكل تقدم. إنها استبدلت حكم الله بحكم الإنسان، ولذلك حق عليها الوصف القرآني (أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون).
ولا شك أن مبدأ "النزعة الإنسانية" يحتاج إلى دراسة وتتبع، ذلك لأنه كان ردة فعل لدين محرّف كبت الإنسان لعقود، وجعله مستعبدا ومسخرا للحكام ورجال الكنيسة، لقد كانت ردة الفعل لترك الدين أقوى من ردة الفعل التي حاولت إصلاحه، لذلك تخلت أوربا رسميا وعلميا عن الدين كلية، ولم يسمح له بالتدخل لتدبير شؤون البشر. هكذا تكونت بداية النزعة الإنسانية، عندما كفرت بشرع الله، وأقامت شريعة الإنسان محلها. إنها تنطلق بأنه لا سلطة فوق الذات البشرية، ولا حق إلا بقدر ما ينفع الإنسان ويحقق مصلحته، فمثلا يمكن لفكرة الدين نفسها أن تكون صحيحة إذا كانت تخدم الإنسان، وإلا فإنها تعتبر غير صحيحة، وكذا الحال بالنسبة ليوم القيامة والجنة والنار، إنها تقدم المصلحة الذاتية للإنسان وتجعلها المقياس للحكم على صحة الفكرة أو التوجه، فمصلحة الإنسان هنا مقدمة على الحق.
إن أكبر أخطاء النزعة الإنسانية هي القطيعة مع الله ومع الوحي، إلا أنها في المقابل تواصلت مع العلم التجريبي، وصيرته طريقا لخدمة الإنسان ومنفعته، فلذلك قررت:
- بأنه على الإنسان أن يتحرر من الأفكار الدينية ومن كل الخرافات المجتمعية التي تولدت في عصور الإنحطاط، وأن للإنسان الحرية بأن يناقش وينتقد كل شيء، فلا توجد مسلمات مسبقة.
- تحفيز الإنسان لصنع المستقبل بنفسه، وتكسير أغلال الاستسلام للقدر، ولا توجد محرمات يمكن أن تقف أمام الإنسان فيما يريد أن يقوم به.
- الدعوة للسيطرة على الطبيعة وعلى كل ما فوقها من حجر ومدر وبشر. إنها نظرة الصراع مع الطبيعة، وليست نظرة التسخير التي تحكم الفكر الإسلامي
- إعتماد العقل والتجربة البشرية لبناء النظام الإجتماعي، ومحورية الإنسان في كل التشريعات.
من الواضح تماما أن هذه الأفكار تعتبر ردة فعل على الوضع الإجتماعي الذي كان قائما في أوروبا والذي أودى بها إلى قاع التخلف والجهل. ولا شك أن هذه الأفكار ينبغي تهذيبها للتساوق مع الشرع الرباني الذي إنما جاء لخدمة هذا الإنسان. إن الشريعة الربانية أتت لتحرر الإنسان من ربقة التخلف وترفعه في درجات التعلم والرقي. ولتبيّن المنهج الصحيح لسلوك ذلك. إن النزعة الإنسانية لها جوانب مشرقة ساعدت الإنسان وحررت فكره، ولها جوانب مظلمة ينبغي التخلص منها، إنه ينبغي تصحيح الخطا التأريخي الذي وقعت به أوروبا، وهو القطيعة مع الله سبحانه الخالق الرازق. إن العبودية لله سبحانه وتعالى هي الحقيقة الكبرى التي ينبغي أن ينطلق منها الإنسان للسعي في هذا الكون. ومقياس الحق لا يقوم على مبدأ المصلحة الذاتية وإنما على مقاييس الحق الثابتة التي لا تتغير تتبعا لمصالح آنية. ولذلك نرى بأن الإنسان الغربي ورغم تتطوره العلمي الذي كان نتيجة للمنهج العقلي الذي اتبعه، أصابه الكبر والطغيان والعنصرية من جراء هذه النزعة الإنسانية، وهذا ما سوف نفصل فيه لاحقا بإن الله تعالى.
المبدأ الثاني للحداثة: العقلانية
النهضة الأوربية الحديثة أو ما يعرف بالحداثة تقوم أيضا على مبدأ فلسفي ثابت وهو العقلانية. إن الأساس الفلسفي للمادية هو الاستغناء بالتفكير المادي عن ما سواه. والمظلة التي يتمسك بها هو المنهج العلمي للوصول للحقيقة، وهذا ما يقصد بالعقلانية، الإكتفاء بالقدرات الإنسانية للوصول للمعرفة، دون استخدام الوحي أو أي مصدر آخر. كانت البدايات فلسفية، مع ديكارت وفرنسيس بيكون وغيرهم ممن نادى بتحرير العقل والمضي في طريق العلم، ثم ما لبثت أوروبا إلا أن أعتمدت على المنهج التجريبي كمصدر وحيد للمعرفة.
والجانب المشرق في هذا الطرح هو أعتبار المنهج العلمي الثابت والراسخ مبدئا موثوقا به للمعرفة. فتؤخذ المعلومة من مصادر ثابتة وتخضع لمنهج علمي ثابت حتى يمكن التعويل عليها. إن رسوخ المنهج العلمي التجريبي أتى بنجاحات منقطعة النظير في المجالات المادية. وخلّص العقل الإنساني من كثير من الخرافات التي لا تقوم على أساس علمي متين. لذلك وجد لهذا المنهج بريق وقبول لدى الناس، وذلك لمتانته العلمية ولبساطته أيضا.
إن الخطأ الذي وقع فيه هذا التوجه هو الاستغناء عن المصادر الأخرى المهمة للمعرفة، وأهمها الوحي الرباني، ولذلك ومع تقدم الغرب في مجال العلوم المادية، إلا أنه أفلس تماما في الجوانب الإيمانية والجوانب الأخلاقية.
نجح العلم المادي في الجوانب المادية، ولكنه لم ينجح في الجوانب الإنسانية، فلم يوقف أطماع الناس الإجتماعية والإقتصادية. لذلك اختلت الموازين الإجتماعية وارتبكت.
المبدأ الثالث: التطور العام وفلسفة ما بعد الحداثة
بدأت النظرة المادية للكون منسجمة في البداية. قوانين مادية ثابته تحكم كل الوجود، نموذج الساعة الآلية التي جاء نتيجة لإكتشافات نيوتن لقوانين الحركة، إلا أن هذه النظرة سرعان ما تغيرت وتتطورت.
كان ينظر للسكون بإنه هو الأصل في الأشياء، إلا أنه وعند إكتشاف أبعاد الكون وجد بأن كل شيء في حركة دائمة، فصارت الحركة هي الأصل بدل السكون.
ثم تتالت الإكتشافات العلمية التي غيّرت النظرة إلى مبدأ الثبات الذي كان العنصر الأساسي للنظرة الميكانيكية للكون، خاصة بعد إكتشاف النظرية النسبية ونظرية الكم، فأصبح الجدل والصراع هو الأساس الذي يحكم العلاقات المادية والحيوية أيضا.
وهكذا تم القضاء على المنطلقات المطلقة التي تحكم الأخلاق خاصة. وتم نزع الغايات الكلية. وبالمختصر أدت المادية بتحولها من الحداثة إلى ما بعد الحداثة إلى تفكيك الإنسان وإلغاء الجانب الإنساني فيه. وخير من سبر أغوار هذا الموضوع هو الدكتور عبدالوهاب المسيري في عدد من كتبه، وأهمها "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان".
إن فلسفة ما بعد الحداثة ألغت كل الثوابت، وصيّرت العالم عالم من الاحتمالات.
ويمكن أن نلخص المستوى الفكري التي آلت إليه المادية بإنه فساد في التصور، أتى نتيجة لفساد في العقيدة.
لقد أفسدت المادية كل التصورات الإنسانية، من حيث إرتباط الإنسان بالله وبالكون والحياة. لقد استغنى الإنسان عن الله، وشرع له عقائد وقواعد وتشريعات بنفسه. لقد غابت المرجعية الخلقية والدينية فأضطرب السلوك وحلت العبثية.
والإنسان اليوم يبحث عن حيوانيته مع داروين، كما ويبحث عن ماديته الآلية فيتصارع مع جهاز الكمبيوتر.
لقد سُلب الله من التأريخ، وأصبح تأريخ الإنسان قائم على الأكل والجنس وعلى تصرف الغدد والخلايا.
لقد حوّل الجنس إلى عملية بيولوجية ليس لها علاقة بالأخلاق ولا علاقة لها بتكوين الأسرة، بل لها علاقة بالشهوة وإثارة الناس إلى السوق.
المجتمع نفسه حوّل إلى مصنع تحكمه قوانين الإنتاج والإستهلاك.
إن الفساد في التصوّر طال كل شيء، ولا يمكن بحال أن يستقصى ذلك جميعا في موضوع واحد.
والفساد في التصور لا بد أن يتبعه فساد في السلوك، وهذا الذي سوف نركز عليه فيما يأتي بإذن الله تعالى.
أثر الفلسفة المادية في السلوك الإنساني:
الفلسفة المادية هي عنوان المرحلة القائمة بالغرب منذ أن ثار الناس هناك على الظلم والطغيان الذي خلفها عصور الإقطاع وتسلط المسيحية. لقد تلبست الثورة الحديثة بلباس العلم التجريبي الذي أخذوه من امتزاجهم بالمسلمين. ولقد كانت ردت الفعل قوية على كل ما هو ديني. تحرر الإنسان أخيرا من القيود وراح يسبر العالم بالمنهج العلمي، فماذا كانت النتيجة. لقد كان هناك إزدهارا علميا ومدنيا ولا شك. أما حالة الإنسان إتجاه أخيه الإنسان فكانت تسير في اتجاه مختلف. وللنظر هنا إلى بعض الأمراض التي أصابت الغرب جراء تركهم للدين وإتباعهم للمنهج المادي.
١- التسلط والطغيان: ويظهر ذلك فيما يأتي
أ- العنصرية: ركزت الدارونية على فكرة الإختلاف والصراع، حتى صارت منهجا متبعا. والأختلاف هن ألبس لباس العلم فأصبح بعض البشر أكثر متطورين من بعض، وللمتطور حق الغلبة والنصر، ولذلك نرى بأن هذه العنصرية تمازج الإمبراطوريات الإمبرايالية الغربية.
وكما يوظف العلم من أجل هذه العنصرية المقيتة. يرى الغربي بأن حضارته هي الأكثر تطورا على المستوى السياسي والإجتماعي والخلقي، ولذلك فعلى الحضارات الأخرى أن تتعلم منها. وإن وجود الحضارات الأخرى يعلمنا فقط المراحل التي مر فيها البشر حتى تطوروا. إن الشعوب غير الغربية متخلفة عرقيا عن الشعوب الغربية، فالغربي يوجد على أعلى سلم الكمال البشري وآخر درجات تطوره.
ب- الأستعمار: إن التمييز العنصري هو أخطر من الرق والإبادة، إذ إنه يُعتبرُ الدافع لكليهما، ويشهد على ذلك المجازر البشرية التي لحقت بالسكان الأصليين في العالم الجديد، وما تعرض له الرقيق من صنوف التعذيب والأذى النفسي والبدني.
والحضارة الغربية قائمة على إستعمار الآخر، وأخذ كل موارده. وهذا هو حال الحروب القائمة اليوم، فهي إنما لاستعباد الآخر وأخذ موارده، وإن تلبست بالغالب بلباس ناعم، فليس كل الحروب بالقنبلة والصاروخ، وإنما في كثير من الأحيان هي الحروب الناعمة.
٢- إنتشار الشهوات والتمحور حول اللذة الذاتية: لم تقف الشهوة في الحضارة الغربية عند حد، لقد فاقت كل التصورات. إن الجرائم التي تسجل في هذا الشأن تحسب بالثواني. فضلا على إنتشارها في الثقافة العامة بشكل فج ومقرف. بل ودخلت مصطلحاتها في اللغة اليومية حتى صارت من أكثر الكلمات شيوعا. لقد أصبحت أسلوبا لإغراء الزبائن، ووسيلة إقتصادية تغتني منها دول. إن انتشار الفاحشة لم يعد بين الذكر والأنثى، بل نجد اليوم حقوقا للمثليين، كما ويحق للإنسان الزواج من كلب إن أراد.
إن الحديث عن هذا الموضوع لا يمكن له أن يقف عند حد، بل صار شائعا للدرجة لا يمكن أن يستوعبها تنظير ولا تأطير.
٣- الهجوم على الطبيعة البشرية: وهذا بسبب المنهج المادي الذي أعاد قراءة الإنسان ليمحو الجوانب الغير مادية فيه، وهي كما قلنا الأهم في تعريف جوهر الإنسان، وينظر إليه فقط بالمنظار المادي، ومظاهر الهجوم على الطبيعة البشرية كثيرة جدا في الفلسفة المادية، بل هي السمة الأساسية لها، ومن ذلك:
أ- عدم الإكتراث بالهوية الإنسانية: تنكر الفلسفة المادية من الأساس أي وجود لجوهر مستقل للإنسان عن بقية المخلوقات، وعن الناس فيما بينهم. لقد نزعت القداسة عن الإنسان وجعلته بعضا من متاع المادة، فغابت المرجعيات المطلقة، وغابت الأخلاق والمسؤولية ، فلأي فرد أن يفعل ما يشاء وقت ما يشاء.
ب- الهجوم على المعيارية: لقد كثرت الحركات التحررية التي تدعو للدفاع عن حقوق الشواذ، وحقوق الفقراء، وحقوق الأشجار والحيوانات والأطفال، والعراة، وكل ما يطرأ ولا يطرأ على البال. والذي يعمّق النظر في موجة هذه الحركات التحررية يشهد أنه ليس المقصود منها الدعوة للتسامح وتفهم حقوق هذه الفئات المختلفة، ولكنه في الأساس محاولة للتخلص من تلك المعايير البشرية الثابتة عبر قرون، ومحاولة استبدالها بقيّم أخرى.
ج- هدم الأسرة: ينظر للإنسان في ضوء الفلسفة المادية على أنه وحدة
مستقلة وبسيطة، ليس له علاقة بأسرة أو مجتمع. بل هو وحدة خاصة لها حرية التصرف،
ولا ينبغي تأطيرها في أي نوع من الأطر. لقد ألغيت الخصوصيات البشرية، واستبدلت
بالعلمانية. ويظهر هنا في سلب دور الأم والمرأة عموما، لقد نادوا بتحرير المرأة
والدفاع عن حقوقها التي سلبها الرجال، ونسوا أنهم سلبوا المرأة إنسانيتها
بإعتبارها أما وزوجة وابنة عضوا في مؤسسة مهمة هي الأسرة والجتمع، فدعو لتفكيك
المرأة وجعلها إنسانا ماديا.
د- نسبية الأخلاق: المجتمعات العلمانية استبدلت الأخلاق بعقد
إجتماعي نابع من الطبيعة، وهو يحكي نموذج الذرات ذات الحركة الدائمة والمتصارعة.
الذرات هنا تتحرك من تلقاء نفسها، ويسود النظام بينها بشكل آلي من تلقاء نفسه.
وليس هناك رباط قيّمي يربطها، إن فلسفة ما بعد الحداثة تتحدث عن نسبية أخلاقية،
يستاوى داخلها الخير والشر، ويحل محلها مرجعيات أخرى، هي مرجعية السوق والمصنع،
وآليات العرض والطلب. وينتفي هنا الإيمان بعزة النفس والكرامة والحقوق المطلقة
والعدالة. إذا لا مرجعيات مطلقة، وإنما هي قوانين يصوغها المجتمع بنفسه مستلهما
أيها من العلوم الطبيعية ومن رأي الأغلبية العددية. لقد نفيت القيم الثابتة،
واستبدلت بالتطوّر والتغيير المستمر.
ه-الإنسان كالآلة: ينظر إلى الإنسان في عالم الفلسفة المادية على أنه آلة،
كمبيوتر متطور. والناظر إلى الحضارة الغربية يرى تجليات هذه الرؤية واضحة في
مخرجاتهم الثقافية. تصوّر الآلة المتطورّة في كثير من الأحيان بأنها أفضل من
الإنسان وأكثر عنه قدرة وقوة. بل قد شيع أن هذه الآلة هي التي ستكون الجنس الذي
سيحكم الكون مستقبلا. إن الخوف من هذه الآلات التي يصنعها الإنسان بنفسه أصبحت
هاجسا ليس على مستوى الأفلام فقط، بل دخلت المجالات التجارية والصناعية وغيرها.
وهكذا إذا كان الإنسان مجرد مادة، فإن المواد الأخرى أكثر قوة منه وأجدر بإدارة
الكون. إن هذه المخاوف أتت لتعمق النظرة المادية
للكون
٤- إختلال النظام الإجتماعي: والدين إنما يتمحور عطائه حول
النظام الإجتماعي. ولقد شكلت الفلسفات المادية الحديثة أنظمة إجتماعية مختلفة،
تتمثل فيها أوجه مختلفة للفلسفة المادية، ومن ذلك:
أ- الدارونية
الإجتماعية: لقد اسُتلهمت نظرية داروين لتحكم علاقات الأفراد في نظامهم الإجتماعي،
فنظر إلى حركة الأفراد على أنها قائمة على الصراع اللامتناهي وفكرة الإِنتخاب
الطبيعي. إن حركة الإنسان هنا امتداد لصراع الحيوانات في الطبيعة، وسواء ذلك على
مستوى الفرد أو الدول. ومن أهم مخرجات هذه النظرة: الطبقيَة والعنصرية وأستخدام
مبدأ القوة، وتبرير المشروع الإمبريالي العالمي.
ب- الرؤية العلمانية
والإمبريالية الشاملة: العالم بأسره مكون من المادة فقط، وهي في حركة دائمة من دون
هدف أو غاية، وليس لها قداسة ولا تكترث بالخصوصيات والثوابت. إنه ليس مجرد فصل
الدين أو القيمة عن الحياة العامة، بل هو فصل القيّم الدينية والأخلاقية عن العالم
بأجمعه. وبعد أن اسقط الجانب الأخلاقي والديني رفعت رايات المصالح الشخصية. المادة
جميعها توظف من أجل الإنسان, وهدف الإنسان في هذه الأرض هو زيادة معرفة قوانين
الحركة المادية والطبيعة البشرية من أجل الهيمنة عليها، فتجيّر المعرفة من أجل السيطرة.
والعالم أجمعه تحركة المصالح والمنفعة، ومن أهمها المصلحة الإقتصادية، وهدف ذلك
كله إنما هو السيطرة والتحكم.
ج- السوق/المصنع: إن
أهم المصالح البشرية هو الجانب الإقتصادي، وهو السبيل الأمثل للهيمنة والسيطرة.
وإذا كان النموذج هو الصراع مع الطبيعة. فإن الإنسان الأبيض يحاول أن ثبت أفضليته
وأسبقيته على كل أحد، فيصبح الهم هو غزو الطبيعة المادية والبشرية أيضا وتحويلها إلى
وسيلة للتحكم. وهكذا حوّلت الفلسفة المادية الإنسان الغربي إلى مستغل يلتهم الكون،
وحولت الطبيعة وبقية الشعوب إلى مجرد مادة استعمالية توظف وتسخر. هناك تطابق بين
نموذج (السوق والمصنع) ونموذج (المادة والطبيعة)، تطابق في كل شيء، وجوهره الصراع
من أجل البقاء. وهكذا حددت دورة ثلاثية للإنسان: الإنتاج في المصنع، الاستهلاك في
السوق، واللذة في الملهى. ثم حددت واجبات الدولة لتحقق هذه الدورة ولتشكل المؤسسات
التي تربط كل شيء لتحقيق هذا الهدف. وآلية السوق هذه لا تكترث حقيقة بالفرد وإنما
تعتبره وسيلة من أجل تحقيق مصالحها وغاياتها، فأصبح الإنسان هنا مجرد وسيلة بعد أن
كان خليفة لله في هذا الكون. وآلية السوق هذه تحاول تهجين الإنسان ليكون لعبة في
أيدي أصحاب الأموال. ولقد وضعت النماذج الحياتية التي ينبغي له أن يعيشها وما هي
الأشياء التي ينبغي له أن يستهلكها، وكل ذلك إنما تحميه الدول المؤسسات الإقتصادية
الضخمة.
د- عالم من النسبية:
بما أن الإنسان هو نتاج مادي فعليه إذن أن ينسجم مع هذه الطبيعة المادية ويترك ما
عداها لأنها لا تعدو إلا أن تكون أوهاما، عليه أن يعود إلى الطبيعة فيتجاوز ويمحو
ما رسخ في نفسه من قيّم ومثل ومطالب روحية، عليه أن يبرمج نفسه من جديد على تنميط
معيّن يصاغ بآلية السوق والإعلام، عليه أن يدرب وجدانه أن يقبل بأن الطبيعة هي
المرجعية النهائية وأن الله وهم من الأوهام. لقد بدأت العلمانية بجعل الإنسان
المطلق النهائي بدل أن يكون الله تعالى. ذلك لأن الإنسان هو ابن الطبيعة وهو آخر
مراحل تطورها، فتمركز الإنسان حول ذاته ومصالحها. ثم بعد معدلات الترشيد حوّل إلى
وسيلة، وجعلت المرجعية للدولة المطلقة. فالقبضة هنا لأصحاب السلطة والأموال. ثم
تراجع الإنسان مرة أخرى فصار المطلق هو الإجراءات وقوانين اللعبة الحاكمة. أمّا
أهداف اللعبة وغاياتها فيمكن مناقشتها لأنها غير مطلق لة. وهكذا غاب الإنسان في
عالم من النسبية، حين أنتهت المطلقات والمرجعيات النهائية.
*أمثلة
حية:* ويذكر عبد الوهاب المسيري بعض النماذج شبه تامة يمكن لها أن تمثل المنظور
المادي بزواياه المختلفة، ويمكن الوقوف معها طويلا لمعرفة الناتج الذي يمكن أن
تحقق الفلسفة المادية، ومن ذلك:
اللحظة السنغافورية:
ويظهر فيها الإنسان الإقتصادي
اللحظة التايلاندية:
ويظهر فيها الإنسان الجسماني الشهواني
اللحظة النازية: ويظهر
فيها الإنسان الطبيعي/المادي الذي يقدس القوة والسلطة، ومثلها الآن اللحظة الصهيونية.
فساد المادية سمم كافة
الأنظمة الإنسانية:
الفكرة الدينية لها أثر
عميق في كافة نواحي الحياة الإنسانية، فهي التي تشكل الحقيقة العظمى التي ترتكز
عليها كافة المنظومات الفكرية البشرية، إنها تشكل الوعي البشري، وتبني العلاقات
بين الأفراد والجماعات، وبين الدول والمؤسسات. تصيغ النظرة إلى الكون والإنسان
والحياة. كل هذا إنما هو مبني على قواعد تلك الحقيقة العظمى، وإذا اختلت اختل
البناء الفكري كله. واختل تبعا لذلك الأنظمة الإجتماعية التي تحكم حياة البشر.
وإنتشار المادية
أفسد كل الأنظمة الإنسانية: إبتداءا من النظام السياسي، الذي بات يعمل بعيدا عن
القيّم والأخلاق، ولقد أزكمت أفعاله الأنوف وصمت الآذان. النظام السياسي اليوم
يسوق الناس كالقطعان لمآربه الخاصة، مستخدما كل ما يملك من وسائل الإعلام والتعليم
وغيره. ولا شك أن شرح ذلك يطول على مثل هذا الموضوع المختصر.
والفساد قد أغرق النظام الإقتصادي والإجتماعي كذلك. وكذالك فعل على
أصعدة شتى في مختلف الأنطمة الإنسانية. فكل هذه الأنظمة بحاجة إلى تقويم حتى يتسق
بنائها مع القيّم والشرائع الإسلامية.
إن ما يميّز هذه الأنظمة الإجتماعية الإنسانية أنها لا تقوم على
العلم التجريبي بقدر أنها تبنى على الفلسفة والتجربة المتقلبة والمتبدلة. ذلك
لأنها تقع في دائرة الأختيار البشرية التي قد يصح فيها أكثر من خيار.
إن التمييز بين ما يحكمه العلم وما تحكمه الفلسفة أمر مهم لمعرفة
ما يمكن الوثوق به فيؤخذ، وما هو قابل للتغيير والتبيدل فيبحث فيه عن الأفضل
والأحسن.
وعلى هذا الصعيد المعرفي ينبغي أيضا التفريق بين مصطلحي الحضارة
والمدنية وغيرها من المصطلحات الأخرى. فحياة الإنسان يكتنفها الكثير من المتغيرات.
فالإنسان مدني يتطوّر يوما عن يوم بسبب جانب الخبرة لديه وتطوّر
العلوم، بدأ الإنسان في الجانب المدني بمرحلة الصيد وتطوّر اليوم إلى أن أصبح
يستخدم وسائل التواصل الإجتماعي في الإنترنت. إلا أن الجوهر الإنساني ظل ثابتا
خلال هذه الرحلة الطويلة.
إننا اليوم أكثر تتطورا عن أجدادنا في مجال العلم والمدنية، لقد
تغيّر العالم وتطور في هذا المجال، ولكن هل تغيّرت القيّم الحاكمة؟
لربما يكون السابق
متقدما أكثر منا في مجال القيّم، وخياراتهم أكثر إلتصاقا بقيّم الحق والخير
والعدل. وذلك هو الأهم في مقياس تقييم البشر.
إن القيّم الدينية ثابتة وينبغي المحافظة عليها في كل مجالات
التطور البشري، القائم على العلم والتجربة والفلسفة.
والعلم كما يقول الشيخ محمد قطب ليس من نتاج الحضارة الغربية
الحديثة، وإنما هو نتاج بشري ضارب بجذوره في التأريخ، وظلت كل أمة تسلمه إلى أخرى.
إن التقدم العلمي الحديث ليس مرتبطا بالفلسفة المادية،
وإنما هو مرتبط بالتأريخ المدني للإنسان، الذي كان وما زال يخطوا ليكتشف هذا الكون
ويكتشف أسراره ويستفيد من خيره. لذلك فالسؤال الأهم الذي يُحاكَم من أجله الإنسان
ويسأل عنه هو سؤال الأخلاق والقيم، وسؤال الأهداف والغايات التي يسعى إليها: هل هو
يسعى لخدمة البشر، وإقامة العدل بينهم، أم يسعى لإستعبادهم وأخذ أموالهم وإنتهاك
أعراضهم. وهذا هو الجانب الذي جائت العقيدة الإسلامية لتبنيه، وتمكنت الفلسفة المادية من هدمه
وتفكيكه.
إن المقياس الذي يقيس به القرآن الكريم مستوى حياة البشر، هو مقياس
التقدم الأخلاقي وليس مقياس التقدم العلمي. وكم من أمم في الماضي كانت متقدمة
ماديا ولكّن القرآن الكريم وسمها بأنها تعيش في جاهلية وضلال، يقول الله سبحانه
وتعالى (أتبنون بكل ريع أية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم
جبّارين، فأتقوا الله وأطيعون، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين،
وجنات وعيون، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم).
إن الإسلام أتى لتهذيب النفس وترك الهوى، وإتباع الأهداف والمرامي
العالية السامية المبنية على قيّم العدل والمحبة والإخاء.
أما مجتمعاتنا البشرية
اليوم تعاني من أمراض أخلاقية كثيرة، ليس أقلها الجرائم والحروب، والغطرسة
والتكبر، مع الترف الظاهر خارجيا، والعبثية والعدمية على مستوى الضمير والأخلاق.
إن الحضارة الحقة التي يمكن لها أن تهتم بالجانب الداخلي في
الإنسان فتهذب أهدافه وأخلاقه هي الحضارة الإسلامية وحدها، ذلك لأنها لا تهتم
بالمظاهر والخارجية فقط، بل تسري إلى النفس الإنسانية فتسموا بها وتزكيها.
إن للتطور والتقدم البشري جناحان مادي وروحي، ولا بد من الموازنة
بينهما ليرتقي الإنسان، ومن هنا كان خطأ المادية
والمسيحية اللذان اهتم كل منهما بجانب دون الآخر.
إن الفلسفة المادية
تسقط أمرا أساسيا بالنسبة للبشر، وهي المرجعيات المطلقة التي تشكل القيّم الحقة،
ويتبعها في ذلك منظومة المسؤولية والإلزام. وما قيمة الحياة دون هذا.
إن الدين وحده هو الذي يشكل النظام الذي يمكن أن يحاكم حياة البشر
وسعيهم في هذه البسيطة، والأنظمة الإجتماعية التي أقامها الإنسان لترقى بمصالحة لا
تكون أصيلة إذا لم تربط بمنظومة القيّم المطلقة هذه.
إن للدين الإلهي دور جوهري وأصيل بالنسبة لحياة البشر، وتجاوزه
يعني تجاوزا للحقائق الكبرى التي قام الكون عليها.
وهكذا تظهر المجالات الفكرية التي تقصر دونها الفلسفة المادية ويعالجها
الإسلام، وهي:
التصوّر الصحيح للكون والإنسان: وتلكم هي العقيدة الصحيحة
الشرائع المرتبطة بمنظومة القيّم المطلقة والتي تصيغ قواعد الأنظمة
الإنسانية المختلفة، سواء السياسية أو الإقتصادية أو غيرها.
إستأصال الأمم الظالمة:
والمتأمل لكتاب الله
يجد أن السبب الأصيل لهلاك الأمم هو إتصافهم بالظلم والفساد، يقول الله سبحانه
وتعالى (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم
عذاب أليهم)، وأهم الظلم هو الشرك (إن الشرك لظلم عظيم)، ويقول سبحانه (والكافرون
هم الظالمون). والله سبحانه وتعالى يرسل الرسل لتذكير الناس وإرجاعهم إلى الحق،
والذي يظهر أنه لا يكون هناك عذاب مستأصل للأمم ما دام هناك أمل ورجاء للتغير،
يقول سبحانه وتعالى (وما كان ربك مهلك القرى بظلم
وأهلها مصلحون).
والقرآن الكريم ذكر عدد من الأمثلة التي تم فيها هلاك الأمم بسبب
ظلمهم واستكبارهم، ومن صور الظلم الذي ذكرها القرآن الكريم:
الإستكبار والطغيان: يقول الله سبحانه (ولقد أهلكنا القرون من
قبلكم لما ظلموا وجائتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم
المجرمين)، ويقول عز شأنه (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا
لا يرجعون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين).
إن العدل هو أساس البقاء والظلم مرض فتاك يهوي بالأمم والشعوب.
ومعظم الخراب والدمار الذي نراه اليوم سببه الظلم والفساد، فيهوي القوي على الضعيف
فيستعبده ويأخذ أرضه وماله، والظلم هو السبب الأول للضغائن في النفوس، فالظلم
ظلمات في الدنيا والآخرة.
يتبع أسباب استأصال الأمم:
الترف وتسلط الشهوات:
يقول الله سبحانه وتعالى (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها، فتلك مساكنهم لم تسكن
من بعدهم إلا قليلا، وكنا نحن الوارثين)، ويقول سبحانه (وإذا أردنا أن نهلك قرية
أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).
وإذا كان الطغيان سببه الإغترار القوة، فإن الترف سببه حب المال
والجاه. إنه الفساد الناجم عن الترف وتغلب الشهوات. والإنسان شهواته متنوعه، وطرق
إفساده أيضا متنوعة. وهذا الفساد من أكبر المعاول لهدم الأمم والدول.
التكذيب برسالة الله الخالق المقدّر: إن التكذيب بالرسالة الربانية هو
السبب الأول لكل مفسدة، ذلك لأن البنيان الحق لا يقوم إلا على أساس سليم، فلا يقوم
على رجل عرجاء، وعين عوراء تنظر لشيء دون آخر.
إنّ هلاك الأمم سببه تسلط شهوات النفس ونزعاتها المختلفة، ولا
تستقيم حياة دون تزكية هذه النفس والتسامي بها نحو الغايات الإنسانية العليا، ولا
يتسقيم ذلك دون العبادة لله الحق. يقول الله سبحانه (ولو أن أهل القرى ءامنوا
واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا
يكسبون). ويقول تعالى (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم، كذبوا بئاياتنا فأخذهم الله
بذنوبهم والله شديد العقاب)، ويقول عز شأنه (ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا
إليهم رسلنا، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون،
وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم،
والله وبصير بما يعملون).
تم بحمد الله وتوفيقه