قراءة في سورة النساء (1)
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله
الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي سجد له من في السموات والأرض، سبحانه من بيده
الرفع والخفض، خلق الإنسان وعلمه البيان، وهداه إلى طريق الإيمان والإحسان.
والصلاة والسلام على أشرف الأصفياء وخاتم الرسل والأنبياء، سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين.
أمّا بعد فهذه
قراءة متواضعة في سورة النساء، كتبتها تقربا لله سبحانه وتعالى، وطلبا لفهم كتابه
العزيز. والقرآن الكريم مورد المؤمنين، ومنهل الصالحين، لا تنتهي عجائبه، ولا
تستقصى أسراره، يغرف منه المرء بقدر وعائه، وهو البحر الزاخر يظل على حاله، وإن
تكاثر عليه الوّراد.
وقبل البدء في
ذكر أهداف سورة النساء، يجدر بنا أن نذكر أوجه التشابه بينها وبين سورة آل عمرن، وذلك
لمعرفة الصورة الكبرى والصلات التي تربط بين هاتين السورتين، والأهداف العامة
بينها:
1.
كان محور سورة آل عمران يدور حول قيّومية الله
سبحانه وتعالى على الكون، وتثبيته للمؤمنين الذين يواجهون أعداء الله وأعدائهم من
الكافرين، فهي كانت تجني العبر من الإبتلاءات والمواجهات التي كان يلقاها المؤمنين
من أعداء الله سبحانه وتعالى، فتقوي شخصيتهم وتبنيها. أمّا سورة النساء فهي تتجه
إلى بناء الداخل الإسلامي، بناءا يهدم ضلالات الجاهلية ويقيم بدلها بنيان الإسلام
الشامخ، قائما على الشرع الإسلامي الحنيف، دستورا خالدا يبني أمة خالدة. وهكذا نجد
أن سورة آل عمران كانت تمهّد لسورة النساء، فهناك جهاد وإبتلاء، وهنا بناء لكيان
الدولة الإسلامية الخالدة.
2.
اختتمت سورة آل عمران بلأمر بتقوى الله سبحانه
وتعالى، وافتتحت سورة النساء بنفس الموضوع، دلالة على الاستمرار والصلة بين السورتين.
3.
فضحت سورة آل عمران، موقف المنافقين عند نكوصهم
من غزوة أحد، لستكمل سورة النساء الحديث عنهم، فتذكر أحكام قتال المنافقين، وتتوسع
في فضح صفاتهم التي تعيق بناء المجتمع الإسلامي المتماسك.
4.
تحدثت سورة آل عمران عن الجهاد في سبيل الله، ثم
أنّا نجد أن سورة النساء وبعد أن استكملت البناء الدستوري للدولة الإسلامية، تعود
أيضا فتحض على الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن هذه الدولة الإسلامية. فنجد
التكامل بين السورتين، فسورة النساء تحض إلى الجهاد بدافع حماية الدولة وحفظ
كيانها، وسورة آل عمران تدعوا لتثبيت المؤمنين وحثهم على الصبر والجهاد.
5.
توسعت سورة آل عمران في محاججة النصارى ودفع
شبهاتهم، واستمرت سورة النساء في دفع الشبهات عن المسيح عيسى عليه السلام، لتنفي
تمكن اليهود من قتله وصلبه عليه الصلاة والسلام.
أوجه التشابه
مع سورتي الفاتحة والبقرة:
كما ويوجد هنا
أوجه للتشابه بين سورة النساء وسورتي الفاتحة والبقرة، ونذكر من ذلك:
1.
تتشابة سورة النساء مع سورة البقرة، بكثرة
الأحكام فيها، فسورة النساء تتناول بالتشريع عددا من المواضيع الإجتماعية، كما أن
سورة النساء تعود بالحديث عن اليهود، بعد أن كان الحديث منصبا على النصارى في سورة
آل عمران.
2.
تتوسع سورة النساء في شرح نهايات سورة الفاتحة،
في قوله تعالى (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم)، لتذكر هؤلاء
بالتفصيل، (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَئِكَ رَفِيقًا)، فسورة النساء تنشد قيام كيان الدولة والأمة، وذلك ما سعى
إليه هؤلاء الأنبياء والأولياء.
وبالمجمل ابتدأت سورة البقرة بذكر قصة استخلاف الله للإنسان في الأرض،
وذكرت معالم لعهد الله سبحانه وتعالى للإنسان ليتمكن من ذلكم الإستخلاف. فقد إنزل
الكتاب العزيز منهجا ودستورا هاديا إلى سبيل الله سبحانه وتعالى وشرعه. فتضمنت
سورة البقرة عددا كبيرا من الأحكام الشرعية، وذلك بعد أن ذكرت قصة نقض أمة اليهود
لعهد الله وميثاقه. ثم جائت سورة آل عمران لتثبت قيّومية الله سبحانه وتعالى على
الكون والإنسان، فله سبحانه وتعالى حق الملك وله حق التشريع، ولتبيّن للمؤمنين بأن
الله قريب منهم بنصره وتأيده، فليكونوا قريبا منه بلجئوهم إليه ونصرته، وبذلك وحده
يتمكن المؤمنون بمسؤولية القيام بأمر الأستخلاف في الأرض.
ثم تأتي سورة
النساء بالمنهج والتشريع الذي يقيم صرح الدولة الإسلامية، فيستقر عطائها على منهج
الله سبحانه وتعالى الذي أنزله على عباده ورسله السابقين، فتكون الدولة هذه حاملة
للنفس اللواء الذي حمله الأنبياء السابقين من قبل، فيظل بناء الأمة الأسلامية
خالدا ممكنا له في الأرض. إنّه منهج التقوى والعدل الذي يحفظ الحقوق ويساوي بين
الناس بميزان القسط، والعدل هو دعامة الاستخلاف.
قراءة في سورة النساء (2)
نظرة إلى مقاصد العامة لسورة النساء:
إنّ الهدف الجامع لمقاصد سورة النساء يدور حول البناء التشريعي للدولة
الإسلامية. ولتحقيق هذا غرض، تنقسم السورة إلى أربع محاور، يمكن تفصيلها كما يلي:
المحور الأول: الآيات
(2-43): تشريعات لحفظ حقوق الأقارب والأرحام وبناء نواة المجتمع وهي الأسرة. فتبدأ
السورة باقتلاع رواسب الجاهلية التي سلبت حقوق الضعفاء من الرجال والنساء
والأطفال، وخاصة الأيتام منهم، فتهدم السورة عادات الجاهلية التي كانت قائمة لقرون
وكانت سببا لأنواع من الظلم وهضم الحقوق، فتجتث هذه السورة تلكم العادات، وتقيم
بدلها تشريعات إسلامية سمحة قائمة على حفظ الحقوق والقيام بالقسط، فترجع حقوق
الأيتام والنساء، وتضع التشريعات اللازمة لحفظ كيان الأسرة. ويبيّن هذا المحور أن
الأساس الذي يبنى عليه كيان الدولة الإسلامية هو حفظ الحقوق في دائرة الإسرة، ثم
ما تلاهام من علاقات إجتماعية، تتوسع حتى تصل هذه العلاقات إلى العلاقة بين الحاكم
والمحكوم.
المحور الثاني:
الآيات (44-104): بناء الدولة الإسلامية. مهّدت السورة لبناء مجتمع إسلامي متماسك،
ثم ذكرت عددا من التشريعات التي تقيم صرح الدولة الإسلامية، وذكرت أهدافها وغايتها.
ثم توسعت في ذكر العقد الذي تقوم عليه وشرحت موضوع الطاعة لأولي الأمر. ثم تحدثت
الأيات عن موضوع الدفاع عن الدولة، وتناولت شأن العلاقات مع الكيانات السياسية
الأخرى.
المحور الثالث:
الآيات (105- 162): عوامل زوال الأمم. نبهت السورة إلى أهم العوامل التي تؤدي إلى
زوال الأمم، وتوسعت في شرح صفات الأعداء التقليدين للأمة وهم المنافقون واليهود والمشركين.
وقدمت السورة هنا أهم العلاجات التي ترسّخ لاستمرار عطاء وبقاء الأمم وترفع من
شأنها. وأهم ما نبهت إليه الآيات هنا، هو أهمية قيمتي العدل والتقوى في رسوخ
الأمم، ثم نبهت إلى خطر الإتكال إلى الأماني الكاذبة بدل الإتكاء على العمل الصالح
الدؤوب، وذكرت خطر النجوى والإشاعات المرجفة المزيفة للحقائق.
المحور الرابع:
الآيات (163- 167): ذكر الرسالة التي تحملها هذه الأمة، فالأمة الإسلامية ودولتها
إمتداد لمجهودات ودعوة الأنبياء في الأرض. فلقد تعاقب الأنبياء والرسل تترى لهداية
الناس وتمكين شرع الله في الأرض، وتلكم هي الرسالة التي تحملها هذه الأمة، فهي الحاملة
لرسالة الأنبياء والمرسلين من بعدهم. وهكذا وقفت سورة النساء طويلا مع مبدأ
الإيمان بالرسل، وأنهم إنما جائوا لتمكين شرع الله سبحانه وتعالى على هذ البسيطة،
ثم اختتمت السورة بالتحذير في شأن الغلو في الأولياء والأنبياء.
وكذا نجد أن
هذه السورة الكريمة تبدأ بنطاق الأسرة، وتنتهي بالحديث على مستوى الأمة، مرورا
بموضوع الدولة الإسلامية. والسورة في مجملها تعمد إلى غرس مبدأين إسلاميين: هما
التقوى والعدل. فالعدل أساس الملك، والتقوى هي الحصن الذي يحفظ الإيمان بالله
سبحانه وتعالى. ولقد امتزجا هذين المبدأين في جميع محاور السورة، فكانا بمثابة
الشرطين للوفاء بغرض السورة وهدفها، ولقد درست السورة هذين المبدأين دراسة متعمقة،
فبيّنت أهمية الإيمان في تثبيت هذين المبدأين، ومآلات الأمة إن هي تخلت عنهما. والتقوى
هي الدافع الأصيل للقيام بالعدل وإعطاء الحقوق.
والتشريع
الإسلامي له ميزات أخرى كثيرة، منها الرحمة، والتخفيف والواقعية التي تعترف بحدود
القصور البشري. والآيات فيها ووعد ووعيد، وهي دائما ما تدعو الناس للرجوع إلى الله
سبحانه وتعالى والإنابة إليه، وتبيّن قدرة الله سبحانه وتعالى الذي له ملك السموات
والأرض.
2.
الهيكل العام لسورة
النساء:
أولا: الآية 1: الإفتتاح بإيضاح
الغايات الكبرى للتشريع الإجتماعي في الإسلام:
ثانيا: تشريعات لحفظ نظام الأسرة والأقارب والأرحام: (2-43)
الآيات: (2-6): حفظ أموال الضعفاء من اليتامى والنساء:
الآيات (15-18): حكم فاحشة الزنا
الآيات (19-21): تشريعات في الزواج
الآيات (22-28): المحرمات من النساء:
الآيات (29-31): من مقاصد الشريعة السامية: حفظ الأموال والأنفس:
الآيات (32-35): التكامل بين الرجل والمرأة:
الآيات (36-43): دور العبادة والإيمان في تقويم السلوك
ثالثا بناء الدولة
الإسلامية: (44- 70)
الآيات (44-50): تحصين المجتمع الإسلامي من ضلالات اليهود
الآيات (58-60): أسس وغاية الدولة الإسلامية:
الآيات (61-70): طاعة المؤمنين وطاعة المنافقين:
رابعا الدفاع عن
دولة الإسلام (71- 104)
الآيات (71-78): الحض على الجهاد:
الآيات (79-87): فلسفة المصيبة:
الآيات (88-91): حكم قتال المنافق؟:
الآيات (92-96): حكم قتل المؤمن وديّته:
الآيات (97-104): الترغيب في الهجرة لله سبحانه وتعالى:
خامسا: عوامل في
زول الأمم (105- 136)
الآيات (105-112): إختلال ميزان العدل:
الآيات (117-126): الإهتمام بالعمل بدل الإتكال على الأماني
الآيات (127-136): القيام بالقسط والشهادة لله:
الآيات (137-152): المنافقون: تزعزع الإيمان وموالاة الكافرين
الآيات (153-162): مخاصمة اليهود لله ورسله:
الآيات (163-176):
هدف ودور الأمة الإسلامية هو حمل الرسالة الربانية:
الآيات (171-176): النهي عن الغلو في الأنبياء والأولياء:
أولا: الآية 1: الإفتتاح بإيضاح الغايات الكبرى للتشريع الإجتماعي في
الإسلام:
بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
تُفتتح هذه السورة الكريمة بنداء عام للبشرية جميعا بأن اتقوا الله، وخافوه
وراقبوه سبحانه وتعالى، وقد تكرر الأمر بالتقوى في هذه الآية الكريمة مرتين، في
بدايتها وفي منتصفها، ثم أُنهيت بأسمي الله العليم والرقيب. فالأمر بالتقوى يحتضن
الآية من جميع أطرافها. ثم يدلل بقيتها على سبب مشروعية هذه التقوى ثم مجالها. أما
سببها فلأن الله سبحانه وتعالى هو الرب والخالق للناس جميعا، فهو المستحق للعبادة،
فعلى الناس جميعا أن تتبع شرعه سبحانه وتعالى، وأما مجالها، فتقوى الله سبحانه
وتعالى هي الهادية لأفضل السبل عند التعاطي مع الناس جميعا، الذين بثهم الله
سبحانه وتعالى في هذه الأرض ليعمروها، ثم هي التي تحفظ الإنسان مع أرحامه وذويه،
وهم أحق الناس بعطائه وحسن معاملته، ولذلك تم إقران صلة الأرحام هنا بتقوى الله
سبحانه وتعالى خاصة، وما ذلك إلا لأهمية منزلة الأرحام في شرع الله تعالى.
قراءة في سورة النساء (3)
أولا: الآية 1: الإفتتاح
بإيضاح الغايات الكبرى للتشريع الإجتماعي في الإسلام:
بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
تُفتتح هذه السورة الكريمة بنداء عام للبشرية جميعا بأن اتقوا الله، وخافوه
وراقبوه سبحانه وتعالى، وقد تكرر الأمر بالتقوى في هذه الآية الكريمة مرتين، في
بدايتها وفي منتصفها، ثم أُنهيت بأسمي الله العليم والرقيب. فالأمر بالتقوى يحتضن
الآية من جميع أطرافها. ثم يدلل بقيتها على سبب مشروعية هذه التقوى ثم مجالها. أما
سببها فلأن الله سبحانه وتعالى هو الرب والخالق للناس جميعا، فهو المستحق للعبادة،
فعلى الناس جميعا أن تتبع شرعه سبحانه وتعالى، وأما مجالها، فتقوى الله سبحانه
وتعالى هي الهادية لأفضل السبل عند التعاطي مع الناس جميعا، الذين بثهم الله
سبحانه وتعالى في هذه الأرض ليعمروها، ثم هي التي تحفظ الإنسان مع أرحامه وذويه،
وهم أحق الناس بعطائه وحسن معاملته، ولذلك تم إقران صلة الأرحام هنا بتقوى الله
سبحانه وتعالى خاصة، وما ذلك إلا لأهمية منزلة الأرحام في شرع الله تعالى.
وتركز سورة النساء على الشرائع الإجتماعية في الإسلام، لذلك فقد حوت هذه
الآية الكريم على الغايات الكبرى للتشريع الإجتماعي في الإسلام، وأهم ركائزه الأساسية،
ولذلك يجدر بنا الوقوف معها بشيء من التمعن:
أولا الخطاب هنا للناس جميعا: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ":
فالتشريعات الربانية أنزلت للبشرية جميعا، ولم تخص فئة دون أخرى، إنه خطاب
عام يشمل الناس جميعا، ليستفيدوا من هذا الخير العميم، فلا يوجد تمييز أو تفضيل
لجنس على آخر في هذا التشريع الكريم. إنها دعوة للتمازج والتكامل في ظل هذه
الشريعة الربانية التي أنزلت رحمة للعالمين.
