السبت، 23 يوليو 2016

أدلة وجود الله سبحانه


أدلة وجود الله سبحانه


الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، ذو الآيات الباهرة، والدلالات القاهرة على ألوهيته وربوبيته، وعلى قدرته وعزته وسلطانه، سبحانه له الخلق والأمر، والعزة والقهر. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وسراجا للمهتدين، وهاديا إلى سبيل رب العالمين. نريد في هذا الموضوع أن نقف على أهم سؤال في هذا الوجود

هل من خالق مدبر له أم أنه ليس هناك إله؟.

وما هي الدلائل التي يقف عليها المؤلهون ليستدلوا بها على وجود الله الخالق المعبود؟.

ولا شك أنّ هذا هو السؤال الأول بالنسبة للعالمين، ليعرفوا كيف أتوا إلى هذا الوجود، ومن هو الذي صنعهم وخلقهم؟، ولأي غرض كان هذا الخلق؟، ثم ليتلوه أسئلة أخرى عن رسالة الإنسان في هذا الوجود، بل عن رسالة الوجود أجمع.

وهل ثمة سؤال أعظم من هذا السؤال، إنه السؤال الأول بلا منازع، فعليه يتحدد مسير الإنسان ومصيره.

ونحن إذا نظرنا كيف أجاب الناس عن هذا السؤال، نجد أن معظم الناس تؤمن بوجود إله خالق، وإن أختلفوا بعد ذلك في طبيعة هذا الإله.

فقد وجدتُ بعض الإحصائيات تتحدث أنه فقط 2,3% من البشر اليوم يعتقدون بعدم وجود إله خالق لهذا الكون، بينما يجيب 12% من البشر عن الإجابة بلا أدري، وهكذا تجد أن أكثر من 85% من البشر اليوم يعتقدون بوجود إله خالق.

على أن هذه النسبة ليست اليوم فقط، فالتأريخ البشري يتحدث أنه ما من أمة خلت إلا ووجد لها آثار تدل على أنها كانت تعبد إله وتقيم له المعابد. لذلك فارتباط البشر بالإله ليس طارئا بل هو أصيل، وجد أينما وجد البشر، وهذا بحد ذاته يعتبر دليلا على وجود الله، فهو ليس ترفا فكريا بل ضرورة إنسانية، وقضية فطرية لا ينفك الإنسان عن الإهتمام بها.

وإن كان القرآن الكريم يتحدث عن أدلة وجود الإله الخالق سبحانه، إلا أنه في الغالب الأعم ينطلق في تصحيح النظرة عن صفات الله الواحد وترك ما خلاه من آلهة وأصنام.

وهذا ليس حال العرب في الجاهلية فقط، بل هو حال الإنسانية جمعاء. ولا شك أنّ مبدأ التوحيد ظاهر بقوة في مبحث الوجود هذا. وينطلق بعضهم بالقول بأن الإيمان هو الأصل وأن الإلحاد هو الطارئ، لذلك فيكون إحضار الأدلة على عدم وجود الإله عليهم وليس على المؤلهيين؟

والله الخالق سبحانه ليس جسما ماديا بحيث يمكن قياسه مباشرة، فهو عز شأنه خالق للأجسام ولأدوات الإحساس في العالمين، لذلك فإثبات وجوده لا يكون بأدوات الحس مباشرة، وإنما ذلكم هو حال المادة في هذا الكون المخلوق، فلذلك لا بد من الاستدلال على وجوده من الأدلة الدامغة التي يشير إليها كل ما في الوجود.

والله سبحانه وتعالى هو الحقيقة الكبرى التي لا يستقيم تفسير أي شيء إلا بوجوده عز شأنه، وإنما جعل الإستدلال عليه لأن الناس في هذه الدنيا في إختبار وامحتان.

ولذلك فالله سبحانه وتعالى إنما يستدل على ذاته بأثر صفاته في هذا الوجود، أما معرفة كنه ذاته فهو أمر متعسر على العقول البشرية القاصرة، وأنّى لها المعرفة، ولا تكون المعرفة إلا عن  تجربة سابقة، فلا سبيل إذن إلا الإستدلال على صفاته بآثاره في خلقه، أو الإستماع عن وصف ذاته بما أتى في كتابه، مخبرا عن نفسه، وهو قد قال عز شأنه (ليس كمثله شيء وهو السميع العليم)، وهذا هو منتهى العلم في أمر ذاته سبحانه.  وهكذا هناك طريقين لمعرفة الله سبحانه؛ الإستدلال العقلي أو السماع للوحي.

ويشكل مبحث المعرفة أهمية خاصة لمثل هذا الموضوع، فما هي مصادر المعرفة التي يمكن الوثوق بها للدلالة على هذه القضية، وما حدود كل مصدر، فلا غرو إذن أن تبدأ كتب العقيدة بالبحث في العلم قبل الولوج في التوحيد، فالركن الأول مثلا في كتاب مشارق الأنوار عن العلم، ثم الركن الثاني عن الجملة والتوحيد.

والإنسان علمه محدود، فهو ينطلق في بحث ما واقع تحت سمعه وبصره، أما الخارج عن ذلك فلا يستطيع البت فيه، إلا أن يكون وحيا من الله سبحانه (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) القلم.

وقد بحثتُ موضوع العلم في موضوع سابق، فلا أعيده هنا، على أن مبحث المعرفة شديد الإلتصاق بهذا الموضوع، وسوف يكون له بصمتة هنا.

والناظر في مبحث أدلة الوجود هذا يجد أنها تجلي صفة الخلق لله سبحانه. والأدلة على وجود الله سبحانه على ثلاثة أقسام:



1. أدلة عقلية وهذه إنما مجالها الموجودات التي يمكن للإنسان أن يسبر غورها بحسه وفكره.

2.  أدلة أصلها الكتب والرسل المنزلة وحيا من رب السموات والأرض وهذه حقها التصديق والإيمان

3. وأدلة وجدانية وفطرية  منغرسة في طبيعة الإنسان وأصل خلقته، وقد أشرنا إليها فيما سبق.







  

أولا الأدلة العقلية

ينطلق الإنسان في هذا الكون الفسيح ليقابله السؤال الأكبر فيه، وهو من أين أتى هذا الكون الواسع؟ وكيف أبتدأ؟

ليكون الدليل على وجود الله بقدرالكون، وكل ما يحويه من تفاصيل باهرة، علمها الإنسان أو لم يعلمها.

إنه سؤال الخلق الذي كثر الإشارة إليه في القرآن الكريم دليلا على وجود الله وقدرته وعلمه. (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ * إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ۖ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) الزمر.

أن الخلق محتاج إلى خالق، الوجود محتاج إلى موجد، هذه هي البداهة التي تسلم بها كل العقول.

إن الدليل الأول الذي طرقه الفلاسفة والعلماء قديما وحديثا على وجود الله هو وجود هذا الكون نفسه، وقد صيغ هذا الدليل بعبارات مختلفة، كما أنه زيد وضوحا ورسوخا كما سوف نرى بإذن الله مع تقدم العلم.

وإذا كان الدهريون -قديما وحديثا- الذين أشار إليهم القرآن الكريم يقفون عند حدود هذا الكون ولا يبحثون فيما وراءه، فإن غيرهم يجعل لكل سبب مسببا ولكل موجود واجدا، ويقول الله سبحانه في حق الدهريين (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الزخرف.

وقد صاغ الأولون هذا الدليل بصور شتى، فمنهم من أسماه "بدليل العليّة"، فلكل شيء علة وسبب فما هو دليل وعلة وجود هذا الكون.

ومنهم من أسماه "دليل الحركة" وهنا يقصد أن كل متغيّر في الكون لا بد أن يكون له مغيّر، كما أنه يبطل أن يكون هناك رجحان دون مرجح، فالتغيرات الكثيرة التي توجد في الكون هي دليل على وجود محرك ومصمم لها. ولو لم تكن هناك قوة تحرك الأشياء لظلة ثابتة جامدة، فلكل فعل فاعل، ولكل حركة محرك، وهكذا....

وقف الفلاسفة المسلمون الأوائل كما ذكرنا مع أدلة وجود الله وتحدثوا أن علة وجود الكون هو الله سبحانه.

ثم توسعوا في دعمها، والرد على العوارض التي قد تطرقها، ومن ذلك قضيتي التسلسل والدور، فقالوا أنهما قضيتان باطلتان.

فالعلل لا يمكن أن تتسلسل إلى ما نهاية، فإنه لا بد أن يكون هناك مرجح في آخر المطاف، فلا يسأل تبعا لهذا، ومن خلق الإله؟ أو ما العلة التي رجحت وجوده؟. فالخالق هو القوة النهائية التي هي أصل كل حركة، فوجوده واجب، والله سبحانه هو علة لغيره ممن هو ممكن الوجود.

كما أن الدور باطل، ولا يصح تبعا لذلك أن يكون سبب وجود الكون هو الكون نفسه، أو سبب تطور الكون هو الكون نفسه.

وقد بذلوا جهدا في تأطير هذا الطرح ليسدوا كل الثغرات التي يمكن أن يلج إليها الدهريون لإنكار خالقٌ للكون، وممن توسع في ذكر هذا الشيخ الدكتور محمد سعيد البوطي في كتابه "كبرى اليقينيات الكونية".

ولا أرى داعيا هنا للتوسع في هذا الموضوع.

وفي موضوع الخلق، أختلف الأولون أيضا في وقت الخلق وفي مادته. فبينما قال الفلاسفة وبعض المعتزلة بأن العالم قديم وخلق من مادة أولى، قال معظم المسلمون بأن العالم محدث وقد خلق من العدم.

 ويدافع ابن رشد عن مبدأ قدم العالم فيقول أنه لا يليق بالخالق ألا يخلق، وأنه لا يقف دون إتمام فعل الخالق أمر، ويقول أنه لا توجد آية واحدة في القرآن الكريم تدل على أن الكون خلق من عدم أو أنه خلق في زمن، بل يوجد ما يظهر العكس، بحسب قوله (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)، فالسماء خلقت من مادة قديمة هي الدخان.

على أن هذا الخلاف قد حسمه العلم، فالعلم يبيّن اليوم بأن العالم ليس قديما بل خلق قبل 13,8 بليون سنة، وأنه لا معنى للمكان والزمان قبل الخلق، فالزمان والمكان إنما هما بعدين ماديين متصلين بالأبعاد الكونية، بل إنهما متغيّرين وليسا ثابتين.

كما أختلفوا أيضا في طبيعة الخلق، فمنهم من قال بنظرية الفيض، وذلك بأن المخلوقات تفيض من الله سبحانه، كما يفيض النور من الشمس، ومنهم من قال بوحدة الوجود، وذلك بأن الله والكون هو موضوع واحد، ومنهم من قال بأن الله خلق العالم وسن فيه القوانين التي تحكمه ثم تركه، ومنهم من قال بالخلق المستمر، وهذا هو قول معظم المسلمين، فالله يخلق باستمرار، وأنه لو تخلى الله عن الكون لحظة واحدة لذهب إلى غير قرار، وهنا كان النقاش واسعا بين الفلاسفة وعلماء الكلام.

ولا يزال بعض العلماء اليوم يقول بأن الله خلق العالم ثم تركه، فيقول أنشتاين مثلا "أنا أؤمن بإله سبينوزا -الذي كان يؤمن بوحدة الوجود- الذي يكشف عن وجود نفسه عن طريق وجود تناغم محكم مقنن لكل ما هو موجود، ولكنني لا أؤمن بإله يهتم ويتدخل في أقدار ومصائر وأفعال البشر". وكذا يقول ستيفين هوكنيج "إن الله قد يكون موجودا ولكني لا أحتاجه لتفسير ما يجري".

وممن تأثر بوحدة الوجود الدكتور مصطفى محمود في مقتبل حياته، وقد رد عليها في كتابه "الشك واليقين". كما أنّ وحدة الوجود هي الفكر الذي يعتمده بعض الصوفية، وهي البنية التي تقوم عليها العقيدة الهندوسية. وكيف يكون الله والعالم وحدة واحدة، والكون نعلم أنه لم يكن موجودا إلا قبل فترة، ولعل الشعور بأن الكون جزئا من الله يعطي الأريحية للبعض ويشعره بالتناغم، وهو ولا شك شعور زائف غير صحيح.

 وهذه المسائل- القديمة الحديثة- سوف بإذن الله يظهر الصواب فيها ونحن نمضي في هذا الموضوع، وسوف تتجلى بإذن الله تعالى كثير من المسائل التي تدور حول موضوع الخلق.

والله سبحانه واحد أحد، فرد صمد، والكون كله يخبر عن هذه الحقيقة الظاهرة، (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) الحديد.

ودليل الخلق الذي ذكرناه هو دليل عام على وجود الله سبحانه، فلذلك يمضي العلماء في ذكر أدلة تفصيلية كثيرة مبتنية عليه، وممن فعل هذا الشيخ الدكتور حبنكة الميداني في كتابه العقيدة الإسلامية.

ومما مر نعلم أن الدهريين يقفون بتفكيرهم عند حدود الوجود، ولا يتعدونه إلى ما سواه، بل يحسبون أنه مكتف بنفسه عن الخالق. ويعتبر الماديون اليوم هم من يمثلون هذا التوجه.

إن الوجود مليء بالآيات والدلالات التي يمكن من خلالها البرهان على أن هناك قوة عظمى خلقته وتدير شؤونه، وهو الله سبحانه الذي له الخلق والأمر.

وقد أخترنا هنا ثلاثة أدلة تبرهن بإذن الله أن للوجود خالقا وموجدا

1.              دليل النظم

ويسمى أيضا بدليل النظام أودليل التصميم الذكي، وإذا كان دليل العليّة يتحدث عن أن كل موجود لا بد له من موجد، فإن دليل النظم يمضي في بحث أن هذا الوجود مصمم بطريقة مبدعة يُعلَم أن ورائها خالق مبدع.

وهذا الدليل ليس بحديث، وإن كان له حضور اليوم، وممن أظهر تفاصيل هذا التصميم استيفن هوكنج في كتابه "التصميم العظيم".

والتصميم يخبر عن المُصمِم أكثر مما يخبر عن المُصمَم. وفيه إشارة أنه لا يمكن للمادة الصماء أن تصمم وتبدع من ذات نفسها كما يدعي الماديون.

إن المواد في الأساس تخلو من العقل، ولا تعرف المعاني فضلا عن أن تعمل على تراكم هذه المعاني ثم لتصيغ منها التصاميم المعقدة التي نراها في الوجود.





وقد عرّف علماء المسلمين النظم بإنه يقوم على أركان ثلاثة، لا يمكن أن تدخلها العشوائية

1.              تعدد الأجزاء، فالنظام لا يكون في جزء واحد، بل من عدة أجزاء مترابطة.

2.              التناسق فهذه الرابطة لا تكون عشاوائية بل هي منظمة ومتكاملة بحيث أن كل جزء يكمل الجزء الآخر ويعتمد عليه.

3.              تحكي هدفية وغائية هي بعيدة عن ما يمكن للمادة أن تمضي فيه، فالمادة لا تفكر ولا تخطط.

والوجود كله من الذرة إلى المجرة يحكي تصميما، وكل جزء من أجزائه يكمل الباقي لتستقيم الحياة، ولو انحل جزء منها لنحل عقد الكون واندثر، وكفى بهذا التصميم المتناسق دليلا على أن هناك من أبدع وصمم.

إن التصميم في الأصل حالة قبل الخلق، فإذا ضربنا بتصنيع السيارة مثلا، فإن المصممون يقومون بتصميمها على الورق بداية ثم بعد ذلك يشرعون في صناعتها بحسب المخطط المرسوم، ولله المثل الأعلى.

إن التصميم يسبق الخلق نفسه، فهو في الأصل معلومة، وفي البدء كانت الكلمة. إن الفكرة والتصميم سابقة على الصنع والتكوين، وكفى بهذا دليلا على وجود خالق مبدع.

ولا شك أن الإنسان لو تأمل في أي خلق لوجد له تصميما في غاية الإبداع، خذ مثلا الخلية الحية، فإنها تتكون من أجزاء متجانسة يكمل بعضها بعضا في معمل متكامل يمكّن الخلية من تأدية دورها بجدارة. فواضح أن هناك تصميما محكما تمضي عليه هذه الأجهزة المخلوقة بإحكام.

ثم يأتي إكتشاف الجينوم البشري، ليضع يده على هذه المعلومات التي وضعها المصمم في الخلية لتكون بمثابة كتاب للتعليمات في الدور المنوط بهذه الخلية، بل والكائن البشري كله.

ويعتبر هذا الدليل هو أقوى الأدلة اليوم على وجود الخالق سبحانه، وهو أقوى الأدلة على وحدانية الله سبحانه أيضا، حيث أن الكون يخبر بقوة بأن المصمم لشتى هذه النظم إنما هو واحد، فبصمة الخلق واحدة في جميع الأنحاء الكون.

وليتنا نمضي مع آيات الكتاب العزيز لنستبين مراحل الخلق، فالله سبحانه هو المصور، وهو الذي خلق وسوى وأبدع. ولا شك أن كل خطوة في مراحل الخلق إعجاز ينبغي الوقوف معه، وآية تدل على وحدانيته وربوبيته. (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) الإنفطار.

وأهم ما يرتكز عليه دليل التصميم أنه يظهر أن هناك خطة وتصميم تمضي عليها الأجهزة الحيوية وغير الحيوية، وهل الأجهزة المختلفة في جسم الإنسان إلا معمل متكامل، محكمة أدواره يمضي على خطة غاية في الإحكام.

وهذه الخطة تظهر أن خلف ذلكم التصميم وعي حطط وفكر صمم، بل أنّه يظهر أن هذا المبدع  قرر واختار، والقرارات لا تنبع من المادة الصماء، بل هو من صفات العاقل المدبر. وأعظم ما أعطي الإنسان في هذا الوجود هو حرية الإختيار وحرية القرار، في نسق لم يعط فيه غيره، والقرار هو أرفع ظاهرة عند العاقل المدبر، ولا تمتلكها المادة بحال.

إنّ الحياة فيها قبس من صفات الله، والروح سر من أسرار الله سبحانه، فلذلك فالكائنات الحية فيها صفات أصيلة لا تمت للمادة بصلة، كالرحمة والمغفرة، وغيرها، فضلا عن حريّة الإختيار والسلطة الكبيرة التي أعطي إياها الإنسان، ولذلك أصبح الإنسان خليفة لله في أرضه.

ودليل التصميم يدلل على بعض الصفات لله الخالق

2.              إنه واجب الوجود

3.              وجوده غير مُتَسبَب

4.              وجوده متعال على الزمان

5.              وجوده متعال على المكان

6.              له مطلق القدرة

7.              له مطلق المعرفة

8.              صاحب قرار، فالله سبحانه وتعالى له حريّة وإرادة.



2.     دليل التناغم - Fine tuning

ثم يأتي دليل التناغم ليكمل المشوار، وليتجلى فيه  مبدأ القرار بوضوح تام، وليظهر بدون أدنى شك أن هناك مبدع أحكم صنع هذا الكون.

ويتحدث هذا الدليل عن الموازين الموجودة في هذه الكون، والتي هي في غاية الإنضباط وأنه لو اختلت شيئا قليلا لما كان هناك كونا متزنا ولا حياة.

أنظر مثلا في الأرض، بعدها عن الشمس بمقدار، وبعدها عن القمر بمقدار، وانحراف قطبيها عن المركز بمقدار، وكل هذه الموازين لو اختلت قليلا لما أمكن أن يكون هناك شكلا للحياة على سطحها، فلن تكون درجة حرارتها مهيئة، ولا نسبة الأكسجين مهيئة للحياة، بل ولن تكون هناك فصولا أو غير ذلك.

ويمضي هذا التناغم في كل شيء بشكل مذهل، بحيث أن بعض المقادير لو قلت فقط بنسبة تصل إلى جزء من مئة ألف جزء مما هي عليه الآن لما وجد الكون، ومثال ذلك مقدار قوة الجاذبية التي تمسك الكون من أطرافه.

يقول الله سبحانه  (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) الفرقان.

إن هذه المقادير الدقيقة لا تعرفها عشوائية المادة، فهي ليست ضرورة حتمتها الفيزياء أو غيرها، بل يمكن علميا أن تكون غير ذلك.

وإنما رجحها القرار من المبدع الخلّاق، فيمكن للأرض أن تبتعد عن الشمس قليلا، ويمكن للقمر أن يكون بحجم أكبر من هذا، ويمكن لنسبة الأكسجين في الجو أن تكون أقل أو أكثر مما هي عليه، فمن الذي قدّر هذه المقادير الدقيقة. إنّ الفيزياء يمكن لها أن تخرج مخرجات غير هذا، وما أكثر الكواكب الغير صالحة للحياة.

إن المقاييس في الأرض في غاية الدقة ولولا ذلك لما كانت هناك حياة. ولا يقتصر الأمر على الأرض فقط، بل إن المقادير الكونية نفسها في غاية الدقة حتي تستقيم حركتها ووجودها.

ولا مجال لنا هنا أن نسبر غور أيٍ من هذه المقادير، ولو فعلنا لوجدنا عظمة الخالق. وإن الناظر في الكون يعلم أن تجمع هذه المقادير جميعها على هذا النسق يستحيل إلا أن يكون بفعل مدبر قدير. والأدلة هذه رغم ظهورها الشاخص إلا أن الله أقام فيها الخفاء، لأن الله معرفة الله إبتلاء، فهو الظاهر والباطن، ومعرفته نور للمهتدين، وظلام وضلال للمعرضين.

إن هذا الدليل يظهر بأن الكون له هدف يمضي فيه وأن تأريخه السابق يهيء للتالي بعده، ولذلك قال بعض العلماء "يبدوا أن الكون قد تم تفصيله على مقاس الإنسان"، وقال آخر "يبدو أن الكون يعلم أننا قادمون". إن هذا التناغم يمكن أن تراه في كل شيء، والمقادير الموجودة فيه في غاية الدقة.



3.    دليل الهداية

ولا يقتصر الموضوع على الخلق فقط، بل أن موضوع الهداية لهذه المخلوقات يعتبر أيضا دليلا على وجود الله سبحانه، ذلك أن الهداية لهذه المخلوقات بعد أن تم خلقها يكشف أنها تمضي على نسق معيّن قد سيقت وهديت إليه.

إنّ المعارف التي تملكها هذا المخلوقات والسلوك الذي تمضي عليه لغاية في العجب، فمن الذي أرشدها وهداها لما هي فيه.

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ) الأعلى. والآية هنا تتحدث عن مرحلة الخلق والتقدير والهداية.

والمتأمل لهذه الهداية، هداية المخلوقات بعد خلقها، يلاحظ الإعجاز ولا شك، فما الذي أرشد النحلة إلى الزهرة أو هدى النسمة لتحمل اللقاح، ومن الذي رعى الجنين في بطن أمه، ثم من الذي أرشده إلى ضرع أمه بعد ولادته مباشرة، ليجد فيه اللبن بعد أن كان من قبل خاليا.

كما أن هناك للمتأمل حالات ظاهرة لهذه الهداية، كرحلة سمك السيلمون أو حركة الطيور المهاجرة، وغيرها. إن الخلق ناطق بأسم من خلقه، وتجد إشارات ذلك ودلالاته في كل شيء.

في كل شيء له آية         .......    تدل على أنه واحد

وما يميّز موضوع الهداية إنه يدور في مجال المعاني وفي مجال الأهداف وفي مجال القيّم وهو أمر بعيد عن المادة، فالمادة لا تعرف المعاني في ذاتها، بل ليس لها كسبا أو اختيارا، إنها مجبولة على بعض الخصائص الذاتية فقط.

ومن أهم الصفات التي لا يمكن للمادة أن تتسورها الحياة والوعي والتفكير والإدراك، فهذه كلها صفات غير مادية.

والكائنات الحية تتدرج في موضوع الهداية من كون أهدافها تتدور حول الغرائز وطلب الطعام إلى أن ترتقي في سلّم الرقي فيكون معها نظام إجتماعي وأخلاقي. ويرتقي الإنسان في سلّم العلم والمعرفة ليكوّن الشعر والأدب والحضارة.

والكون كله آيات، فما من شيء يتمعن فيه الإنسان بفكره، إلا ويجد فيه دليلا ظاهرا على قدرة الله، فكل شيء يشي بإن هناك خالقا أبدع وأحكم.

كل مخلوق تتجمع فيه من الصفات المتنافرة والخصال المتضادة أحيانا حتى تمكنه من القيام بمهمته ودوره، وتجمع هذه الخصال بتلك الدقة لا يكون بضرب عشواء، وإنما ذلك أثر من مصمم مبدع، وخلّاق يصطفي ويختار.

ولنضرب هنا مثالا بالخصائص الفيزيائية والكيميائية للماء، فهي في غاية العجب، ولا شك أن الناظر فيها لا يستطيع إلا أن يسلم بأن توافق هذه الصفات جميعها لن يكون إلا لأن هناك مصمما حكيما أراد لها أن تكون هكذا.

الماء هو سبب الحياة في الأرض، وقد اجتمع له من الوظائف ما لم يجتمع لغيره، وما لا يمكن حصرها بحال. الماء يشكل نسبة كبيرة في أجسام الأعضاء الحية، بل وله دور في حركة الأرض ونموها، فهو البحر والنهر، وهو السحاب والجليد....

وإذا درسنا الماء فيزيائيا نجد له الكثير من الصفات العجيبة، ومرد معظمها إلى قوة الرابطة الإشتراكية بين جزئيات الماء. عنصر الماء يتكون من الأكسجين ذو الشحنتين السالبتين وذرتين للهيدروجين ذو شحنتين موجبتين، ورغم توازن مركب الماء، إلا أنه ينتظم بشكل قطبي مشكلا رابطة إشتراكية قوية بين جزئياته، وكثير من الصفات التالية للماء ناتجة عن هذه الرابطة القوية بين حزئياته.

1.              قوة الرابطة الإشتراكية مكنت الماء من الوجود في حالاته الثلاث على الأرض، غازا وسائلا وصلبا، وهذه ظاهرة فريدة لا توجد في غيره.

2.              السعة الحرارية للماء كبيرة جدا، وبفضلها يتحول الماء إلى سحاب وينتقل إلى أماكن بعيدة.

3.              الماء يتمدد عند تصلبه بعكس العناصر الأخرى، ولذلك يقل وزنه فيطفوا على السائل، وبدون هذا لماتت كل الأحياء البحرية. كما أن الماء يتجمد من الأعلى إلى الأسفل بعكس غيره.

4.              للماء خاصية التوتر السطحي، وبفضلها كانت الخاصية الشعيرية التي تمكن الماء من الصعود إلى أعلى الأشجار فيسقيها.

5.              قيمة ثابت العازل الكهربائي للماء عالية جدا، لذلك فهو مذيب قوي للأملاح جميعها، وهذا له دور حيوي وآخر طبيعي، فالماء يذيب حتى الصخر.

6.              الماء ناقل للكهرباء والحرارة، والبحر يسخن بسرعة مقارنة باليابسة فتتكون تبع لذلك الرياح.

7.              اللزوجة مثالية للماء، فهو ليس كالعسل، فالحركة سريعة وسهلة فيه، ولذلك تتم العمليات الحيوية بسهولة ويسر.

إن المثالية هذه في صفات الماء واجتماعها كلها في عنصر واحد لا يمكن أن تكون أتت هكذا ضرب عشواء، بل تجمعها دليل على أن خلف هذا مصمم أبدع وأحكم.

والعلم التجريبي اليوم يلقي الضوء على كثير من أوجه الإعجاز الرباني في خلقه، وذلك بالرغم أن كثير من يجليه ليس من المؤلهين.

ومما توسع فيه قضية بدأ الخلق نفسها، ونظرية الإنفجار العظيم. والمسلمون مطالبون اليوم بالمزاوجة بين ما يوضح العلم في شأن الخلق وما ذكر في القرآن الكريم من آيات في هذا الشأن. وهذا المطلب ملح لئلا يكون هناك فجوة في العقول بين العقيدة والعلم، على أن العلم ما زال يقترب من الخالق سبحانه، ولكن أين دور المسلمين ليجنوا ثمار هذا القرب، والله سبحانه يقول

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) العنكبوت.



شبهات الملحدين:

وبعد هذا العرض البسيط لهذه الأدلة، لنقف الآن مع بعض شبهات الملحدين، ولنرى إن كانت تُقِيم حجة، أمّ أنها تفتح أبوابا أخرى لمعرفة جوانب أخرى للقدرة الإلهية أو أنها تنبه  المسلم على أفكار ومنطلقات ينبغي له أن يصححها.

1.              قدم العالم

وهذا هو قول الدهريين، الذين يقفون بتفكيرهم مع الكون وموجوداته فقط، ويقولون الطبيعة هي المبدأ الوحيد الذي نحن واثقون منه.

ويعتمد هؤلاء على القول بأن العالم غير محدث بل هو قديم، وقد وافق هذا الطرح الفلاسفة المسلمون وقالوا إن العالم قديم، والفرق بينه وبين الله سبحانه وتعالى فقط في الرتبة، فالله سببا للعالم، فالله واجب الوجود، والكون مسببا له ممكن الوجود.

كما أن هذا الطرح الفلسفي ينكر أن يكون الخلق من عدم، ولذلك كفّر المسلمون القائلون به.

والقول بالوقوف عند هذا الكون ومظاهره وعدم البحث فيما ورائه قول في الحقيقة ساذج، بل قول يدعوا إلى ترك العلم، وترك السببيّة التي هي ميزان كل شيء، ولست أبالغ إن قلت إني أراه انتحار علمي، وأكثر منه سذاجة القول أن الكون خلق من دون واسطة (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) الطور.

أمّا قول الفلاسفة بقدم العالم فلم يعد مقبولا على المقياس العلمي اليوم، فضلا عن الردود الفلسفية التي ساقها علماء المسلمين للرد على ذلك، فقد شغلت المسألة التفكير الإسلامي لوقت طويل.

وقد أشتد الإمام الغزالي في هذه المسألة، فقد استهل بها ردوده على الفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة"، ومع حسم المسألة علميا لا أرى داعيا للخوض فيها، فقد استقر العلم الحديث على بطلانه وقد حدد زمنا لبداية العالم.

إن العالم قد بدأ علميا منذ الأنفجار العظيم الذي حدث قبل 13,8 بليون سنة، ولا يقف العلم عند ذلك، بل يقول أن العدم كان سابقا لهذه الحادثة، فجموع الطاقات قبل الإنفجار العظيم يساوي صفرا. وهذين الحقيقتين المهمتين أنهيتا جدالا كان طويلا في هذه المسألة.

وإن كان هناك قلة من العلماء يجادل على أن الأمر لم يحسم علميا بعد، فلعل هناك سلسلة من الأنفجارات العظمى هذه في تأريخ الكون، ومنهم من يقول بنظرية الأكوان المتعددة، وكل هذه الأطروحات لا مستند علمي لها البتة، بل هي مجرد تخريصات لا دليل عليها.

بل الأدلة العلمية تشير أن العالم له عمر وأن طاقته تنقص مع الوقت، وأن درجة حرارته تروح في انخاض مما يؤكد أنه لم يكن منذ الأبد وإلا لكانت قد انتهت هذه الطاقة.

2.              القول بالصدفة

وإذا كان القول بقدم العالم قد حسمه العلم، فإنه كذلك قد فعل في مسألة القول بالصدفة، حتى أنه لم يعد يذكر اليوم.

إن الإبداع الذي يحكم كل شيء في هذا الكون لا يمكن أن يقال أنه نتج بالصدفة، بل إن مظاهر التصميم تتجلى أكثر مع تقدم العلم. وذلك ما فصلنا فيه سابقا. وقد ازعج الملحدين هذا التناسق والتصميم الذي يشير إلى مصمم حكيم عليم، فقالوا إنه يمكن أن يفسر بعاملي الوقت والصدفة، أو يفسر بآلية الإنتخاب الأعمى أو يمكن أن يفسر بما يسمى بخاصية المادة، وسوف نعرض لكل هذا بالتفصيل بإذن الله تعالى.

وكيف للقول بالصدفة أن يفسر بداية الكون أو الحياة على الأرض، وهل الحياة مجرد تفاعلات كيميائية مادية. والقول بالصدفة إنما يتحدث عن البدايات، فما الذي يفسر النظام المتكامل المتفاعل الذي نراه في كل شيء في الكون. وعلى كل حال فإن القول بالصدفة قد أسقط علميا، وإذا تكلمت الرياضيات أسكتت الجميع.

قام توماس هاكسلين بتجربة نظرية في الكمبيوتر، فأتى بمقطع قصير من بعض ما كتبه شكسبير، وجعل عشرة من القرود تطبع عشوائيا على لوائح الكمبيوتر، بحيث تقوم بعشرات مليارات العمليات في الثانية لمدة شهر كامل. وكانت النتيجة مفزعة حيث لم تتمكن القرود من كتابة كلمة واحدة صحيحة، وأقل كلمة في الإنجليزية هي a ، بحيث يسبقها فراغ ويتلوها فراغ، ولم تتمكن القرود من طباعة حتى هذا القدر.

ثم قام عالم ألماني آخر بعمليات حسابية لإحتمال كتابة قصيدة أخرى لشكسبير تتكون من 488 حرفا، فوجد أن الإحتمال هو 10 للأس (-690) وهذا العدد كبير جدا بحيث لا يمكن للكون أن يستوعبه، فالكون على كل حال محدود زمنيا ومحدود في عدد الجزئيات التي فيه والطاقة التي تكتنفه، والحسابات تشير أن أي عدد أكبر من هو 10 للأس(-90) فهو احتمال فوق طاقة الكون. ولا شك أن كتابة قصيدة تتكون من 488 حرفا أسهل بكثير من تكوين خلية حية تتكون من DNA، لذلك فمبدأ الصدفة عمياء هذا سقط، ولكن القوم بدأوا في الإتيان بصور أخرى يمكن أن تفسر هذه التصميم العجيب للكون.



3.              خاصية المادة

ويتكأ أصحاب هذا التوجه على القول بأن كل هذا التصميم في الوجود إنما هو نتيجة لما تحويه المواد من خواص، فالحديد مثلا يمكن له أن يدخل في تكوين الجسور والمباني، ويمكن أن يدخل في الأدوات البسيطة والمعقدة، فضلا عن كونه هو المسؤول عن حمل الأكسجين في الدم.

إن للمواد خواص كثيرة وعجيبة، كمثل الكهرباء وهل جميع الأجهزة والكمبيوترات إلا مركبة من المواد، وهل إذا حللنا الأجسام المختلفة وجدناها تحوي شيئا آخر غير هذه المواد، وهي إنما تتحرك في إطارها، ثم هل الإنفجار العظيم وغيره إلا ناتج عن المادة وخواصها، وهذا هو المذهب المادي.

ولكن السؤال الأصلي هنا لم يتم الإجابة عليه، وهي من أين أتت هذه المواد، ومن أين أتت بهذه الخصائص، ومن الذي صاغ القوانين التي تحكم علاقاتها.

إن التفكير الدهري تفكير يعطل العقل في الحقيقة، وهذا مخالف لطبيعة الإنسان الذي هو شغوف لحب المعرفة، ولا يقف عند حد، بل يسبر أعماق الأشياء. وهذا هو القصور الذي تقع فيه المادية، ويقع فيه العلم التجريبي اليوم، إنه فقط يبحث عن إجابة السؤال كيف، ولا يبحث عن إجابة السؤال لماذا.

هذه المواد لها خصائص يأخذها على ماهي عليه، ولا يسأل لماذا هي هكذا؟.

إنه مذهب يجعل العلم ساذجا حيث فقط يدور في مجال الوصف. لذلك فالعلم التجريبي يحتاج إلى الفلسفة لتنقله من كيف إلى لماذا، ينقله من الوصف إلى الغائية.

يمكن للعلم أن يبحث طويلا فيرى التصميم العجيب للكون، ولكنه أبدا لا يرفع رأسه ليقول لماذا هذا التصميم المحكم، ولا يسأل لماذا إلا الفلسفة.

ويمكن للعلم أن يبحث الثوابت والمقادير الكونية العجيبة التي لولاها لما كانت حياة ولكنه لن يرى ذلكم التناسق والتناغم العجيب الذي بفضله تكونت الحياة وتمكّن الحيوان من العيش، فهو محتاج للفلسفة هنا أيضا، ذلك لأن العلم لا يتجاوز الوصف ليبحث في العلل والغايات.

وخاصية المادة حقيقة لا تفسر شيئا، فعندما تقول مثلا لماذا تسقط الأشياء إلى الأرض سيكون الجواب بسبب الجاذبية، وإذا سألت ولكن الجاذبية في الأصل ليست سوى قانونا، فمن أين أتى هذا القانون؟ ولماذا؟، سيكون الجواب إنها خواص المواد، وهل هذا يفسر شيئا، وهذه الخاصية من أين أتت، إن هذه النظرية تستسلم للواقع وتأخذه كما هو من غير أن تبحث لما هو خلفه، إنها تقف عند حد ولا يمكن لها أن تتعداه قط.

والمادة في الأصل من حيث تكوينها لا تعرف المعنى، فهي في المنزلة الدنيا من الحياة، ليست لها إرادة ولا إختيار ولا تعرف المعاني، ولا تدير لنفسها ضرا ولا نفعا. أمّا إذا تدخلت فيها الحياة فإنها هي التي ترقي هذه المادة في سلّم المعرفة شيئا فشيئا، وليست الحياة من خواص المادة أبدا، بل هي مختلفة عنها، ومحل الإختلاف هو الكسب لمعرفة المعاني والرقي في سلّمها.

إن الخلية البسيطة تحوي اختيار وإرادة، فهي مصنع متكامل محكم التصميم وكل حركاته مبنية على الإختيار. غشاء الخلية مثلا يسمح بالأكل بالدخول، ولا يسمح للسموم، يأخذ الأكسجين بقدر، ويخرج ثاني أكسيد الكربون.

إن البحث في الكائنات يشي بدون أدنى شك أن الأهداف والغايات موجودة في تصميمها، المواد المكونة للخلية مثلا هي نفسها، ولكنها ولا شك تسير بعقل مدبر لتخدم عملياتها المختلفة، وليس هذا الذكاء والاختيار إلا دليل على وجود مصمم مبدع، فالمادة ليس لها اختيار أو ذكاء، وقد أفضنا في هذا سابقا.

4.              الإنتخاب الطبيعي

ويعتبر الإنتخاب الطبيعي من أقوى أدلة الملحدين اليوم على إنكارهم لوجود الله، ذلك لأنه برأيهم يفسر قضية الخلق، فكأنهم وجدوا على ضالتهم في كيفية تفسير أمر الخلق، فمبدأ الإنتخاب الطبيعي يقول أنه لا خلق مباشر كما يقول المؤلهون، بل أن هناك آلية مادية بحتة قادرة على تفسير الخلق.

قد لا نعرف اليوم كيف تكونت الخلية الأولى، ولكنهم يدعون أنّ العلم سيكتشف هذا فيما سيأتي، أمّا ما اكتشفه العلم اليوم فإنه ينبئُ أن الخلق تطوّر عن طريق الإنتخاب الطبيعي.

كما ويطور مبدأ الإنتخاب الطبيعي من قضية الصدفة، فالإنتخاب الطبيعي لا يبقي إلا ما يصلح في تراكم ايجابي للإحتمالات، فلا ينبغي أن تكون المجالات مفتوحة في قضية الصدفة، ولكنه يوجد بناء على الإحتمالات الصحيحة.

وليس في الإنتخاب الطبيعي أي دليل ينفي الأدلة التي سيقت على وجود الله سبحانه، بل هو يظهر عظمة الله في الخلق، فالله سبحانه وتعالى احترم العقول وأمرها بالذهاب والتفكر في الكيفية التي بدأ فيها الخلق. (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) العنكبوت.

إنّ الله سبحانه وتعالى جعل آليات وطرق تتكون بها المخلوقات، فالجبال لم يقمها الله هكذا، بل أقام لها سنن لتشكلها ووتغيّرها، وهو قادر على أن يخلقها في آن واحد، ولكن إيجاد هذه السنن أبلغ لاحترام عقل الإنسان الذي جُعِل له هذا الكون كتابا مفتوحا لينظر فيه كيف يكون الخلق وكيف بدأ.

ولا غرو حينئذ أن يكون خلق الكائنات الحية في أطوار مختلفة وعلى سنن محكمة، وهذا هو مجال العلم للبحث فيه، ولا يدل أبدا وجود هذه الآليات أن الخلق قائم بنفسه مستغن عن مهيئة، بل هو دليل على حكمة الخالق وتصريفه وحفظه وعنايته. والله سبحانه وتعالى أشار إلى أن خلقه في إطوار، وأنه هو الذي يصطفي ويختار.

إن الإنتخاب الطبيعي إن صح فلن يكون بغير عناية ربانية تشكل المخلوقات في إطوار مختلفة كل بحسب المراد منه، ولن يكون ذلك بضرب عشواء أو عن طريق الصدف. ومن نظر في طبيعة الخلية الأولى يعلم أنها أكثر تعقيدا من أن تكون الصدفة هي التي شكلتها، ثم إن التناسق العجيب في الحيوانات ووظائفها لينبئ أنها محكمة التصميم كل بحسبه وبما يلائم بيئته، ولا مجال للصدفة هنا البتة.

أن التصميم الذكي هنا فيه من الإمكانية أن يشكل خيارات، والمصمم هو الذي يطوّر ويختار. وفي هذا النسق المعقّد ليس كل تتابع عشوائي يكون مخلوقا صالحا لأن يعيش بل إن هناك ميزانا دقيقا لتشكيل هذه المخلوقات العجيبة. إن الإنتخاب الطبيعي ليس حرا إن صح، بل هو يمضي براعية ربانية دقيقة.

ولا يمكن للإنتخاب الطبيعي أن يفسر كل شيء، إن الأساس الذي يقوم عليه مبدأ الإنتخاب الطبيعي هو التأقلم مع البيئة بما يتناسب والعيش فيها، والتأقلم هذا لا يتعدى حاجتي العيش والإنجاب، وإذا كان هذا صحيحا بالنسبة لبعض الأجناس، فإنه بالتأكيد لا يفسر ما عليه الإنسان.

إنّ المعركة التي يمضي فيها الإنسان، هي معركة معاني وقيّم، وطريق علم وحضارة، وأنّى للمادة أن تكون هذه معركتها. إنّ الفلسفة التي يقوم عليها الإنتخاب الطبيعي هو مبدأ الغاب، لا مبدأ الأخلاق والقيم، هو مبدأ البقاء للأصلح والأقوى، وهي فلسفة تؤدي إلى الحروب والدمار لا إلى اللفة والمحبة والسلام.

الإنسان بطبيعته يسعى لأهداف سامية وغايات جليلة، ويعمل لمشروع يتجاوز حياته، فلا يعيش من أجل متع حاضرة، وغرائز ملتهبة، وإنما يمضي لعمارة الأرض والحياة ورقيها ليسعد الجميع. إنّ السعادة الحقيقية التي يبحث عنها الإنسان ليست في السرور الآني والنعيم الحاضر وإنما هي في الإنجاز والعمل. قد يسعى المرء ليل نهار في مشروع ما، ويلاقي من التعب والعنت الكثير، فيقدم الغالي والنفيس من أجل قضية آمن بها وفكر صدقه، وهو لذلك يُكْبَر عند نفسه والآخرين. إن الحياة أعمق بكثير مما تصوره المادة أو ترسمها نظرية الإنتخاب الطبيعي بصورتها المادية الإلحادية.

5.              إله الفراغات

عندما كان نيوتن يقيس سرعة الكواكب حول الشمس، ويحسب قوة الجاذبية، وجد إن حساباته الدقيقة تشير إلى أن الكواكب سوف تحيد عن مسارها قليلا مع مضي الوقت الطويل، هنا أقترح نيوتن أن الإله يتدخل ليصحح المسار بين الفينة والأخرى، ثم مع تقدم العلم واكتشاف قانوني الجاذبية  العام والخاص لم يعد هناك حاجة لهذا التدخل، فلم يعد القانون بحاجة إلى تصحيح دائم من الإله. هذا هو المثال الذي يضرب للإله الذي يملئ الفراغات التي لم يكتشفها العلم.

يقول الملحدون أن المؤلهين ينسبون الأعمال لله مع غياب العلم، ثم لما يأتي العلم ينسبها لأسبابها الحقيقة، فالدين إنما يسد الحاجات العلمية للناس مع غياب تفسير علمي صحيح لها، فيفسر الأمور على غير حقيقتها.

كان يظن المؤلهون أن الرياح هي نفس الله وأن الرعد هو صوته، وأن المرض عقابه وهكذا، ثم لمّا أتى العلم أوجد التفسير لهذا كله. إنهم يتعتبرون أن الدين يستغل جهل الناس فيوجد تفسيرات غيبية خفية.

السحاب إنما أجراه الله، والجبال والمخلقوقات كلها خلقها الله خلقا مباشرا، وهكذا يستغل الدين حاجة الناس للتفسير ليقوم بنسبتها للإله بدل أن يجد التفسير العلمي لها. فالدين إذن ضد العلم، وإنما يأخذ من مساحته مع توسع دائرة الجهل.

ولا يقوم هذا الإعتراض حجة على عدم وجود الله، ولكنه يستغل ظاهرة لا شك صحيحة مع بعض المتدينين الذين ينحون بتفكيرهم هكذا، وليست هذه الأمور في الحقيقة إلا أساطير وخيلات، أم الدين فيرشد إلى أن الله سبحانه وتعالى أقام سننا في الكون هي التي تحركه، فهو يسير بحسب سنن ونواميس ثابتة، وفي هذا كما قلنا إحترام للعقول التي تبحث عن الأسباب ومسبباتها.

ولا شك أن مجال ما يعرفه الإنسان قليل رغم التسارع المعرفي الذي نراه، ومما نعلم في الكون كاف للإشارة على وجود صانع متقن، وخالق حكيم مبدع. إنّ الأدلة التي أقيمت على وجود الله ليست في فراغات معرفية لم تستكنه بعد، بل كون أن الكون مصمم أظهر من يُظهر، وكذا موضوع المقادير الكونية أو موضوع الهداية، هذه كلها لها من الشواهد ما لا يحصى، ومن الأدلة ما لا يستقصى.

نعم إن للكنيسة تاريخ غير مشرف مع العلم، وليس هذا هو حال كل الأديان. إن الدين الحق هو الذي يكرّم العلم، ويكرم المنهج العلمي، ويبعد نفسه عن التفاسير التي تنحو إلى موضوع الأساطير والتكهنات، بل ينشد الأدلة والعلم في كل شيء، وهذه هي رسالة الدين الإسلامي، دين القراءة وتمجيد العلم، ولكن أي علم.

إن العالم الغربي ارتمى في الفلسفة المادية بعد أن عادى الكنيسة، فآمن بالمنهج المادي وترك الإله. فكان علمه محصورا في بحث صفات المادة وخصائصها، فلا غرو إذن أن يقول مثل ستيفن هوكنج "إنه لا يحتاج لله في تفسير العالم".

أي عالم هذا الذي يقصده ستيفن هوكنج، إنه يقصد كيفية تحرك الإلكترون وكيفية إندماج الذرة وإنشطارها، في نظرة مختزلة جدا للكون.

إنه يغيب في عالم الوصف كما أسلفنا ولا ينظر من الذي أبدع هذا وأحكمه. وهذه القوانين الفيزيائية التي يبحثها، من الذي أوجدها وأقام لها سننا لا تحيد عنها، سميت بالقوانين الفيزيائية.

إن قصور الرؤية لدى الغرب سببه قصور منهج العلم التجريبي الذي ارتضوه، فهو منهج يدور في فلك وصف المادة وخصائصها، ولا يعترف بشيء خارج هذا الإطار، فهم مغمضة أعينهم على عالم المادة فقط.

إنها مشكلة منهج، تشكل في جو معاد للكنيسة، فهرب بعيدا عن الدين، مع ما للمنهج الديني من وضوح، فأُبعد الله سبحانه عن كل شيء يقرب من العلم.

ولذلك اختلف المؤلهون منهم في مدى تدخل الله في الكون، فمنهم من قال إنّ الله خلق العالم ثم تركه، وهذا قول بعض العلماء المؤلهين الذين لم يستطيعوا دحض أدلة وجود الله سبحانه، من أمثال أنشتاين وغيره، ويتعلل بعض هؤلاء بأنا لسنا أطفالا حتى نحتاج إلى رعاية منه، فلسنا قصّرا، وأن الإله لا يهمه أمرنا، فنحن بالنسبة له كالحشرات الصغيرة في هذا الكون المترامي الأطراف.

وممن أنكر العناية الربانية هذه أيضا الفلاسفة المسلمون كإبن سينا وابن رشد تأثرا بما قاله أرسطو.

ومنهم من قال بأن الله صنع الكون بدقة وتركه يمضي بحسب قوانينه المحكمة، وإن القدرة الإلهية تعني بأن الله خلّاق عليم، لا ينبغي أن يتدخل ليغيّر ويبدل في هذه القوانين، كصانع الساعات الماهر، الذي لا يحتاج أن يضبط ساعته كل وقت، إنما صنعها بإتقان وتركها.

وهذا الخلاف أيضا ليس حديثا بل هو قديم، ولعله هو الذي ساق الإمام الغزالي للقول بإن السببيّة باطلة وأن الله يجدد خلقه للكون كل لحظة.

إنّ المادة مع الغزالي لا تحرك شيئا أبدا بل إن المحرك هو الله سبحانه، فهو وحده له الخلق والأمر، فهو الذي يتدخل في الجهتين الذي يقع عليهما موضوع السبب والمسبب، فتحدث الأشياء.

وإذا كان بعض المعتزلة قالوا بالطبائع المؤثرة، أي أن الله سبحانه وتعالى خلق للمواد صفاتا وخصائصا تعمل فيها بنفسها، فالنار تحرق والماء يروي، فإن الأشاعرة ينفون ذلك وينسبونه كله لله سبحانه وتعالى.

ولا شك أن مثل هذا الموضوع عميق وبحاجة إلى تفصيل يستوعب التنظير الذي حازه، إلا أننا بحاجة إلى النظرة الوسطية هنا، فالله سبحانه هو الخالق المدبر الذي خلق للمادة صفات وخصائص، وأن الكون يمضي على سنن أقامها الله سبحانه، والله سبحانه لم يترك الكون دون رعاية، بل هو قريب مجيب، له السلطة والهيمنة.

وأن الكون محتاج لخالقه، وإنه لا يقوم لها قرار من دون هذه العناية والحفظ.

 إنّ هذه المسألة واقعة بين المؤلهيين الذين يؤمنون بالله، ولكن الإختلاف في مدى تدخل هذا الخالق في شؤون خلقه، وهي لذلك يمكن أن تحسمها النصوص الربانية.

إنّ موضوع أدلة وجود الله سبحانه يبحر في كل الزوايا التي تعنى بالخلق، وتسلط الضوء على شتى الجوانب فيه، وكأن الله أراد لهذا العلم أن ينطق مسبحا بجلاله وعظمة سلطانه. وهو أيضا موضوع مهم إذ به يمكن أن يصيغ فكر الأمة ويشكل كيفية تعاطيها مع الكون وأسراره.



6.              انتقاد للمنهج الديني في مقابل المنهج العلمي

ويمضي هذا الإعتراض كسابقة في دراسة المنهج الديني في الحصول على المعرفة مقارنة بالمنهج العلمي، ويقصد به هنا منهج العلم التجريبي لا سواه. وسبب هذا الإعتراض هو إقتناع الماضين في الحقل العلمي بالمنهج التجريبي كوسيلة وحيدة للحصول على المعرفة.

وأصل الإختلاف بين العلم والوحي أن الأول إجتهاد بشري، بينما الثاني هو رسالة من رب العالمين، الذي يعلم السر وأخفى، وهو خالق كل شيء وهاديه، وفي يده الأسباب والمسببات.

يقول أصحاب هذه الإعتراض أن المنهج العلمي يعترف بالعجز، وأنه يصف ما يعرفه ويقف عند ما لا يعرف موقف المتواضع الذي يبحث ويتعلم، لذلك فالعلم في تطور مستمر، كل عالم ينقض على ما قبله من أجل تطوير العلوم، وليس في ذلك من بأس. أمّا المؤمنون بالدين كمنهج فينسبون الأشياء لله دونما دليل، ويحسبون أنهم مركز للكون وأن الكون العظيم إنما خلق لهم ومن أجل منفعتهم. والناظر في هذا الكون المترامي الأطراف يعرف أنه لا يكترث للإنسان ولا يهمه أمره.

الحقائق في الدين مطلقة لا تقبل النقض، والتفسير للظواهر في الدين يرمى بها إلى عالم الغيب، فيعطل دور العقل، وذلك مخالف لموقف العلم الذي يحلل ويقلب الأمور ليجد العلاقات بين الأشياء ثم يوظفها للخدمته.

والعلماء التجريبيون هم الذين بحثوا في أصل الكون وكيفية تكونه، ثم يأتي المؤلهون لينسبوا ذلك لإلههم وهم من قبل حاربوا العلم وأدواته، بل ووأجدوا لكل شيء تفسير ساذج لا يتصل بالعلم بصلة، فالمنهج الديني لا يحترم عقل الإنسان ولا يقدر إجتهاده، بل يأتيه بالحلول الجاهزة التي لا تقبل النقاش.

ولا شك أن هذا المزلق وقع فيه حتى بعض شباب الأمة ممن رأى أن الدين عائق أمام تقدم العلم، وإلا فمن حيث الأصل فهذه المشكلة وقعت فيها الكنيسة وحدها، فهي التي حاربت العلم، ولم يحارب الإسلام العلم، بل وجد من رجالاته ممن نهضت عليهم الحضارة الغربية الحديثة.

ولا شك أن المنهجين العلمي والديني، بل كل مصادر المعرفة من عقل وحس ووحي هي مصادر متكاملة، ولا ينبغي أن يكون بينهما التصادم.

فليس العلم في صدام مع الدين إلا لمن أراد أن يتخيل ذلك، بل هما مكملان لبعضهما كل يرى جزءا من الحقيقة من جانب، وكل محتاج لرؤية الآخر ليتم إعمار هذه الأرض لما فيه صالح هذا الإنسان.

المنهج الديني ليس كله ثابتا لا يتطور، وليس كله تعاليم لا مجال لنقضها، بل إن مجال العقل في الإسلام واسع، ولكن علم الإنسان محدود وقدراته محدوده، فينبغي له التواضع  فيعرف قصور عقله وحسه وأنها لا تحيط بكل شيء إدراكا وفهما.

وليس قبول الحقائق الكبرى من رب الأرباب ومسبب الأسباب مخالف للعلم، بل التحقيق والنظر يوجبها، وهذا ما نسطر الإدلة من أجله. والله سبحانه وتعالى احترم العقول وجعل لها المجال واسعا للبحث والتقصي والنقض وإكتشاف السنن، حتى تحسن عمارة الكون واستخدامه لصالحها.

أما أن يكتف الإنسان بالعالم المادي، فهذا ليس فقط مخالفا للتحقيق والعلم، ولكنه يذهب بمعنى الرسالة التي من أجلها وجد الإنسان، وينزل من موضعه الذي أراده الله له، إنه مقام التشريف والإكرام.

 نعم إن العالم المادي ثري علميا ويمكن له أن يخطوا بالإنسان خطوات في عالم المادة، ولكنه يذهب بمعنى الرسالة التي يقوم عليها المنهج الديني. فأي النظرتين أفضل للإنسان، أن يكون صاحب مبدأ ورسالة أم يكون مادة تمضي دونما هدف، ودون معان سامية وأخلاق فاضلة تحكم حياته، وما شكل الحياة دون هدف أو خُلق.

إن هذه المعاني الثابته والحقائق المتلقاة من رب العالمين أتت لحفظ الإنسان ورقيه ورفعته، ولم تأت معيقة له ومكبلة له عن سلوك طريق العلم.

وهذا لا يعني أن الدين ضد العقل والعلم، بل هذه الإشارة ينبغي أن يؤخذ بها، فلا ينبغي التسوّر على العلم من دون معرفة، بل إن الله سبحانه خلق العلم التجريبي من أجل أن يرى الإنسان الحقائق ويكتشف السنن، وينظر الإنسان كيف بدأ الله الخلق وكيف يمضيه. أما طريق الأساطير هذه فلا ينبغي سلوكها لأنها تنافي العلم والدين معا.

والمنهج نتيجة لمقدماته، وإذا كانت أدلة وجود الله ثابتة فإن المنهج الديني سيكون ثابتا لا يزعزعه تقدم العلم، وهذا هو التحدي الأكبر الذي قبله الإسلام  على نفسه،(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)فصلت. ولا يوجد لهذا اليوم دليل واحد على أن العلم خالف ما أتى به الدين، وكيف يختلفان وهما من مصدر واحد.

إن العالم الغربي يؤمن ويعبد المنهج التجريبي، ولا يرى شيئا غيره، ولا شك أنّ في هذا قصورا واضحا، يعجز حتى عن تفسير أمور متعلقة بالإنسان، فليس الإنسان مادة فقط.

ولا شك أنّ هذا له أسبابا نفسية مع الغرب، فهذا المنهج خلّصة من عبودية الكنيسة، ثم خولّه لقيادة العالم، وهو ما زال يعيش هذه الإنتصارات العلمية المتتالية.

إلا أن هذا المنهج يقدم المادة على العقل والفكر، ويجعله من نئائجها، وهذا هو مركز الإختلاف بينه وبين المنهج الديني، حيث أن القيّم والمعاني والأهداف أهم من المادة ونتائجها، وهذا هو أصل الفرق بين النظرتين. وهذا المبحث هكذا ينقلنا إلى القسم الثاني من الأدلة حيث الحديث عن الإيمان والتصديق، فسيكون بإذن الله لنا وقفه معه هناك.

هناك علاقة قوية بين الحضارة الغربية والمنهج التجريبي أو لنقل العلم التجريبي، فهو الذي حفظ لهم حقوقهم وحريتهم بعد أن أهدرتها الكنيسة وهو الذي أقام لهم حضارة بزت الآخرين وما زالت، لذلك فهم آمنوا به ووثقوا به الثقة العمياء، فلم يروا غيره أبدا، وهذا هو سبب النكسة والمشكلة بالنسبة لهم في الجانب الديني، بل في كل الجوانب التي هي غير مادية، كعلوم النفس وغيرها.

إنّ المشكلة هي في حصر العلم كله في العلم التجريبي، وحصر الوعي كله في  الجانب المادي. لذلك فلا يعترف العلم التجريبي بالجن والملائكة لأنها أمور غيبية، كما لا يعترف بالغايات التي من أجلها وجدت الأشياء، فإذا كانت الفلسفة تبحث في الأسئلة الكبرى فإن العلم التجريبي لا يقيم لذلك وزنا.

ولنظرب مثالا على موضوع الغايات هذا، يقول الله سبحانه وتعالى (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ)الأنبياء.

 القرآن هنا لا يلتفت إلى الجانب الوصفي للعلم، وإنما ينزع إلى الغايات والأهداف. إن العلم لو مرّ على هذه القرية التي دمرت لما زاد على أنّ زلزالا وقع، وأنّ هذا الزلزال سببه الصفائح الأرضية، وسيغيب في وصف المادة وكيف حدث لها ما حدث، ويغيب عنه هذا الجانب الغائي بالكلية.

والآيات هنا تشير دلالة صريحة أن هذه الأحداث ليست لعبا وإنما هي أحداث للعبرة وليُعرف أن الله أقام الكون على الحق، وأن هذه هي المعركة الحقيقة في الكون وهو الميزان لسعادة الناس أو شقائهم.

وإذا كان للغرب قصورهم في فهم هذه الجواهر والدلالات القرآنية، فإن أخطاء المسلمين لا تقل برأيي المتواضع خطئا، إنّ بعض المسلمين عادى العلم بأسم الدين، وعادى التقدم والتطور بأسم الدين، فصار معه انفصام بين العلم والدين. بل ما يوجع القلب ويحزّ في الوجدان هو الإنحطاط الخلقي لبعض المسلمين، واستخدام الدين من أجل الأغراض السياسية والحزبية، فأصبح سلعة من السلع، وأصبحت المواقف تتغيّر بحسب المصلحة، وهذا للأسف العظيم منتشر، وهذا من أكثر الأشياء تنفيرا للناس عن دين الله سبحانه. ولذلك هذه مساحات ينبغي أن توضح للناس ويبنى عليها حتى يتم الدفاع عن دين الله سبحانه.

وإذا كان الحوار في المنهج الديني متسعا، فإن الحوار أيضا شديد في قضايا أخرى مثل قضية حرية المرأة أو قضية المنهج السياسي والمالي وغيرها مما يختلف فيها الطرح الديني عن الطرح الفلسفي الغربي، ولا أرى هذا مما ينبغي أن يلصق بأدلة وجود الله سبحانه.

ولعلي هنا بحاجة للتفريق بين العلم التجريبي والفلسفة، والفرق يكمن في أن الفلسفة تبحث في الغايات بأدلة عقلية، وكل الأدلة التي قدمت لإثبات وجود الله هي أدلة فلسفية وليست من العلم التجريبي، فالعلم لا يبحث بطبعه عن هذه المسائل، ولكن الفلسفة تستفيد من الأطروحات العلمية لتثبت أدلتها.



7.              مشكلة الشر

بعض القضايا هي في الأساس نفسية، لا تتقبلها بعض النفوس، ولذلك تبحث لها عن علل وأسباب لتدرأها عن نفسها، ومثال ذلك ما يسمى بمشكلة الشر.

ويقول هؤلاء إذا كان الله رحيما ودودا عالما فلماذا خلق الشرور في الكون، لماذا معظم الناس يعيشون في عنت من العيش ولا تنتهي حياتهم من المشاكل والشرور التي تتلقاهم من كل جانب، أين هذه الرحمة من رب خلقهم للعيش في هذه الدنيا.

ثم لماذا يعذب من خلق في نار جهنم للأبد، أفي ذلك تلذذ بعذابهم. إن هذا ينافي صفة الرحمة والشفقة التي ينادي بها المؤلهون بإنها أحدى الصفات الكبرى للإله.

ومشكلة الشر هذه أوقعت الكثير من الناس في الإلحاد، من بينهم أنتوني فلو الذي أشتهرت قصته، فهو كان من أكبر الملحدين ثم رجع عن الإلحاد وألف كتاب أسماه "هناك إله". فكانت مشكلة الشر هي التي قادته إلى الإلحاد.

وهذه المشكلة يقع فيها من لم يدر ما رسالته في الحياة، ولما خلقه الله سبحانه وتعالى هكذا، وإذا عرف هذا ذهب كل هذا الإشكال.

الله سبحانه وتعالى جعل الناس في مشوار حياة ليتعلموا ويرتقوا، ولا يوجد تعلم من دون خطأ. ثم هو خلقهم ليتمايزوا ليعلم المصلح من المفسد.

والله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الحرية الكاملة، غير منقوصة أبدا، فلذلك هو يفعل ما يشاء، ثم يحاسب عليه، وهل يصح أن تكون الخيارات فقط بين الصحيح والأصح.

إن باب حرية الإختيار مشرع ليسلك الإنسان ما يراه مناسبا، ثم ليرى ما يقود إليه عمله. وما هي النتيجة التي ستحل له أو عليه. إنّ الإنسان مستخلف في هذا الكون وله من القدرة على التغيير، ومن الحرية ما يمكنه من عمل الكثير، ولا شك أنّ هذه الحريّة ليست مقصورة على جانب دون آخر، بل يستطيع أن يبني ويهدم وأن يسعى كيفما شاء.

لنتصور كونا من دون شرور أبدا، يريد الإنسان أن يفعل الشر فلا يستطيع، هذا لا شك أنه كون مزيّف غير حقيقي لأنه لا يستطيع الإنسان أن يفعل ما يريد، ولنفرض أن الإنسان لم يخلق فيه دوافع للشر، وهنا إذن كون آخر يخلوا من حريّة الإرادة الكاملة، بل دوافع الإنسان في جانب دون آخر، فكفة الخير مرجحة على الشر.

إن كل هذا يجعل الأمور مرتبة على نحو مخل، وهذا مخالف لكمال الحرية. إن الله سبحانه أراد للإنسان أن يفعل ما يشاء، ويختار ما يشاء، ثم يحاسب على ذلك كله. وهذا هو مبتدأ الرسالة (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الملك. إن الدنيا قائمة على صراع حقيقي بين الحق والباطل، كل له المجال كاملا.




ثانيا الأدلة القائمة على مبدأ الرسالة الربانية

وهذه هي الطريقة الأولى والأصيلة التي استدخدمها الله سبحانه وتعالى حجة على البشر ليس لمعرفة ذاته فحسب، بل لهدايتهم إلى الصراط المستقيم. إنها طريقة البلاغ المباشر من رب العالمين عن طريق بعث الرسل وإنزال الكتب. (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ۚ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ ۚ قُلْ لَا أَشْهَدُ ۚ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) النساء.

ويقول سبحانه (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) الأنعام.

 ويقول عز شأنه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إبراهيم.

ويقول سبحانه (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) النحل.

وهكذا كل أمة بعث الله فيها رسول، إبتداءا من آدم أبو البشر عليه السلام، فالرسالة الربانية كانت حاضرة منذ بدأت الإنسانية، ولم يترك الله سبحانه وتعالى أمر توحيده وعبادته على الإستدلال العقلي أو التنظير الفلسفي، بل كان البلاغ منه مباشرة حاضرا، عز شأنه وعظم سلطانه.

وهذا يبيّن أن الأصل في معرفة الله سبحانه وتعالى هو هذا الطريق المباشر، الذي يعتمد على البلاغ والتصديق. وهنا ليس المنطلق هو الإستدلال على وجود الله، بل الرسالة أتت معرّفة بالله سبحانه وتعالى ومعرّفة لما هو مطلوب من هذا المخلوق المكرم، إنها رسالة هداية له من ربه وخالقه.



الحاجة إلى الرسالة

إن معرفة الله سبحانه وتعالى ليست مجرد معرفة لحقيقة عابرة ليس لها أثر، بل إنها نقلة نوعيّة لبني البشر إلى آفاق أخرى سامية ينتقل فيها الإنسان من كونه تائه دون هدف إلى مستوى آخر يقرب فيه من رب السماء والأرض، فيهتدي بهديه في عمارة نفسه وقومه والأرض التي عليها.

والتغيرات الضخمة هذه لا يكفي فيها مجرد المعلومة، بل إن كثيرا من الناس يؤمنون بالله سبحانه، ولكنهم ليسوا مستعدين للعمل على مقتضى ذلك التصديق والإيمان، ولذلك لم تكن حياة الأنبياء سهلة، بل كانت طريقا من الجهاد الطويل لنقل الناس للعمل بمقتضى هذا الإيمان.

ولا يقتصر الأمر على مجرد الإيمان بحقيقة أن الإله موجود، بل إنّ الأنبياء يأتون بمنظومة متكاملة من المعارف التي حقها التصديق والإيمان، والإيمان كما نعلم يقوم على ستة أركان الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبقضاء والقدر. بجانب أمور غيبية كثيرة لا يمكن للمرء بنفسه أن يصل إليها عن طريق عقله. فمدارك الإنسان محدودة، فما بالك بما ينتمي لعالم الغيب.

إنّ الرسالة الربانية التي يأتي بها المرسلون تحل لغز الكون، وتبعد الإنسان عن التيه فيه، فتحوله إلى شخص مكرّم يبحث عن الخُلق والتحلي بصفات الله سبحانه. إنها كتب هداية للناس، آتية ممن خلق وأبدع، لتخبرهم بما يأتون وما يذرون.

إن التفاصيل التي توجد في هذه الكتب على غزارة نفعها لن تتأتى أبدا للإنسان من دون رسالة من رب العالمين، وأنى للإنسان أن يتسوّر عالم الغيب ليعلم هذه الحقائق، وهو ما زال يحبو في سلم العلم الأرضي.

إنّ أمر التسليم لله رب العالمين حاجة وضرورة إنسانية، فالإنسان بطبعه قاصر عن إدراك كل شيء، ولو إعتمد الإنسان على عقله وفهمه حتى يؤمن فسيعيش في تيه الشك وفضاء الريب.

لذلك فقضية الإيمان بالله سبحانه وتعالى ينبغي أن لا تتزلزل في عقل المؤمن وقلبه، فلذلك فالله سبحانه وتعالى أقامها على أمر التسليم والتصديق، حيث الثبات واليقين، ولم يقمها على حجج قابلة لتزلزل والتزحزج بمعطيات العلم أو تقلبات القياس، وهذا شأن الإنسان في كل أمر يتعلمه. فلذلك فشأن الإيمان والتصديق أعلى من مقام الحجج العقلية والإستنتاجات الفلسفية (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى) إبراهيم.

إنّ المؤمن الحق هو من عرف قصور أدواته وأقام إيمانه على الإيمان والتصديق، وهذا أساس الإختلاف مع العلم، فلا إيمان في العلم بل كل شيء يتطور وقابل لتزحزح وإعادة الفهم. ولذلك فبوابة التسليم والإيمان هي البوابة الحقيقية لمعرفة الله سبحانه وتعالى.

إن قضية وجود الله ليست قضية معرفية بحثية فقط، وليست هي قضية عقلية جافة، بل هي علاقة مختلفة عن ذلك كله، إنها علاقة محبة، فالمؤمن عندما يعرف أن الله هو خالقه وراحمه وهاديه، وأنّه هو مصرف كل شيء، تنقلب العلاقة إلى علاقة خوف ورجاء، وعلاقة تسليم وإقرار بالرب الخالق المعبود.

إن العلاقة هنا تدخل إلى عمق الوجدان، ولا تظل معلومة في الدماغ. وقد هيأ الله لها من العبادات ما يجعل الجسم والجوارح يستسلم لهذه المعلومة فتتحول من معلومة عابرة إلى عقيدة راسخة تحول كل شيء في كيان الإنسان، فتتغير دوافعه وسلوكه، فيكون مشروع حضارة ربانية وخليفة لله في أرضه، حتى يبلغ حال المؤمنين أنهم يقدمون أنفسهم رخيصة من أجل هذه العقيدة الربانية، ومن أجل من خلق وسوى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة.  فالإنسان هنا غدا يضحي بوجوده من أجل هذه العقيدة الراسخة.



القرآن ومعرفة الله سبحانه

وإذا رجعنا إلى موضوع الخلق، فإن الله سبحانه وتعالى يجعله الطريقة التي يبرهن بها على وجوده سبحانه، (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) طه.

ويقول سبحانه (هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴿11 لقمان.

ويقول عز شأنه (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) الرعد.

ويقول سبحانه (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴿20 النحل).

ويقول (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ﴿4 الأحقاف).

فالخالق والرازق هو الله سبحانه وتعالى وحده، وكفى به دليلا على وجوده سبحانه. ولا يقتصر الكتاب المنزل بتعريف الله بإنه خالق، بل يمد الإنسان بشتى صفات الكمال والجلال التي هي لله سبحانه، بل ما الكتاب المنزل إلاّ تعريف بالله العليم وصفاته، وبيان بأن كل ما في الكون أنما هو مسبح لله ومقدس له.

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۚ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) الحديد.

ويقول سبحانه (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)  البقرة.

ويقول سبحانه (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ۚ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ ۚ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) الأنعام.

التوحيد

يقول الله سبحانه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) الإخلاص.  والتوحيد هو أصل العقيدة الإسلامية، فالله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، ولا ولد له، ولا معين، هو أغنى الأغنياء عن الشرك. هو واحد في ذاته وصفاته، متعال في أفعاله، سبحانه جل أن يشابهه شيء من خلقه، أو يدانيه أحد في ملكه

وهاك توحيدا لنا فلتقتبس

من نوره وعن هوى النفس احتبس

نعبده جل امتثال أمره

سبحانه ونهيه وزجره

فإن يشأ يرحمنا بفضله

وإن يشأ عذبنا بعدله

فالملك والعزة والسلطان

له كذا القدرة والبرهان

سبحانه ليس له مكان

يحويه جل لا ولا زمان

بخلقه لكل شيء نشهد

وأنه في ملكه منفرد

ليس له شبه ولا نظير

ولا وزير لا ولا مشير

والمعرفة بالتوحيد هو طريق معرفة الله حق المعرفة، لذلك فالقرآن عني بدحض أي دعوى للألوهية إلا لله سبحانه، وهو يؤكد بأن الله لا شريك له في ملكه، وأن كل ما سواه محتاج له، ولا يستحق أن يجعل إلها أو معبودا أو مرجوا أو مخيفا، إنما الرجاء والخوف من الله وحده، والعون منه وحده سبحانه.

لذلك فينبغي التسليم والإتكال عليه وحده جل ثناؤه، وهذه هي الحرية الحقة التي تسمو بالإنسان فوق كل المخاوف التي في الوجود، فلا يكون الخوف والرجاء إلا من الله سبحانه.









بين الإيمان والعلم

يتميّز القرآن الكريم بالتوسع في ذكر الإيمان وصفات المؤمنين، وذكر رجالات هؤلاء المؤمنين وصفاتهم وكيفية جهادهم من أجل هذا الإيمان. ويتخصص هذا الإيمان لعلاج النفس الإنسانية من المكدرات الذاتية ليرتقي بها نحو صفات السمو والرفعة، إنه بالمجمل رسالة هداية للناس.

ومحل التمايز في البناء الإيماني هو التقوى من الله الخالق سبحانه. ومتكأ هذا الإيمان هو التسليم لله سبحانه في مظهر من مظاهر العبودية للخالق الرازق. وهذه العبودية في التعريف الديني هي التحرر من كل شيء سوى عبادة الله سبحانه، وهي لذلك الحرية الحقيقية.

أما العلم ويقصد به هنا العلم التجريبي الذي مر معنا الحديث عنه، فهو منهج للمعرفة والترقي فيها، وهو قائم على البحث والتصحيح والنقاش، وإذا كان الإيمان يختص بمعرفة الله وتطبيق رسالته، فإن العلم يختص بالتعرف على ما خلق الله سبحانه واكتشاف نواميسه في هذا الكون، لذلك فلن يصل العلم إلى شيء ما لم يستضيء بنور الإيمان.

والعلم لا يقوم على مبدأ التسليم ولكنه يقوم على مبدأ البحث والتقصي، وميزانه الوصول إلى المعرفة، ولا يهم ممن أتت من تقي صالح أو ملحد ذا فعل قبيح. وهدف الدين القرب من الله، بينما هدف العلم هو الوصول إلى المعرفة بالكون وسننه.  فهناك إذن إختلاف في الأدوات وإختلاف في المنهج والغايات.

إن العقيدة الإسلامية جوهرها معرفة الله وحبه، وما الدين إلا ترقي في هذه المعرفة والحب.  إنّ جوهر ما يختلف فيه الدين عن العلم أن الدين يخاطب الوجدان والفطرة والشعور، بينما العلم التجريبي فخطاب عقلي جاف، يخلو من هذا الجانب الشعوري. والدين يحترم العلم أيّما إحترام، ويظهر ذلك مع قصة آدم عليه السلام وتكريم الله سبحانه له بسبب علمه، ومع قصة بداية الوحي أيضا.

ومن احترام الدين للعلم أن ترك العنان للعقل ليمضي في طريق العلم لوحده، ويعجبني هنا أن أنقل شيئا مما قاله الشيخ البوطي

"ولم يكلفنا شيء من الكتاب والسنة بأي معلومات خاصة صريحة تتعلق بالموجودات القائمة من حولنا، إلا ما أشار إليه منها في عبارات تحمل على الفكر والتأمل فيها أكثر من أن تبلغنا أي معلومات عنها، وذلك اعتمادا على الوسائل والأسباب التي جهز الله بها الإنسان والتي هي الآلة الطبيعية لكشف لثام الجهل عن كل حقيقة مادية موجودة، وهذا هو السر في أن القرآن لم يفصل القول في القوانين العلمية المتعلقة بالمحسوسات والمشاهدات، إذا أنه لو فعل ذلك لألزم الناس إذن بالإيمان بمقتضاها، فيكون ذلك حملا للعقول على تبني حقائق علمية دون السلوك إليها في سبيل براهينها المنسجمة معها، وهي التجربة والمشاهدة..... ولذلك تجده في هذه القضايا لا يزيد على أن يدفع أرباب العقول إلى البحث بوسائلهم العلمية الكاشفة، أما ما فيه من الإخبارات الغيبية فإنه قد فصل فيها بحكم مبرم". أنظر "كبرى اليقينيات الكونية".



الأدلة الداخلية في القرآن التي تبيّن صدق دعواه:

ولا يخلوا القرآن الكريم من الأدلة الدامغة أيضا على صدق دعواه، فهو قرآن معجز لا يستطيعه البشر، ومن هذه الأدلة

1.              سعته العلمية، بحيث أنه يحوي علوما شتى لا يستطيعها شخص مهما أوتي من علم.

2.              عدم اختلافه وتعارضه، بل تجده يتكامل في المعنى كلما جمعت المعاني مع بعضها (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء.

3.              توافقه مع العلم، مهما تقدم العلم فإنه لن يزيد الدين إلا تألقا وقربا من الناس.

4.              إعجازه في كل أموره التشريعية، بل حتى في الأمور البلاغية

4.(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) البقرة.

على أن الإسلام والديانات الأخرى أيضا ظواهر تأريخية عظيمة تستحق الدراسة، وكيف لا وهي التي حولت الناس من حال البداوة إلى حال الرقي والحضارة، فما هي مرتكزات ذلك التحول، وما هي مصادر القوة التي جعلت هذه الأمة حاضرة حتى اليوم.




ثالثا دليل الفطرة

ودليل الفطرة يقول بأن الإنسان مخلوق بصورة تجعله محتاجا لله، وبه من الإستعدادات النفسيّة والخَلقيّة ما تجعله يعرف الله ويبحث عنه وعنده استعداد لعبادته سبحانه، ومن الأدلة على ذلك قول الله سبحانه وتعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم.

ومنها الحديث الشريف عن الرسول صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). لذلك فالإنسان السليم إذا ترك لنفسه فسوف يهتدي لله سبحانه وتعالى بنفسه.

ولا نقصد هنا الخلاف في قضية المعارف الفطرية، فمن الباحثين من يقول أنّ المولود يولد وهو يعرف الله، فهذا ينفيه ظاهر قول الله سبحانه وتعالى (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النحل.

وإنما المقصود هو الإستعداد الخَلقي لمعرفة الله وعبادته.

وعلامات هذه الفطرة كثيرة جدا، فمنها:

·       أنّه ما من تجمع بشري قديم أو حديث إلا ووجد فيها المعبد، لعبادة الإله وتقريب القرابين له.

·       إن الأسئلة الوجودية شديدة الإلحاح على بني البشر، من أين أتوا وما هو السبب لهذا الكون وما هدفه، كل هذه الأسئلة شديدة الإلتصاق بالإنسان أينما كان، ولذلك هو كثير التشوق لعالم ما وراء الفيزيقياء.

·       والإنسان به من الحاجات الروحية التي لا يملاها إلا الصلاة، فلا تقتصر حاجات الإنسان على الطعام والشراب، بل هناك جانب من نفسه لا يملئه إلا الإيمان بالله.

·       والإنسان مجبول على الخير والطيبة في أصل خلقته، فلذلك فالتعاليم الإسلامية قريبة من الفطرة الإنسانية، ولا يستغني عنه الإنسان أو المجتمع ولا يستغربه أصحاب السلائق السليمة، وإنما يُستغربون ما شذوا عن تعاليمه، ونأوا عن مراشده. الإنسان بطبعه يعرف الخير والشر، ويعرف الحق والباطل، ويعرف الجميل والقبيح، فهو مجبول على هذا. وهو يميل بطبعه إلى الخير والصلاح، وتجده يلوم نفسه إن وقع في الشر. وهكذا كل الأخلاق الحميدة هي موجودة في فطرة الإنسان ومجبول عليها. والإسلام استخدم هذا الميزان، فقال (استفت نفسك يا وابصة وإن أفتوك وأفتوك).

·       إذا حل الإنسان في مصيبة فإنه لا يرجع إلا لله سبحانه وتعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) يونس، وكفى بهذا دليلا على وجود هذه الفطرة التي تعرف خالقها وترجع إليه وقت الشدائد. ولذلك هناك بعض الدراسات التي تقول بأن هناك جينات بشرية لها علاقة بالجانب الروحي والتطلع إلى الله سبحانه.

والدليل على أن الدين قريب من الفطرة، وأنه حاجة بشرية، هو كثرة إلتزام الإنسان بالدين، وأنه من أقوى المحركات التي تدفع الناس للعمل، فالناس على استعداد للتضحية من أجل الدين. وأن الدين هو النسق الإجتماعي الذي يحرك الأوساط الإنسانية اليوم ومنذ فجر التأريخ. فالدين لا تزحزحه العواصف الفكرية والتيارات المختلفة، بل هو طبيعة بشرية كثير الإلتصاق ببني البشر، وعادة ما تدور إطروحاتهم حول الأفكار الي أتى بها.

هذا والله ولي التوفيق

كتبه: سالم بن علي بن سعيد البويقي

سلطنة عمان-المصنعة-القرط

شعبان 1437- مايو 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق