الجمعة، 24 يونيو 2022

قراءة في سورة المائدة

 

قراءة في سورة المائدة ( ( 1

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ذي الآلاء والنعم، حمدا يليق بعطائه ونواله، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

إمّا بعد فنقف هنا في قراءة أخرى لسورة المائدة، قراءة نستهدف منها ذكر الأهداف والغايات لهذه السورة المباركة، نحاول من خلالها أن نقرأ السورة قرائة كليّة، بحيث تترابط مواضيعها لتشكل موضوعا واحدا للسورة، وغالبا ما تضيع هذه القراءات الموضوعية للسورة ككل، إمّا لكثرة الخوض في التفاصيل، حتى تتفكك أجزاء السورة، فلا يمكن حينئذ الجمع بين تلك الأجزاء. وإمّا لتوسيع المقاصد والغايات، توسيعا يغيّب المقاصد الأصلية للسورة تحت وطئة ذلكم التعميم والتعويم. لذلك فلابد من أن ينظر للسورة بصورة كليّة، حينها فقط يمكن أن يرابط بين مواضيع السورة ككل حتى تشكل موضوعا واحد متماسكا من بداية السورة حتى نهايتها.

وسورة المائدة شديدة الإلتصاق بسورة النساء، فهي مكملة لأهدافها ومراميها، فلقد أقامت سورة النساء صرح الدولة الإسلامية إجتماعيا وعسكريا، ثم جائت سورة المائدة بوضع الدستور والميثاق لهذه الدولة، وللأمة الإسلامية بجميع مراحلها. فالعلاقة هنا عضوية لا يمكن أن يفكك بينهما. فبعد إرساء هيكل وشكل الدولة إداريا، لا بد من عرض القانون والدستور الذي يدير شؤؤونها، والقرآن الكريم كله دستور المسلمين، حاله كحال الكتب السابقة في الأمم السابقة، إلّا أن سورة المائدة تعالج موضوع المواثيق هذه من جهات مختلفة، كما وتسوق عدد من البنود في هذا الميثاق خاصة في موضوع المشرب والمأكل.

فتتحدث سورة المائدة عن المواثيق والعقود التي تحكم المسلمين في كل شؤون حياتهم. وتهتم السورة بقضية الإلتزام بشرع الله تعالى وطاعته، إلتزاما نابعا من تعظيم الله سبحانه وتعالى وشكره على نعمه وآلآئه الكثيرة، والسورة غزيرة بالتشريعات والأحكام. فتتوسع بداية في ذكر التشريعات التي تخص النعم والطيبات، خاصة فيما يخص حليّة أكل الأنعام، وتقديم الأضاحي والهدي منها في بيت الله الحرام. وتبشّر سورة المائدة بتمام وكمال الدين الإسلامي، وقدرته على استيعاب كل جوانب الحياة. ومع اكتمال صرح هذا الدين، تساق هذه التشريعات في موضوع الطيبات كجوائز للمسلمين، ودلالة على سعة دينهم الحنيف.

وبعد هذه المقدمة، تنطلق السورة إلى محور آخر، فتستدعي بداية الميثاق الذي أبرمه الله سبحانه وتعالى مع المسلمين في سورة النساء، وهو هدف السورة ومحورها الأكبر، حيث يقول الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)، فإقامة العدل هو جوهر الميثاق الرباني مع المسلمين. ثم تعرض الآيات عددا من الموايثق الربانية مع الأمم السابقة، فتعرض ميثاق الله مع اليهود، ثم مع النصارى. ثم تتحدث الآيات عن نموذج يلخص موضوع الميثاق هذا كله، وهي الحادثة التي أمر الله فيها موسى عليه السلام وقومه بأن يدخلوا الأرض المقدسة، ولكنّ بني اسرائيل تخاذلوا عن الوفاء بهذا العهد، فتاهوا في الأرض أربعين سنة.

ثم تنطلق الآيات لتبيّن طبيعة النفس البشرية، وكيف أنّ مواثيق الله سبحانه وتعالى وحدها يمكن أن تعالج هذا القصور، فتروي الآيات قصة ابني آدم، حين قربا لله قربانا، فتقبل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، لأن الله إنما يتقبل من المتقين، عندها سارع هذا الذي لم يتقبل منه، فقتل أخيه الإنسان، في دلالة واضحة بأن الإنسان في طبيعته الآولى متعطش للدماء، ولا يردعه عن القتل والنهب والسرقة إلّا مراقبة الله وتقواه، ولذلك ذكرت الآيات حد الحرابة وحد السرقة، وذلك لحفظ الأمن العام للمسلمين.

ثم تنطلق الآيات إلى محور آخر، وهو ذكر فضل الكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على البشر، فهي العقود والدساتير الربانية لبني آدم، فتذكر الآيات فضل التوراة والإنجيل التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على موسى وعيسى عليهما السلام. ثم تذكر فضل القرآن الكريم، وأنه هو المهيمن على هذه الكتب. ثم تذكر الآيات أسباب نكوص الناس عن مواثيق الله سبحانه وتعالى، وهي أسباب تنشأ من القلب، فمن عظّم الله سبحانه وتعالى تمسك بدينه، ومن والى الكافرين تبعهم على نهجهم، وارتد عن دين الله تعالى. إمّا اليهود فقد وقعوا في التفريط، فهم ناصبوا الله سبحانه وتعالى العداء، فحق عليهم حينئذ اللعن. إمّا النصارى فغالوا في نبيّهم حتى حرّفوا شرع الله سبحانه. وتقف الآيات هنا طويلا عند موضوع المغالاة هذا، فتنبه المسلمين على عدد من المسائل التي تحذرهم فيها من الغلو في الدين.

ويستكمل موضوع المواثيق في آخر السورة، بذكر شهادة الأنبياء على أممهم يوم القيامة. وتسوق الآيات شهادة عيسى عليه السلام، حين سأله الله سبحانه وتعالى عن موضوع تأليه النصارى له ولأمه، في مشهد رهيب، كفى به موعظة لمن ألقى السمع وهو شهيد. وتسوق الآيات قبل نهاية السورة قصة طلب بني اسرائيل من عيسى عليه السلام أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء، لتكون لهم عيدا متكررا يشهدون فيه كل عام بأنهم شهداء لله سبحانه وتعالى (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ)، فهل يبقى للنصارى بعد هذه القصة من حجة.

السورة أيضا تدور حول محور حفظ الأنفس، بدأت بالجهاد في قصة التيه، ثم تحولت إلى موضوع حفظ الأنفس في القصص التالية.

 


 

 

Contents

1.                      فاتحة في موضوع السورة: الوفاء بالعقود والعهود 3

2.                      الآيات (1-3): تعظيم شرع الله سبحانه وتعالى. 4

3.                      الآيات (4-6): إتمام النعمة. 5

المحور الثاني: مواثيق الله مع البشر: 6

4.                      الآيات (7-11): ميثاق الله مع المسلمين. 6

5.                      الآيات (12- 13) ميثاق الله مع اليهود، ونقضهم له  7

6.                      الآيات (14- 17): ميثاق الله مع النصارى ونقضهم له  8

7.                      الآيات (18-19) نصيحة آخيرة: 9

8.                      الآيات (20-26): قصة التيه كمثال متكامل لنقض الميثاق  10

المحور الرابع: مواثيق لحفظ النفس البشرية: 11

9.                      الآيات (27-32): قصة ابني آدم 11

10.                    الآيات (32-40): حدّي الحرابة والسرقة. 12

محور الخامس: المواثيق والكتب التي أنزلت على البشر: 13

11.                    الآية (41): مواساة الرسول محمد ﷺ من نقض بعض أصحابه للميثاق  13

12.                    الآيات (42-45): فضل التوراة والإنجيل: 14

13.                    الآيات (48-50): منزلة وفضل القرآن الكريم: 15

المحور السادس: أهم السبل التي تؤدي إلى التخلي والنكوص عن مواثيق الله سبحانه: 16

14.                    الآيات (51- 58): ولاية الكافر طريق للردة 16

15.                    الآيات (59-69): مجادلة ومحاججة أهل الكتاب وبيان منزلة المشرع سبحانه عندهم 17

16.                    الآيات (70- 81): نكوص اليهود والنصارى عن الميثاق  18

17.                    الآيات (82-86): صفات من آمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم من بني آسرائيل  19

المحور السابع: إتمام النعمة: 20

18.                    الآيات (87-91) الغلو سبيل غير محمود العواقب   20

19.                    الآيات (92-100): طاعة الله تنبع من تعظيمه سبحانه وتعالى وتقواه 21

20.                    الآيات (101-105): حرمة التنطع والغلو. 22

21.                    الآيات (106-108): تشريعات في توثيق وصية الميّت   23

22.                    المحور الثامن: شهادة عيسى عليه السلام على قومه  24

23.                    الآيات (109-120) جمع الرسل يوم القيامة وطلب شهادتهم 24

24.                    الآيات (112-115): قصة المائدة: 25

25.                    الآيات (116-120): شهادة عيسى عليه السلام على قومه يوم القيامة  26

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 2

1.     فاتحة في موضوع السورة: الوفاء بالعقود والعهود

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)

 

تفتتح سورة المائدة بنداء عام للمؤمنين بأن أوفوا بالعقود. والنداء هنا جاء ثمرة ونتيجة لمقدمات ساغتها السور السابقة، فقد مهدت وأصلت السور السابقة للمشروع الرباني في هذه الأرض، وذكرت أهمية القيام بأمره وحفظه وحمايته، ولقد انتهت سورة النساء بتأصيل قيام الدولة الإسلامية، وبنت مشروع الأمة الدائم، والذي هو امتداد لرسالة المرسلين في هذه الأرض. ولتأتي هذه السورة هنا آمرة بالتمسك بتلكم المواثيق والعقود، والقيام بتلكم العهود جميعا. ولذلك تأتي هذه الآيات الكريمات في إطار قوله سبحانه وتعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا). وشرع الله واسع، وقد أتى القرآن الكريم كله لشرح معانيه وأهدافه، ولكن السور السابقة مهدت لهذا الشرع جميعا، وأن الله هو الشارع، وأن المؤمنين هم الموكولون عليه بممارسته وحمايته.

وقد تقدم في سورة النساء بإن الله هو مالك السموات والأرض، وأن له الحكم والأمر، فإذا ثبتت الأحكام، فلا بد بعد ذلك من الإلتزام، والعلاقة بين الحكم والإلزام علاقة وثيقة، وذالك هو الحال بين سورتي النساء والمائدة، ولذلك أختتمت هذه الآية بقوله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ).

إن السور السابقة قد أتمت التعليلات اللازمة لإقامة شرع الله سبحانه وتعالى في أرضه، وقد دعت المؤمنين لحماية هذا الدين ونصرته. والكتاب العزيز جاء ليتم مشروع هذا الدين، وليوضح منهاجه، وليقيم دولته، وليضع لهذه الأمة دستورها الدائم. لقد حرص القرآن الكريم على وضع البراهين الثابتة ليؤمن الناس بالله سبحانه وتعالى وشرعه، فأقام عليهم الحجة بإرسال رسوله وإنزال كتابه. فإذا تحقق ذلك، فلا بد من الوفاء بأمر الله سبحانه وتعالى وإتباع شرعه وأمره، وهذا ما تركز عليه هذه السورة المباركة، وهو الإلتزام بشرع الله الحنيف، والوفاء بأحكامه وتشريعاته.

والخطاب هنا في هذه السورة للمؤمنين خاصة، وقد تكرر النداء لهم بقوله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) 16 مرة، وهو الأكثر تكرارا بين سور القرآن الكريم جميعا.

والعقد في صورته البسيطة، هو كتاب يحتوي شروطا بين المتعاقدين، كما ويحوي العقوبات المترتبة على مخالفة تلك الشروط. ولا يخفى هنا بأن المقصود بالكتاب هو الكتب التي أنزلها الله على عباده تترى، ولذلك تتوقف سورة المائدة طويلا مع النور الذي أنزله الله سبحانه وتعالى في التوراة والإنجيل والقرآن. إنّ الحكم لا يكون إلا بما أنزل الله سبحانه وتعالى في هذه الكتب، فهي مصادر للتشريع الرباني، والله يحكم ما يريد.

والعقود على نوعين: منها ما يكون بين الناس بعضهم بعضا، فيحفظ حقوقهم ويقيم مصالحهم، ومنها ما يكون مع الله سبحانه وتعالى، وذلك هو المقصود في هذه السورة المباركة، وأعظم عقد هو عقد العبودية، وكل التشاريع الربانية الأخرى هي بنود في ذلكم العقد الأكبر.

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 3

2.     الآيات (1-3): تعظيم شرع الله سبحانه وتعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

 

تزدحم هذه الآيات القصيرة بعدد من الهدايات والفوائد الغزيرة، وتتسلسل الأحكام الشرعية في سورة المائدة عامة بشكل كبير ومتواصل، وكأنها بنود مسطرة في دستور أو ميثاق. وأكثر هذه الأحكام تدور في موضوع الطيبات والأنعام، وكأنها نعم وجوائز حباها الله للمؤمنين خاصة بعد أن تم دينه وأحكم شرعه. ولقد ذكر الله حِليّة أكل البهائم بعد الأمر بالوفاء بالعقود مباشرة، وكأنها جائت في سياق الجائزة الربانية التي حباها الله لعباده، والأنعام من أعظم نعم الله تعالى على الناس، يأكلون لحمها، ويشربون من لبنها، ويلبسون من صوفها ووبرها، ويحملون عليها متاعهم. والآيات تسوق عدد من المحرمات التي ينبغي أن يتجنبها الناس، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها من المأكلوات التي تنفر عنها الفطر السليمة، فلله الحمد أن حرّمها.

والآيات تدعو إلى تعظيم شرع الله سبحانه وتعالى وشعائره، خاصة عند المسجد الحرام، ولمن قصده حاجا أو معتمرا. وهنا رتبة أخرى من الإلتزام يطلبها الشارع الحكيم من عباده المؤمنين، فلا صيد ولا تعدي على الأشهر الحرم بالحرب والقتال فيها، ولا تعدي على الهدي والقلائد، وهي النوق التي تساق إلى الهدي، وقد علقت فيها القلائد علامة لها بأنها من الهدي. ويحرم التعدي هناك حتى وإن حصل الشنآن والخلاف. والآيات هنا تعطي نموذجا للإلتزام الذي يطلبه الشرع الحنيف من عباده المؤمنين، إلتزام تعظيم لله سبحانه وتعالى، وكلنا نعلم مدى الإلتزام الذي يصله الحاج والمعتمر لبيت الله تعالى، ومدى تعظيمهم الكبير للشعائر حينئذ.

والتعظيم لا بد أن يكون لله سبحانه وتعالى وحده، ولا يدخله شيء من آثار الجاهلية وعبادة الأصنام، ولذلك حرّم ما أهل لغير الله، وما ذبح على النصب، وحرّم استقسام بالأزلام، فكل ذلك فسق، لا يتوافق مع شرع الله الحنيف.

وهكذا تتوج هذه النعم شرائع الله سبحانه وتعالى، وأكبر نعمة إنما هي الإسلام، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه وثباته إلى يوم الدين، فلا ينبغي للمسلمين بعد ذلك الخوف من زوال وضياع هذا المصدر الرباني، بل فليخافوا على أنفسهم أن لا يتمسكوا به، فتزول عند ذلك هيبتهم ودولتهم. فليعلم المؤمنون بأن شرع الله تام، ودينه كامل، وأنه مصدر العزة والسؤدد، وأن ما سواه عمل بشرى قاصر لا يستوعب حاجة الإنسان فضلا من أن يكون مصدرا لسعادته في الدنيا والآخرة، وهكذا نجد بأن هذه الآيات تصدح بتمام وكمال شرع الله سبحانه وتعالى، فحق بعد ذلك الإلتزام به وجعله دستورا خالدا للمسلمين.

إنّ هذه الآيات القصيرة هنا تبيّن أهمية الألتزام بشرع الله سبحانه وتعالى، وأنها بمثابة العقود الثابتة بين العبد وربه، ثم توضح روح هذا الإلتزام وأنه مبني على تعظيم شرع الله سبحانه وتعالى ونبذ ما سواه. ثم تذكر بأن هذا الشرع تام كامل لا يكدره خلل أو زلل، بل هو سبيل للنعمة والرقي والإزدهار.

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 4

3.     الآيات (4-6): إتمام النعمة

 

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) 

 

إن أكبر نعمة هي نعمة الإيمان بالله سبحانه وتعالى وإتباع شرعه، والله سبحانه وتعالى أنزل أكمل الكتب وأوفى الشرائع للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته، وهل من نعمة أكبر من هذه النعمة. والآيات هنا تذكر هذه النعمة العظمى في خضم نعم أخرى أختص الله بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته. فتركز الآيات على ذكر الحلال الطيب من الأنعام والتشريعات المستوعبة لهذا الجانب، وهي نعم واردة مورد التشريعات، نعم مستوعبة للحاجات الجسدية والنفسية للناس.

 فتبدأ الآيات في ذكر أن الله أحل "لكم" أيها المسلمون الطيبات من الأنعام وحرّم عليكم الخبائث، إنها تربية للنفس بأن تقترب من كل ما هو طيب طاهر وتبتعد عن كل نجس خبيث. وسورة المائدة تتوسع كثيرا في ذكر ما يحل ويحرم من الأنعام، ومن تيسير الله سبحانه وتعالى أنه أحل صيد الكلاب المدربة المعلمة، فيمكن للمؤمنين أن يتوسعوا في هذا الجانب، تدريب الحيوانات وتعليمها فيما يفيد وينفع.

ومن تيسير الله سبحانه وتعالى أنه أحل طعام الذين أوتوا الكتاب، وأحل أيضا نكاح المحصنات منهم، وكل ذلك من نعم الله وجوائزه على المؤمنين. والله طاهر يحب الطهر، ويحرّم الخبائث في المأكل والمنكح، فليتمسك المسلمون بأسباب الطهر والعفة، وليتركوا السفاح، وإتخاذ الآخدان.

وبعد ذكر تلبية الحاجات الجسدية النفسية، تلبية تستوعب التيسير وطلب الطهر، تستمر الآيات في ذكر نعمة أخرى، وهي تشريع التيمم عند عدم وجود الماء. والإسلام دين التيسير والطهر، كل أحكامه هكذا. يقول سبحانه (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

إنّ الإلتزام بشرع الله واجب شرعي، ولكنه واجب نابع من محبة وتعظيم للشارع سبحانه وتعالى وتعظيم لهذه الشعائر والأحكام. ذلك لأن المؤمن يعلم بأن هذا الشرع رحمة ونعمة من الله سبحانه وتعالى، وسبيلٌ للفلاح والنجاح، وهو فوق ذلك شرّع ميسّر ينشد الطهر والنقاء لبني البشر. وفي هذه الآيات إشارة أيضا بأن الدين الإسلامي جاءا رافعا للأغلال التي كانت على بني اسرائيل بسبب عنادهم، فالله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، احل جميع الطيبات التي كانت محرمة على أهل الكتاب، وأحل ذبحهم ونكاحهم أيضا.

 

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 5

المحور الثاني: مواثيق الله مع البشر:

1.     الآيات (7-11): ميثاق الله مع المسلمين

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) 

 (ومن إتمام النعمة، هو شرع الله الذي أتمه، وموثقه الذي أوثق)

كانت الآيات السابقة بمثابة المقدمة لهذه الآيات، فقد تحدثت عن الوفاء بالعقود والمواثيق، وبيّنت أهميّة ونوعيّة الإلتزام الذي يطلبه الإسلام من المؤمنين، وهو إلتزام منطلق من تعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى، وأنّ هذه الشريعة وهذه الأحكام هي من أكبر النعم التي أولاها الله سبحانه وتعالى للمؤمنين لتقيم لهم دولة التقوى والعدل والمساواة. وتنتقل هذه الآيات هنا لذكر معالم هذا الميثاق، الذي سيكون بين الله وعباده المؤمنين.

يقول سبحانه وتعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)، فالميثاق نعمة وتشريف للمؤمنين، والتشريف كما هو معلوم على قدر التكليف. والآيات تتحدث بأن الميثاق قد تم وأن الطرفين قد تعاقدا وتواثقا، وأن المؤمنين قد قالوا سمعنا وأطعنا، فالحجة إذن قد قامت. وبعض المفسرين يرجع هنا إلى آية الذر فيقول أن الميثاق فطرى وقد كان منذ أن خلق الله آدم، استدلالا بقوله سبحانه وتعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) الأعراف (172).

كما وقد مر معنا ذكر السمع والطاعة من المؤمنين في موضعين في القرآن الكريم، يقول سبحانه وتعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) البقرة. ويقول عز وجل  في سورة آل عمران (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)آل عمران. والمؤمنون يبايعون الله ورسوله في كل حين، وهم منذ أن أعلنوا الشهادة قد سلّموا أنفسهم مذعنة لأمر الله سبحان وتعالى.

ولعل الشهادة في سورة البقرة مبنيّة على النظر العقلي، بينما سورة آل عمران فمبنيّة على الإيمان والتسليم

ثم تذكر الآيات الميثاق الذي أقامه الله مع المؤمنين، يقول سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (8). وهي آية تتشابه مع ما قد سطر في سورة النساء، حينما بلغت السورة ذروة مقامي التقوى والعدل، وأنّ هذين الشرطين هما عماد القيام بالعمل الصالح وعمارة الأرض. يقول سبحان وتعالى في ذلكم المقام:

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)

فالمبايعة هنا قائمة على شرطي القيام بالقسط والتقوى، وذلك هو محور سورة النساء، إنها آيات تبحث عن قيّم العدل والمساواة والبحث عن الحرية بعيدا عن تسلط الطواغيت، بل هي حريّة قائمة على العبودية لله سبحانه وتعالى والإهتداء بهديه. والآيات هنا تقيم بنيان هذا التصور على حقيقة أن الله هو ملك السوات والأرض ومالكهما، في فلسفة عميقة تحتاج إلى دراسة متوسعة.

ثم تنتقل الآيات لذكر الجزاء، فالمؤمنون الموفون لهم المغفرة والأجر العظيم الذي يورث التقدم في الدنيا والفلاح في الآخرة. وأمّا الكافرون الناكثون فلهم عذاب الجحيم، ولم تذكر الآيات هنا أي جزاء لهم في الدنيا، بل ذكرت جزاء الآخرة فقط، ولعل ذلك لأن التقدم في الدنيا جائز للكافرين، ولكنه تقدم منبت ومنقطع عن النعيم في الآخرة. ثم تذكر نعمة الله تعالى على المؤمنين مرة أخرى، وذلك في مقام الحفظ والحماية، فالله سبحانه وتعالى ينصر ويحمي عباده الموفين بالعهود، القائمين بالقسط والتقوى، والآيات تذكّر بحوادث واقعة، وهي لا شك سنة مضطرده.

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 6

2.     الآيات (12- 13) ميثاق الله مع اليهود، ونقضهم له

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) 

 

وبعد أن ذكرت الآيات السابقة ميثاق الله سبحانه وتعالى مع المسلمين، تتابع هنا الآيات سرد تأريخ هذه المواثيق الربانية مع البشر، لتبيّن أهمية هذه المواثيق، وأنها كانت جزءا من منظومة الدعوة الربانية للإنسان، ولطالما أبرمت العقود مع الإنسان بأن يؤمن بالله ربا وأن يتخذ أحكامه مرجعا ليحاته. وتسوق الآيات هذه العقود والعهود في مقام تمام النعمة والرحمة لهم. وتبيّن الآيات هنا عاقبة من نكث هذه العقود.

تذكر الآيات هنا ميثاق الله سبحانه وتعالى مع اليهود، فتبيّن معالم هذا الميثاق وعاقبة النكوص عنه. والله يمتّن على بني اسرائيل بأن جعل منهم أثنى عشر نقيبا وسيّدا يرجعون إليهم ويأتمرون بهم. والميثاق هنا يحوي شروطا من الجانبين، من الله سبحانه وتعالى ومن طرف اليهود أيضا. أمّا من طرف الله سبحانه وتعالى فهي معيّته سبحانه وتعالى، وهي معيّة عناية ورعاية ونصرة. وهل من خير فوق هذا الخير، لقد بعث الله الرسل تترى في بني اسرائيل لتقربهم منه سبحانه وتعالى، ولتخلصهم من عذاب التبعية لفرعون وجنده. وقد أمرهم الله سبحانه وتعالى بأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأن يؤمنوا بهولاء الرسل الذين أرسلوا إليهم ويتبعوهم وينصروهم، وأن يقدموا أنفسهم وأموالهم لله سبحانه وتعالى.

إنّ المطلوب من اليهود الإيمان بالله سبحانه وتعالى ورسله، وعبادته سبحانه وتعالى والخضوع في محرابه، وتقديم النفس والمال من أجل نصرة هذا الدين الحنيف. إنه إيمان نابع من عقيدة راسخة، وعبادة صادقة، ليثمر سلوكا حميدا، فيقود صحابه لأن ينصر الله ورسله بنفسه وماله. أمّا الجزاء فهو دنيوي وآخروي، فالدنيوي هي المغفرة للذنوب، والتوفيق للعمل الصالح، وأما الأخروي فهي جنات النعيم التي وعد الله عباده الصالحين. وأما المتنكبين عن هذا الميثاق وتلكم البيعة، فإنهم في ضلال بعيد، في الدنيا والآخرة.

واليهود تنكبوا عن هذا الميثاق ونقضوا هذا العهد، فحق حينئذٍ عليهم الضلال، فبدل أن ينالوا معيّة الله سبحانه وتعالى، نالوا غضبه ولعنته، فطردوا من حرم الله سبحانه وتعالى ورحمته. وبدل أن ترق قلوبهم بالإيمان والطاعة، قست قلوبهم فصارت كالحجارة أو أشد قسوة. والقلوب إنما ترق بالخضوع لله سبحانه وتعالى وعبادته، فإذا أغلقت هذه المنافذ غلظت وقست. وإذا قست القلوب أرتكبت كل الحماقات، يقول سبحانه وتعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ). لقد تشرد اليهود في الأرض، وما زالوا قساه القلوب، معادين لله سبحانه وتعالى وللإنسانية، يحرفون كلامه، ويتقولون بأسمه، ويسعرون للحروب والخراب في كل محفل.

 

ثم تختتم الآيات بتوجيه أمر لرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصفح عنهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وهذا كان مع بداية دعوته صلى الله عليه وسلم، فهنا رجوع لأصل المعاملة بأن يعامل هؤلاء كما يعامل غيرهم، بأن يعفى عنهم ويصفح رغبة في إيمانهم ودخولهم في الميثاق الجديد، فإن آمنوا بالله ورسوله فيقبل منهم، وإن تنكبوا مرة آخرى، فيعاملوا حينئذ بما هم أهله.

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 7

3.     الآيات (14- 17): ميثاق الله مع النصارى ونقضهم له

 وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)

وبعد ذكر ميثاق الله سبحانه وتعالى مع أمه محمد صلى الله عليه وسلم ومع اليهود، تنتقل الآيات هنا لذكر ميثاق الله مع النصارى، ولا تذكر الآيات هنا تفاصيل وبنود هذا الميثاق، وذلك لتشابه هذه المواثيق جميعا، وخاصة رسالة عيسى عليه السلام، إنما أتت مكملة لدعوة موسى عليه السلام. إنما تذكر الآيت تنكب النصارى لهذا الميثاق، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، فهم أصلا أهل دعوة تعاقبت عليهم الرسل لترسيخها في نفوسهم، ولكنهم نسوا ذلك كله وغفلوا عنه، وهذا هنا يذكرنا بما صار مع آدم عليه السلام "وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)" طه.

إنّ النسيان والغفلة عن الحق آفة عظيمة تضيع معها الحقوق، وتنتكس بسببها الآمم، فأنّى لأمة أن تغفل عن مبادئها وتتنكب عن أسباب وجودها وأصول نجاحها. فالإهتمام بالشرع تعليما وتأصيلا واجب لا مناص لتركه والتغافل عنه، وإلّا فإن تلك المبادئ سرعان ما تضيع وتنسى. وهذا ما حدث لأمة النصارى. ولذلك عوقبوا بكثرة الخلاف بينهم، ضيّعوا الأصول وأسباب الوحدة فسرت إليهم أسباب الخلاف، والنزاع والبغضاء، وهي معالم نكاد نراها في أمة الإسلام وللأسف العميق.

والقرآن الكريم هنا يذكّرهم بأن أسباب الخلاف تلك سوف تحل جميعا مع قدوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهو وحده القادر على أن يجمع كلمتهم بعد أن تمزقت، ويهدي النفوس بعد أن تباغضت، وما أسوأ النفوس المتنكرة للحق، والمقبلة لنصرة النفس، تلك النفوس هي التي تخفي الحق وتكتمه، وتحرّف الكلم عن مواضعه، إمّا حسدا أو طلبا لمكانة دنيوية، والله لا يقبل إلا من النفوس السليمة التي بحثت عن الحق وسلّمت له.

إنّ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أتت لتحل الخلفات وتزكي النفوس، وتهدي إلى معالم الحق، وذلك في وضع مشابه لما جاء به عيسى عليه السلام لقومه، فهم كانوا أصحاب رسالة ولكنهم تنكفوا وتنكبوا عنها، والقرآن جاء ليخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهداية، في نفس الغرض الذي جاء من أجله الإنجيل من قبل، فلماذا لا يعامل النصارى القرآن معاملتهم للإنجيل.

وأول ما يكشفه القرآن الكريم، هو زيغ النصارى في تأليههم لنبيهم عيسى بن مريم عليه السلام، وهي الغلطة الكبرى التي وقع فيها النصارى، الإشراك بالله سبحانه وتعالى، وزيغ عن مبدأ التوحيد الذي جاء به الأنبياء جميعا. وتبيّن الآيات بأن في هذا تعديا واضحا على الله سبحانه وتعالى، فهو وحده ملك السموات والأرض والمتحكم فيها، فكيف بعد ذلك يحق لهؤلاء أن ينازعوا الله ملكه وجبروته.

 


 

 قراءة في سورة المائدة ( ( 8

4.     الآيات (18-19) القرآن هو المرجع:

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)

والغرور مرض عضال، يصيب من نال شيئا من أسباب العلم والقوة، يظن عندها أنه قد أمتلك الحقيقة، بل ونال القرب من الله سبحانه وتعالى، وبدل أن يتواضع اليهود والنصارى لله سبحانه وتعالى عندما أرسل لهم الآيات البيّنات، ويذعنوا للحق، أخذهم الغرور، وتكبروا على الناس وعلى أوامر الله سبحانه وتعالى، ثم راحوا يرفعون الدعاوى العراض الطوال، فهم قديما شعب الله المختار وأبناء الله وأحبائه، وهم اليوم أفضل الخلق، وأرفعهم في سلّم الخلق والعلم. وهكذا يشخّص القرآن الكريم مرض اليهود والنصارى بأنهم قد أصابهم الغرور، وأن عليهم حينئذٍ أن يتواضعوا لله وللبشر حتى يرجعوا إلى جادة الحق والعدل. وتذكذرهم الآيات بأنهم بشر لا يختلفون عن غيرهم في شيء، والله يعاملهم مثل ما يعامل غيرهم، بميزان لا يختلف، والله وحده هو ملك السموات والأرض.

وهكذا تستعرض الآيات هنا المواثيق مع اليهود والنصارى، وهي أيضا تعرض أهم الأمراض التي وقعوا فيها في هذا الجانب، فاليهود تنكبوا لأوامر الله تعالى وجحدوها، بينما نسي النصارى تعاليم الله سبحانه وتعالى التي أنزل وأحكم، وأن اليهود والنصارى قد أصابهم الغرور والعجب والتكبر. وهو تشخيص عظيم لداء هذه الأمم، ينبغي للمسلمين الوقوف معه طويلا والتعلم منه.

والآيات تختتم بنداء صادق لليهود والنصارى بأن يتركوا التعالي وأمراض النفوس، وأن يقبلوا للحق ويصغوا إليه، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم جاء حجة عليهم يوم القيامة، يهديهم إلى صراط الله المستقيم، ويبيّن لهم أسباب ضلالهم وخلافاتهم السابقة جميعا، فهّلا صغوا له، واستمعوا إليه.

ونستذكر هنا درجة الجحود التي وقع فيها اليهود، فهم نقضوا مواثيقهم عن إصرار وتكبّر، يقول الله سبحانه في سورة النساء: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)).

 

 

 

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 9

5.     الآيات (20-26): قصة التيه كمثال متكامل لنقض الميثاق

 وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)

 

وبعد أن استعرضت الآيات المواثيق مع الأمم السابقة، وأهم الأمراض التي وقعت فيها في هذا الجانب، تقدم الآيات هنا مثال جامع في موضوع الميثاق وعاقبة من نقضه. وتبدأ الآيات بتذكير الله سبحانه وتعالى اليهود على لسان موسى عليه السلام بالنعم الكثيرة التي أنعمها الله سبحانه وتعالى عليهم، وأكبر هذه النعم ولا شك هي الهداية والرعاية من الله سبحانه وتعالى. والله قد جمع لليهود خيري الدنيا والآخرة، فجعل فيهم أبياء وملوكا، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، ومن تقدم لله رفع منزلته ورقّاه، ومن تنكب أضله وخذله.

إنّ الميثاق في أصله نعمة عظيمة، فهو دستور الله الشامخ الذي يحفظ الأمم ويقيم بنيانها، ولذلك فمن تنصل عن هذا الميثاق إنما تنصل عن سنن الحق والهدى، وترك هدايات الله وراء ظهره، ولذلك ينال جزائه المنوط به، هكذا خلق الله سبحانه وتعالى الكون، تسيّره قوانين ثابتة.

والله سبحانه وتعالى في هذا الموقف قد طلب من اليهود الإلتزام بعهدهم والوفاء بمواثيقيهم، ولقد حان الموقف هنا بأن يرخصوا أنفسهم وأموالهم لله سبحانه وتعالى، فأبواب الجهاد في سبيل الله قد فتحت وشرّعت.  وهكذا تبيّن الآيات ذروة التفاني الذي ينبغي أن يقدمه المؤمن من أجل إيمانه ومبادئه وقيّمه. والجهاد سنة من سنن الحياة التي لا مناص عنها. إنّ الله سبحانه وتعالى نجّى بني اسرائيل من ظلم فرعون وأراهم المعجزات العظيمة حتى قادهم موسى عليه السلام إلى أبواب الأرض المقدسة، فطلب منهم دخولها، وحذرهم بالخسران إن هم لم يفعلوا، ووعدهم سبحانه وتعالى بالنصر إن هم أقدموا على ذلك " فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ".  ولكنهم تنكبوا عن ذلك ونقضوا الميثاق. وهل يخاف من وعده الله بالنصر والتمكين.

لقد أعتذر بنو اسرائيل بأعذار واهية، فقالوا "إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ" ولعلهم كانوا العماليق وهم معروفون بجلدهم. إن الدين بحاجة إلى تضحية وفداء، وصدق إيمان مع الله سبحانه وتعالى، ولا يحتاج إلى نفوس خائرة خانعة للعبودية والظلم، فلكل شيء ضريبة، وضريبة النصر هو الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى. ولذلك يمكننا هنا أن نناقش موقف الصحابة رضوان الله عليهم في معاركهم الأولى مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لقد كان موقفهم مغايرا لهذا، ولذلك استحقوا النصر والتمكين، فمما ذكر في السيرة أن المقداد بن  عمر قد قال لرسول صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه".

لقد تكررت الدعوة من موسى عليه السلام على قومه، فلم يستجب منهم أحد إلا رجلين مؤمنين صالحين، خافا الله سبحانه وتعالى، والخشية من الله سبحانه وتعالى سبب عظيم للفوز والفلاح، ولكن ماذا يغني الرجلان في مثل هذه المواقف، إنّ الجهاد بحاجة إلى عدة وعتاد واستعداد نفسي ومادي، وذلك ما تنصل عنه بني اسرائيل فقالوا (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ). إنّ موسى عليه السلام بذل قصار جهده في سبيل نصح وهداية بني اسرائيل ولكنهم قوم أعماهم الفسق والفجور عن إتباع مراشد الإيمان، ولذلك دعى موسى ربه بأن يفرق بينه وبينهم، فكان التيه في الصحراء لمدة أربعين سنة. قد أراد الله لهذه العصابة أن تعمر الأرض بهدي الله، ولكنهم تنكبوا عن الحق فكان عاقبتهم التيه فيها.

إنّ الجهاد والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى هو السبيل لإقامة دولة الحق، وحفظ آمنها واستقرارها. ولا تكون دولة من دون القيام بواجب الحماية وحفظ الآمن لمواطينها ورعاياها. إنّ توفير الأمن هو الشرط الأول للقيام بمشروع الدولة، ولا يكون أمن من دون جهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى. إنّ الأمة لا يبنيها من رضي بالعبودية، والإذعان للعدو، بل التضحية في سبيل الله تعالى هي الخطوة الأولى من أجل القيام بواجب عمارة الأرض، وكل ذلك لا يحدث دون صدق إيمان مع الله سبحانه وتعالى. إنّ موضوع التيه في الأرض مازال يتكرر مع أمة الإسلام اليوم، وهي بحاجة إلى وقفة جادة معه، وباب ذلك هو حفظ الجانب الأمني للأمة فتكون عوامل استقرارها الأمني داخلية بدل أن تكون في أيدي أعدائها.

 

 

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 10

المحور الرابع: مواثيق لحفظ النفس البشرية:

1.     الآيات (27-32): قصة ابني آدم

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

وتنتقل الآيات هنا لذكر أحد أهم المواثيق وأقدسها، وهي حرمة قتل النفس البشرية، ذلك لأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. إنّ الآيات هنا تنتقل بالحديث إلى بعد آخر، وهو الطبيعة الأولى للنفس البشرية، ذلك لأنها تتحدث عن ابنين اثنين من أبناء آدم أختلفوا، ولا تحدد الآيات زمان ذلك ولا مكانه. فالآيات هنا تعالج الطبيعة البشرية الأولى وتضع لها القوانين والمواثيق الازمة لحفظها. فهنا استهلال ومقدمة تشرح بعض معالم وطبيعة النفس البشرية، قبل أن تخوض الآيات بعد ذلك في ذكر بعض المواثيق التي تخص تعدي الإنسان على أخيه الإنسان بالقتل والنهب. وسورة المائدة في المجمل تركز على محور حفظ النفس، وذلك من أهم خصائص شرع الله تعالى، والجهاد في سبيله سبحانه وتعالى، الحفاظ على الأموال والأنفس، وحفظ الأمن والأستقرار لبني آدم. والآيات السابقة ذكرا مثالا على نقض الميثاق في مقام الأمة، بينما تذكر الآيات هنا مثالا على نقض الميثاق في مقام الفرد الواحد، وهكذا القرآن الكريم يخاطب الأمة والفرد على سواء، ويضرب الأمثلة على كل منهما.

والخلاف بين الأخوين بدأ عندما قرّبا قربانا فتقبل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى إنما يتقبل من المتقين الذي يقصدون وجه سبحانه وتعالى، ولا يتقبل ممن ظلم نفسه وانساق لهواه. فالآيات تبدأ بذكر المقياس الصحيح لقبول الأعمال، وهو تقوى الله سبحانه وتعالى، وهي قاعدة مهمة ودرس عظيم للجميع، فالرجلان قد يعملان نفس العمل، ولكن منزلتهما عند الله ليست واحدة، ذلك لأن الميزان يعتمد على الإخلاص والتقوى، لا على صورة العمل الظاهرة. فهل حاكم المخطي نفسه أمام هذه القاعدة واستبصر تقصيره فيها، فعاود الكرة حتى يصحح أخطائه؟

إنّ المخطيء هنا لم يعر قاعدة قبول العمل هذه أي انتباه أو تقصي، وإنما استسلم لهواه، وأخذه العضب منه كل مأخذ. إنّ الحسد إذا تحكم في النفس غشّى عليها وأعماها عن رؤية الحق. والحسد من أكبر الآفات التي ابتلي بها الإنسان، ومن ثم استسلام الإنسان لغضبه بدل أن يستمع لصوت العقل والحكمة. ولذلك صرخ في وجهه بكل تبجح، ودون أي مواربة أو كتمان (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ)، ذهب إلى أقصى ما يستطيع من أذى. إن الإنسان إذا ترك لنفسه وغضبه العنان فإنه ينتكس في منزلة أدنى من الحيوان الضاري.

وإذا كان هذه هو موقف الأخ الحاسد، فما هو موقف الأخ المتقي لله سبحانه وتعالى، (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ). إنّ كل ما يفعله هذا الأخ منطلق من خوفه لله سبحانه وتعالى وتقواه، ولذلك كأنه خشي أن يشترك في الإثم إن هو قاتل أخاه، فالعراك بينهما قد لا يحمد عقباه، ومن يدري من الذي سوف يقتل في نهايته، ولذلك قطعا لكل أسباب الريب، كف يده ولم يبد أي مقاومة. ثم حذّره بأنه إن قتله سوف يحمل وزريهما جميعا، ولكن أنى للتحذير أن ينفع عند من تملكه الحسد وسكن نفسه.

إنّ الآيات تعطي دروسا عميقة في فهم الطبيعة البشرية ومدى تأثير تقوى الله فيها، هما أخوين أحدهما اتبع هواه والآخر خشي الله سبحانه وتعالى واتقاه، فاختلف مقامها عند الله، واختلف صنيعهما أيضا. إنّ تقوى الله سبحانه وتعالى ليست شعارا، ولكنها وحدها الكفيلة بتهذيب هذه النفس البشرية وإرجاعها إلى حضيرة الحق والعدل. والمسلم لا يعترض على حكم الله في كل حال، بل يرجع إلى سبحانه وتعالى ويتمسك بشرعه وهداه.

لقد طوّعت له نفسه بأن يقتل أخيه، ولعل القصة لم تحدث في موقف واحد، بل كان هناك تردد وحوار مع النفس، تحركت فيها أسباب الغيرة والحسد حتى غامرت نفسه فغلبتها، ثم هوت به في ظلمات القتل. إلّا أنه لما قتله شعر بالخسارة والفقدان، وهكذا هي طبيعة النفس، تثور وتخمد. فظل هنا حائرا لا يعلم ما يفعل بالحثة وكيف يتخلص منها، إلى أن بعث الله له غرابا ليريه كيف يواري أخاه، وهنا موقف تذكر فيه سورة المائدة قضية التعليم بين الإنسان والحيوان. فالعلم مجاله واسع، والإنسان يتعلم من كل ما حوله.

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 11

2.     الآيات (32-40): حدّي الحرابة والسرقة

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)  وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) 

 

يدور موضوع سورة المائدة على ذكر المواثيق، تأطيرا فكريا لها، وذكرا لأهم البنود التي ينبغي الوقوف عليها، ولقد كانت البداية مع ذكر الطيبات التي أحلها الله للمؤمنين، ثم كانت هناك جولة مع المواثيق التي أبرمها الله سبحانه وتعالى مع الأمم السابقة. وفي الآيات الماضية وقفت هذه السورة مع أهم الآفات التي تحملها النفس البشرية، إن هي لم تهذب وتهدى بشرع الله سبحانه وتعالى، فالتقوى وحدها سبيل الإصلاح لهذه النفس البشرية، وإلا أصبحت مسمومة بالغرور والحسد، وسعت لإهلاك الحرث والنسل.

وتستكمل الآيات هنا هذا الموضوع، فتذكر العاقبة الشنيعة للقتل، فقتل نفس واحدة يعادل عند الله قتل الناس جميعا، كما أن السعي لإحياء نفس واحدة يعادل عند الله إحياء الناس جميعا. إنّ منزلة النفس عظيمة في ميزان الله تعالى، ولذلك جائت العقوبات هنا صارمة على كل من يتخطى هذه الحدود. وتتوسع الآيات هنا في ذكر حدي الحرابة والسرقة.

والحرابة هي التعرض للناس بالقتل والنهب، كفعل قطاع الطرق، أو من يتعرض لأمن الناس فينشر بينهم الخوف والفزع، وهؤلاء بفعلهم هذا يحاربون شرع الله ورسوله. إنّ هؤلاء يُخِلّون بالأمن وينشرون الفساد في الأرض، ولذلك توعدتهم الآيات هنا بأشد أنواع العذاب، فعلى القائم بأمر المسلمين أن لا يتهاون مع هؤلاء، بل أمر (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ). وحفظ الأمن والسلامة بين الناس أمر لا يمكن التهاون فيه أبدا، والحدود لها أدوار منها أخذ الحق، ومنها زجر الناس عن القيام بالمنكر.  والآيات تذكر عاقبة هؤلاء الدنيوية والآخروية، وترغبهم في التوبة، وتسقط هذه الحدود الشديدة على من تاب وسلّم نفسه من قبل أن يُقدر عليه، وفي هذا ترغيب شديد لترك هذه الأعمال وتجاوزها، وحث لهم بأن يقبلوا إلى الله سبحانه وتعالى ؤيجاهدوا في سبيله بدل أن يكونوا أدوات في أيدي أصحاب الشهوات والأهواء.

وبعد ذكر حرمة التعدي على الأنفس، تتطرق الآيات إلى ذكر حرمة التعدي على الأموال، وكل هذه السلوكيات تخل بالنظام والأمن، ولا يمكن لمجتمع أن يكون مستقرا، وقد كثر فيه القتل والنهب. ولذلك كانت الحدود رادعة لمثل هذه السلوكيات الخاطئة. فالسارق تقطع يده، رجل كان أو امرأة. وعلى المجتمع أن يردع القائمين على هذه الأفعال، ويقف لهم بالمرصاد، وعليه أيضا أن يهييء أسباب الأمن، والرزق حتى لا يلجأ الناس لمثل هذه التصرفات غير المسؤولة.

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 12

محور الخامس: المواثيق والكتب التي أنزلت على البشر:

1.     الآية (41): مواساة الرسول محمد من نقض بعض أصحابه للميثاق

 يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)

وتنتقل الآيات هنا إلى محور آخر، وهو وجوب الوفاء بهذه المواثيق، فلا يحل الحكم إلا بما أنزل الله سبحانه وتعالى، وهذا هو أصل الميثاق القائم مع الله سبحانه وتعالى. إنّ العلاقة بين الإنسان وربه هي علاقة ملك وخلق، ولذلك فالله هو الحاكم باعتبارين:

1.     هو الخالق المالك: بيده ما في السموات والأرض، خلقا وتدبيرا، فالملك لله سبحانه وتعالى وحده، لا ينازعه في ملكه أحد، يعلم ما في السموات والأرض، ولا يؤده حفظهما.

2.     إنّ حكم الله هو أحسن الأحكام وأكملها، وشرعه سبحانه وتعالى إنما جاء هداية للناس من الظلمات إلى النور، ولذلك يقول سبحانه وتعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

والإسلام مشتق من الإستسلام لأمر الله تعالى، وأمر الله إمّا قدري أو تشريعي، وكليهما سنن الله الخالدة التي تحكم بناء هذا الكون. إنّ الملك والحكم لله وحده، ومن تعدى في هذا فقد نازع الله في ملكه وحكمه، وكيف للإنسان أن يتصرف في ملك الله سبحانه وتعالى بغير مراده وبخلاف سننه سبحانه وتعالى، هذا هو العهد، وتلكم هي ثمرة الإيمان، وما بعدها إلا الكفر والجحود بالله الخالق المعبود. إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بهذا الخير العميم وبهذه النعمة الكبرى ليهدي البشرية إلى سنن الله وطريقه سبحانه وتعالى، يعرّفهم بربهم ويرشدهم إلى منهج الله القويم، ولكنّ قومه لا يسمعون ولا يتبعون. إنّ سورة المائدة تمضي في موضوع المواثيق هذا حتى تصل إلى قضية الحكم بما أنزل الله، في إلتقاء مباشر مع سورة النساء، ولذلك فالسورتين يكمل بعضها بعضا. إنّ سورة النساء تبحث في موضوع إقامة الدولة الإسلامية بنفس خطى وأهداف المرسلين الكرام، وسورة المائدة تبحث في موضوع التشاريع والمواثيق التي تقيم بناء تلك الدولة، وهي الكتب المنزلة، وضرورة الحكم بما أنزل الله فيها. فالسورتات تتقاطعان في موضوع الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى. وهما يأصلان لموضوعين متقاربين، هما الإيمان بالرسل والإيمان بالكتب.

وإذا كان أتباع موسى وعيسى عليهما السلام قد تنكبوا لدعوتيهما، ونقضوا المواثيق، فلا تحزن يا محمد ﷺ، من فعل قومك، فلك في سيرة الأنبياء تسلية لنفسك. وأعلم أنّ من تنكب فإنما لأسباب وأمراض نفسية داخلية، سارعوا في الكفر والجحود بالله سبحانه وتعالى، وأقبلوا على الضلالة بألسنتهم وآذانهم، حتى بلغوا درجات عظيمة من التدليس والكذب والتحريف. قد وقعوا في الفتنة ورضوا بالرجس بدل الطهارة، وبالتأخر بدل التقدم، فاستحقوا الهوان في الدنيا والعذاب في الآخرة. إن دستور الله سبحانه وتعالى سبب للطهارة والتقدم والحضارة. والآية هنا بمثابة الجسر الذي يربط بين موقف الأتباع من مواثيق الله سبحانه وتعالى، وبين تفصيل الكلام عن أهم المواثيق التي أرسلت لهم، وسوف تتطرق الآيات الآتية إلى منزلة التوراة والإنجيل والقرآن وأهمية الحكم بما أنزل الله تعالى فيهما.

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 13

2.     الآيات (42-45): فضل التوراة والإنجيل:

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)

 

تواصل الآيات هنا الحديث عن من تنكب عن هدي لله سبحانه وتعالى من اليهود، واليهود في المدينة لهم طرق كثيرة في الخداع، ويتلبسون بكل لباس ليصلوا إلى مآربهم للخبيثة، يطلبون الحكم من الرسول ﷺ، لا لتنفيذ حكمه صلى الله عليه وسلم ولكن للمقارنة بين التوراة والقرآن وإحداث البلبلة. والشروط لتلبية وإستماع أحكام الحق منتفية عن هؤلاء، فهم سمّاعون للكذب، تنشط آذانهم لنشر الإشاعات، وترديد القيل والقال، ثم هم آكّالون للسحت. وهكذا لا يقيم شرع الله سبحانه وتعالى وأحكامه من طرب وساهم في تدليس الحقائق، ولم يهتم لموضوع الحلال الحرام، فلا بد إذن من تطهير النفس بداية حتى يستقيم تنزيل شرع الله فيها. والله حافظ نبيه سبحانه وتعالى من كيد اليهود.

واليهود وإن طلبوا الإستماع لحكم محمد ﷺ ، فإنهم بداية قد فرطوا في حكم التوراة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى إليهم، ولم يكتفوا بالتفريط، بل لجئوا لتطويعها وتحريفها حتى تخدم مصالحهم. وتتوسع الآيات هنا في ذكر فضل التوراة، فهي الهدى والنور، وقد كانت دستورا لعدد من أنبياء بني اسرائيل، تخالفوا عليها حتى جاء عيسى عليه السلام، ثم كانت هي مرجع الربانيين والأحبار، ممن أخلص عبادته لله سبحانه وتعالى، وممن توسع في دراستها، وتعلمها، وهؤلاء قد "اسْتُحْفِظُوا" التوراة، وذلك بعكس القرآن الكريم الذي تولى سبحانه وتعالى حفظه بنفسه (إنا أنزلنا القرآن، وإنا له لحافظون).

ثم يقول سبحانه وتعالى (وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)، فالكتب مواثيق ربانية، ولكن الناس هم الذين يحفطونها ويقيمون أحكامها، ولا يحق لهم تغييبها عن واقع الحياة، فليسعَ المؤمنون لتمكين شرع الله في أرضه، ولا يخشون الناس، بل عليهم أن يجاهدوا في سبيل عزتهم وتمكين شهادة ربهم على العالمين.

وتحيل الآيات هنا للمرة الثانية لأخذ بعض الأحكام النفيسة من التوراة، ولقد كانت الإحالة الأولى في قوله سبحانه " أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".  وفي نفس الموضوع، وهو موضوع حرمة النفس والمال الذي كانت الآيات تحدث عنه سابقا، تأتي هنا الإحالة الثانية وهي في موضوع القصاص، والقصاص سبب للحياة كما ذكرت سورة البقرة.

وتواصل الآيات هنا الحديث عن أهمية الإنجيل بعد أن تحدثت عن أهمية التوراة، والإنجيل جاء مصدقا لما في التوراة، فهو استمرار لنفس المنهج، فيه الهدى والنور، وفيه الموعظة التي تنفع المتقين. إنّ هذه المواثيق تحوي حكم الله سبحانه وتعالى، ولا يصح بعد ذلك بحال أن لا تتبع هذي الأحكام، بل لا يتركها إلا كافر ظالم فاسق، أمّا كونه كافر فلأنه نكث بعهد الله سبحانه وتعالى، فالله له السمع والطاعة، ولا يصح إسلام من غير تسليم لأمر الله تعالى. وأمّا كونه ظالم فلأن شرع الله سبحانه وتعالى هو القسطاس المستقيم وهي السنن التي تقيم عماد هذا الكون، فمن تركها فقد خالف سنن الحق، وظلم نفسه. وأمّا كونه فاسق، فلأنه قد خالف مصدر النور والهدى ومضى في تتبع سبل الشيطان والطواغيت، فشرع الله سبحانه وتعالى يزكي النفس، ويهديها لتسمك بأسمى الأخلاق والقيّم.

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 14

3.     الآيات (48-50): منزلة وفضل القرآن الكريم:

 

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

 

واستمرارا لموكب المواثيق والكتب الربانية، أنزل القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم بالحق، "وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ"، ففيه ما تنشده الإنسانية من حق وهدى، إنه سنن الله تعالى التي تحكم سعي الإنسان ليصل إلى الحق. والقرآن أتى مصدقا للكتب السمواية الماضية ومهيمنا عليها، فلا حكم من بعد حكه، فجميع الشرائع السابقة قد نسخت بالقرآن الكريم. والحكم بالقرآن الكريم واجب، "فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ". إن الأمر بالحكم بما أمر الله سبحانه وتعالى تكرر كثيرا في هذه الآيات دلالة على أهميته، والحقيقة أنّ هذه الكتب التي تحوي شرع الله سبحانه وتعالى، إنما تأتي أكلها إذا ما حكمت في أرض الواقع، فهل سيلبي الإنسان نداء الله والمرسلين، أم سيخترع له دستورا ناقصا من عند نفسه، "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ".

إنّ التارك لشرع الله سبحانه وتعالى، إنما هو متبع لأهواء نفسه، في وعد رباني صادق بأن الشرع منساق ومتوافق مع العلم ومع النفس البشرية في كافة مراحل تطورها. وأن الماضي في تجنب شرع الله سبحانه وتعالى إنما هو منساق خلف أسباب الفتنة والهلاك. والله سبحانه وتعالى يحذر نبيّه صلى الله عليه وسلم بأن لا يستلسم لأهواء اليهود وفتنهم، في اشارة واضحة بعمق الصدام الذي يخوضه هذا الشرع الحنيف أمام غيره من تيارات وأهواء.

وتذكر الآيات سنة كونية خالدة، وهي تعدد الشرائع في أرض الله الواسعة، يقول سبحانه "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" وهذا أمر كوني، فالله قد جعل الناس مختلفين، فلا يستساغ هنا جبر الناس ودفعهم على الإيمان، فلا إيمان مع إكراه، وإنما القوة للحجة. وهذا من سعة الإسلام، الذي يستوعب غيره. والإسلام دين العدل والرحمة قادر بأن يجذب الناس إليه إن هو خلي بينه وبينهم. والإختلاف بين الناس ضروري للتطور والنماء، فالمياه الراكدة تفسد، لذلك كان الإبتلاء طريقا لمعرفة الأخطاء والعيوب ومحاولة تجنبها. والطريق السليم لبلوغ أعلى الدرجات هو المنافسة في الخيرات. إنّ المسلمين اليوم بحاجة إلى أن يظهروا قدرة شرع الله تعالى في تجنيب الإنسانية ما يحيطها من أخطار تكاد تهوي بها. فإذا كانت القوة للحجة، فليسارع المسلمون في هذا الميدان وليتسابقوا فيه. وليكن شعارهم أمام الأمم طلب الحق، ونهضة الإنسانية، وليكن شعارهم (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

 

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 15

المحور السادس: أهم السبل التي تؤدي إلى التخلي والنكوص عن مواثيق الله سبحانه:

1.     الآيات (51- 58): ولاية الكافر طريق للردة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)

وبعد أن شرحت الآيات الكريمات منزلة المواثيق الربانية، التوراة والإنجيل والقرآن، ونبهت لوجوب أتّباع أحكام الله فيها، يأتي النداء هنا للمؤمنين مرة أخرى لينبههم بأهمية الأخذ بهذه الأحكام، وليدلهم لأهم الصفات التي تؤهلهم لنيل هذا الشرف العظيم. إنّ جميع الأعمال منبتها من القلب، فإذا صدقت المحبة لله تعالى صلحت جميع الأعمال.

إنّ الآيات السابقة رفعت من قيمة التوراة والإنجيل، ونبههت إلى ضرورة إتباع أحكماهما، ثم ذكرت بأن الإختلاف بين الأمم سنة كونية ثابتة. لتأتي الآيات هنا للنبيه إلى ضوروة وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة، فالمسلم مع سعة أفقه وتسامحه مع الآخر، إلأ أنه صادق المحبة لله سبحانه وتعالى، وهذا هو سبب نجاحه وفلاحه. إنّ إنهدام هذا الشرط هو السبب الأول للكفر والردة عن دين الله تعالى.

وتتوسع الآيات هنا لذكر أنّ الولاية القلبية للأعداء هي الخطوة الأولى للإنسلاخ عن هذا الدين، وليعلم المؤمنين بأن اليهود والنصارى قد تعاونوا وتناصروا لنصب العداوة والبغضاء على الإسلام والمسلمين، فلا ينخدع المسلمون بأساليبهم القذرة، وليحذروا من المنافقين الذين يوالونهم ويهيئون لهم السبل لبيخترقوا المسلمين بكل صلف. إنها المعركة الخالدة التي يسعى بها الكفار زحزحة المسلمين عن منهاجهم وتمسكهم بشرع الله القويم. وليعلم المنافقون بأنهم بسعيهم هذا قد حبطت جميع أعمالهم، وليس لهم إلا الذلة في الدنيا والآخرة، حتى وإن أقسموا اليوم بأن فعلهم هو الصواب. إنّ أول خطئية وقع فيها المنافقون هي محبتهم وولائهم لأهل الكفر، والسلوك دائما يتبع ما يمليه عليه القلب.

إن المحبة والولاية لا بد أن تكون لله سبحانه وتعالى وللمؤمنين، الذين يقومون بشعائر الله ويحفظون شرعه. هؤلاء من تجب لهم الولاية والمحبة والنصرة. إنّ المؤمن الحق يكون ذليلا أمام المسلمين، يخدمهم ويقضي حوائجهم، عزيزا أمام الكافرين، لا يستكين لهم، بل يجاهدهم بنفسه وماله. إنّ المفارقة بين المؤمنين وغيرهم أمر ضوروي، فليس من اتبع شرع الله سبحانه وتعالى كمن ناصبه العداء، إلا أن هذه التفرقة بين المسلمين وغيرهم باتت وللأسف العميق غير واضحه. إن المسلم دائما من ينطلق بأن هناك حزبا لله وآخر يعبد سواه، والمؤمن يسعى لنصرة حزب الله تعالى، ويعلم بأنه هو الغالب وهو المنتصر بفضل الله تعالى.

 

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 16

2.     الآيات (59-69): مجادلة ومحاججة أهل الكتاب وبيان منزلة المشرع سبحانه عندهم

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(69)

 

نبهت الآيات السابقة إلى أن ولاية أهل الكتاب طريق للردة عن الإسلام والإحتكام لشرعه، لتقف الآيات هنا طويلا مع أهل الكتاب لتحاججهم وتجادلهم في ذات الموضوع، وهو التمسك بالإيمان بالله تعالى والإحتكام إلى شرعه سبحانه وتعالى. والسؤال الأبرز هنا، ما هو سبب نقمة أهل الكتاب هؤلاء على المسلمين؟ هل لأنهم آمنوا بالله سبحانه وتعالى، واتبعوا شرعه وحكمه؟ إن المسلمين يؤمنون بالقرآن، كما ويؤمنون بما أنزل قبله من كتب، وما بعث قبل محمد صلى الله عليه وسلم من رسل. فهل ينقم على من كان هذا هدفه وغرضه؟. إنّ المجادلة القائمة هنا معتمدة على المقارنة بين حال أهل الكتاب والمسلمين، فأيهم إلى سبيل الله أقرب، وأيّهم أكثر استمساكا بشرع الله ومنهاجه. وهذا معتمد على  القاعدة التي ذكرت سابقا، بأنّ أصل التفاضل بين الأمم هو التسابق إلى الخيرات.

فالسؤال الأبرز المتوجه لليهود والنصارى هنا، ليس فقط عن مدى تمسكهم بشرع الله وأحكامه، وإنما هل هم يقربون الناس من الله سبحانه وتعالى أم ينفّرون الناس عنه؟  هل تعرض هؤلاء لأسباب الرضى، أم وصفوا الله سبحانه وتعالى بألذع الأوصاف وأقبحها؟ إنّ اليهود والنصارى خسروا الرهان في هذا المضمار، فهم أشر الناس مثوبة عند الله تعالى، فقد نالوا منزلة الغضب واللعن والطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، ولقد خُسِف ببعضهم إلى قردة وخنازير، أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل. وأين هي وظيفة الربانيون والأحبار من القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم هل شرّعوا لهم قول الإثم وأكل السحت، فصار أهل الكتاب يسارعون في الإثم والعدوان، وهم على علم بهذا الضلال العظيم الذي قد وقعوا فيه. إنّ الآيات تقيم الحجة الواضحة على اليهود والنصارى، فهل يستمعون لقول الحق أم سيزدادوا ضلالا؟.

لقد استمرء هؤلاء الإثم والعدوان، وباتوا ينشرون في أرض الله الفساد والظلم، بدل أن يعمروها بالصلاح والخير. ولذلك ألقى الله سبحانه وتعالى بينهم العداوة والبغضاء، وجعل الدوائر تدور عليهم، (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ). لقد تزحزح الإيمان من نفوس عامة أهل الكتاب، فصاروا حربا لله ورسله ومنهاجه، ولو أنهم آمنوا بالله واتقوه لكفّر عنهم ذنوبهم وغفر لهم، ورفع منزلتهم. إنّ التوراة والإنجيل كانت كفيلة بأن ترفع منزلة هؤلاء في الدنيا والآخرة، ولعمتهم خيرات الأرض وبركات السماء، ولكنهم استحبوا الكفر على الإيمان.

ثم توجه الآيات الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ شرع الله سبحانه وتعالى، ولا يلتفت لفتنة هؤلاء المتربصين، والله سبحانه وتعالى يتكفل بنصرته مما يكيد هؤلاء، وكفى بالله وكيلا. وتنتهي هذه الآيات بذكر قاعدة عامة في حال من مات قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. فالله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر عباده المؤمنين، ممن آمن بالله واليوم الآخر، وعاش محترما لشرع من وجده من المرسلين، فعمل صالحا واتبع شرع الله الذي بين يديه، هؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 17

3.     الآيات (70- 81): نكوص اليهود والنصارى عن الميثاق

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)

 

وتستمر الآيات هنا في مجادلة أهل الكتاب، والحديث ينصرف هنا أكثر إلى النصارى، بعد أن كان متركزا على اليهود في المقطع السابق. وبعد التطرق إلى المجادلة والمناظرة، تظهر الآيات هنا النيتجة والحقيقة التي عليها أهل الكتاب، وذلك بكونهم قد نقضوا الميثاق مع الله سبحانه وتعالى. وهناك تأريخ طويل من محاولات الهداية لبني اسرائيل، فلقد تعاقب عليهم المرسلين، وتعاقبت عليهم الأحداث العظام والمعجزات الربانية، لترجعهم إلى طريق الله سبحانه وتعالى، ولكنهم كانوا يقابلون الأنبياء بالقتل والتكذيب، والأحداث بالعمى والصمم، حتى انتقطعت عليهم الحجة أمام الله سبحانه وتعالى.

وإذا كانت الآيات السابقة ذكرت الطامات الكبرى التي وقع فيها اليهود، وهي وصف الله سبحانه وتعالى بأقبح الأوصاف وألذعها، فإن النصارى قد ألّهوا المسيح عليه السلام وأمه، وهذه خطيئة تقف معها الآيات طويلا، ولا تتركها حتى نهاية السورة. وفي البداية تعلن الآيات بأنّ هذا الأمر كفر بواح، يستحق مرتكبه العذاب الأليم، كيف لا، وهو إخلال لمبدأ الوحدانية، فالله وحده خالق ومالك هذا الكون وحاكمه، وما من أحد يضارع ملكه وحكمه.

وتقرر الآيات بأن المسيح عيسى عليه السلام دعا قومه بأن يعبدوا الله وحده، ولا يشركوا به شيئا، فالنصارى مخالفين لتعاليم النبي المسيح عليه السلام، ثم إن الله سبحانه وتعالى يذكر المنزلة الصحيحة لعيسى عليه السلام، فهو رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة. وكل هذه تقارير تبيّن التصور الصحيح الذي ينبغي أن يكون عليه النصارى. ثم تحاجح الآيات النصارى بأن إشارات الخلق والبشرية ظاهرة على عيسى وأمه عليهما السلام، فهما يأكلان الطعام، ويحتاجان إلى كل ما يحتاجه الإنسان، فكيف للمحتاج أن يكون إلاها. ثم هما لا يملكان من أمر الله شيئا، فهو وحده سبحانه النافع والضار، وعيسى وأمه لم يستطيعا أن يحميا نفسيهما مما يحاق عليهم من مكائد.

ثم تشير الآيات إلى سببين أساسييّن أدى بالنصارى إلى هذه النتيجة، وهما الغلو ومولاة الكافرين. فاتباع أهواء الكافرين دائما ما يضل بصاحبه عن سواء السبيل. لذلك استحق أهل الكتاب اللعن والطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا ما صرّح به حتى أنبياء بني اسرائيل الذين بعثوا إليهم، فلقد لعنهم داوود وعيسى بن مريم. والسبب الرئيس لهذا اللعن هو التمادي في عصيان الله سبحانه وتعالى، والتعدي عليه سبحانه وتعالى، وعلى خلقه، وكانوا لا يتآمرون بالمعروف ولا يتناهون عن المنكر. إنّ الفسق واتباع الأهواء قد تمكن من نفوسهم فضلهم عن سواء السبيل.

والمستقرء لأسباب الضلال هنا، يرى أن منبعها أمراض قلبية، وهي هنا تدور حول ثلاثة أسباب، الإفراط، والتفريط، ثم موالاة أهل الكفر، وهي أمراض جميعها متعلقة بالحب في الله. أمّا اليهود فوقعوا في التفريط فناكفوا الله سبحانه وتعالى وتحدوه، وأمّا النصارى فغالوا في حب من أرسل إليهم حتى ألهوهم، وأمّا المنافقين فإنهم وقعوا في موالاة الكافرين، بدل أن يحبوا الله وروسوله والمؤمنين.

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 18

4.     الآيات (82-86): صفات من آمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم من بني آسرائيل

 لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)  وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)

 

وفي ختام مجادلة أهل الكتاب، يتوجه الخطاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم أمته، لتنبههم إلى حقيقة اليهود والنصارى، ولتقدم الإستثناء العادل لمن صلح منهم، وهو منهج قرآني ثابت، فبعد أن يصف اليهود والنصارى بما هو أهله، يقدم الإستثناءات الموجودة، لئلا يحدث الظلم من المسلمين، ولتكون أحكامهم مبنيّة على الحجة والبيّنة. إنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، وهذا أمر كان ثابتا في الماضي وهو مشاهد في الحاضر، فلا يغتر المسلم بتضليل الإعلام وأتباعه، وليأخذوا علمهم ومواقفهم من القرآن الكريم.

ثم إنّ النصارى بالعموم أقرب مودة للمؤمنين، ويشهد على ذلك حال النجاشي وحال بعض من وفود النصارى الذين أقبلوا الميدنة، ذلك لأن في النصارى قسسيسن ورهبانا، يتعبدون في الصوامع، يقول الله سبحانه وتعالى (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)

إنّ القرآن هنا يشير إلى صفة رائدة في عامة من تمسك بالإنجيل من النصارى، وهي عدم الإستكبار، وهي خصلة عظيمة الأثر على النفس البشرية، تجعل صاحبها قريبا من الناس، ويتواضع أمام الله وأمام عباده الصالحين، فلذلك كله رقت قلوب بعض النصارى لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا بدعوته، لقد كانت أنفسهم صادقة في طلب الحق، ولذلك شهقت أنفسهم استبشارا به عندما سمعوها، فنادوا اللهم اكتبنا مع الشهادين، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ممن شهد له صلى الله عليه وسلم بأنه قد بلغ رسالة ربه. وهكذا تنتهي المجادلة بضرب مثال على من آمن من أهل الكتاب بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم واتبع دينه، وهو منهج ينبغي للكل أن يسمعه ويتبعه.

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 19

المحور السابع: إتمام النعمة:

1.     الآيات (87-91) الغلو سبيل غير محمود العواقب

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

وبعد جولة تفصيلية مع المواثيق الأممية التي أقامها الله سبحانه وتعالى مع اليهود والنصارى والمسلمين، تعود الآيات هنا لموضوع النعم التي اختصها الله سبحانه وتعالى للمسلمين، وهو عود على بدء، حيث أن النعم تحتضن هذه الموايثق جميعا. فالآيات هنا نعم واردة مورد التشريعات. وهي تكمل ما بدأت به السورة من ذكر موضوع الطيبات، وما يحل ويحرم من مطعم ومشرب.  والآيات أيضا تنهى عن الغلو في هذا الموضوع، وهو استمرار لما آل إليه النصارى من تأليهم لعيسى عليه السلام، وهذا الغلو نفسه ما وقع فيه كفار قريّش لمّا أتبعوا خطوات الشيطان فغلوا في تعظيم الهدي والقلائد، حتى قسّموها إلى أقسام ما أنزل الله بها من سلطان.

فتبدأ الآيات بخطاب للذين آمنوا بأن لا تحرّموا ما أحل الله سبحانه وتعالى، فالتحريم أعتداء حاله كحال التحليل، وإنما التحريم يقع فيه الذي يغلو في الدين، وهو باب واسع قد وقعت فيه الأمة الإسلامية حتى ضيّقت على نفسها أبواب كثيرة من أبواب الخير. ولذلك جاء الأمر بأن "وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا" فالله جعل في الأرض الطيبات وموارد الخير والنعم ليستغلها الناس ويعمروا بها الأرض، لا ليزهدوا عنها، ويتقوقعوا على أنفسهم. إنّ الرهبانية أمر خطير لا يقره الشرع الحنيف، وقد أخطا من فسّر بها التقوى، فشتان بين التقوى والرهبانية، فالآية الكريمة هنا تضع حدا لموضوع الرهبانية،  والتي وللأسف العميق وقع فيها كثير من الناس.

ثم تعرّج الآيات لموضوع الأيمان، ذلك لأنّ من كرم الله ونعمته أنه عفى عن يمين اللغو "لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ"، وذلك باب واسع من أبواب النعمة والكرم. فالمؤمن طيّب المعشر، لا يتعنّت في ألفاظه ويحاسب الناس على كل صغيرة وكبيرة، إلاّ أنه يؤمر أيضا بأن يطهر لسانه وقلبه من الآفات، فعليه ألّا يقع في الأيمان المغلظة، أو ما يسمى اصطلاحا باليمين المنعقدة، وهي التي تحوي وعدا بالقيّام بأمر، كأن يقسم الإنسان بأنه سوف يحضر غدا إلى العمل أو يزور فلانا، مما لا يترتب عليه ضياع الحقوق، فإن كان فيها ضياع حقوق، فهي اليمين الغموس. واليمين عهد وميثاق، يستخدم فيه اسم الله سبحانه وتعالى توثيقا للكلام، فهو سبحانه وتعالى معظّم، خالق قادر ومطّلع، ولذلك كان توثيق الكلام بأسم الله تعالى، يعد عهدا وميثاقا. والمؤمن يتمسك بعهده ولا يخونه. ولأن الإنسان ضعيف، فقد جعل الله له هنا  مخرجا للتكفير عن يمينه إن هو وقع فيها.

ثم تتحدث الآيات عن موضوع تطهير العقل والقلب، من أفات الخمر والميسر، ومن العقائد الفاسدة، وذلكم هو الذبح على الأنصاب أو الاستقسام بالأزلام. وكل ذلك رجس وفجور، وبعيد عن الطهارة التي يرومها الله سبحانه وتعالى من المؤمنين. والشيطان نجس يرتع في هذه النجاسات لينشر العداوة والبغضاء بين الناس، وذلك هو الهدف الأعظم للشيطان، وهو غواية الإنسان ورده عن طريق النور والهداية. إنّ من أهم الأبواب التي يلجأ إليها الشيطان لغواية البشر هو باب الغلو في الدين، ولذلك جاء التحذير منه هنا. والشيطان ينشط لغواية بني آدم، عند حضور الخمر والميسر، وعند غيرها من الآفات التي ذكرتها هذه الآية الكريمة.


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 20

2.     الآيات (92-100): طاعة الله تنبع من تعظيمه سبحانه وتعالى وتقواه 

 وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) 

إنتهت الآيات السابقة لذكر بعض من حيّل الشيطان لغواية بني آدم، وذكر خطورة الغلو في الدين. والآيات هنا تدعو إلى التمسك بطاعة الله سبحانه وتعالى، فليستمسك الإنسان بهذه الطاعة من دون غلو أو شطط، فعليه دائما أن يحذر من مسالك الشيطان وغواية أهل الأهواء، والإتزان هو المخرج الذي يحفظ للإنسان دينه وقربه من الله سبحانه وتعالى. والطاعة لله تعالى من أهم البنود وأعلاها منزلة في هذا المثاق الرباني. إنّ الواجب في حق الرسول صلى الله عليه وسلم هو البلاغ المبين، والواجب في حق المؤمنين هو السمع والطاعة لله ورسوله. ثم تحدد الآيات طبيعة هذه الطاعة، فتنهى كما مر سابقا عن الغلو في الدين وعن التنطع فيه، فلا ينقب المسلم خلف المسلمين، وليأكل من طعاهمهم، وليعاشرهم بالمعروف دون مزيد فحص أو نظرة ريبة، فيقول سبحانه وتعالى " لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" تكرر الأمر بالتقوى في هذا الآيات ثلاث مرات، فعمدة الأمر كله هو تقوى الله سبحانه وتعالى، والله يحب المحسنين مع الناس، الذين يألفونهم ويقربونهم من الله زلفى. إنّ ميزان الخلاص في هذا الأمر هو التقوى، فالمغالي في شرع الله سبحانه وتعالى ليس بمتقي بأي حال من الأحوال.

وما زالت الآيات تتحدث عن موضوع الطيبات من الأنعام والمأكولات، وتسوق التشريعات اللازمة لذلك، وهي هنا تتحدث عن موضوع الصيّد. وفي استكمال لموضوع التقوى، تسوق الآيات بعض المواقف التي لن يتمكن من تجاوزها إلا من صدقت تقواه، وميزان ذلك هو طاعة الله بالغيب. إنّ الآيات تحدد المستوى المطلوب من الطاعة بالنسبة للمسلمين. ومن المعلوم إنه يحرم على المحرم الصيد، كما ويحرم صيد الحرم على المحرم وغير المحرم. ولقد ابتلى الله المؤمنين بهذه المواقف "لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ". ثم تذكر التشريعات لمن يقع في هذا، وهو كفارة الصيّد في الحرم. وتتوالى التشريعات في موضوع صيد البر والبحر. والله قد أحل صيد البحر جميعا.

وقد حرّم الله صيد الحرم، وصيد المحرم، وذلك تعظيما للبيت الحرام، الذي جعله الله حراما، فلا يسفك في دم، ويحرم فيه القتال، فهو حرم الله الآمن، الذي يأمن فيه كل شيء، ولقد كانت الكعبة مصدر خير للناس قبل الإسلام وبعده. وكذلك هو شأن الأشهر الحرم التي حرّم الله فيها القتال، وحفظ دماء الناس فيها. وهذه التعظيم كان له أثر عظيم في تأريخ المنطقة العربية كلها، وكل ذلك من تقدير الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى الذي يدبر الأمور كلها، ويذعن لحكمه سبحانه المؤمن والكافر جميعا. وفي هذا آيات بيّنات لمن تدبر حال الشعوب ومآلاتها.

إنّ الملك جميعا لله سبحانه وتعالى، وهو الذي يدبر الأمر كله، له ملك السموات والأرض، فليعلم الإنسان بأن الله قدير عليه، وأنّ وحده يدبر الأمر سواء وجد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أم لم يوجد، والرسول صلى الله عليه وسلم، إنما عليه البلاغ، أمّا تدبير الأمور وتقديرها فهي جميعا بيد الله سبحانه وتعالى. ولذلك لا تخشوا أيها المسلمون من أي شيء، وإنما اعتمدوا عليه سبحانه وتعالى، ولا تخشوا من تدبير أهل الباطل وكثرتهم وتزاحمهم على الخبيث، فلله سبحانه وتعالى جعل الطيّب منتصرا ومتقدما، والله سبحانه وتعالى قد حفظ بيته وجعل له الدور الأعظم حتى عند غياب الرسالة المحمدية.

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 21

3.     الآيات (101-105): حرمة التنطع والغلو

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

 

والغلو له مسالك ومجالات مختلفة، والآيات هنا تنبه لخطورة أسئلة التنطع، فقد كان بعض المنافقين في المدينة يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم فيسأل عن مكان ناقته التي غابت، كما وهناك أيضا قصة النفر الثلاثة من المسلمين الذين جائوا إلى بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم، ثم تقالّوها، وعزموا على الغلو في تعاملاتهم بأمور لم يوجبها الشرع، بل تخالف فطرة الإنسان وشرع الله تعالى. وفي الحديث الشريف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله فرض فرائض فلا تضيعهوها، وحد حدودا فلا تنتهكوها، وسكت عن أمور رحمة بكم، بغير نسيان فلا تسألوا عنها). وهذا مثال من كان يسأل عن فرض الحج، أفي كل عام هو يا رسول الله؟ فهذه كلها أسئلة ونماذج من استدراج الشيطان للإنسان فعلى المسلم أن يكون واعيا لها. فهنا الحديث عن الغلو في أمر التشريع الرباني، فلا يتنطع بالمسائل حتى تؤول إلى تحريم وتضيق شرع الله سبحانه وتعالى، وأمر الله واسع وشرعه مرن، فلا ينبغي التعامل معه بتعصب وضيق أفق. إنّ الآيات هنا تظهر صفة مهمة لشرع الله وميثاقه، هي صفة المرونة والإتزان، وتنفي عن أتباعه صفة التعصب والجمود، فشرع الله مستوعب للحالات البشرية، ومن كمال الشريعة أنها تعطي المجال واسعا للفقيه وللمكلف بأن يطبق شرع الله سبحانه وتعالى بفهم ووعي، ولا تستدرجه في التشاريع حتى تذهب بشخصيته ووعيه وفهمه. وهكذا نجد أن هذه السورة في بدايتها أخبرت بتمام الشريعة وكمالها، لتأتي هنا فتحذر من بعض المزالق التي قد يقع فيها من لم يفهم معنى كمال الشريعة.

ثم تنتقل الآيات لذكر غلو من جانب آخر، وهو أنه لمّا عظّم الله سبحانه وتعالى البيت الحرام، والشهر الحرام، والهدي والقلائد، كما في بداية السورة، ينبه هنا إلى الغلو الذي وقع فيه مشركي مكة، فقسّموا الهدي إلى أقسام ما أنزل الله بها من سلطان، وما ذلك إلا تتبعا لخطى الشيطان الرجيم، فكل هذه التقسيمات غلو وكذب على شرع الله سبحانه وتعالى (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ). وهذه الشعائر نفسها تتنافي مع سعة الشريعة السمحة ورحمتها. وهذا مزلق يقع فيه المغالي في الأحكام، وهو مدخل من مداخل الشيطان، الغلو في الحكم الشرعي حتى يخرج به عن مراد الشارع وحكمه.

ولقد تحكمّت هذه الشعائر الباطلة في أذهان المشركين فصاروا يدافعون عنها، فاتخذوا ما وجدوا عن أبائهم دينا لا ينفكون عنه، وهذا من الغلو الظاهر، فالإنسان يحرر عقله وقلبه من الخرافات، ولا يتبع أقوال الناس من دون علم، بل عليه أن يمحّص الأقوال، ولا يكون تبع لصاحب كل فكر منحرف. ولذلك تنبه الآيات إلى أهميّة تلك العلاقة بين الإنسان وربه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، فالتجرد للحق والحقيقة موضوع شخصي في الأساس، وكل إنسان إنما يأتي ربه يوم القيامة فردا. كل سيأتي إلى الله سبحانه وتعالى ويسأل عن عمله وعقيدته، ولا تغني عند ذلك الحجة بأنه كان متبعا لأقوال آبائه وأجداده. فعلى الإنسان أن لا يسلم عقله للآخرين، بل يكون متبعا للدليل والبرهان. والإقتداء لا يكون إلا لصاحب الدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، أمّا من عداه، فلا يتبع إلا مع وجود الدليل والبرهان.

 

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 22

4.     الآيات (106-108): تشريعات في توثيق وصية الميّت

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

 

وقبل أن تنتقل الآيات إلى عراص يوم القيامة، حيث الحديث عن شهادة عيسى عليه السلام على قومه، تنتقل الآيات هنا إلى نوع آخر من العقود، وهي وصية الميّت، فتذكر التشريعات التي تحكم هذه الوصية. ووصية الميّت توثق بشهادة أثنين من المسلمين العدول. فإن لم يوجدا هؤلاء المسلمين العدول، كحال من كان مسافرا، فلا بأس أن يكون الشهود من غير المسلمين، إظهارا لسعة الإسلام وعدله.

ثم تشرُع الآيات في ذكر التشريعات التي تحكم هؤلاء الشهود الغير مسلمين إن هم خانوا العهد، وسبب نزول هذه الآيات هي حادثة وقعت لنصارنيين، أخذا جزئا من وصية ميت من بني سهم، فقد توفي في سفر، وأشهدهما على وصيته، فسلما تركته لأهله إلا جاما من فضه، أخذاه وباعاه في أسواق مكة، ثم عرف أهل الميت ذلك الجام من الفضة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدان على النصرانيين.

هنا في مثل هذا الموقف، يحكم الشرع بأن يأتى بهؤلاء الشهود إلى المسجد، وينتظر بهما هناك إلى أن يجتمع المصلين، لتكون شهادتهم بحضور الناس جميعا للصلاة، فذلك أدعى للصدق، فإن الإنسان إذا كان وحيدا ربما استقل المسألة، أمّا إذا كان في جمع الناس، فإنه أقرب إلى أن يقول الصدق. ثم إذا ارتاب أهل الميّت في شهادتيهما، فليطب منهما القسم، يقول الله سبحانه وتعالى (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ). ولا يطلب القسم إلا عند حصول الريبة.

وهنا إن وجد أهل الميّت خللا في شهديتهما، ببيّنة ظاهرة، كما في القصة التي وردت في سبب تزول هذه الآية، فإن أولياء الميّت يقسمان بالله (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ). والآيات هنا تظهر أهمية القسّم والشهادة، فبها تقام الحقوق، وكل ذلك إنما مبني على خوف الله سبحانه وتعالى وخشيّته، وليتأكد الإنسان بأن من ينكث عهد الله إنما هو فاسق، والله لا يهدي القوم الفاسقين.

والمتتبع لهذه الآيات الكريمة من سورة المائدة يجدها أنها تمضي في نسج فكرتين في آن واحد، فهي تظهر عدد من المواثيق الخاصة، وذلك بعد أن ذكرت المواثيق العامة، وتلكم هي الأيمان والشهادة، وصور الشهادة متعددة في الشرع الإسلامي، منها ما هي في الأحكام الدنيوية كالشهادة على وصية الموت أو في معاملات البيع والشراء مثلا، والشهادة أيضا تأتي بمعنى المصدقين بدعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كما مر في الآية " يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)"، فهؤلاء حجة الله على الناس في الدنيا والآخرة، كما ستتوسع الآيات لاحقا في ذكر شهادة عيسى عليه السلام على قومه في عرصات يوم القيامة.

والآيات أيضا تنسج فكرة أخرى، وهي الشبهات التي يقع في من يسيء فهم معنى كمال الشريعة، وذلكم هو الغلو والتعصب فيها، ونقلها من كونها شرائع رحمة، إلى وسيلة للزيع عن نهج الله المستقيم، والتعصب والغلو من أشد الآفات التي تقوض روح الشريعة الحقة.

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 23

5.     المحور الثامن: شهادة عيسى عليه السلام على قومه

1.     الآيات (109-111) جمع الرسل يوم القيامة وطلب شهادتهم

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)

وتنتقل الآيات هنا إلى آخر محور في سورة المائدة، وهو محور المحاسبة والشهادة والسؤال. وبهذا المحور تكتمل منظومة التكليف التي تطرحها هذه السورة المباركة، فبعد إن وضعت المواثيق، وأحكمت الشرائع، ثم أوجبت الحكم بما أنزل الله فيها، تأتي الآيات هنا لتتحدث عن موضوع المحاسبة في يوم المحشر، حين يجمع الناس في صعيد واحد، حيث يأتى بالأنبياء شهودا أمام الله سبحانه وتعالى، ليجيبوا عن سؤال واحد فقط، وهو (مَاذَا أُجِبْتُمْ)؟، وما أعظم هذا السؤال وما أثقله، وهو السؤال الذي أبكى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، في سورة النساء، حين سمع قوله الله تعالى: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا "

والله لا يسأل عن جهل، وإنما هذا من باب إلزام الحجة التي يقيمها الله سبحانه وتعالى على عباده. (قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، هكذا كان رد المرسلين عليهم السلام، رد العلم كله لله سبحانه وتعالى، وفي هذا تواضع جم منهم لله سبحانه وتعالى في هذا المقام الرهيب، وهكذا ينبغي للإنسان أن يقف أمام علم وأفعاله سبحانه وتعالى، إنّ الله سبحانه علأم للغيوب، فعلمه سبحانه وتعالى عميق وواسع، للمشاهد وللغيب أيضا، فما هو علم الإنسان أمام علم الله تعالى، فليأخذ المرء الدرس إذن من هذا، وليتواضع عندما يكون السؤال عن فعل الله سبحانه وتعالى وعلمه، وذالك ما أجاب الله به ملائكته عندما سألته: "قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ".

ولكي لا نظن أن الشهادة تقف عند هذا المقام، تورد الآيات بعد ذلك الشهادة الكاملة لعيسى عليه السلام، ولكن قبل الشهادة، يذكر الله سبحانه وتعالى نعمه على عيسى عليه السلام (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ)، وبعد هذا الإجمال، تسرد الآيات عددا من النعم التي أولاها الله سبحانه وتعالى لنبيه عيسى عليه السلام، فقد كان يكلم الناس في المهد وكهلا، والكهل من كان عمره من الثلاثين إلى الأربعين. ثم أختاره الله رسولا، فعلمه التوراة والإنجيل، وما فيهما من علم وحكمة. وقد توالت المعجزات على عيسى عليه السلام، فكان يخلق من طين طيرا بإذن الله تعالى، ويبرى الأكمه والأبرص، ويخرج الموتى، كل ذلك بإذن الله سبحانه وتعالى. والآيات تضع التصور الصحيح لعيسى عليه السلام، فلم يكن إلا رسولا نبيا تجري على يده المعجزات، ولكن قومه قد غلوا فيه. فالآيات هنا تخاطب النصارى وتصحح لهم عقيدتهم في شأن عيسى عليه السلام.

ثم من أعظم النعم التي أولاها الله سبحانه وتعالى لنبيه عيسى عليه السلام أن كف أيدي بني اسرائيل عنه وحفظ شريعته من بعده، فلقد أراد بني اسرائيل أن يصلبوا عيسى عليه السلام، ولكن الله نجاه من بين أيديهم، ثم قيّض الله الحواريين ليحملوا دعوته من بعده، (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ). والشهادة لله منزلة يصبوا إليها المؤمنون في كل وقت وحين.

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 24

2.     الآيات (112-115): قصة المائدة:

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)

والنعم تحيط بسورة المائدة حتى في مقام الشهادة والمحاسبة، فتورد الآيات هنا قصة المائدة التي أنزلت على الحواريين. يقول سبحانه وتعالى (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ)، وهنا مع علو شأن الحواريين إلأ أنهم كانوا يدعون عيسى عليه السلام بأسمه مجردا، ولم يكن هذا شأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان لا يقول يا محمد إلا جفاة الأعراب، ولقد أدب القرآن الكريم صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم " لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا"

وتواصل الآيات (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ)، أي هل تستطيع يا عيسى ابن مريم أن تدعو ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟، (قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): أي اتقوا الله أن تسألوا معجزة معيّنة، ففي ذلك تحكم بمشئة الله سبحانه وتعالى، والتقوى هي سبيل القرب من الله سبحانه وتعالى، ومن أتقى الله، أعطاه الله مناه، فأمرهم عيسى عليه السلام بلزوم التقوى حتى ينالوا ما يريدون.

ثم يسوق الحواريين الأسباب التي دعتهم ليطلبوا هذا الطلب (قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ)، فأولها طلبا للبركة، فهم سيأكلون منها ليس تلذذا، وإنما ليعرفوا منزلتهم وقربهم من الله تعالى، فيحصلوا على الحضوة منه سبحانه وتعالى، ثم طلبا لليقين (وتطئن قلوبنا)، فليس الخبر كالمعاينة، (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا) ففي قصة المائدة هذه شهادة ربانية لهم بصدق دعوة عيسى عليه السلام، وهذا يظهر أهمية الشهادة ومنزلتها العالية في دين الله تعالى. ولذلك قالوا أنّهم سيشهدون أمام العالمين بأنّهم قد إنزل عليهم مائدة من السماء بفضل دعاء عيسى عليه السلام، فهي في مقام الحجة لهم. ولعله بسبب هذا وردت القصة في هذا الموضع من سورة المائدة، لتدل على أهمية الشهادة وحجيتها في شرع الله سبحانه وتعالى.

هنا قال عيسى عليه السلام (اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، وهكذا استجاب عيسى لهم فدعا ربه بأن ينزل عليهم مائدة من السماء، وأرادها بأن تكون عيدا لهم، ولعل هذا هو عيد الفصح عند النصارى، أو ما يعرف بالعشاء الأخير، وإن كانت الرواية النصرانية لا تشير إلى إنزال مائدة من السماء بتاتا. وارتباط الشهادة هذه بالعيد فيها تكرار وتجديد سنوي لها. وأراد عيسى عليه السلام أن تكون هذه المائدة آية وعلامة دالة على قدرته سبحانه وتعالى. والله خير الرازقين، فهناك رزق يأتي من البشر، ولكن رزق الله يختلف في مصدره وفي هيئته، وفي هذا حسن دعاء من عيسى عليه السلام.

ويتبيّن هنا أن الأعمال منوطة بالنيّة، فهنا دعوة صححت فيها النيّة من كل جوانبها حتى قبلها الله سبحانه وتعالى. ولذلك قال سبحانه (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ). فقد وقعت الحجة، وصارت العلامة، والمعاينة من أكبر الحجج وأبلغها، ولذلك كان الكفر بها أشنع، والعذاب عليها أوجع، ولذلك فالحساب على قدر البلاغ.  وبهذا يظهر أن قصة المائدة أتت بطلب من النصارى أنفسهم، وقد طلبوها لتكون شهادة عليهم بصدق دعوة عيسى عليه السلام، ولذلك ناسب سردها في هذا المقام، قبل شهادة عيسى عليه السلام.

وهكذا تورد سورة المائدة قصة العيد لدى النصارى، كما قد أشارت قبل ذلك إلى الآيات التي أنزلت في يوم عيد المسلمين، وهو عيد الأضحى، حيث يقول سبحانه وتعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، وفي هذا إتمام لموضوع النعمة التي تسوقها هذه السورة المباركة.

ويمكن لنا هنا أيضا الوقوف مع قوله سبحانه وتعالى (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، كما وقد ورد في سورة المؤمنون أيضا (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)، وفي سورة الأنبياء (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فالآيات تشير إلى أن الإنسان قد يكون رازقا، وخالقا ورحيما، ولكنّ رزقه وخلقه ورحمته تختلف كمّا ونوعا ومقاما عن فعل الله سبحانه وتعالى. ولكنّ الأصل يبقى، فالآيات تعلمنا بأن نسعى في الحياة خلقا ورزقا ورحمة، وفي هذا درس عظيم للمسلمين، لو فقهوا كتاب ربهم سبحانه وتعالى.

 

 

 

 


 

قراءة في سورة المائدة ( ( 25

3.     الآيات (116-120): شهادة عيسى عليه السلام على قومه يوم القيامة

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

وبعد ذكر النعم يأتي السؤال الأهم في شهادة عيسى عليه السلام على قومه في ذلكم اليوم العظيم، وهنا سؤال خاص لعيسى عليه السلام، بعد السؤال العام الذي ورد سابقا للأنبياء جميعا في قوله سبحانه وتعالى (مَاذَا أُجِبْتُمْ)؟، فالظاهر من الآيات أن الأنبياء يسألون بشكل عام، كما ويسألون بشكل خاص، وفي مواضيع خاصة، فيسأل الله عز وجل عيسى عليه السلام عن موضوع تأليه قومه له ولأمه، وهو الانحراف الأعظم الذي وقع فيه النصارى، وقد ساقته الآيات سابقا في قوله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)، فدحضته بالحجة والبرهان، لكن هنا يقف النصارى أمام رسولهم الذي أرسل إليهم ليشهد عليهم في هذا المقام العظيم، وليذكرهم بشهادتهم التي أخذها عليهم في الدنيا في كل تلكم المواقف العظام، ومنها ولا ريب قصة المائدة.

يقول سبحانه وتعالى (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، والدعاء يوم القيامة يكون مجردا، فكل يدعى بأسمه يوم القيامة، وكل آتيه يوم القيامة فردا، وكل يحاسب بقدر التكليف والتشريف الذي ناله. وهنا يسأل عيسى عليه السلام عن تبليغه لقومه، هل كان واضحا أم ملتبسا، (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)؟ وما أشد السؤال وما أعظمه.

وعلى نفس المنوال، يبدأ عيسى عليه السلام جوابه بتعظيم الله سبحانه وتعالى، ونسبة العلم كله له سبحانه وتعالى (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). وهنا يخبر بأن هذا السؤال ليس سؤال استخبار، وإنما هو سؤال توبيخ للنصارى وإقامة للحجة عليهم. ثم يقول سبحانه وتعالى على لسان عيسى عليه اسلام (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)، إنه مقام إظهار الإمتثال لأمر الله سبحانه وتعالى، وإجابته عليه السلام تفيض تواضعا وخضوعا له سبحانه وتعالى، فكيف يرمى بالألوهية من أذعن لله سبحانه وتعالى، وعبده، إنّه عليه السلام أمرهم بعبادة الله وحده، هو ربه ورب العالمين.

ويستكمل (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، فشهادة الأنبياء خاصة بفترة معيّنة، أما شهادة الله سبحانه وتعالى فعامة تتسع لكل شيء. وتصرح الآيات هنا مرة أخرى بوفاة عيسى عليه السلام. وبعد أن برأ المسيح عليه السلام نفسه من هذه الفرية، قام يدعو لقومه مستكملا مهمته التي لم يتخل عنها يوما، ومفوضا أمر المغفرة لله سبحانه وتعالى، في حسن تصرف منه عليه الصلاة والسلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فإن تعذبهم فإنهم عبادك، فأنت خالقهم ومالكهم، وبيدك تصريف الأمور كلها، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، ولم يقل الغفور الرحيم، لئلا يصفه سبحانه وتعالى بعدم المغفرة إنه هو أراد أن يعذبهم سبحانه وتعالى، وهذا من تمام أدبه عليه الصلاة والسلام. فالله رحيم على كل حال، والمقام هنا مقام عزة وحكمة.

وبعد المرافعة والشهادة يأتي الحكم من الله سبحانه وتعالى، (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)، ولم يقل هم في النار، وإنما ذكر القاعدة المرجعية في هذا، فكيف كان صدق هؤلاء مع الله سبحانه وتعالى، هل كانوا يستترون عن الحق بالحجب والشبهات، أم كانوا صادقين مع أنفسهم، يبحثون عن الحق، بصدق نية، وإخلاص طوية، فالله ييسر الحق لمن بحث عنه، ولكن القوم حجبتهم شهواتهم عن رؤية الحق وإتباعه. أو لعل الخطاب هنا لعيسى عليه السلام، وما يعزز هذا أنه تلي بذكر الجنات والنعيم، فعيسى عليه السلام كان صادقا في شهادته هذه، ولذلك نال الجنة والرضوان. والشهادة شأنها عظيم في ذلكم المقام، ولا ينجي حينئذ إلا الصدق، فلا مجال للأعذار عند حضور الملك الجبار.

ثم تختتم السورة بالشعار النهائي، حين يُنادى يومئذ: لمن الملك اليوم، ولا ريب أنه لله الواحد القهار، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وقال ما فيهن، ولم يقل من فيهن. والحكم يؤمئذ لله وحده، يحكم في ما ملك سبحانه وتعالى.