ثانيا الأمر بالتقوى " اتَّقُوا رَبَّكُمُ" و " وَاتَّقُوا
اللَّهَ": هذا هو هدف التشريع الإجتماعي في الإسلام، تقوى الله سبحانه
وتعالى. وذكر هنا لفظة الرب، ثم ذكر أهم صفاته وهو الخلق، فالله سبحانه وتعالى هو
الخالق ، وقد قال سبحانه في سورة البقرة (ياأيها الناس اعبدوا
ربكم الذي خلقكم)، فالله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة والتقوى. ولذلك
فالتشريعات الرباينة القادمة في هذه السورة الكريمة، وفي غيرها من السور، سوف تقدم
خطة تشريعية لتثبيت مبدأ تقوى الله وعبادته في المجتمع. والتقوى مبدأ قائم على
الإيمان، فالذي آمن بالله سبحانه وتعالى وسلّم بأمره سوف يتمسك بشرع الله سبحانه
وتعالى ويجاهد من أجل تثبيته والقيام بأمره.
ثالثا: مبدأ المساواة والعدل، ولذلك انطلقت الآية الكريمة بذكر أصل البشرية
جميعا، فهم جميعا من آدم عليه السلام، فلا يوجد هناك أي فرق بينهم، "كلكم
لآدم، وآدم من تراب"، فلا يتفاضل جنس على آخر، أو أبيض على أسود، يقول سبحانه
"
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً"، فلا مجال للتكبر والتعالي والتعصب،
وذلك الذي كان شائعا في الجاهلية. وحتى المرأة إنما هي خلقت من آدم عليه السلام،
وهي مع الرجل زوج، متساويان، في إظهار لمعنى التساوي الحقيقي بين الجنسين. وهكذا
نجد أن سورة النساء تركز على موضوع العدل والمساواة في جميع أحكامها، وهذا هو هدف
التشريع، وضع الحقوق والقيام بالعدل بين الناس جميعا. ولذلك جاء الخطاب في بداية
السورة للناس جميعا، فالشريعة الربانية قائمة على مبدأين: تقوى الله سبحانه
وتعالى، وإقامة العدل بين الناس جميعا على حد سواء.
ثم تعود الآية لتبيّن منزلة الأرحام في هذه الشريعة الربانية " وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ"، ونجد ذلك كثيرا في
القرآن الكريم، فصلة الأرحام وحقوق الأبوين عادة ما تقرن بتقوى الله سبحانه
وتعالى، وما ذلك إلا لعظم مكانتها ومنتزلتها، ولذلك نجد أن سورة النساء تبدأ بذكر الحقوق
المتصلة بالأسرة، ثم تتوسع لتشمل التشريعات التي تعنى بالمجتمع والأمة. ليكون هدف
السورة هو إقامة مجتمع إسلامي متماسك، قائم على تقوى الله والعدل والمساواة بين
أفراده.
قراءة في سورة النساء (4)
ثانيا: تشريعات لحفظ نظام الأسرة والأقارب والأرحام: (2-43)
الآيات: (2-6): حفظ أموال
الضعفاء من اليتامى والنساء:
وءَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى
أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى
وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا
فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ
الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا
بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ
كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
بعد المقدمة في أصول التشريع الإجتماعي في الإسلام. تبدأ الآيات هنا بمعالجة
أشد الجروح إيلاما في المجتمع الإسلامي الوليد، والناتجة عن تراث الجاهلية
العمياء، حيث السطو على حقوق الضعفاء، وإهدار كرامتهم وأموالهم، والقرآن إنما أتى
نصرة للمظلومين والمستضعفين، وأشد من وقع عليهم الظلم، هم الأيتام الذين تؤكل
أموالهم، وخاصة إن كن نساءا، فيتسلط على أموال اليتميات، وربما زوجت الواحدة منهن
دون رضى أو صداق. والمجتمع الجاهلي يعج بعدد من أنواع الزيجات السيئة، التي تتسلط
على حقوق المرأة وتسلبها أرادتها. لذلك تبدأ السورة هنا من النواة الصغيرة
للمجتمع، وهي الأسرة، فترفع الظلم عن أفرادها، ثم تضع التشريعات اللازمة للقيام
بالقسط والعدل على هذا المستوى. والآيات هنا تدور حول محورين أثنين:
أولا حفظ أموال اليتامى: فتبدأ الآيات بالأمر الصريح بأن آتوا اليتامى
أموالهم، فعلى الجميع أن يعطي الحقوق لأصحابها، ثم تنهى الآيات عن صور من الحيّل
التي يلجأ إليها الولي، إلى يوم الناس هذا وللاسف الكبير، ومن ذلك استبدال الأموال
فيعطى اليتيم المال الخبيث، ويجعل المال الطيب لنفسه، ومن ذلك أن يلجأ إلى خلط
المال، فلا يمكن تمييزه وبالتالي قسمته. إنّ الولي مؤتمن على المال، عليه أن يحفظه
وينميه للأيتام، لا أن يسارع فيه فيفنيه قبل بلوغ الأيتام سن الرشد، وإن كان فقيرا
فليأكل منه بالمعروف. والولي عائل لأموال الأيتام أيضا فلا يسلمهم المال قبل أن
يرشدوا، فيعرفوا أهمية المال وكيفية التصرف فيه. وهكذا هدمت الآيات هنا نظام
الجاهلية وأقامة بدله نظام قائم على حفظ الحقوق وصونها.
كما وحرصت الآيات على حسن معاملة الأيتام، فقد قال سبحانه "وَارْزُقُوهُمْ
فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا" وهكذا فإن اليتيم
ضعيف يحتاج إلى عناية خاصة من وليّه وأهله، فينبغي القيام بأعمالهم وكسوتهم،
وينبغي الإحسان لهم في القول والمعاملة، ولليتيم على العموم منزلة خاصة في
الإسلام.كما أن للأموال أيضا منزلة كبيرة في الإسلام، ولذلك نهت الآيات هنا من
إعطاء السفهاء أموالكم، وقد سميّت أموالكم، لأن لملكية المال في الإسلام فلسفة
خاصة، فلا يحق للسفيه أن يلعب ويلهو بالمال، فعلى المجتمع هنا أن يتدخل ويحجر على
هذا السفيه. ذلك لأن الشريعة تولي إهتماما كبيرا بالمال وحفظه، وهو مال الله،
والناس مستخلفون فيه، فلا يحق اللعب فيه واللهو، بل يجرى في أمور الخير والتقوى،
ولذلك نبهت الآيات إلى كون الله سبحانه وتعالى حسيب رقيب.
ثانيا عدم جواز زواج الولي باليتيمة إذا خاف أن لا يقوم بحقها، في تأكيد لحرمة
أكل مهرها. لا بد من حفظ حقوق اليتيمات في الميراث والزواج والمهر. والمرأة
اليتيمة حالها مثل حال غيرها من النساء، لا تتزوج إلا برضاها. وعلى الولي إن أراد
أن يتزوجها أن يقوم بهذه الحقوق جميعا، ولا يجوز له الزواج منها إن خاف من ضياع
حقوقها هذه. وهذه الحقوق تشمل اليتمية وغيرها من النساء، فلا يجوز أيضا التعدد في
الزواج بأكثر من إمرأة مع خوف عدم القيام بالحقوق والواجبات جميعا، والقيام بالعدل
والقسط بين هؤلاء النساء.
إن القيام بالقسط وإعطاء الحقوق وحفظ الواجبات هو الأساس الذي يقوم عليه
بنيان الزوجية. ومن خاف أن يخل بشرط العدل فليقتصر بالزواج من واحدة، ومن لم يجد
المال، فليكتفي بملك اليمين، في حظ واضح على الزواج وصون الأعراض. والآيات تضع حدا
أقصى لموضوع التعدد، فلا يمكن الزواج بأكثر من أربع نساء. ولعل بنيان العدل لا
يستوعب أكثر من ذلك.
والآيات تحتوي تمازجا عجيبا بين موضوعي حقوق الأيتام والزواج،
ولعل ذلك يُظهِر للدارس والمتعمق أوجها من سعة التشريع ونواحيا مختلفة من مقاصده،
التي إنما تظهر بالمقارنة والممازجة. كما أن هذا التشريع يحتاج إلى دراسة معمقة
تسبر أغواره وتتعرف على أسراره، والحديث في موضوع الميراث وتعدد الزوجات ما زال
قائما في الساحة إلى يوم الناس هذا. وسوف تتوسع الآيات التالية في موضوعي الميراث
والزواج، وتحيطهما بتشريعات أكثر تفصيلا.
قراءة في سورة النساء (5)
الآيات (7-14): أحكام المواريث
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ
أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ
نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ
وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ
أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ
السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ
أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ
دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ
امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ
(14)
تحدثت الآيات السابقة عن ضرورة حفظ
أموال اليتامى وحقوق النساء، لتأتي الآيات هنا بالأحكام والتشريعات الربانية التي
تضبط موضوع قسمة المواريث، فتبيّن نصيب كل فرد من الميراث، وهي تشكل مع الآية 176
من هذه السورة نفسها علم قائم بذاته، هو علم الفرائض، حيث يمكن من خلاله تقسيم
تركة الميت على جميع ورثته بحكم الله وشرعه. وهكذا نجد أن علم فرائض الميراث بجميعه
مستند على آيات الكتاب العزيز، فهو سبحانه الذي تكفل بقسمة التركة بين أولياء
المتوفي. ولعل هذا بسبب أهمية هذا الموضوع وحساسيته التي يمكن أن تفرق بيّن أفراد
العائلة الواحدة، فلذلك أراد الشارع الكريم أن يقطع أسباب الخلاف والنزاع، فتكفّل
بقسمة التركة بينهم، والله سبحانه وتعالى يقول "آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا"، فالله سبحانه وتعالى هو وحده العليم الخبير، ولسنا هنا في مقام ذكر نصيب كل فرد من الميراث، فهو كما
ذكرنا علم قائم بذاته، ولا شك أن حكم وأسرار هذا التشريع الرباني لا تنتهي ولا
يمكن أن تحصى.
ولكنّا نلاحظ بأن هذه الآيات الكريمات
قد تشددت كثيرا في قضية قسمه المواريث، فلا يجوز العدول عن قسمه الله فيها، ولذلك
كل أعطي نصيبا مفروضا، لا يجوز الإخلال فيه، فتلك هي وصية الله تعالى في المال،
ولا يجوز العدول عن وصية الله سبحانه وتعالى، فهي مقدمة على وصية الوارث نفسه. ثم أن
النصيب من الورث بمقام الحد الرباني الذي لا يمكن التعدي عليه، ولعل هذا الوعيد
الشديد هنا لكثرة التلاعب في أمر المواريث، والتهاون والتخاذل في قسمتها، ولضمان
حفظ الود في الأسرة والعائلة والواحدة.
وتحفظ الآيات هنا حق المرأة من الميراث، فيقول سبحانه وتعالى
"لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ
وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ
مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا" فكل له نصيب واجب لا بد من تلبيته
وسداده. كما تعطي الآيات هنا بعض النصائح التي تظهر عظمة القرآن الكريم ورحمته في
التشريع، فمن ذلك ما يشرحه قوله سبحانه " وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلًا مَعْرُوفًا" وهنا بيّان للكرم الذي يريد القرآن الكريم أن يكرّسه في
نفوس أصحابه، فالأقارب وإن كان لم يفرض الله لهم حقا من الميراث، فإنهم إن حضروا
يعطوا نصيبا منه حتى تطيب نفوسهم، وتذهب عنها أسباب الحسرة والشقاق، بل والقرآن
الكريم لا يكتفي بالإعطاء، بل يوصي بذكر القول الحسن لهم، والكلمة الطيبة لها أثر
عظيم في النفوس. وكذلك يوصي القرآن بإعطاء المساكين واليتامى وغيرهم ممن حضر تلكم
القسمة. وهكذا يزرع القرآن الكريم روح التكافل والتعاون بين افراد مجتمعه.
ثم إن الله سبحانه وتعالى يوصي الولي بأن يرحم الأيتام ويعطف
عليهم، فيقول سبحانه وتعالى " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ
خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ
وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا"، هكذا ينبغي للولي أن يعتبر الأيتام بمنزلة أولاده،
ويتجنب أن ينهرهم بالقول ويشدد عليهم في حياتهم، بل عليه أن يرحمهم ويعطف عليهم،
ويقول سبحانه وتعالى في مقام آخر "وأما اليتيم فلا تقهر". وهكذا نجد أن
الآيات هنا لا تكتفي بوضع ميزان العدل والقسط التي تقيمه هذه الشرائع، وإنما تخاطب
المؤمنين المتقين بخطاب الرأفة والرحمة، وهكذا هو شرع الله سبحانه وتعالى يجمع بين
العدل والرحمة.
"فللأولاد النصيب الأكبر من الميراث، فبعد
أن يأخذ أصحاب الفروض حقوقهم فالباقي للأولاد، إن كان فيهم ذكرا، وإن لم يكن هناك
ولد ذكر، فاللبنات جميعا الثلثين، إلا إن كانت واحدة فلها نصف التركة. وبعد الحديث
عن ميراث الأولاد اتجه الحديث لإعطاء الوالدين حقهم من الميراث. وللوالدين السدس
لكل منهما مع وجود الولد، أما الأب فيحافظ على هذا السدس، وله بقية التركة
بالتعصيب بعد أخذ أصحاب الفروض حقوقهم، وهم الأبناء والزوجة، فهو يحجب الباقين.
وأما الأم لا تحجب أحدا، فتأخذ الثلث مع عدم وجود الأبناء ولا الأخوة، ويرجع
نصيبها ليكون السدس مع وجود الأبناء أو الأخوة، الذين تقسم بينهم التركة ليكون
للذكر مثل حظ الأنثيين. ثم تكمل الآية التي بعدها الحديث عن نصيب الزوج والزوجة،
فللزوج نصف التركة مع عدم وجود الولد، وله الربع مع وجود الولد، وللزوجة نصف ذلك،
لها ربع التركة مع عدم وجود الولد، ولها الثمن مع وجودهم. ثم تتحدث الآيات عن حقوق
الأخوة والأخوات، وهؤلاء ليس لهم نصيب مع وجود الولد أو الأب، إلا أن لهم ثلث
التركة إن كانوا أكثر من واحد، وإن كان أخ واحد أو أخت واحدة فنصيب كل منهم السدس". ويمكن
يستبدل بجول.
قراءة في سورة النساء (6)
الآيات (15-18): حكم فاحشة الزنا
وَاللَّاتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا
فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا
رَحِيمًا (16)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ
الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (18)
وما زالات الآيات تعالج أهم
الآفات التي أوجدتها الجاهلية، وقد كانت الآيات تدور حول موضوع حفظ حقوق الأيتام
والنساء وموضوع الزواج، ثم شرعت في عرض أحكام وشرائع الميراث، وقبل أن تشرع في ذكر
أحكام وتشريعات الزواج، تقف هنا مع موضوع مهم، يؤرق بيت الزوجية ويهد بنيانه،
وذلكم هو موضوع فاحشة الزنا، والذي كان منتشرا في الجاهلية. والشريعة الربانية
تعنى بتكوين مجتمع طاهر زكي نقي، ولذلك نجد الآيات هنا، كما كانت سابقا، تقف بداية
لتهدم بنيان الآفات والمهلكات التي كانت منتشرة في المجتمع، وذلك قبل أن تبدأ في
وضع الأطر والتشريعات المناسبة لبناء مجتمع النقاء والصلاح والنور.
يقول الله سبحانه وتعالى "وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ
نِسَائِكُمْ" أي من جنس النساء، فلا بد من إقرار الشهود عليهن بالجرم، وذلك
بإجتماع أربع من الشهود ليرووا تفاصيل شهادتهم في الموضوع. وهنا يظهر عمق الإحتياط
المراد لإثبات مثل هذا الجرم، فالقرآن الكريم، لا يكتفي بشهادة فرد أو فردين، بل
لابد من إجتماع أربعة شهود عدول، وذلك لاشك أنه أمر يصعب تحققه في أرض الواقع،
فيظهر أن المقصود هو حفظ الأعراض من أن تنتهك، فلا يبيح الإسلام الإتهام بالزنا
والفاحشة في المجتمع إلا إن كان حدث الزنا ظاهرا بحيث لا يمكن أنكاره. وإذا أثبت
هذا الجرم، فإن الآيات تدعوا إلى إمساك هؤلاء النساء في البيوت، فيغلق عليهن حتى
لا يتمكنّ من إغواء غيرهن مما سيؤدي إلى إنتشار هذه الرذيلة، وقد أمرت الآيات هنا
بحفظهن بالبيوت، وذلك قبل أن يأتي حد مفصلا في سورة المؤمنون. وتنبه الآيات هنا إلى
أهمية التأديب والتأنيب والتوبيخ في الزجر عن فعل الباطل، فيقول سبحانه وتعالى
"وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا" والإيذاء يكون
بالتقريع والتوبيخ حتى تكون التوبة منهم، سواء كان الزاني رجلا أو أمراة.
ثم تدعو الأيات إلى التوبة
والإنابة لله سبحانه وتعالى، وهي الغاية التي تهدف إليها هذه الشريعة السمحة، وذلك
بأن ينوب الناس جميعا إلى الله سبحانه وتعالى ويستغفروه، فيتركوا أسباب الضلال
والغي ويتمسكوا بأسباب البركة والطهر. وتنبه الآيات إلى أهمية الإسراع إلى التوبة،
وذلك لأن مثل هذه الشهوات تتمكن من النفس، ولا تفلتها حتى تردي صاحبها إلى القبر.
ولذلك فالتوبة الصادقة لا تكون إلا من مؤمن صادق الإيمان بالله سبحانه وتعالى،
والمؤمن تعتريه الغفلة والجهالة، كما وتكون على قلبه غشاوة تغطي منافذ الإيمان في
قلبه، ولكنه سرعان ما يرجع إلى صوابه بعد ذلك. فليسارع المؤمن إذن إلى طرق باب
التوبة ولا يفتح للتسويف باب، فإنه عاقبة ذلك وخيمة.
وهكذا ترشد هذه الآيات إلى
التمسك بأسباب الإيمان والتقوى، فهي العاصمة من كل خطيئة ورذيلة، ولا ينبغي للمسلم
أن ييأس من رحمة الله، فاالله متكفل بالمغفرة للتائب الذي حسنت توبته وإنابته لله
سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى هنا " إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ" وكأنه أمر
واجب عليه سبحانه وتعالى. ومن الملاحظ أن أحكام الميراث أنهيت بذكر الجزاء الأخروي
للطائع والعاصي، أمّأ الآيات هنا فقد وقفت مع موضوع التوبة والمغفرة، لتدعو كل
عاصي بأن يرجع لله سبحانه وتعالى من قريب.
قراءة في سورة النساء (7)
الآيات (19-21): تشريعات في الزواج
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ
زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ
وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
(21)
تواصل الآيات هنا في إعطاء النساء حقوقهن فيما يتعلق بأمر الزواج، فتأمر
بداية باستإصال عادات الجاهلية الحمقاء، فتنهى عن أن تكون المرأة سلعة تورث، كباقي
المتاع، يقول سبحانه وتعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا"، إنّ طريق
الجهالة يوصل إلى الأفعال الشنيعة التي تنفر منها النفوس السليمة. ثم تنهى الآيات
أيضا عن عضل النساء، فلا بد من القيام بحقوق الزوجية كاملة، وهكذا تهدم الآيات
العادات الجاهلية وتقوم بدلها بنيان الإسلام الشامخ، والإسلام يحرص على إعطاء
الحقوق وحسن المعاملة. إن قاعدة الجامعة التي تأصل لحسن العلاقة بين الزوجين في
الإسلام، هي مبدأ العشرة بالمعروف. والمعاشرة بالمعروف كلمة جامعة تذكر الزوجان
بحسن وطول اللقاء بينهما، وهي تحوي معاني الألفة والمحبة والصحبة بين الزوجين، كما
وتذّكر بتعاونهما جميعا في الوقوف أمام محن الزمان، في السرّاء والضرّاء، ثم تذكّر
الآيات بأن الإنسان مخلوق ناقص، ولا بد من وجود الخلل في بعض جوابه، فليذكر
الإنسان المحاسن وليتغافل عن المساويء، يقول سبحانه وتعالى "َإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ
خَيْرًا كَثِيرًا"، إنها آيات تتبنى الواقعية بين الأزواج، فمن من البشر
كامل، فلا بد إذن من تقديم معاني الخير، وتغليبه من أجل استمرار الحياة الزوجية.
ثم تعرج الآيات للتنبيه على موضوع المهر، فلا يمكن للرجل أن
يأخذ من مهر الزوجة شيئا، قل ذلك المهر أو كثر، يقول سبحانه وتعالى "وَإِنْ
أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ" فإذا لم تمضي المعيشة بحسب
المراد لها من معاشرة بمعروف، والصبر على المكاره، وأراد الرجل أن يطلق زوجته
ويستبدل بها أخرى، فإن ذلك جائز، فالطلاق كما سيأتي وارد في الشريعة الإسلامية
التي هي أكثر الشرائع واقعية ومراعاة للظروف الناس، وهنا لا يمكن للزوج أن يعضل
أمرأته أو يقسوا عليها من أجل أخذ مالها وطلب المهر الذي دفعه، فأخذ ذلك يعتبر بهاتانا
وإثما في شريعة الله سبحانه وتعالى، ثم إن الزواج والطلاق كليهما لا بد أن يمرا
بمراحل وشروط معروفة سوف يتم ذكرها في غير موضع من القرآن الكريم، وعلى الرجل والمرأة على سواء أن يحفظوا حسن المعروف
بينهم، وليتذكروا أن قد كانت بينهم عشرة طبية، وقد أفضى بعضهم إلى بعض، وقد بلغ كل
من صاحبه مبلغا عظيما، فليحفظوا ذلك الود، ولتيذكروا أن عهد الزوجية بينهم كان
عهدا غليظا. إنها آيات تظهر المنزلة العظيمة لكل من الزوجين في الإسلام، ولنقارن
هذه المكانة المرموقة بغيرها من الشرائع، لنرى كيف أن الإسلام رفع منزلة الزواج وسمى
عقده بالميثاق الغليظ. ثم لنلاحظ معاني حسن العشرة وصون الحقوق حتى بعد الطلاق.
قراءة في سورة النساء (8)
الآيات (22-28): المحرمات من النساء:
وَلَا تَنْكِحُوا مَا
نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ
فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ
وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ
مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ
سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا
مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ
خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ
أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ
وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا
(28)
وبعد
وضع القاعدة التي تحكم العلاقة الزوجية وهي المعاشرة بالمعروف، تنطلق الآيات هنا
لذكر ما يحل ويحرم من النساء للزواج. فالمحرمات من النساء هن القريبات من جهة
الرحم أو الرضاعة، وذلك لقداسة الرحم وعلو منزلته، فينبغي صونه من منعطفات ومنغصات
وتقلبات الزواج والطلاق، وما يصاحبهما من خلاف ووفاق. ولا يوجد سبب غير هذا يمنع
من الزواج، يقول سبحانه وتعالى "وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ" فالباب بعد ذلك مفتوح من غير
نظر إلى التعصبات الأخرى في النسب أوالعرق فكل الناس في نظر شرع الله متساوون. وما
ثمة شرط بعد ذلك إلا الإسلام، وذلك لحفظ هذا الدين وترسيخه في المجتمع المسلم.
ثم تقدم السورة شروط
الزواج، وهي الإسلام، والمهر، ورضى الولي، فيقول الله سبحانه وتعالى "مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ"،
والأخدان هو ما يعرف اليوم بالصديق، فإن ذلك محرم في شرع الله تعالى. وهذه الآيات
وإن كانت جائت في سياق الكلام عن ملك اليمين، فإن هذه الشروط تظل على حالها في
غيرها من النساء الحرائر، في تفاصيل أخرى يمكن التوسع فيها من مظانها في كتب الفقه
الإسلامي.
والإسلام يدعو إلى الزواج،
فإن لم يجد المسلم من الحرائر، فليتزوج حتى من ملك اليمين، إلا أنه مع ذلك يشترط
في هذا بالتالي "ذَلِكَ
لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ"، ولعل ذلك بسبب حال الولد، فإن ولد الأَمَة سوف يكون تبع
لمالكها، ولا يخفى هنا أن الكلام ليس في التسري من ملك اليمين الخاص بالمرء، فإن
ذلك جائز، فالأمِة تكون حرة هنا مع وجود الولد. وإنما الكلام عن الزواج من الإماء
المملوكين للغير. ولذلك اشترطت الآيات هنا هذه الشروط مراعاة للولد وحال أمه. ثم
تتوسع الأيات في ذكر حد الزنا بالنسبة لهؤلاء الإماء، وحدّهن نصف حد الحرة، وذلك لأنّ
التكليف يكون بقدر التشريف، ولأن الإماء أكثر عرضة لهذا عن غيرهن من النساء.
ثم يختتم هذا المقطع بذكر
بعض الحكم التي تبيّن أسباب نزول هذه التشريعات المباركة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى
"يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ
لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ". يمتّن الله سبحانه
وتعالى هنا على عباده بإنزاله هذه الأحكام، التي ستغير بعونه سبحانه حال المسلمين
من حال إلى آخر، وذلكم هو فضل التشريعات الرباينة في المجتمع. إنّها أحكام تفصيلة،
فسرت الأحكام بعد إجمالها، وهذي هي نعمة القرآن الكريم، بيان الشرائع الإلهية للبشر،
وهي أحكام تستوعب كل حالاتهم، وتتكامل فيما بينها لتشكل دستورا شاملا، يهدي الله
به الصالحين، ليرتقوا إلى مقام الكمالات والرفعة والعزة. وهي لذلك تسير بالمؤمنين
في طريق الخير الذي سلكه الأنبياء والصالحين من قبل، إنها أحكام الله التي تهدي
الناس جميعا ليكونوا إلى الله أقرب. إنّ الآيات هنا تقف بنا لحظة لتبيّن أهمية هذه الشرائع، وعمقها، فتربط
المسلمين بغيرهم ممن تبع شرعه الله ودستوره الحكيم. ثم إن هذا الشرع ومع كونه
ربانيا إلا أنه مراع لحال الإنسان، ملائم لطبيعته، واقعي في طرحه، ينشد التخفيف
والتيسير، وقد علم الله ملامح ضعف الإنسان فجعل له شرع يناسبه، ولقد رأينا أن سورة
النساء تقف مع نهاية كل مقطع تشريعي بذكر بعض المعاني التي تميّز هذا التشريع
الرباني، تكون بمثابة الفاصل بين تلكم الأحكام.
قراءة في سورة النساء (9)
الآيات (29-31): من مقاصد الشريعة السامية: حفظ
الأموال والأنفس:
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا
وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
وبعد أن ذكرت الآيات
السابقات شيئا من صفات الشريعة الإسلامية وأهدافها، تأتي هذه الآيات هنا بمثابة
الخاتمة للمحور الأول في هذه السورة، وهو محور الأسرة، فتضع عددا من القواعد
العامة التي تسعى الشريعة لحفظها وصونها في المجتمع، وهذه القواعد هنا تدور حول
حفظ الأموال ثم تتبعها أيات في حفظ نظام الأسرة.
والمحور الأول في
مجمله يدور حول حفظ الحقوق المالية للضعفاء، ولذلك كانت الخاتمة هنا بذكر القاعدة
الأساسية في حفظ الأموال عامة، ولذلك جاء قوله سبحانه وتعالى "يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ". فمنعت الشريعة كل أسباب أكل
أموال الناس بالباطل، أي كانت صورته وحالته، سواء ذلك بغلبة القوة أو بالحيلة.
فالحقوق المالية محفوظة في الإسلام، ولا بد من الإلتزام بالطرق الشرعية في انتقال
الأموال بين الناس، وذلك بأن تكون تجارة فيها الرضى والوضوح.
ثم تتحدث الآيات عن
قضية حفظ الأنفس، فلا ينبغي للمسلم أن يقتل أخيه المسلم، فهو في منزلة نفسه منه،
ومن يتعد على النفس فقد ارتكب إثما وعدوانا عظيما. وهكذا نجد الآيات هنا تصون
المجتمع الإسلامي الحديث من كل أسباب الظلم والتعسف والقتل، وتنشيء هذه التشريعات
مجتمعا متحابا متراحما. ولذلك فهنا دعوة عامة لترك جميع أنواع الكبائر والآثام،
وترك ذلك كفيل بأن يكفّر السيئات ويرفع الدرجات، في الدنيا والآخرة، وذلك ما توحي
إليه الآية بقوله سبحانه وتعالى "وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا"،
فليس المقصود هنا فقط الثواب في الآخرة، ولكنه أيضا العيشة الكريمة في هذه الحياة
الدنيا.
قراءة في سورة النساء (10)
الآيات (32-35): التكامل بين الرجل والمرأة:
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ
عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ
مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ
لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ
أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا
كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ
أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ
بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
تنبه
الآيات هنا إلى حقيقة أن خلق الله متكامل، فالرجال مختلفون عن النساء، في
استعداداتهم وفي مسؤولياتهم، وذلك ليكمل كل منهما الآخر، هناك من الأمور ما فضّل
فيها الرجال، وهناك أمور قدمت فيها النساء، فلا ينبغي للرجل والمرأة أن يختلفا
ويتنازعا فيما بينهما، بل عليهما أن يستجيبا لدواعي الفطرة، ويتكاملا فيما بينهما
من أجل قيام الأسرة والمجتمع، وليسأل الله الجميع من فضله، فلا يحد عطاء الله حد،
وكم من أمرأة تقدمت على الرجال بفضل خلقها وعلمها وحنكتها. إنّ الصراع بين الرجل
والمرأة صراع وهمي ليس له مكان في الفكر الإسلامي الناصع.
ثم تعقب
الآيات على موضوع الميراث فتذكر أن هناك أسبابا عدة لها، منها صلة القربى والنسب،
ومنها صلة العهد والعقد، وذلك ما كان في بداية الهجرة النبوية، وذلك ما كان من
تأخى بين المهاجرون والأنصار، تآخي وصل إلى أن يرث كل منهما الآخر، إلا أن هذه
الأية مما نسخ من أحكام، وهي تبيّن مع ذلك صلابة العلاقات والصلات التي كانت تُبنى
في المجتمع المدني.
وفي
الختام تلتفت الآيات إلى مؤسسة الأسرة، فتقيم صرحها، وتضع دستورها الذي يحكم
شؤونها، فتقرر بإن الأزواج هم الذي قد أوكل إليهم مسألة القوّامة وإدارة الأسرة،
لتتضح عندها المسؤوليات، وتعرف الحقوق والواجبات.
الآيات هنا
تحدد الإطار العام لبيت الزوجية، واجب الزوج، وصفات الزوجة، وما الحل إن اختلفوا،
إنه الإطار العام.
ثم تبيّن
الآيات الصفات الحميدة للزوجة الصالحة، وهي هنا تدور حول ثلاث صفات
"فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ
اللَّهُ"، فالصالحة هي العاملة بما يرضي الله سبحانه وتعالى، والتاركة لأهواء
النفس والشيطان، بل هي عابدة قانتة لله سبحانه وتعالى، مطيعة لأمره، ثم لأمر زوجها
إذا أمرها بما يرضي الله سبحانه وتعالى، ثم هي حافظة لغيب زوجها، فلا تذكره بسوء
من وراءه، بل تحفظ أسرار الزوجية، كما وتحفظه في ماله وعرضه، والله سبحانه وتعالى
يحفظ من حفظه، فالعلاقة في أصلها مع الله سبحانه وتعالى، كما في الحديث القدسي
"أحفظ الله يحفظ، أحفظ الله تجده تجاهك".
ثم تعالج
الآيات أسباب الفرقة والشقاق، وذلك هو ديدن سورة النساء، دائما ما تغلق منافذ
الشيطان، وتجعل الحلول لأصعب الحالات وأقساها، فتجعل الآيات هنا علاجا لنشوز
المرأة، وهي مراحل طالما ذكرت وتم الحديث عنها، يقول الله سبحانه وتعالى
"وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا"، فتعطي الآيات هنا الزواج
بعض الأدوات التي تمكنه من السيطرة على نشوز المرأة، فيبدأ الأمر بالنصح والوعظ،
ثم بالهجر في المضجع، ثم إذا لم يغيّر ذلك حالا فليقسوا قليلا بنوع من الضرب
البسيط ليعيد المرأة إلى جادة الصواب فتحفظ بيتها وأهلها.
أما إن
كان هذا النشوز جاء من الطرفين، فقام بين الزوجين شقاق ونزاع، فعلى المجتمع
والمحيطين أن يتدخلوا ليصلحوا الوضع بين بينهما، فليُنتدب حكما من أهل الزوج،
وحكما من أهل الزوجة، فليسددا وليقاربا بينهما، وقد وعدت الآيات هنا بإن توفيق
الله قريب ممن يريد الإصلاح والتقارب، فليقدم المرء إذن الكلمة الطيبة وليقارب بين
الأزواج ليحفظ البيوت ويصون بناء الأسرة. وترجع الآيات بعذ ذلك، وذلك في الآية 128
لتعالج مسألة نشوز الأزواج.
قراءة في سورة النساء (11)
الآيات (36-43): دور العبادة والإيمان في تقويم
السلوك
وَاعْبُدُوا اللَّهَ
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ
اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى
هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا
الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ
لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
هنا انسجام مع بداية السورة
حيث قال سبحانه وتعالى "وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ" وقال هنا "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا "، ويتكرر ذلك كثيرا في القرآن الكريم، حيث
يقرن بين عبادة الله والإحسان للوالدين، وذلك لعظم منزلتهم ودرجتهم في القرآن
الكريم، فهي إضافة تشريف وتكريم. وتتوسع دائرة الأقارب والأرحام هنا لتشمع الجار
وابن السبيل وملك اليمين. وهكذا هي سورة النساء، بدأت بالدائرة الأضيق من الأقارب
والأرحام لتشمل بعد ذلك المجتمع كله، وهل المجتمع إلا نسيج متماسك تربطه هذه
الوثائق والصلات. إن تقوى الله وعبادته تترجم هنا لتكون صله بين المؤمنين بالمودة
والرحمة والإحسان. فالآيات هنا قرنت بين العقيدة والعبادة والسلوك لتظهر قوة الصلة
بينهم وأنها جميعا تشكل وجدان المسلم الذي يطبع فكره وسلوكه.
والإحسان يكون بحسن
المعاملة كما يكون بالبذل والعطاء، ولذلك جائت الآيات هنا حاضة على الإنفاق وعدم
البخل، وما زالت الآيات منذ بداية السورة تهدي إلى أحسن الطرق في كيفية التعامل مع
الأموال. وعلى المسلم أن ينفق مما آتاه الله، فيشكره على نعمه وآلائه العظيمة،
وذلك مما ينتفي مع البخل والشح، فالنفوس الكريمة تثق بعطاء الله سحانه وتعالى
وتبذل في وجوه الخير، أما النفوس الشحيحة فتوصد على نفسها الأبواب، متربصة وخائفة من
زوال النعمة وإتيان النقمة.
والبخل من أكبر الآفات
المحيطة بالإنسان في موضوع المال، ومن آفات المال كذلك، الإعطاء مع المن والرياء،
فالإعطاء هنا ليس لشكر الله، وإنما رغبة في السمعة وطلبا للجاه والمنصب. وما ذلك
إلا بسبب ضعف الإيمان بالله واليوم الآخر، فالمؤمن يعمل لله، لا للناس، وقلبه
متعلق بالله سبحانه وتعالى، وليس عبدا لهوى نفسه، ومتبعا لحبائل الشيطان. إنّ عمق
الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتقواه هي التي تقوّم السلوك وتنهض بالإنسان إلى رحاب
الخير والسؤدد. إن الرابط بين العقيدة والسلوك واضح جدا في هذه الآيات، وهي لذلك
تبيّن البواعث الحقيقية للأخلاق الإجتماعية الحميدة، الإيمان بالله واليوم الآخر،
ومعرفة أن الله لا يظلم أحدا، فهو الذي يجزي الخير بحسب العمل.
وتنبه الآيات هنا إلى
خسارة هؤلاء الكافرين الذين يبخلون ويرائون الناس بأعمالهم كفرا وجحودا بالله
سبحانه وتعالى، فما هي منزلتهم وهم يواجهون بأعمالهم هذه الناس يوم القيامة، إنه
موقف الخزي والعار، يودون لو تسوى بهم الأرض. إن المرائي منزلته وخيمة يوم القيامة،
يبحث عن المرئاة أمام الناس في الدنيا، ويشهد الله عليه الناس يوم القيامة، كما
يشهد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)". إن القضية
في أساسها قضية إيمان وتطبيق، ومن حسُن إيمانه حسن سلوكه وعمله، ومن ضعف إيمانه
خاب عمله وضاعت أخلاقه وسلوكه، فلينظر هؤلاء في إيمانهم، وليعلموا أن الرسول صلى
الله عليه وسلم مبلغ عن ربه، وسوف يشهد على ذلك يوم القيامة. فليلتزم هؤلاء بحسن
الإيمان لله تعالى وعبادته وتقواه.
وتختتم الآيات بالحض
على الصلاة، والمحافظة عليها، والأمر بترك شرب الخمر، في خطوة أخرى من أجل الحفاظ
على الصلاة والقضاء على المسكرات في المجتمع الإسلامي. ثم تأتي بعض الأحكام التي
ترشد إلى الطهارة حتى مع عدم وجود الماء، فتشرع هذه الآيات التيمم طلبا للتخفيف
والتيسير للمؤمنين الراغبين في عبادة الله والقرب منه، وكل ذلك
إنما لتمكين الإيمان في النفوس، وتيسير موارد التقوى من قلوب المؤمنين.
قراءة في سورة النساء (12)
ثالثا بناء
الدولة الإسلامية: (44-
70)
الآيات (44-50): تحصين المجتمع الإسلامي من
ضلالات اليهود
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ
وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ
مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
وَرَاعِنَا لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ
وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ
وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ
اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
تبدأ الآيات هنا بالحديث عن
محور آخر، لقد كانت الآيات السابقة تهدم العادات الجاهلية التي طغت على الأيتام
والنساء، وتشيّد بدله بنيانا سامقا يحفظ بنيان الأسرة ويقرر دستورها، إن الحديث
يتسع هنا ليكون بمستوى المجتمع بعد أن كان على مستوى الأسرة والأقارب. والمجتمع
المدني كان منفتحا على ثلاث طوائف، كانت جميعها تمده بأسباب الغي والضلال، أمّا
الأولى فهم الكفار وتراثهم الجاهلي، وذلك ما ذكرته الآيات السابقة واجتثت جوانب من
آثاره الإجتماعية. ثم اليهود وهم ما ستركز عليهم هذه الآيات هنا. أما الطائفة
الثالثة فهم المنافقون، وهي طائفة وليدة في المجتمع، وسوف تعالجها السورة فيما
يأتي من آيات.
واليهود خطرهم عظيم، ذلك
لأنهم قوم يشترون الضلالة ويسعون لنشرها وتمكينها في المجتمعات. فلا يجتث هذا
الفكر الضال ويهدم بنيانه إلا بمعرفة أنهم أعداء، وأن الواجب هو محاربتهم، ونبذ
أفكارهم، والله هو الولي النصير. لقد كان الكتاب العزيز واضحا منذ البداية في
التحذير من خطر اليهود وعنادهم، ولذلك حرصت الآيات بأن تحصّن المسلمين من هذا
الخطر، ولقد نجح المنهج القرآني بعزل هؤلاء اليهود فكريا بداية بحيث لا يتأثر
المسلمون بسيء خصالهم ومعتقداتهم، ثم آل ذلك بأن عزلوا سياسيا أيضا. والآيات هنا
تشرح أهم الآفات التي يقع فيها اليهود ويصدرونها للعالمين، وهم من اجلها استحقوا
اللعن والعذاب الأليم في نار الجحيم، ومن ذلك التحريف لكلام الله ورسوله، وتزكيتهم
لأنفسهم، والكذب، والإيمان بالجبت والطاغوت، والحسد. وهي صفات تدل بأنّ هؤلاء قد
طلبوا الضلالة، وسعوا من أجلها، فهم معاول هدم للدين الأمة.
إنّ شأن الحسد عظيم،
واليهود قوم زكوا أنفسهم، ورفعوها فوق العالمين، وأرادوا أن تكون لهم السلطة
والمكانة، فما كان رضى الله مطلبهم، وإنما مطلبهم هو رفعة شأنهم، بسلاح الدين
والإيمان، وخاب من كان هذا نيّته ومسعاه، ولذلك أخذوا يحرفون الكلم ليناسب مبتغاهم
وأهوائهم، وقد استمرئوا ذلك التحريف حتى صار من ألزم صفاتهم، ثم قاموا يلوون
ألسنتهم ليطعنوا في الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وقد تجاوز هؤلاء كل الحدود،
حتى ادّعوا بأن دين كفار قريش أهدى مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهل من عتو
أو كفر بعد هذا.
الحديث الآن عن النجتمع، بعد أن كان عن الأسرة، واليهود
هم أحد أفراد المجتمع، وسورة النساء تتحدث عن هيكل الأمور، ولذلك عندما ارتفع
الخطاب ليكون عن المجتمع، كان بدايته من الجسم الخارجي للمدينة ذاتها، وهم اليهود،
ثم المنافقين، بعد أن كان عن المشركين، فهناك أيضا تسلسل إيماني متجه من المتطرفين
إلى الأقل تطرفا.
قراءة في سورة النساء (13)
الآيات (51-57):
حسد اليهود
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا
يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا
(53) أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ
إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ
سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا
الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ
وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
لقد نصب اليهود من أنفسهم
حكما يبتّ في خبر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أمام كفار قريش، واليهود عدو يلبس
لباس الدعة والتقوى، وهم كانوا وما زالوا يرفعون من شأنهم، فهم أبناء الله
وأحبائه، وهم الأحق بالرسالة وبالدعوة إلى منهاج الله سبحانه وتعالى، وهكذا كثير
من دعاويهم مبنية على تزكية الأنفس، وهي دعاوى لا يصدقها سلوكهم، بل الناظر في
أعمالهم يعلم أنهم أبعد البشر عن طلب رضى الله سبحانه وتعالى، ولذلك استحقوا اللعن
والطرد من رحمته.
وبدل أن يقف هؤلاء الذين
يزكون أنفسهم مع دعوة الله الخالدة، ورسالته التي اختتمت بالرسول محمد صلى الله
عليه وسلم، آثر هؤلاء بأن يقفوا مع الجبت والطاغوت. والجبت هو كل مدعي لعلم الغيب
من غير برهان، كالساحر والعرّاف، والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله، كالأصنام
والكهنوت وغيرهمم ممن تجاوز فيهم العباد منزلتهم الحقيقة فعبدوهم أو أتمروا بأمرهم
من دون الله تعالى. واليهود استخدموا السحر من أجل إيذاء المسلمين وإيذاء رسولهم
الكريم، وحاولوا قتله بشتى الطرق، ثم هم انحازوا إلى طواغيت الكفر، وصاروا معهم
حربا على الله ورسوله.
وكيف يحكّم اليهود في موضوع
كهذا!، ليسوا في موضع يخولّهم لذلك، فهم ملعونين مطرودين من رحمة الله تعالى، وهم
بأنفسهم بحاجة إلى النصرة، وكيف ينجو من عذاب الله من خذله الله ولعنه. واليهود
يمتازون بشح الأنفس، وبالجشع والطمع، ولو تملّكوا أمرا، فيستحيل أن تسمح أنفسهم
بإعطاء الناس وتقديم العون لهم.
والحسد داء عظيم ومرض خطير،
فالحسود لا يرضى بقضاء الله وقدره، ولا يعرف سر الله في تكريم وتشريف عباده، وهنا
تذكّر الآيات بتاريخ جدودهم وأنبيائهم، فقد أكرّم الله سبحانه وتعالى آل إبراهيم
بالنبوة والكتاب والملك العظيم، وما حدث لهؤلاء الأنبياء حدث لمحمد صلى الله عليه
وسلم، فمنهم من آمن به، ومنم من كفر، فلا يوجد اختلاف في سنن التأريخ، كما لا يوجد
اختلاف في موقف اليهود من أنبياء الله ورسالاته سبحانه وتعالى للعالمين، فهم طالما
وقفوا حربا لله ورسله. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، والقرآن
ما زال يدعو هؤلاء إلى التوبة والإنابة لله سبحانه وتعالى، ويذكرهم بعذاب الله
الأليم في الآخرة لكل متنكب عن صراط الله المستقيم. وهكذا تظهر هذه الآيات خذلان
اليهود للدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولما يرموا من إقامة دولة قائمة على شرع
الله الحنيف، وهم مازالوا يحاربون أي حركة للتطور والنهوض في لامة الإسلامية
اليوم.
قراءة في سورة النساء (14)
الآيات (58-60): أسس وغاية الدولة الإسلامية:
إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ
بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
وبعد أن مهدت الآيات
السابقة لكيفية بناء مجتمع إسلامي متماسك، فاتنشلته من عادات الجاهلية وحصنته من
ضلالات اليهود ومكرهم التخريبي، تقوم هنا ببناء صرح الدولة الإسلامية، فتذكر
الغاية من قيام هذه الدولة ثم العقد الذي تقوم عليه. أما الغاية فهو القيام بالعدل
ورفع الظلم ورد الحقوق وأداء الأمانات، يقول سبحانه وتعالى " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ". وقد قدم أداء الأمانات لعظم شأنها، ولأنها الأصل
الذي تتفرع منه الغايات الأخرى. فيمكن أن ينظر للحياة جميعا بأنها مسألة حقوق
وواجبات، وأداء الأمانات هو الجامع لكل ذلك، وقد ذكر في أسباب نزول هذه الآية
بأنها نزلت في عثمان بن طلحة، حين أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم منه مفتاح الكعبة
يوم فتح مكة، وقد أمر هنا بأن يرجع تلك الأمانة إليه بعد أن أسلم يوم الفتح. هكذا
هي أخلاق الإسلام، التواضع عند النصر، والإمتثال لأمر الله سبحانه وتعالى على كل
حال. والعدل هو أساس الملك، وهو الغاية الكبرى للدولة الإسلامية، تحقيق العدل
والمساواة بين الناس، وذلكم ما افتتحت به السورة، لتذكر هنا الآلية التي يتحقق بها
هذا العدل، فمهمة الدولة الإسلامية هي إقامة العدل بين الناس، وهو ما زال مطلب
الشعوب التي ما فتئت تردده وتجاهد في سبيله.
ثم تذكر الآيات العقد الذي
تقوم عليه الدولة الإسلامية، فيقول سبحانه وتعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلًا". الحكم هو لله سبحانه وتعالى، والشرع هو ما أنزل على محمد صلى
الله عليه وسلم، وقد أمر أولياء أمر المسلمين بأن يلتزموا بطاعة الله ورسوله وأن
يسعوا إلى تحقيق شرعه وأمره بين الناس، فلذلك فطاعة ولي الأمر هي تبع لطاعة الله
ورسوله. وقد أمر المسلمين بتداول ومناقشة مستجدات الحياة بينهم، حتى يصلوا إلى
الرأي الحق، فإن اختلفوا في شيء فليردوه إلى القرآن والسنة، فهما المنهل الذي لا
ينضب.
ثم تناقش الأيات موضوع
الطاعة بشيء من التفصيل. فالمؤمنون بالله واليوم الآخر لا ينازعون في شرع الله
وأمره، وأنما ينازع من اتبع حكم الطاغوت، والحكم يقع بين أمرين، كما بيّنت ذلك
سورة البقرة " فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ"
والشيطان يريد أن يضل الناس حتى يتحاكموا إلى الطاغوت، فالآيات هنا تحيل إلى
مثيلاتها من سورة البقرة. وهي لذلك تنبه هنا إلى أهمية قيامة الدولة الإسلامية على
حكم الله سبحانه وتعالى واجتناب حكم الطاغوت، وهو الضلال بكل أشكاله وصوره،
فالمعركة الأولى أمام المسلمين هي محاربة أوجه الضلال، وسبل اتباع الشيطان، وإخلاص
الحكم لله سبحانه وتعالى ليظل نقيا من كل ما يكدره من عقائد وأفكار وسلوكيات ضالة،
لا تؤمن بالله ورسوله. فهنا لا بد أن تسلم طاعة المؤمنين فتكون لله ورسوله، ولا
تكون للشيطان والطاغوت.
قراءة في سورة النساء (15)
الآيات (61-70): طاعة المؤمنين وطاعة المنافقين:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ
الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ
أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ
اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ
أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ
دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا
يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ
مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
(68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ
وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
وبعد أن بيّنت الآيات
السابقة حدود الطاعة، تلتفت الآيات هنا لتعرض الفرق بين طاعة المؤمنين وطاعة المنافقين،
وهنا أول ذكر للمنافقين في هذه السورة. والطاعة لله ورسوله فرع للإيمان بهما،
ولذلك من اختل إيمانه اختلت طاعته. والمؤمن يطيع الله على كل حال، أمّا المنافقون
الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، فإنهم لا يطيعون الله ورسوله ابتداءا، وإنما
إذا وجدت أهداف أخرى تحركهم. إنّ
المنافقين قوم أنتهازيون، يصدون عن الآوامر الربانية، إلا إذا كانت لهم فيها مصلحة
أو وقعت هناك مصيبة، " ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا
إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا".
إنّ الذي يهم
المنافقين هي مصالحهم الذاتية، لا مصلحة الجماعة، وتتقلب مواقفهم بتقلب تلكم
المصالح. ثم ذكرت السورة الكريمة سبيل التعاطي مع هؤلاء، فينبغي نصحهم والإعراض عن
زلاتهم، من أجل المصلحة العامة. والدولة الإسلامية ينبغي أن ترعى مصالح هؤلاء، ولا
تتنكب عنهم، رغم ما يفعلون، بل تستوعبهم ولا تشرد بهم في البلاد، وينبغي نصحهم
وإرشادهم بأفضل الطرق وأسلمها، حتى يأتوا تائبين عن ما فعلوا، مستغفرين الله
سبحانه وتعالى عن ذنوبهم.
وتختتم الآيات هنا بذكر
أهمية الطاعة، وأهمية إذعان المؤمنين لأمر الله سبحانه وتعالى ولأمر رسوله الكريم،
فالطاعة واجبة على المؤمنين على كل حال، " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ"، ولا يسع المتنكب على هذه الأوامر إلا
التوبة والإنابة لله سبحانه وتعالى، وبذلك تكون مصلحة الأمة والدولة، وكيف تستقيم
دولة دون عقد الطاعة بينها وبين أفرادها.
والأوامر الربانية إنما
أتت لمصلحة العباد ورفعة شأنهم، ولا ينبغي التشكيك فيها أبدا، حتى وإن بدت شديدة
في الظاهر، فإن باطنها الرحمة والرفعة والسؤدد، يقول سبحانه "وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ
دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا
يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا"، إن الله
سبحانه وتعالى هو مالك السموات والأرض، له الحكم والأمر، والمؤمن يطيع الله ورسوله
على كل حال. إنّ الآيات هنا تأمر المؤمنين بالإذعان المطلق لأمر الله سبحانه
وتعالى، فهي مقدمة على النفس والمال والوطن. وبهذه الدرجة من الطاعة والإذعان لأمر
الله سبحانه وتعالى يستقيم أمر الدين، وكذلك أمر الدفاع عن دولة الإسلام، وبهذا
أيضا تتفاوت منزلة المؤمنين عند الله سبحانه وتعالى. والإذعان لأمر الدولة أيضا
مهم، فكيف يستقيم الحكم بين الناس إن لم يكونوا مذعنين لأوامر تلكم الدولة،
ومحكميها ولو على أنفسهم وأوالهم. إنّ القرآن الكريم لا ينشد الطاعة العمياء لأولي
الأمر، ولكن إن كانت تلكم الأوامر متسقة وشرع الله سبحانه وتعالى، فإن الطاعة هنا
تصبح لازمة لا مرية فيها، بل تكون عن رضى نفس وطيب خاطر، وذلك هو فعل الإيمان في
النفوس.
والطاعة لله سبحانه وتعالى
فرع للإيمان به، وكيف يكون إيمان دون إطاعة، "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَئِكَ رَفِيقًا"، وبطاعة الله ورسوله يرقى المسلمون ودولتهم حتى ينالوا
رضى الله والمنزلة المقربة عنده. والطاعة هي الجامع الذي يجمع الصالحين ويفاضل
بينهم، فأكثرهم طاعة لله ورسوله أكثره قربا منه سبحانه وتعالى.
إلزامية التشريع الإسلامي على أصحابه،
وهنا في مقام أمر الدولة، هناك شرط واحد فقط لهذا الإلتزام، أن تكون بحسب شرع الله
تعالى، وإذا ثبت ذلك فالإلتزام واجب شرعي لا مناص له، ولو ضحى الإنسان بنفسه وماله
ووطنه.
وهذا الإلتزام في كل شؤون الحياة، كما
تذكر ذلك فلسفة فروض الكفاية. والمسلمون اليوم بحاجة إلى هذا الإإلتزام، فعندهم
المسؤولية مهزوزة. وفلسفة الإسلام ناصعة قائمة على أن الطاعة للخالق وليست
للمخلوق، أمّا المخلوق فطاعته فيما أطاع الله واجبة لوجوب طاعة الله، وليست الطاعة
له. إنها فلسفة تحل مشاكل الأمة كلها. ولا يقال أن المسلمين يتبعون قول البشر وهم
عميا، بل على المسلمين أن يناقشوا أهل السلطة ويختبروهم، وإذا ثبت قاموا بالواجب،
وليست هي غير منضبطة، وطريقة للفوضى.
قراءة في سورة النساء (16)
رابعا الدفاع
عن دولة الإسلام (71- 104)
الآيات (71-78): الحض على الجهاد:
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا
(71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ
قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا
عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ
يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ
الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا
وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ
فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا
(76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا
رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ
قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى
وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا
(78)
تحدثت الآيات الماضية
عن أهمية الطاعة في إقامة الدولة الإسلامية، وهي هنا تنبه إلى أهمية الدفاع عن
تلكم الدولة، فليحذر المؤمنون من أعدائهم، وليستعدوا للقاء عدوهم الذي يتربص بهم
من كل جانب، ولا يسمع لقول المثبطين. فالخطاب إذن يستمر في ذكر أهمية بذل النفس
والمال من أجل الإيمان بالله واليوم الآخر، فإمّا نصر وعزة للدولة وإما شهادة ينال
بها المسلم الرضى في الآخرة. وهكذا ترسم الآيات الهدف والغاية من القتال، وهو نصرة
الدولة وتمكينها حتى تقوم بشرع الله، ثم نصرة ونجدة للمستضعفين الذين ءامنوا بالله
ورسوله ولكنهم غلبوا على أمرهم فلا يستطيعون الخروج من تلكم القرية الظالم أهلها،
وكذلك فإن المسلم يقاتل من سبيل الله ولا يكون أبدا في صف الطواغيت وأولياء
الشيطان، وإن تطلب منه ذلك المجاهدة والقتال، وليعلم أن كيد الشيطان وحزبه كان وما
زال ضعيفا من الحجة خاليا من الدليل.
والآيات تلقتي مع سورة
آل عمران في الحض على القتال في سبيل الله، وهي هنا تنطلق من مبدأ حفظ كيان الأمة
وشريعتها، وكانت في سورة آل عمران تنطلق من قيّومية الله سبحانه وتعالى، وواجب
الإمتثال لأمره سبحانه وتعالى. إنّ نقطة التشابه والإلتقاء واضحة بين الموضعين،
فهنا أيضا توسع في موضوع الطاعة لله سبحانه وتعالى.
والآيات تنبه إلى عدم
التقاعس، فليشتري المؤمنون الآخرة، وليشتروا النصر والعزة، وليخشوا الله سبحانه
وتعالى، ولا يخشون غيره من مخلوقين، فلن يستلم راية النصر والحرية من تقاعس وخشي
الناس، بل ينالها من يبذل في سبيل الله سبحانه وتعالى. إنّ الموت محدد ومعروف ولا
يقدمه أو يأخره خوف أو إقدام، والدين لا يتكون من صلاة وزكاة فقط، بل القتال جزء
من الدين، فلا بد من القيام به، وقد وعد الله سبحانه وتعالى الخير الجزيل والنعيم
المقيم لمن قام به. وفي القتال دليل عملي على تقديم المؤمن لإيمانه وأخرته، فهي
التضحية من أجل العقيدة والدولة، وبذلك يكون النصر.
الآيات تحدد
فلسفة آمن الدولة وعقيدة العسكر في مفهوم الدولة الإسلامية، وهي الركن الثاني
للدولة، بعد الطاعة التي تكون لولي الأمر مادام طائعا لله ورسوله.
الأمن والنصرة
الركن الثاني بعد تقديم الطاعة لولي الأمر.
قراءة في سورة النساء (17)
الآيات (79-87): فلسفة المصيبة:
مَا أَصَابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ
بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا
يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ
مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ
أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ
مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا
بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
وبعد الحديث عن فرضية
الجهاد، تشرح الآيات هنا فلسفة المصيبة، فلا يجزع المؤمنون من تقلبات الأحداث،
واختلاف الأحوال، بل فليكونوا دائما على بصيرة من أمرهم، وليفهموا الحياة
وتقلباتها بالمقياس الرباني الدقيق، يقول
سبحانه وتعالى "وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ".
إن الله سبحانه وتعالى
هو المقدر، الذي يدبر الأمور جميعا، فلا سلطان فوق سلطانه سبحانه وتعالى، ولن
يغلبه في ذلك مخلوق أبدا، فليطمئن المؤمن وليعرف أن حكم الكون وتدبيره جميعا في يد
الله سبحانه وتعالى، ولكنه سبحانه العدل وضع لكل شيء دستورا ومنهاجا، فمن أخطأ أو
عصى فإنه سوف ينال عقابه، وكل المصائب التي تصيب الإنسان إنما هي بسبب ما عمله،
والله يعفو عن كثير، فإذا وقع المرء في مصيبة فليستغفر الله وليحاسب نفسه، وليعود
إلى المنهاج والطريق السليم. فالمسلم لا يجزع من الأحداث، وإنما يتعلم منها ليرتقي
قربا من الحق سبحانه وتعالى. ولذلك تدعو الآيات هنا إلى محاسبة النفس، والرجوع إلى
أهل الأختصاص والفهم حتى يتسبين لهم الطريق القويم، والمسلم لا يتبع سبيل
المنافقين، الذين يصيبهم الجزع عند كل مصيبة، فتجد عندهم التهويل والتضخيم. وهكذا
لا ينبغي للحوادث المختلفة والمصائب المتتالية أن تثني المؤمنين عن القتال، بل
عليهم أن يستمروا في جهاد آلة الباطل ودولته.
يقول سبحانه "فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ" فهنا تكليف خاص
للرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو أصل الشريعة ومرسيها في العالمين، ثم فليحرض
المؤمنين على القتال، ليحملوا الأمانة عنه بالتبعية، ولا يمكن أن ترسى دعائم هذا
الدين وتقوم له دولة إلا بالتضحية والفداء. والتحريض له أسبابه وطرقه، فمنه الحسن
ومنه غير ذلك، ولا شك أن المعارك تصاحبها عادة حروب إعلامية شديدة، ينبغي الوقوف
معها بحسم،حتى لا تخترق نفسية الجنود. إنّ العالم اليوم يهتم بهذا أيما إهتمام،
فأقيمت المنابر التي توجه الرأي العام والمراكز التي تقدم البحوث، والإحصاءات
المختلفة.
ثم ترتقي الآيات لتتحدث عن
أهمية الكلمة الطيبة عموما، وليس في مقام الحروب فقط، فللكلمة عموما دور عظيم،
ولذلك فعى المسلمين أن يحسنوا استعمالها في كل حين، حتى تكون شفاعة لهم يوم قيامة.
إن على المسلم أن يحرص بأن يقدم الكلمة الطيبة وأن يشفع بين المتخاصمين فيؤلف بين
قلوبهم ويرفع الضغائن وأسباب الأحقاد عنهم، حتى يقوم لهم مجتمعا طاهرا نقيا
متماسكا. إنّ الآيات هنا تنظر إلى الجبهة الداخلية للمسلمين فتقويها. والمسلم لا
بد أن يكون قريبا من الناس، يتحسس مصائبهم، ويعالج آلمهم، فليتعدهم بالألفة
والمحبة، وليبدأ كل من يجده بالتحية والسلام، ولا ينبغي لمن حيي بتحية الإسلام أن
لا يرد، بل فليرد التحية، ولينسى عندها كل العقبات، فمن جائك مسلما فاقبل منه ولا
تتولى عنه.
والسلام هو شعار الإسلام،
ولم يشرع القتال إلا لنشر شرع الله سبحانه القويم الذي ينشد إقرار السلام، ونشر
دعائمه في الأرض، تلك هي رسالة الإسلام، وتلك مبادئه. فالله سبحانه وتعالى خلق
البشر جميعا ليعبدوه، وأنزل شرعه ليحفظهم ويرشدهم إلى أفضل الطرق. إن شعار الإسلام
هو التوحيد، " للَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ" وذلكم هو أساس التحرير
للبشرية جميعا، وفي سبيل التوحيد قاتل المؤمنون ليقموا دولة إسلامية لا يخضع فيها
أحد إلا لله، فلا عبودية ولا خضوع إلا له سبحانه وتعالى، إنه مجتمع حر، متعلق
بالله وحده، ويعمل لآخرته، ولو على حساب دنياه، تسوسه المباديء، وتحركه القيّم،
ذلك لأنه يؤمن بالله واليوم الآخر، فالدنيا دار ابتلاء والآخرة هي دار الجزاء.
قراءة في سورة النساء (18)
الآيات (88-91): حكم قتال المنافق؟:
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ
أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ
أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ
فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ
كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
وتستمر الآيات هنا في موضوع الدفاع عن الدولة، لترفع الغطاء عن
موضوع قد أشكل على الصحابة الكرام، فانقسموا فيه إلى قسمين، وهو ما الموقف من قتال
أهل النفاق الذين ألستنهم مع الحق، وسيوفهم ضده، فتفتتح هذه الآيات بسؤال "َمَا
لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ"؟
فالمسلمون اختلفوا في حكم المنافقين، وخاصة بعد خذلانهم لهم يوم أحد، فقد
ارتد منهم بقسم
من الجيش، وقاتل بعضهم مع المشركين، وذلك ببعض ممن لم يهاجر إلى المدينة وإنما
أقام في مكة، ثم يوم جاء أحد محاربا لله ورسوله.
والمنافق يلبس لباس الإيمان والأخوة ثم يغدر ويخذل في وقت
النزال والقتال، وهذه منزلة من قد أركسه
الله وأضله بسبب كفره وعناده. وهؤلاء كانوا يسببون إرباكا كبيرا للرسول صلى الله
عليه وسلم وصحابته الكرام، لذلك فقد أتت الآيات هنا لشرح الموقف منهم، فكيف يمكن
للدولة الإسلامية أن تتعامل معهم، خاصة وأن بعضهم يقطن خارج حدود الدولة الإسلامية
ذاتها.
وقد قسمّت الآيات المنافقين إلى خمس فئات:
1.
منافقون
يساكنون الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهؤلاء تم ذكرهم سابقا، فقد قال
سبحانه وتعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)،
وهؤلاء من جملة رعيته، فهؤلاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإن يجريهم على
ظاهرهم، ولا يفتش عن سرائرهم، لئلا يدخل المجتمع في هذا الباب الخطير، وهو التفتيش
عن السرائر، وهذا منهج إسلامي ثابت، فالمسلم عليه بالظاهر، ويكل السرائر لله
سبحانه وتعالى، وقد بيّنت الآيات سابقا سبل علاجهم، وذلك بالموعظة الحسنة. وقد مر
ذكر هؤلاء عند الحديث عن إقامة الدولة.
2.
الذين
أبوا أن يهاجروا مع المسلمين إلى الله ورسوله، وكانوا يظاهرون المشركين ويعاونوهم
في حربهم للمسلمين، وفي هؤلاء يقول سبحانه وتعالى "وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ
كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ
حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا
نَصِيرًا (89)"، فتذكر الآيات منزلتهم مع الله، فالله قد أركسهم، وهم ضالون
مضلون، فلا يصح مولاتهم ونصرتهم، بل لا ينبغي أن يكون في صدور المؤمنين حرج من
قتالهم، "واقتلوهم حيث وجدتموهم"، فلا يشك المؤمنون في خطرهم. وهكذا هو
الميزان الصحيح للتقيم الأعمال، فلا تغني ألفاظ الشهادة شيئا، إذا كان المرء
محاربا لله ورسوله، بل هي زيادة في الإثم والخطورة.
3.
(إِلَّا
الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) فهؤلاء
منافقون، ولكنهم لاذوا واحتموا بقوم بينهم وبين المؤمنين وثاق وعهد وصلح. فهؤلاء
مستثنون من هذا الحكم السابق مراعاة للعهد والميثاق. فالمؤمن حافظ لعهده وميثاقه.
4.
والقسم
الآخر هم قسم أعتزلوا القتال، وجائوا للرسول صلى الله عليه وسلم صريحين في ذلك،
فهم لا يريدون أن يحاربوا قومهم، ولا أن يحاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول
الله سبحانه وتعالى فيهم (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ
يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ
عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سَبِيلًا (90)). وتلك سيوف قد أراح الله منها المسلمين بفضله وكرمه، ولذلك يقبل
منهم اعتزالهم، فلا يقاتلون.
5.
أما القسم
الآخير، فهم من قال الله سبحانه وتعالى فيهم (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ
أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ
أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ
وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ
جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)، وهؤلاء صنف كانوا يأتون
المدينة ويظهرون الإسلام، ثم يرجعون مكة يعبدون الأصنام، يطلبون الأمان، وينتظرون
أي الجهات تنتصر ليكونوا فيها، قلوبهم مع الكفر، ولكن الخوف حجزهم عن المجاهرة،
تجدهم يتقدمون كل الموائد باللسان المنمق، والمظهر الحسن، وما أن تحل مشكلة أو
تحين لهم سانحة إلى تقدموا إلى الفتنة وأوغلوا فيها، ولذلك قال لله تعالى فيهم
"كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، فهولاء حكمهم القتل إلا أن يعتزلوا
ويكفوا أيديهم. ويظهر هنا رحابة التشريع الإسلامي، وسعة أفقه حتى مع من يحاربه
ويضمر له العداء، فمن كف يده، وأعتزل الحرب، فإن المسلمين لا يحاربونه، وإنما
يحاربون المجاهر بالقتال والحرب.
قراءة في سورة النساء (19)
الآيات (92-96): حكم قتل المؤمن وديّته:
وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً
مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ
عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ
كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ
أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ
اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ
مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
وبعد الإنتهاء من ذكر قتال أهل
النفاق، وإيضاح الحكم في ذلك، تستكمل الآيات هنا عن حرمة دم المسلم، فالمؤمن مصون
الدم، وقد أتت الشريعة لحفظ نفسه وماله، ولإعطائه حقوقه وحريّته، لذلك لا يستقيم
إيمان مع قتل الؤمن عمدا، فذلك مخالف لمباديء الدين وأحكامه، فينتفي الإيمان عن من
قتل عمدا، وهو لذلك مخلد في نار جهنم، بعد أن غضب الله عليه ولعنة. والحديث هنا
منصب عن حرمة دم المؤمنين داخل حدود الدولة الإسلامية وخارجها.
أمّا قتل الخطأ فيمكن أن
يحدث، ولذلك لا بد من تنظيم هذا الملف، سواء ذلك في المجتمع الإسلامي وداخل حدود
دولته، أو كان ذلك خارج حدود هذه الدولة وفي غيرها من الكيانات السياسية المجاورة.
وتنظيم موضوع الديّة على هذا المستوى، ينزع أسباب النزاع والخلاف بين الدول، وفي
داخلها، ولذلك حرصت الآيات هنا لتنظيم هذا الموضوع، انتشالا لهذه المجتمعات من
تبعات القتل، الذي كان منتشرا في الوسط الجاهلي.
وهكذا نجد أن الآيات تتحدث
عن ثلاث حالات يمكن أن يقتل فيها المؤمن خطئا، ويمكن إجمالها فيما يأتي:
1. من قتل مؤمنا
خطئا في داخل المجتمع الإسلامي: فالكفّارة تكون بتحرير رقبة مؤمنة وديّة مسلمة إلى
أهله إلا أن يصدق أولياء الدم.
2. من قتل مؤمنا
خطئا، وهو يساكن العدو ويقطن معهم، كحال بعض ضعفاء مكة ممن لم يتمكن من الهجرة، فالكفّارة
هنا تكون بتحرير رقبة مؤمنة. (لما لا توجد ديّة هنا؟!!)،
وهل الخطاب للمؤمنين، أم على القاتل الكافر، وكيف يلزم؟!
3. من قتل مؤمنا
خطئا، وهو يساكن العدو ويقطن معهم، ولكنّ يوجد هناك ميثاق وعهد بين هؤلاء الكفار
والمؤمنين، وذلك ما كان عليه الحال بعد صلح الحديبية، فالكفارة هنا تكون بديّة
مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، ثم من لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
واكتفت الآيات بذكر المصير
الأخروي الأليم للقاتل العمد، وكأن ليس له حرمة أو حق بعد أن فعل ما فعل. والقرآن
الكريم يشّنع على قتل النفس البشرية، ويدعو إلى حفظها وتحريرها من الأوهام ومكائد
الشيطان، ولذلك تنهى الآيات هنا المسلمين عن الإسراف في القتل، وأن يقبلوا العذر من
أي أحد، يقول سبحانه وتعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ
اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(94).
فالقتال إنما شرع لتحرير الإنسان، لا لستعباده، ولرفع الظلم عنه، لا لطلب
المغانم والأموال، وإنما لهداية الناس لطريق الله سبحانه وتعالى، فعلى المسلم أن
يتبيّن فلا يضع سيفه دون تروي وتبصّر، بل لينقاد سيفه للهدى والحق، وليقبل الأعذار
من الناس، وإن كانت واهية، فأمر القلوب لله سبحانه وتعالى، والمسلم عليه بالظاهر.
إنها الأخلاق العالية للإسلام في السلم والحرب، تحفظ العزة للمسلمين، وتستميل قلوب
غيرهم إلى شرعه الحنيف الرحيم.
ثم تنبه الآيات مرة أخرى إلى أهمية الجهاد والقتال في
سبيل الله سبحانه وتعالى، فلا يدخل في النفوس بعد الحديث عن خطر القتل، وعن الحرص
في موضوع التبيّن بأن القعود عن الجهاد هو الأفضل، دفعا لهذه الشبهات، بل
المجاهدون أعلى درجة ومنزلة عند الله سبحانه وتعالى، وكلٌ وعد الله الحسنى، إلا
أنه لا يستوي مقام من قدم نفسه وماله لله سبحانه وتعالى مع سواهم ممن قعد واتكل
على غيره في القتال. وتستثني هنا الآيات أولي الضرر، فهؤلاء رفع عنهم واجب الجهاد،
ويمكن للقاعدين أن يقدموا الكثير للأمة والمجتمع، فهناك من الشؤون المهمة ما لا
ينبغي أن يهمل وقت الحرب والقتال، والأمة تنهض باجتماع العطاء من جميع أبنائها، كل
في مجاله وتخصصه.
قراءة في سورة النساء (20)
الآيات (97-104): الترغيب في الهجرة لله سبحانه
وتعالى:
إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ
قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا
غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ
مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا
مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا
مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا
مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ
مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ
أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ
الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ
الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ
وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
وبمناسبة الحديث عن القتال
والقتل، تتفتح هذه الآيات بموضوع الوفاة أيضا، لتقدم النصيحة للمسلمين الذين لم
يهاجروا إلى دار الإسلام، وظلوا في ديار الكفر، لا يتمكنون من إقامة شعائر دينهم،
ولا ينصرون دين الحق ودولة الصدق، فتقيم عليهم الحجة، بأن أرض الله واسعة، والهجرة
ممكنة، فلماذا أقاموا حيث لا يمكنهم تلبية نداء دينهم وشعائر إسلامهم. والآيات هنا
استمرار لما مضى من تقريع للمنافقين الذين لم يهاجروا، فالهجرة واجبة إلا على
المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يتهتدون سبيلا.
أما البقية فإنهم على أثم عظيم، ومأواهم جهنم وساءت مصير. والله سبحانه وتعالى
يعين من يطلب الهجرة وييسر لها أمرها.
والهجرة لها منزلة عظيمة
عند الله تعالى، فالذي توكل على الله وسعى في سبيله مهاجرا إلى الله ورسوله تاركا
لأهله وماله، ومخاطرا بنفسه، فإنّ الله يتقبل منه، ومن يدركه الموت في سبيل ذلك
فقد فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " فيجزل له العطاء والرضى. وهناك في تاريخ
الصحابة هجرتان، الأولى كانت للحبشة، تفاديا لتعذيب الذي كان يصيب المسلمين في
مكة، والثاني كانت للمدينة حيث دولة الإسلام. والمدينة كانت المأوى الذي انطلقت
الدعوة الإسلامية منتشرة في أصقاع الأرض، فكان على المسلمين أن يأووا إليها،
قائمين بشعائر الله سبحانه وتعالى، ومنطلقين منها لنشر الدعوة الإسلامية.
ثم يختتم هذا المحور بالحديث عن
أهم العبادات وأشرفها، وهي الصلاة، والصلاة عمود التقوى، وهي كما مر في أول آية،
ركيزة التشريع في الإسلام، وإذا كان التشريع هنا يشرح موضوع الجهاد والهجرة، فإن
استصحاب السؤال عن موضوع التقوى والصلاة لابد أن يكون حاضرا، ذلك لأن التقوى هي
شرط هذا التشريع كله. فتشرح هذه الآيات هنا التشريع الرباني في كيفية الصلاة
للمسافر والخائف. والآيات تبيّن أهمية هذه الصلاة في الشريعة الإسلامية، فهي لا
تسقط، لا في حظر ولا سفر، بل هي كتاب موقوت، وزعها الله سبحانه وتعالى على اليوم
والليلة ليكون المؤمنين دائما قريبين منه سبحانه وتعالى.
والأية تبيّن أيضا أهمية صلاة الجماعة، فهي لا
تسقط حتى في الحرب والقتال، وقد شرحت الآيات هنا طريقة صلاة الخوف، لتمكن المؤمنين
من الصلاة في تلكم الظروف الصعبة والمخيفة، مع احترازهم من المشركين، فلا يضعوا
أسلحتهم ولا يهنوا في ابتغاء القوم. والقرب من الله وذكره والتوكل عليه هو الوقود
الإيماني الذي يحتاجه كل مجاهد، فليكن قريبا من الله سبحانه وتعالى في كل حال،
وليحافظ على الصلاة في السلم والحرب.
قراءة في سورة النساء (21)
خامسا: عوامل
في زول الأمم (105- 136)
الآيات (105-112): إختلال ميزان العدل:
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
(105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا
تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى
مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ
اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
(109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا
يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ
يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
بعد الحديث عن تمكين الدولة الإسلامية ونصرتها في المحور السابق، تنتقل
الآيات هنا إلى محور آخر، وهو محور التطبيق والممارسة للحكم في هذه الدولة، وتبيّن
الآيات هنا
أولوية وأهمية قيمة العدل في دستور الدولة الإسلامية. إنّ الله سبحانه
وتعالى الذي أنزل الكتاب بالحق والخير لهداية الناس في أمور دينهم، وليكون مصدرهم
الشرعي للحكم في دولة الإسلام، وهو تشريع جاء لحفظ الحقوق، وصون الحرمات، وجميع
رعاياه متساوون في نظره، فلا بد من الحكم بينهم بالعدل .
والرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو أول من أنزل هذا الشرع على الواقع
بالإمتثال والتطبيق. وتتحدث الآيات هنا عن التفريق بيّن شرع الله الحق العدل، وبين
التطبيق البشري الذي يعتريه كثير من أوجه القصور، فالإنسان مخلوق قاصر من أن يحيط
بكل شيء علما، فقد يقع منه الخطأ والسهو والنسيان، إلى غير ذلك من أوجه القصور
البشري، وهذا معلم هام في الشريعة الإسلامية، فلابد من التفريق بين إعجاز التشريع
الإسلامي من حيث الأصل، وبين تطبيق ذلكم الشرع في الواقع نظرا لأن المطبق هو ذلكم
الإنسان القاصر، ولا يستثنى من ذلك حتى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فهو مع
فضله وعلو منزلته، إلا أنّه بشر، لا يعلم الغييب.
وتتحدث الآيات هنا عن قصة طعمة بن أبيريق حين سرق درعا ثم اتهم به جاره اليهودي،
وقد جاء قوم طعمة للرسول صلى الله عليه وسلم يطلبون منه الوقوف معهم ضد ذلكم اليهودي،
ولكّن الآيات هنا فضحت طعمة بن الأبيرق هذا، وبرأت اليهودي من التهمة، وهذا هو قمة
العدل في الإسلام، فالإسلام ليس شعارات زائفة يسقط مع أول إختبار، ولكنه ينشد
إقامة العدل ولو على النفس، فلا يأخذ أحد بجريرة غيره، فمع إسهاب القرآن الكريم في
ذكر خسيس منزلة اليهود، ووصفه الواسع لخطرهم ورجسهم، إلاّ أنّ كل ذلك لا يسوغ
التعدي عليهم وظلمهم، فلكل مقام مقال، ومقام العدل والإنصاف ثابت لا يتغيّر، فالعدل
لا تختلف معاييره باختلاف الأشخاص والأهواء، بل هو ثابت لا يتزعزع.
فتبيّن الآيات هنا المخالفات التي وقع فيها قوم طعمة بن ابيريق حين أتوا شافعين
فيه، فهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السرائر، ويعملون
لأيام قصيرة، وينسون الوعد الحق. إن وقوفهم معه في هذه الحادثة لا يغيّر حاله من
سارق إلى غير سارق، بل لابد أن تظهر الحقائق ناصعة في الأخرة، فيا قوم طعمة بن
أبيريق لا تشتروا لصاحبكم النار، ولا تعينونه على الباطل، بل امنعوه من ذلك،
وأقيموا العدل والقسط في أنفسكم، ثم ارجعوا إلى الله سبحانه وتعالى بالتوبة
والإستغفار، فإن ذل ساعة خير من ذل الدهر كله. وإنّ الجرم الذي وقع فيه طعمة هذا
جرم مضاعف، فهو إكتسب إثما ثم رمى به بريئا، وذلك هو البتهان والخسران والعظيم.
قراءة في سورة النساء (22)
الآيات
(113-116): تبيهات وتحذيرات لمتصدري القضاء والحكم
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا
(113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
وتبيّن الآيات هنا عظم منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كرّمه الله
سبحانه وتعاىل بأن جعله حاكما بين الناس، بما أراه الله، وقد قيل أنّ في هذا دليلا
على وقوع الإجتهاد منه صلى الله عليه وسلم. ومنزلة الحكم هذه تحتاج إلى تروي،
فليحذر المرء من أن يقع فريسة للمخادعين، فيدافع عن الخائنين أو يجادل عنهم، ولذلك
كانت منزلة القضاء والمحاماة كبيرة الخطر، فليتقي الله سبحانه وتعالى من مضى في
هذا الطريق، وليستغفر الله في كل حال. إنّ التقوى هي الزاد المعين لمثل هذه
المواقف. ومن فضل الله ورحمته أنه كشف ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينساق
خلف هذا الخداع، وما ذلك إلا لعلو مقامه صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب الدعوة،
إنزل عليه الكتاب والحكمة وعلّمه سبحانه من فيوض علمه، ورباه في مدرسته. والإنسان
عموما يمكن أن يقع منه القصور، وهو غير محاسب فوق طاقته، وإنما عليه السعي فيما
أتاه الله من قدرة وعلم، وهؤلاء الذين يحاولون أن يضلوا الناس، إنما في الحقيقة
يضلون أنفسم، فالحياة قصيرة، وعند الله تجتمع الخصوم.
ثم تنطلق الآيات لتحذر من اتباع إغوائات المنافقين وأهل الأهواء، فحديثهم
في مجملة نجوى باطلة، يبيّتون ما لا يرضى الله سبحانه وتعالى من القول، لنصرة أهدافهم
وأهوائهم ولو كانت بعيدة عن الحق والصواب. والخطاب القرآني دائما ما يكون معتدلا،
فليست كل النجوى خاطئة، بل هناك من يأمر بالإصلاح والصدقة والمعروف بين الناس،
فيقارب بينهم، ويصلح، وذلك هو السبيل الصحيح في موضوع النجوى، وكم من قضية شائكة
عالجتها كلمة طيبة أو صدقة، وسعي بإصلاح، ونعم سعي هؤلاء. والنجوى صفة قد ينال بها
أصحاب الباطل مرادهم، فييئون لباطلهم، ويتعاونون عليه، وبيئة النجوى بيئة موبؤة
تهدم معالم العدل وتنشر الجور بين الناس، ولذلك جاء التحذير منها هنا.
أمّا من أراد الشقاق والنزاع، وطلب الباطل واستعدى الحق وأهله من أجل
أطماعه الضيقة فلا بد أن يلاقي سوء المصير في الدنيا والآخرة، وذلك ما حدث لطعمة
هذا، فإنه هرب إلى مكة، ومات فيها مرتدا. ثم بعد ذلك يفتح الله باب التوبة لمثل
هؤلاء حتى يرجعوا إلى الحق، وباب التوبة دائما مفتوح، يسع كل من ظلم وجار على نفسه
وأسرف عليها، إلا أن يشرك بالله، فالمشرك في عناد وضلال مبين.
الحديث هنا عن الحكم، والمنتفعين في الحكم أيضا يستخدمون
النجوى لينالوا من حظوظ سياسية مؤبؤة، خذ مثلا العراق، تجد المتنفعين يبحثون عن
مناصب، وكذا غيرها من البلدان.
قراءة في سورة النساء (23)
الآيات (117-126): الإهتمام بالعمل بدل الإتكال
على الأماني
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ
إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ
عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ
وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ
بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ
أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
أنتهت الآيات السابقة إلى موضوع الشرك بالله، فمن لم تحسن عقيدته، ويصدق
إيمانه يتخطفه الشيطان بالضلال، وذلك ما آل إليه حال المجتمع الجاهلي، حين عبدوا
الأصنام بعد أنّ أزلهم الشيطان وأضلهم ضلالا بعيدا. والشيطان متربص بالأمم جميعها
أضل كفار قريش وأضل من قبلهم اليهود والنصارى. والشيطان توعد بأن يأخذ نصيبا من
بني آدم إلى جهنم، فلذلك هو ذو سعي حثيث من أجل الوصول إلى هذا الغرض المشؤوم. ومن
أكثر الأساليب التي يتخذها في ذلك، أسلوب الأماني والوعود الباطلة التي أضلت الناس
عن طريق الحق والصواب، تتبعا لشهوات النفس وآفاتها. ومن الملاحظ أن هذه الآيات
تنتقل بالحديث عن الدولة ليكون حديثا عن الأمة، وذلك في انسيابية تامة. إن إتباع
تعاليم الشيطان من أكثر الأسباب التي تؤدي بالأمم وتسقطها. وسورة النساء في مجملها
تؤطر لموضوع تقوى الله سبحانه وتعالى، والخطر الواقع على من أخل بهذا الشرط
الأصيل.
لقد كانت تعاليم الشيطان حاضرة عند العرب، فلقد كان كفار قريش يوزعون
الأنعام، بعد أن يجعلون لها علائم في آذانها، إلى أقسام عدة، منها البحيرة
والسائبة، إلى غير ذلك من أقسام، سوف تتوسع سورة المائدة بذكرها وتفصيلها. إن بعض
هذه الأنعام المبتكّة في آذانها تكون قربانا للأصنام، وبعضها تكون للرجال دون
النساء، إلى غير ذلك من ضلالات ومتاهات صدقها سكان الجزيرة واتبعوها.
وقد ذكر الشيطان للمرة الثانية الآن في هذه السورة، فهو يدعو إلى عبادة
الطاغوت، ويستخدم الأماني كأهم وسيلة له لإضلال الناس عن الصراط المستقيم، فيسوقهم
عن الإيمان والعمل الصالح وما أعده الله من نعيم مقيم للمؤمنين في الجنة، إلى طريق
الغواية والضلال، وكل هذا مصداقا لدعواه بأن لا يدخل الناس الجنة أبدا. ولذلك فعلى
المجتمعات الإسلامية أن تحرص كل الحرص بأن لا تتبع الشيطان، ولا تسمع لأمانيه
ووعوده.
ومن أهم أسباب ضلال اليهود، ضحك الشيطان عليهم بالأماني الباطلة، فهم شعب
الله المختار، وأهم أهل الله وأحبائه، وأنهم لن يلبثوا في النار إلا قليلا.
فالشيطان أستطاع بوعوده وأمانيه أن يضل اليهود ويجعلهم يتنكّبون عن العمل الصالح،
والسعي فيه، وذلك بعد أن ضمن لهم الجنة، وذلك ما يضرب العمل الصالح في مقتل، فكيف
يكون هناك دافع للعمل صالح حين يضمن الجزاء. إنّ العمل الصالح هو ركيزة النهوض
والنمو، فلا يحسبن المسلم أنه سوف ينال الدرجات العلى في الدنيا قبل الآخرة، إن
جنح للركود وظن أنه سوف ينجو بمجرد نسبه وانتمائه.
إنّ العمل الصالح هو السبيل الوحيد للرقي والنهوض، "وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا"، والعمل
الصالح الذي ترتقي به الأمم، لا بد أن يكون نابعا من إيمان، ويصحبه إخلاص وإحسان،
والأماني الكاذبة لا تسقيم وخلق التسليم لله سبحانه وتعالى، فالتسليم لله ينبع من
روح العبودية، فكيف يستقيم ذلك مع عجرفة العجب وإتباع الأماني. وهذا التسليم هو
الذي جاء به الخليل إبراهيم عليه السلام، جد الأنبياء، الذي يزعم اليهود أنهم
يتبعون ملته. إنّ إبراهيم عليه السلام تمثل لأوامر الله سبحانه وتعالى ولو كانت من
غير فهم ووعي منه، ولكنه التسليم للأمر الخالق سبحانه، ملك السموات والأرض، عرف
قدر الله فاتّبع أوامره، ولم تُغره نفسه وهواه بأن يترفع عن الحق ويتبع أمره.
والله سبحانه وتعالى هو ملك السموات والأرض، وهو بكل شيء محيط، والإنسان مستخلف في
هذا الملك ليستعمره بأمر الله سبحانه وتعالى، وليعمره بالعمل الصالح، فليسع في ذلك
بكل جد وإجتهاد، ولا يركن للأماني والأهواء.
هناك رابط واضح بين الشيطان وآماله،
وبين الفقرة الماضية التي كانت عن النجوى.
قراءة في سورة النساء (24)
الآيات (127-136): القيام بالقسط والشهادة لله:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ
فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ
سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا
(132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا
فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا
بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا
فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
تبلغ الآيات السابقة
إلى ذروة مقامي التقوى والعدل، وذلك عندما تحدثت عن شروط قبول العمل الصالح المؤدي
إلى عمارة الأرض بالقسط والعدل، ثم إلى أهمية التسليم لله سبحانه وتعالى كذروة
لقيّم الإيمان والعبودية في الإسلام. لتتحدث هنا عن تغلغل ذلك المبدأ في النفوس
حتى يكون المسلم قوّاما بالقسط، شاهدا لله سبحانه وتعالى فلا يعمل لنفسه وإنما له
سحانه وتعالى، فيقول الصدق ويشهد الحق، ولو على نفسه أو أهله وماله. إنّ الذي يوقن
بأن الله هو ملك السموات والأرض والقاضي فيهما بما يشاء، لا تكدره الظروف ولا
تغيّره الحوادث عن الوقوف شهادة لله سبحانه وتعالى على كل حال، ولذلك كررت الآيات
هنا ملكية الله للسموات والأرض ثلاث مرات في آيتين. إنها درجة السامية التي يريد
الله سبحانه وتعالى للمسلم أن يصلها. وإذا كان شأن الدنيا بأن الأجير يتبع أمر
المالك، ولا يحق له التصرف في ملكه إلا بإذنه وعلى حسب مراده، لأنه هو المالك
والمتصرف في ما يملك، فكيف إذن يحق للمخلوق أن يتصرف في ملك الله سبحانه وتعالى
دون مراده وإذنه.
وبين موضوع ذكر تسليم
إبراهيم عليه السلام، والطلب من المؤمن أن يكون قائما بالقسط شاهدا لله سبحانه
وتعالى، تأتي أربع آيات تجيب عن اسئلة المستفتين. وكل هذه الآيات تتدور حول موضوع
العدل والإنصاف في النفس والأهل والأقارب، فتفتح لنا الآيات الموضوع الأول الذي طرقته
هذه السورة المباركة، فتجيب هنا عن بعض الإستفسارات، وكأن الآيات بلغت ذروتها في
التشريع، لتعود هنا فتفتح الباب لأجوبة السائلين. ولا شك أن المرء لن يقوم بالقسط،
وهناك بعض الجوانب المختلة في علاقته الأسرية، فتعود الآيات هنا على بدء، فمن أراد طريق
الإنصاف فلتكن البداية من إنصاف حقوق الأولياء والأقارب، ثم ليكن صالحا منصفا في
أهل بيته.
وكما وتبيّن الآيات أهمية
الفتوى، في استمرار المنبع الصافي للشريعة الإسلامية في العطاء، فالشريعة لا تنضب
وإنما تتسع مع كل حادثة، ولن تبلغ منتهاها أبدا. وإذا كانت الآيات السابقة تتحدث
عن اتباع كفار قريش واليهود لأوامر الشيطان ودعاويه، حتى باتوا يعبدونه من دون
الله سبحانه وتعالى، فإن المسلمين يرجعون لله سبحانه وتعالى وشرعه في كل حين، فهو
البنيان الحصين الذي يجنبهم إتباع أهواء الشيطان وأمانيه. إنّ منهج الفتوى، وتحكيم شرع الله في النوازل،
هو الخيار الرباني بدل إتباع الشيطان، واقتفاء الأماني والأهواء.
وتذكر
الآيات هنا مسئلتين للفتوى، كلها تدور حول حفظ الحقوق والقيام بالقسط. أمّا
المسألة الأولى فهي في حفظ حقوق الأيتام من النساء والأطفال، فلا يحل للولي أن
يأكل مال اليتيمة ثم فوق ذلك يعضلها عن الزواج، فيبقيها معه فقط من أجل أن يأكل
مالها، كما ولا يجوز أكل إرث الولدان المستضعفين، وأخذ حقوقهم، بل المنوط
بالمؤمنين أن يقوموا لليتامى بالقسط فيحفظوا حقوقهم، ويرعوهم حق رعايتهم حتى
يكبروا.
والمسألة
الثانية تعالج قضية نشوز الرجل الذي يترفع عن معاشرة زوجته، أو يعرض عنها بالحديث
ولا يؤانسها بالكلام، فلا بد هنا من التدخل بالصلح بينهما، والصلح هو الذي يقرب
النفوس، ويعالج الجراح، وليعلم المصلحان، بأن نفوس الزوجين تكون شحيحة في هذه
الحالة، فكل يذكر الذي له، ولا يريد أن يتغاضى أو يتنازل، ولذلك قالت الآيات وإن
تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا. ثم تبيّن الآيات حدود العدل
المطلوبة من الرجل، وتبيّن في طرح واقعي بأن الرجل لن يستطيع العدل بين أزواجه،
فذلك أمر قلبي لا يملكه الشخص، وإنما يملك أن يعدل في النفقة والمبيت، ولذلك يدعوه
القرآن بأن لا يميل كل الميل إلى أخرى، فيجعلها كالمعلقة، بل فليسع قدر استطاعته
إلى العدل والإنصاف بين زوجاته. وشرط الإسلام في الزواج هو العدل والمعاشرة
بالمروف، فإن انتفى هذين الشرطين، ولم يمكن للمصلحين أن يوفقا بين الزوجين، فلا
بأس بالطلاق، وهو آخر الحلول، ولكن ان تعذرت الحياة وصعبت، فالحياة فيها كثير من
الفرص، فعسى إن تفرقا أن يهيأ الله لهما العيش الكريم، فالله واسع حكيم، والحياة
مليئة بالخيارات المختلفة التي يمكن أن يطرقها المرء.
قراءة في سورة النساء (25)
الآيات (137-152): المنافقون: تزعزع الإيمان
وموالاة الكافرين
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ
كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ
وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى
هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا
وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ
مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا
(146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ
اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ
ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ
تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
أنتهت الآيات السابقة إلى
ذكرت صفات المؤمنين، حين بلغوا أن يكونوا قوّامين بالقسط شهداء لله سبحانه وتعالى،
للتتحدث الآيات هنا موقف معاكس لهذا تماما، وهو موقف المنافقين، الذين اتبعوا
أهوائهم والشيطان، لم يتغلغل الإيمان في شغاف نفوسهم، بل تحركوا بحسب المصلحة،
فآمنوا وكفروا بحسب الظروف، لم يصدقوا الله ولم ينصروا دينه، بل استهزئوا بالآيات،
وخادعوا المؤمنين، وتربصوا بهم. إنّ المنافقين أضاعوا مبدأ التقوى وأخلّوا بميزان
العدل. وهكذا تبيّن سورة النساء التكامل المطلوب بين مبدأي التقوى والعدل.
إنّ خطر المنافقين شديد،
يعيثون فسادا في المجتمع المسلم، وينشرون الأراجيف والضلالات، ويزعزون الناس في
إيمانهم، يتربصون بهم الدوائر عند كل نازلة، ويتلوّن لسانهم عند كل حادثة، لذلك
كله وجب الحذر منهم، خاصة عند خوضهم بالأستهزاء في دين الله تعالى، وعند ولايتهم
للكافرين. إنّ لتزلزل الإيمان في النفوس خطر عظيم، فهو يهدد المجتمع، خاصة إذا ما
كان ذلك بابا للؤلاء مع المشركين المتربصين بالمسلمين الدوائر، وتمضي الآيات في
ذكر الصفات الخبيثة لهؤلاء المنافقثن، وكيف أنهم يتميّزون بالخداع والمكر
والتلوّن، وما ذلك إلا لضعف الإيمان، والقصور الناتج عن تأثير العبادات في النفوس.
وليعلم هؤلاء أنّ الله أعد لهم
عذابا أليما، بل هم في الدرك الأسفل من النار، لشدة كفرهم وسوء أعمالهم، ولذلك
فعليهم بالتوبة والإنابة لله سبحانه وتعالى، وأن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون
المؤمنين، إنّ السلوك تبع للقلب، فمن كان هواه وحبه للمشركين، اقتفى أثرهم ووالاهم،
ومن كان حبه لله والمؤمنين، فإنه يناصرهم ويتبع سبيلهم. وليتبع هؤلاء طريق الإصلاح
بدل التخريب، وليعتصموا بالله بدل أن يوالوا الكافرين، وليخلصوا دينهم لله، بدل ان
يتذبذب إيمانهم مع كل حادثة.
ثم تقدم الآيات نصيحة عامة
للمسلمين، بأن يذكروا الخير، ويتجاوزوا عن الشر، فالله لا يحب أن يٌجهر بالسوء، وتُنشر
الفواحش، فلا بد من المحافظة على المجتمع، وهنا نصيحة لإعلامنا اليوم، الذي ينشر
الفضائح ويقتفي اثرها، وتضخم حتى تتكدر النفوس، وينتشر التوجس، فيسقط حاجز الخوف
من الوقوع في المعاصي، والناس وللأسف العظيم تتحمس لتسمع وتتبع مثل هذه الحوارات، أمّا
الله سبحانه وتعالى فيعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والسر عنده كالعلانية. إنّ المنافق دائما ما يبحث عن الأعذار
ليبرر تجاوزه للشرع من أجل مصالحه الخاصة، وأشنع ما يقع فيه هؤلاء هو تهكمهم على
الصالحين، وعلى أولياء المقربين، بل وعلى رسله وأنبيائه. إنّ المنافق قد يتهم
الشرع، عندما لا يوافق هواه، وقد يتهم الرسل والأنبياء أيضا. ولا يحصل هذا من مؤمن
صحيح الإيمان، فالإيمان كامل لا يتجزأ، ولا تتبدل شرائعه مع تقلبات الأيام
والأحداث.
قراءة في سورة النساء (26)
الآيات (153-162): مخاصمة اليهود لله ورسله:
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ
السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى
سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ
وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي
السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ
حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ
فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى
مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ
شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا
(157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ
نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا
عَظِيمًا (162)
وإذا كان المنافقين أرادوا التفريق بين الله ورسوله، وأرادوا أن
يتخذوا شرع الله لهوا ولعبا، فيطبقون منه شيئا، ويتركون الآخر، فإنّ هذا الحال لم يختلف كثيرا
عمّا فعله اليهود، الذين غالوا في دينهم، وأسائوا الأدب مع ربهم. إنّ حال يهود
المدينة لم يتغيّر منذ زمن موسى عليه السلام، فلا ينبغي للرسول محمد صلى الله عليه
وسلم وصحبه أن يستغربوا من مواقفههم. إن لهم تاريخا طويلا من اللجاج والعناد مع
الله ورسله. ولقد بلغ بهم الصلف بأن سألوا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بأن
ينزل عليهم من السماء كتابا خاصا بهم ينبؤهم بأنه صلى الله عليه وسلم رسول من عند
الله. ولذلك يذّكر القرآن الكريم بحالهم مع النبي موسى عليه السلام، فهناك طلبوا
أن يروا الله جهرة، ولم يكتفوا بطلب الكتاب، إنّه الصلف والتعنت عندما يبلغ
منتهاه. إنّ العناد والصلف مع الله سبحانه وتعالى هو المقابل تماما لمراد الله
سبحانه وتعالى من عباده المؤمنين الموفين بعهده، وتلكم هي التقوى والتسليم لأمره
سبحانه وتعالى.
والقرآن الكريم هنا يذكّر بمنتهى ذلكم التعنّت الذي جرى لهم،
فقد أصابتهم الصاعقة، ورفع الله فوقهم الطور، وما ذلك إلا بسبب ظلمهم، وكفرهم
وعبادتهم للعجل، ونقضهم للميثاق. وهكذا نجد بأن اليهود خاصموا الله سبحانه وتعالى
ورسله، فانتقلوا من الكفر والجحود إلى المخاصمة والعناد، ولذلك نزع الله ملكهم،
وخاب مسعاهم في الأرض، وهل يفلح من خاصم الله ورسله. لقد طبع الله على قلوبهم، فما
عادت تخشع لزواجر الحق، ولا تستكين لندائه، ولقد حرّم الله عليهم الطيبات، وتاهوا
في أسباب الضلال، فأخذوا الربا، وأكلوا أموال الناس بالباطل. إنّ القلوب إذا طبع
عليها، أنكرت الإيمان وعادته، وجحدت بالخالق وحاربته، فباتت تباريه بسيئات
الأعمال، وتعاديه بالأقوال والأفعال، فحط الله منزلتهم، وفضحهم على العالمين.
ومن عدل القرآن الكريم أنه دائما ما يستثني لمن يستحق، ولا يأخذ
أحد بجريرة غيره، ولذلك تنبه الآيات هنا إلى
قسم من اليهود يؤمن بالله ويتبع أمره، وهؤلاء هم الراسخون في العلم "لَكِنِ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
ومن جرأة اليهود أنهم كانوا يتفاخرون بقتلهم للأنبياء، ومن
فخرههم ذلك قولهم "إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
رَسُولَ اللَّهِ" عرفوا أنه رسول لله، ومع ذلك أرادوا قتله. ثم تتوسع الآيات
في رفع هذه الفرية عن عيسى عليه السلام، فالآيات تنتصر للنبي عيسى عليه السلام،
فتنفي خبرهم بأنهم قتلوه وصلبوه، بل إن الله سبحانه وتعالى قد رفعه إليه. وكما
اختلف المسلمون في قضية وفاة عيسى عليه السلام، اختلفوا أيضا في قضية رجوعه إلى
الأرض مرة أخرى، متمسكين بهذه الآية "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
شَهِيدًا"، ويرد سماحة الشيخ أحمد الخليلي قائلا: "وأنت إذا تأملت دلالة
الآية الكريمة على نزوله عليه السـلام آخر الزمن وجدتها بعيدة عن النصية، بل لا
تقوى على أن تكون ظاهرة في ذلك، لأن احتمالات أخرى تزاحمها، ومنها ما هو أقوى منها
في دلالته". ويضيف: "ليس في القرآن نص على نزول المسيح عليه السـلام
وإنما تأول ذلك بعض المفسرين في بعض ما أنزل الله من الآيات، وحمل ذلك غيرهم على
محامل أخرى."
قراءة في سورة النساء (27)
الآيات
(163-176): هدف ودور الأمة الإسلامية هو حمل الرسالة الربانية:
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ
وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ
عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ
مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا
مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ
عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا
لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
إنتهت الآيات السابقة إلى ذكر عداوة اليهود للمصدر الرباني، ينكثون العهد
وينقضون الميثاق، ويقتلون الأنبياء، لتاتي الآيات هنا لتذكر منزلة أنبياء الله
سبحانه وتعالى. والآيات بدأت تمهد لموضوع الإيمان بالرسل منذ فترة، بداية من
المنافقين الذين يفرقون بين الله ورسوله، وإنتهاءا باليهود الذين خاصموا الأنبياء
وقتلوهم. إنّ الإيمان بالرسل أحد ركائز الإيمان في الإسلام، ودعوة الرسول محمد صلى
الله عليه وسلم هي استمرار لأنوار الهداية الربانية التي أرسلت للناس منذ آدم عليه
السلام.
إنه موكب النور الذي أشع على الأرض بفيوض السماء، فالإيمان بالرسل هو أحد
أركان الإيمان التي تشكل هوية المسلم، فالأنبياء هم عباد الله المقربون، الذين
هدوا الناس عبر العصور إلى صراط الله المستقيم، وقد بذلوا في ذلك أقصى أنواع
البذل، هم الموكب الذي ظل يسعى من أجل توطيد رسالة الإيمان في الأرض، ومن أجل حفظ
شرع الله في البسيطة. وهم شهود الله على الخلق بأنهم قد بلّغوا هذا الشرع الرباني
للبشر، وكفى بالله شهيدا. إنّ فلسفة الإيمان بالرسل واسعة وعميقة في كيان الأمة.
إن الرسل موصولون بالله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي الرباني الذي يأتيهم
من رب العاليمن، وهم لذلك الطريقة التي توصل بين السماء والأرض، فيهدون العالمين
إلى دين الله الحنيف، وشرّعه القويم. جائوا منذرين لهم بين يديّ عذاب أليم، ومبشرين
لهم بأن لهم النعيم المقيم إن هم آمنوا بالله سبحانه وتعالى وأتّبعوا رضوانه. وهدي
الله سبحانه وتعالى يصلح الدنيا قبل الآخرة، ويخرج الناس من ظلمات الجهل والجور
إلى نور الإيمان والعدل والتقوى. إنّ التعاليم الربانية هذه قد صاغها الباريء
سبحانه وتعالى من أجل سعادة البشر، فهي من فيوض علمه وحكمه سبحانه وتعالى (لَكِنِ
اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ
وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)، فكيف يرغب عنها البشر بعد ذلك.
الله سبحانه وتعالى خلق البشر لعبادته، وعمارة الأرض بحسب شرعه سبحانه
وتعالى، وقد أرسل الرسل ليهدوا الناس لهذه الحقيقة البيّنة الظاهرة، والأنبياء هم
حجة الله على خلقه بأن قد وصلتهم الرسالة الربانية، فمن اتّبعها فاز وارتقى، ومن
تنكب عنها خاب وهوى. والأمة الإسلامية هي المنوطة الآن بحمل مشعل الإيمان، بحيث
تستمر دعوة الله في الأرض. إنّ رسالة الأمة الإسلامية هي استمرار لرسالة الأنبياء
والمرسلين على هذه البسطة حتى تعمر بأمر الله سبحانه وتعالى.
ثم تقرر الآيات مرة أخرى، بأن من كفر وتنكب عن هذا الطريق فإنه قد ضل ضلالا
مبينا، وأنّ له الخسران في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فيا أيها الناس جميعا
أرجعوا الله سبحانه وتعالى الذي له ملك السموات والأرض، فاعبدوه وسيروا على طريقه
ومنهاجه.
ذكرت السورة هنا أهم الأعداء التقليدين للأمة: الكفار
والمنافقين، ثم اليهود، ووضعت النصارى في إطارهم الصحيح.
قراءة في سورة النساء (28)
الآيات (171-176): النهي عن الغلو في الأنبياء
والأولياء:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا
لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ
وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا
نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا
مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ
وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ
فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
وبعد ذكر منزلة العالية الأنبياء والمرسلين ينهى الله سبحانه وتعالى عن
الغلو في الأولياء والأنبياء، كما غلى أهل الكتاب في عيسى عليه السلام، حتى آل بهم
الأمر أن جعلوه وأمه والروح القدس آلهة تعبد مع الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه
"فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ
يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلًا". وفي هذه الآيات تصحيح لنظرة النصارى للمسيح عليه
السلام، ورد عليهم في أمر إعتدائهم عليه وعلى أمّه الصدّيقة رضي الله عنهم
وأرضاهم، فهم عباد الله وأولئائه الذين لا يستنكفون عن عبادته، وكم هدوا الناس إليه
وإلى منهاجه القويم، ولكنّ القوم ضلّوا وتجاوزوا الحد في أمر الإيمان بالرسل.
وهذا الغلو ما زال مستشري في الأمة، فكم قد قدس العلماء
والأولياء حتى جعل لهم المقامات التي تعبد مع الله سبحانه وتعالى. "لَنْ
يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ". هذا هو المقام
الأعلى للدين، هو مقام العبودية لله سبحانه وتعالى.
أما المتمسكين بشرع الله وهداه فإن لهم الرحمة والإحسان، والأمن
والإيمان، كما ولهم الهداية من كل معضلة يقعون بها، يقول سبحانه وتعالى "فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ
مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا". إن الكتاب
العزيز هو المنهج الرباني الذي أرتضاه لهذه الأمة لكي ترقى وتنهض، ذلكم كان الغرض
من إرسال الرسل، وهذا هو الهدف الأصيل للأمة الإسلامية التي تحمل ميراث الأنبياء.
إنّ القرآن الكريم هو البرهان والحجة التي تهدي الأمة في كل معضلة، وهو النور
المبين الذي يرشدها عند كل شبهة، فليرتضيه المسلمون دستورا ومنهاجا لهم، يسيّر
شئون حياتهم كلها، ذلك لأنه جاء من لدن حكيم خبير.
ثم تنتهى السورة بفتوى أخرى في المواريث، يقول سبحانه وتعالى
"يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ
هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ
يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا
الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (17"
والكلالة هو الميّت الذي ليس له ولد أو والد، وتبيّن الآيات هنا حقوق الأخوة من
الميراث.
والإنتهاء بالسورة بهذه الآية أمر يحتاج إلى تأمل، ولعل الآية
هنا عود على بدء، فتنتهي بما بدأت به، لتظهر أهمية القيام بالحقوق، وأهمية الأسرة في الإسلام، فهي اللبنة الأولى لبناء
الأمة والمجتمع، فمن أراد أن يبني دولة قوية فعليه بداية أن يهتم بدائرة الأسرة
وتشريعاتها. والآيات تبيّن أيضا أهمية علم الميراث في الشرع الحنيف، حيث أن هذه
هو المقام الثاني للفتوى الربانية في موضوع الميراث. ولعل المراد هو ذكر أهمية
الفتوى في الإسلام، فهي الطريق للنهل من شرع الله سبحانه وتعالى مع كل حادثة،
فتكتمل مسيرة الإسلام وينمو شرعه الحنيف مع الوقت بإعمال الفكر والتمحيص في كتاب
الله سبحانه وتعالى، فالأنبياء قد انتهت مسيرتهم، والقرآن الكريم هو آخر كتاب
رباني، ولكنه كتاب جامع يمكن له أن يستمر في علاج قضايا الأمة كلها، واستيعاب
مستجداتها.
يوجد هنا تصحيح لوضع عيسى عليه السلام، الإيمان بالرسل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق