قراءة في سورة آل عمران (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي الفضل والإحسان، الذي سبح بحمده الأنس والجان، وأعترفت
بقيوميته كل الأكوان، سبحانه مدبر الأقدار، وقاهر الكفار والفجار، مقلب الليل
والنهار، عبرة للأولي الأبصار، هو الرحيم بعباده الأخيار، ورافع منزلتهم مع كل
ابتلاء واختبار. أم بعد فهذه قراءة متواضعة في سورة آل عمران، أقدمها رغم ضعف
البضاعة طلبا للقبول والغفران. والقرآن الكريم غزير المعنى، شامخ المبنى، يروي
مختلف المشارب، ويغدق على كل صادر ووارد. هكذا أراده الله سبحانه وتعالى، منهلا
للعالمين، وسراجا للمتقين، ودستورا للناس أجميعن، وما هذه القراءة إلا نظرة
متواضعة في هذه السورة المباركة، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبلها وأن ينفع
بها.
وقبل البدأ في ذكر أهداف السورة، يحسن بنا ذكر العلاقة بين سورتي آل عمران
والبقرة، فبينما من التشابه الكبير، حتى ولكأن سورة آل عمران أتت مكملة لسورة
البقرة، ومن أوجه هذا التشابه:
1.
التشابه في الإبتداء
والإنتهاء: حيث أن السورتين تبدآن ب(ألم)، وتنتهيان بالدعاء، والدعاء أكثر في سورة
آل عمران لأن اللجوء إلى الله سبحانه يظهر فيها بصورة أكبر، فسورة آل عمران تبدأ
بالدعاء وتنتهي به.
2.
هدف السورة ما زال يدور
حول الكتاب: والذي يأتي كما ذكرنا سابقا بمعاني: منها المنهاج، ومنها الدستور،
ومنها الشريعة، إلى غير ذلك من معاني. وبينما أتت سورة البقرة شارحة لهذه المعاني
كلها، جائت سورة آل عمران تدعوا الناس للتمسك برسالة هذا الكتاب والدفاع عنه.
3. سورة آل
عمران تبني على آية الكرسي وتتوسع فيها: الله لا إلا إله إلا هو الحي القيوم، وآية
الكرسي كما مر معنا سابقا هي المحور التي
تقوم عليه سورة البقرة. ففكرة سورة آل عمران تمحور حول قيومية الله سبحانه وتعالى،
وذلك ما خلصت إليه آية الكرسي.
4.
هناك تتابع في حوار أهل
الكتاب، فقد ركزت سورة البقرة على محاججة اليهود، وكان التركيز في سورة آل عمران
على محاورة ومحاجة النصارى.
5.
وتُختتم سورة آل عمران
بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200))، وكأنها تتمة لمقدمة سورة البقرة حيث يقول
سبحانه وتعالى ( أُولَٰئِكَ
عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5))، الغاية من
تنزيل الكتاب وشرح صفات المتقين في السورتين هو الوصول إلى الفلاح، وذلك ما شرحته
سورتي البقرة وآل عمران.
قراءة في سورة آل عمران (2)
الأهداف
العامة لسورة آل عمران:
ترتكز سورة آل عمران على مبدأ القيومية لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه
الواحد الملك المدبر، له حق التشريع والتدبير، سبحانه، هو منزل الكتب، وحافظ
الشرائع. بعث لعباده الرسل وأنزل عليهم الكتب تترى لتعرفهم بخالقهم الواحد القهار
وتحفظهم بشرعه القويم. ولذلك كان لزاما على عباده أن يحافظوا على هذا الدين
الحنيف، ويثبتوا على مبادئه الخالدة. لقد جائت سورة آل عمران لتثبت المؤمنين على
مبادئهم الحقة، وتقارع معهم أعدائهم جميعا، الذين وقفوا أمام هذه الدعوة الوليدة.
لقد كانت مقارعة فكرية وعملية، وتستخدم السورة حادثتين محوريتين لتوصيل هذه
الرسائل المهمة، أولهما حادثة وفد نصارى نجران، فكانت محاججة واسعة مع النصارى،
كما كانت المحاججة مع اليهود في سورة البقرة. ثم حادثة غزوة أحد حين أنكسر
المسلمون في أواخر هذه المعركة، لتقف هذه السورة العظيمة مع كل فئات المجتمع آنذاك
لتبيّن مواضع الخلل، وتعالح الإشكالات، وتوجه إلى سبل الرشاد والخير.
وهي تنحو في هذا إلى صياغة جيل رباني قادر على حمل رسالة الإسلام، فلقد
حفلت السورة بذكر مبدأ العبادة والتوحيد واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، ولقد مضت
في تجليّة أهم الصفات والسمات التي ينبغي أن تكون في المسلم الحق، فتعدّ هذه
السورة مدرسة تربوية للمسلم، تمضي به في معمعة السجال الفكري ثم في ظروف من
الإنهزام والإنكسار الذي لاقاه المسلمون في غزوة أحد، لتعطي عندها الدروس الثمينة
لنصر والتمكين، ولتبيّن أهمية الأختبار في صياغة الشخصية الفذة والثابتة على
المبادئ، ولتبيّن أن الله قريب من المحسنين الصابرين، يؤيدهم بنصره وتثبيته، ولذلك
تحفل هذه السورة بصور من التأييد والتثبيت المعنوي والتعزيز الفكري للمؤمنين، وهي
في ذلك تبيّن أهمية العبادة والتوكل والصبر في حياة المؤمنين. كما وتبيّن أهمية
الإبتلاء في الرقي بالشخصيّة الإسلامية. وكأن السورة جائت تخاطبنا اليوم لتنتشلنا
مما نحن فيه من دركات التشرذم والتخلف، فتقدم لنا العلاج المناسب لنكون في مقدمة
الأمم، محفوفين بنصر الله وتمكينه لهذا الدين.
ونبدأ هنا بعون الله تعالى بذكرالخارطة الكبرى للمحاور التي تقوم عليها
سورة آل عمران:
1.
مقدمة في قيومية الله
سبحانه وتعالى (1- 17)
2.
النزال الفكري مع
النصارى (17- 120)
i. مقدمات تأريخية وعقدية (17- 58)
ii. المحاججة والمجادلة مع النصارى (59- 99)
iii. توجيه ودروس للمسلمين (100- 120)
3.
النزال العملي مع الكفار
في غزوة أحد(121- 184)
i. قواعد في النصر والتمكين والإبتلاء(121- 143)
ii. وقوف مع وطيس المعركة وأوارها (144- 148)
iii. وقوف مع كل طائفة وبيان علاجي لأسباب النصر والهزيمة
(149- )184
4.
خاتمة جامعة (185-200)
قراءة في سورة آل عمران (3)
أولا: مقدمة في قيومية الله سبحانه وتعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى
عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ
فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
تتفق افتتاحية سورة آل عمران مع افتتاحية سورة البقرة، فنجد هنا استمرارا
للحديث عن الكتاب والهداية، ثم نجد استراجعا لآية الكرسي حيث تعظيم الله سبحانه
وتعالى بأسمي الحي والقيّوم. وقد ذكرنا سآبقا أهمية آية الكرسي فهي التي تشير إلى
المشرّع سبحانه الذي أنزل الكتاب، وإذا كانت سورة البقرة تتوسع في معاني الكتاب
والعبودية لله، فإن سورة آل عمران تتوسع في ذكر معاني القيوميّة لله سبحانه
وتعالى.
ولا يخفى ما للأسمين الحسنيين الحي والقيّوم من تكامل، ، فهما أسمان يدلان
على البقاء والملك، فالحي سبحانه متصرّف مدبر فاعل، والقيّوم هو الذي يقوم به كل
شيء، فما من شيء إلا ووجوده مرتهن بوجود الله سبحانه وتعالى، وهو القيّوم بالملك
والحكم. فلله حق التشريع والتدبير في هذا الكون الذي أحسن خلقه، فهو سبحانه العليم
والمحيط بكل أسراره، وهو الذي خلق الإنسان وصوّره، ولا يحيط بأسراره سواه، إن
التشريع حق إلهي، وهو وكرم رباني منه سبحانه لبني آدم.
فأنى للمدبر ان يترك هذا الكون من دون كتاب يرشده وقانون يحفظه. لذلك كانت
الكتب والرسل تنزل تترى على الناس لتهديهم إلى سبيل الله العزيز الحكيم. وفي هذا
رد لبعض الفلاسفة الذي يقولون بأن الله خلق الكون ثم تركه من دون شرع يحكمه، ومنهج
يؤطره. وهكذا نجد أن سورة آل عمران تتمحور حول هذين الأسمين الجليلن: الحي
القيّوم.
ونجد الآيات هنا بسرعة تلوي على الكفار لتظهر انتقام العزيز الجبار منهم،
وهكذا يظهر عمق الصراع وحضوره بين المؤمنين بالرسالة والمكذبين بها.
ثم تنبه الآيات لكيفية التعامل مع القرآن الكريم: فهناك من يهتدي بالكتاب
وهناك من لا يهتدي، وهؤلاء هم أهل الزيغ والضلال. ولقد سبق للآيات أن بيّنت أن من
أسباب ضلال الأمم السابقة هو سوء التعامل مع الكتاب المنزل إليهم، وكما وقفت سورة
البقرة مع ضلالات اليهود، فإن سورة آل عمران سوف تقف طويلا لتبيّن ظلال النصارى. والآيات
هنا تبيّن أهم أسباب الزيّغ الذي يمكن أن يتعرض له المسلمون في القرآن الكريم نفسه، وذلك باستقطاع جزء من
الآيات للنفوذ بها إلى مآرب أخرى، فلا يقع في هذا إلا من أضمر الفتنة وسعى إليها،
لذلك فالراسخون في العلم يعرفون كيف يجمعون بين المحكم والمتشابه في القرآن
الكريم. وأما الذين في قلوبهم زيغ، فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، أي أنهم
أضمروا الفتنة ونفذوا إليها بجتزاء نصوص من الآيات حرّفوها للوصول إلى مبتغاهم
العفن، وهؤلاء كما أصحابهم من قبل، أتخذوا الدين سلعة تشترى من أجل الدنيا، وكم
رأينا من أمثال هؤلاء في واقع الناس اليوم، يحرفون الآيات من أجل أهواء دنيوية.
وفي الآيات دعوة إلى التعمق في النصوص القرآنية الكريمة،وعدم الإكتفاء بالقشور،
فإنه إنما ينال العلم من جدّ فيه وأجتهد، ثم هي دعوة للرد على أهل الزيغ والضلال
الذين يحرفون كلام الله عن مواضعه.
قراءة في سورة آل عمران (4)
الآيات: 10-17: تمييز الله القيّوم بين المكذبين والمؤمنين
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ
كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً
لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
(15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ
وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
وما زلنا في مقدمات سورة آل عمران، حيث
ظلال القيومية لله سبحانه وتعالى، وترجع بنا الآيات هنا مرة أخرى لتكشف الغطاء عن
الكفار المناؤئين، ثم تتلوها آيات في صفات عباد الله الصالحين، لتكون هذه الآيات
إنطلاقا للمقارعة الفكرية والعملية بين المؤمنين والذين كفروا، تلك المقارعة التي
سوف تستمر حتى نهاية هذه السورة المباركة.
والآيات هنا مدخل تعزيزي للمؤمنين،
ووعد لهم بالنصر أمام الكافرين. فتبدأ السورة بذكرة سنة الهلاك للقوم المكذبين،
ولو كان هؤلاء الكفار ذوي مال وجاه وسلطان، وهل من ملك أكبر من ملك فرعون، ولكن
سنة الهلاك هذه لا تستثني أحدا أبدا، "قل للذين كفرو ستغلبون"، إنه الخبر
العظيم الثابت من رب العالمين. وهكذا يمايز الله سبحانه وتعالى بين حزبيّن، أحدهما
تكفل الله بنصره، والآخر بغلبته، فهل من تثبيت وتعزيز أكثر من هذا. وهل يهزم من
كان الله نصيره. وتذّكر الآيات هنا بالنصر المبين يوم بدر، حيث تجلى تأييد الله
للمؤمنين، فما الذي اختلف إذن بين بدر وأحد، ذلك ما ستبيّنه هذه السورة في قسمها
الثاني.
ثم تنبه الآيات إلى موارد الفتنة وأسباب الضلال، لتصيغ المؤمنين بميزان
دقيق، يتعامل مع الحياة بمنهاج قويم وطريق سوي سليم. وما زالت الآيات تجلي الطبيعة
الإنسانية للمؤمنين ليكونوا على معرفة بأسباب النجاح والضلال في أنفسهم. إن هذه
النعم التي ذكرت في هذه الآيات تستوعب جميع أسباب الرفاهية في الحياة الدنيا، وهي
من الغرائز الثابتة في طبيعة البشر، والإسلام هنا لا يدعو إلى الكبت ولكنه يدعوا
إلى ضبط هذه الشهوات بميزان الله وشرعه، وإستخدامها فيما يرضي الله تعالى.
إن هذه الأموال التي في ايدى الكفار جرتهم إلى الكبر ومحاربة الله ورسوله،
فلم يحسنوا العامل معها، والقرآن هنا لا يأمر بترك طلب المال، ولكنه يدعو
لاستخدامه في سبيل الدعوة الربانية ونصرتها. إن القرآن ينشيء جيلا ناجحا متعلقا
قلبه بالله سبحانه وتعالى، ولا تؤثر عليه هذه الشهوات فترديه إلى الضلال والهلاك.
فلا ينبغي للمسلم ان يكون سعيه للدنيا، بل لابد أن يكون سعيه كله لله. هؤلاء فقط
هم من ينالون نعيم الآخرة الباقي، ولا يغترون بزخارف الدنيا وشهواتها. ولا يتأتى
هذا إلا لمن صبر واتقى، وآمن حق الإيمان برسالته الربانية وهدفه العظيم. بذلك فقط
يكون الإنضباط والتعالي على الدنيا وشهواتها.
قراءة في سورة آل عمران (5)
ثانيا: النزال الفكري مع النصارى (17- 120):
الآيات: 18- 27: الأصول والمقدمات التي يُنطلق منها لبناء حوار
مع النصارى
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا
اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ
سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ
وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ
أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
(22) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ
إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا
كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ (27)
انتهت الآيات السابقة إلى ذكر صفات
عباد الله المتقين، الذين عرفوا الله فعبدوه ولجأوا إليه بالذكر والدعاء، عرفوا
طريق معرفة الله سبحانه فألتزموه وساروا عليه. لتبدأ الآيات هنا بالتمهيد لحوار
طويل مع أهل الكتاب من النصارى، لتكون البداية بذكر بعض الحقائق والقواعد المهمة
التي ينبغي أن ينبني عليها هذا الحوار.
وأولى تلك الحقائق وعمدتها، هو الإقرار
والشهادة بأنه لا إله إلا الله، تلك هي القضية الكبرى، وما بعدها فروع عنها. إنها
شهادة التوحيد للخالق المعبود. وهي شهادة من الله سبحانه وتعالى لأن العلم هنا
مبني على هذه الشهادة الربانية، هو مصدرها سبحانه، أنزلها في كتابه، وأرسل بسببها
الرسل وأنزل الكتب، إن للعلم مصادر مختلفة، أمّا القرآن الكريم فهو شهادة ورسالة
ربانية للعالمين أجمعين، وجميع تفاصيل هذه المحاججة مبنيّة على هذه الحقيقة
الجليّة، وكفى بالله شهيدا، ثم إن العلم الرباني هذا أنزله ملائكة الله سبحانه
وتعالى، ووعيّه أهل العلم والذكر. وهل من إكرام للعلماء فوق هذا الإكرام، إنّ كل
صاحب علم يمكن له أن يكون شهيدا لله سبحانه وتعالى على خلقه وقيّومته، وتلك هي أول
شهادة: قيّوميّة الله سبحانه على خلقه بالقسط والعدل. ثمّ شهادة بأن الديّن عند
الله الإسلام، وكل ما عداه لا يقوم على حجة، ولا يستند إلى دليل.
إنّ الإسلام حقيقة خالدة جاء بها
الأنبياء جميعا، وإنما غيّر هؤلاء فيها بسبب البغي والحسد، فلم يكن ذلك بسبب الجهل
وقلة المعرفة، بل هي أمراض القلوب، ومطامع الدنيا. ولا شك أن هذا يبيّن خطر البغي
والحسد في إضلال الأمم وتنكبها عن الحق، وإذا عرف المرض، سهل العلاج، لذلك يوجه
الله سبحانه وتعالى بأن أسلموا وجوهكم لله، وأخلصوا له بالعبادة، فإن ذلك كفيل
بإرجاع الصادق إلى الطريق الحق. إنّ هذه الشهادة كفيلة بأن تفرز أهل الحق من أهل
الضلال وأن تبيّن مواضع الخلاف ومواطن التمايز. لتذّكر بعدها بأن وظيفة الرسول
العظيم هي الدعوة والبلاغ أما الهداية فمن رب الأرباب، الذي يعلم ما في الصدور.
ولكن كيف يؤمن هؤلاء وقد تملكهم الغرور، وتولوا عن حميع تلك الرسالات عليهم، وهم
معرضون.
ليذّكر بعدها سبحانه بسلطانه وملكه،
وقدرته وحكمته، هو مصرف الكون ومدبر شؤونه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يصرف الليل
والنهار ويقلب الأحداث لحكمة يريده سبحانه، فكيف يخسر من ألتجأ إلى العزيز القهار.
قراءة في سورة آل عمران (6)
الآيات: 28- 32: لَا
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى
اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ
يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
إن الله نصير لعباده، وهو كافيهم
سبحانه وتعالى، فحق اذن على المؤمنين أن يلجأوا إليه ويطلبوا منه النصر على
أعدائهم. ومن لجأ إلى الله سبحانه وتعالى، هل يمكن له بعد ذلك أن يلجأء ويوالي
أعدائه، إنّ ذلك لا يستقيم في ميزان الحق والمنطق. فهم عادوه سبحانه وتعالى حين
تنكبوا عن منهاجه، وعادوه سبحانه حين حاربوا عباده وأتباع دينه. والله سبحانه
وتعالى ينهى هنا عن ولاية الكافرين من دون المؤمنين، ويتوعد من يفعل ذلك بخسرانه
لولاية الله سبحانه وتعالى، "ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء".
والولاية هنا تشمل النصرة والتشبه والميل القلبي والمعنوي لهم.
إن المشروع الذي يحمله هؤلاء الكفار
مشروع مختلف، يهزأ بالدين، ويناصبهم العداء، ويسعى لتدمير شأنهم بشتى الصور، فأي
معنى بعد هذا لولايتهم. لذلك فمحور الولاية والبراءة كبير في القرآن والسنة، وهو
من أهم العقائد الإسلامية، ومن أهم محددات سلوك المسلم، فليعلم المسلمون إذن أن
الكفار لا يريدون الخير للمسلمين، فلا ينخدعوا بهم بعد ذلك، فالله العليم بحالهم،
فيقول في موضع آخر من هذه السورة الكريمة (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118).
ونلاحظ في الآيات هنا تعزيز لروح
المراقبة لله سبحانه وتعالى، وكأنها تريد أن تجعل حاجزا قويا بين المسلمين
والكافرين، ولتستخلص المؤمنين وتميّزهم عن غيرهم، بأنهم يخافون الله وحده سبحانه
وتعالى ويراقبوه، ويحذروا من عصيانه ومخالفة أمره. والله سبحانه وتعالى لا ينشد
هنا تغيرا ظاهريا، بل يبحث في العمق ليغير موازين القلوب، فيكون الحب لله والكره
لله، فيحب المسلمون ما يحبه الله ورسوله ويكرهون ما يكرهه الله ورسوله، وكيف لا
يحب المؤمن ربه الذي أنعم عليه ورعاه.
فأين المسلمون اليوم في ميزان الولاية
والبراءة هذا، إن الملاحظ في شباب الأمة اليوم هو التشبه الكبير بالأمم الكافرة،
تشبه تجاوز السمت والسلوك، إلى الأفكار والعقائد والأخلاق، والمسلمون إنما أوتوا
اليوم من انبهارهم بالغرب، فصاروا كما قال مالك بن نبي في حالة إستعداد بأن
يستعمروا، واليوم نرى من بعض المسلمين الإستعانة بالكافرين لمحاربة إخوانهم
المسلمين، فهل من أسف بعد هذا الأسف، وهل يغيب شوكة ومسلمين ويذهب ريحهم أكثر من
الاستعانة بالكفار على المسلمين.
ترى من المسلمين اليوم من يدافع عن
الماركسية والوجودية، وغيرها من الفلسفات الغربية، بل وكثير من اطروحات الإلحاد.
إنّ هذا الموضوع بحاجة إلى وقفات عظيمة تتجتث جذورة وتقارع الأفكار والفلسفات
المادية بمبادئ العلم والإيمان.
والقرآن هنا يشكل الأسس الأولى للمجتمع
الإسلامي، ليحافظ عليه ويقويه ببعضه بعضا، ويجعل من العقيدة الإسلامية الرابطة
القوية التي تمسك أفراده، وهو يريد أن ينقلهم إلى مستوى آخر من الاستقلال في
الشخصية والعقيدة والفكر. وأن يبني مجتمعا إسلاميا قائما على محبة الله ورسوله،
ولا تكون طاعة من دون محبة وولاء.
قراءة في سورة آل عمران (7)
الآيات: 33- 41: سيرة أمرأة عمران
وزكريا عليهما السلام
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ
وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي
نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي
وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا
بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا
قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا
رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ
الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ
اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ
قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً
قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
تذكر الآيات هنا عدد من أولياء الله
وأحبائه، تبيّن سيرتهم للصالحين، ليعشوا معهم وينهلوا من مما نهلوا منه، وقد
اختارت الآيات ذكر أسلاف عيسى عليه السلام، من أجل الرد على شبهات النصارى الذين
دنسوا هذه السيّر العطرة، كما ولتبيّن بشريّة عيسى عليه وسلم وأهله، وتبدأ هنا منذ
البدايات، منذ ولادة مريم الصديقة عليها السلام. وتبدأ الآيات بذكر مبدأ مهم وهو
مبدأ الإصطفاء، فالله سبحانه وتعالى يصطفي من عباده الأخيار ليكرمهم على العالمين،
وهكذا كان عيسى عليه السلام وأمه قوم أصطفاهم الله ورفع قدرهم على العالمين، وما
ذلك إلا بسبب تفانيهم وحبهم لله سبحانه وتعالى. وتستمر هذه الآيات حتى تظهر تفاصيل
الرسالة التي بعث بها عيسى عليه السلام، فهو رسول كريم كما أرسل الأنبياء من قبله.
وتبدأ السورة بذكر سيرة امرأة عمران أم
مريم عليها السلام. المرأة العابدة القانتة لله سبحانه وتعالى، والتي وصل بها
الحال أن نذرت ما في بطنها محررا، أي مخلصا ومتفرغا فقط لعبادة لله سبحانه وتعالى
وحده. ثم لما وضعتها أنثى استغربت، فبيت المقدس حينها لا يقيم فيه إلا الرجال،
فكيف بمرأة يعتيريها ما يعتري النساء أن تقيم في المسجد، ولكنّ الله تقبل منها
وهييء لها زكريا عليه السلام ليكفلها ويرعاها ويقوم بشؤونها. فما أكرم الله سبحانه
وتعالى حيث ييسر الأمور، ويدبرها من دون حول من العبد ولا قوة.
ثم إنّ مريم عليها السلام سارت على
مراد والدتها ولم تتنكب عنه، ولم تخالفه، بل توسعت فيه ونذرت نفسها لله وقامت في
محرابه عابدة قانتة، ومتوكلة على الله بأحسن التوكل. فأغدق الله عليها من نعمه
وآلائه، ولتتجلى ف حضرتها القاعدة الإيمانية الثابتة " إِنَّ اللَّهَ
يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" إنها ثمار التوكل على الله سبحانه
وتعالى، وللتوكل فلسفة واسعة في الإسلام.
إنّ في الآيات هنا تأديب للمسلمين في موضع الرزق والسعي إليه،
وهو من أهم الأمور الحياتية التي يسعى فيها كل أحد، إنّ أبواب الله سبحانه وتعالى
دائما مفتوحة لعباده المؤمنين. فليطرق المؤمنؤن إذن أبواب السماء والأرض في كل
مجالات حياتهم وسعيهم، فبهما جميعا يكون النجاح والمتكامل.
وهنا لما تذكّر زكريا عليه السلام قدرة
لله سبحانه وتعالى في فتح مغاليق الأمور، ألحت عليه حاجته، فإلتجأ إلى الله السميع
العليم، والدعاء سلاح المؤمن كما يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم. إنّ هذه الآيات
تسبح بنا في رحاب حياة عباد الله الصالحين، الذين نذروا أنفسهم لله، فأكرمهم الله
سبحانه وتعالى من فيض كرمه وجوده. فقام زكريا عليه السلام يدعو ربه " رَبِّ
هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ"
فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب تبشره بابن كريم صالح نبي. فما أكرم
الله وما أوسع جوده.
لقد كان كرم الله أوسع من أن يستوعبه
زكريا عليه السلام نفسه، فقام يجادل، ثم طلب الدليل على صدق وعد الملائكة هذا،
فأراه الله آية من آياته، فهل كرم أوسع من هذا الكرم. فاللهم أجعلنا من عبادك
المكرمين الذين أحبوك وعبدوك حسن عبادتك، ونسألك ربنا أن تجعلنا من المقبولين يا
رب العالمين.
قراءة في سورة آل عمران (8)
الآيات: 42- 51: قصة مريم عليها السلام
وولادتها لعيسى عليه السلام
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا
مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ
يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ
لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي
قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ
وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ
اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
وتستمر هذه الآيات الكريمة مع قصة مريم
عليها السلام لتصل بنا إلى قصة ولادة عيسى المسيح عليه السلام. لتروي لنا القصة
الحقيقة التي حرّفها بنو اسرائيل، وبقدر ما في هذه القصة من نور وتقوى إلا أن
النصارى شوهوها وحرفوا فيها حتى أصبحت قصة يستعيذ منها أصحابها أنفسهم، فسبحان
الله كيف أن طريق الغواية يطمس الحقائق ويشوهها. ولا شك أن في هذا أيضا درسا
للمسلمين فإن التعلق بالصالحين وجعل مقامهم فوق مقام الله سبحانه وتعالى هو طريق
للغواية والضلالة.
إن مريّم الصديقة عليها السلام كانت
تترقى في مدارج العبادة والتقوى حتى وصلت إلى مقام الإصطفاء والطهرّ، فالله سبحانه
وتعالى قد اصطفاها على نساء العالمين، وقد كانت الملائكة تبشرها بهذا في حياتها
الدنيا، وتخبرها بالمنهج السليم للوصول لهذه المراحل العليا " يَا مَرْيَمُ
اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ" فليس في الأمر
سر خافي، ولكنه الجهاد في سبيل العبادة واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى. والله
سبحانه وتعالى يختص محمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذكر السيرة الصحيحة لمريم
الصديقة وابنها عيسى عليهما السلام، وفي هذا إكرام لهذه الأمة، وفيه رد لحقوق
هؤلاء الأخيار بعد أن حرّفت سيرتهم، كما وفي هذا رد على النصارى الذين ادّعوا
ألوهيتهما.
ثم تتطرق الآيات إلى قصة ولادة عيسى
عليه السلام، ولقد تتدرجت هذه قصة منذ سيرة امرأة عمران حتى وصلت بنا الآن إلى
ولادة عيسى المسيح عليه السلام، فبدأت السورة منذ البدايات وذلك لكي لا تجعل هناك
مدخلا لسوء الفهم والتقدير. إنّ مريّم البتول كانت قانتة عابدة لله سبحانه وتعالى،
فأراد الله إكرامها بالولد صالح يكون له أثر عظيم في العالمين، إنه عيسى النبي
عليه السلام. وبقدر ما في هذا من إكرام لهذه المرأة الصالحة، إلا أنه أيضا فيه
ابتلاء ظاهر لها، لذلك رددت " قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ". إنّ الحوار هنا فيه ما فيه من الأدب الجم مع
الله سبحانه وتعالى، فليس في الحوار ما يدل على السخط أو عدم الرضى، ولكنه
الاستفسار والاستغراب. ولقد كان الجواب منه سبحانه " قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ" إنه الاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، ولقد وصل حال مريم عليها
السلام من العبادة ما يؤهلها لتحمل هذا الابتلاء العظيم، ولا يقدر على تحمل هذا
إلا من ربّاه الله سبحانه وتعالى وزكاه. والله سبحانه وتعالى له التدبير في خلقه،
سبحانه هو المصرف والمقدر.
وتمضي الملائكة في طرح البشارات على
مريم الصديقة عليها السلام، ولا شك أن الأم تفرح إذا عرفت المنزلة العالية التي
سيصل إليها ولدها، ومن كان مع الله فإن الله لا يضيّعه. وتمضي الآيات في ذكر منزلة
عيسى النبي عليه السلام، وذكر المعجزات والآيات التي تميّز بها. ثم تذكر فحوى
رسالته عليه السلام، والتي جائت مكملة لرسالة موسى عليه السلام ومبيّنة لها، وهي
تتمة لرسالة المرسلين جميعا، والتي تتلخص في الإيمان بالله سبحانه وتعالى وعبادته
والسير على منهاجه.
قراءة في سورة آل عمران (9)
الآيات: 52- 58: عيسى عليه السلام مع
قومه
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ
أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا
أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ
اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ
نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
لقد دعى عيسى عليه السلام قومه إلى
عبادة الله سبحانه وتعالى والسير على منهاجه، فما كان جوابهم إلا الكفر، فلمّا رأى
بعد أن استفرغ الجهد في دعوتهم أنهم قوم فجّار كفّار، أراد أن يستخلص ويصطفي منهم
طائفة يثبتون على الحق ويديمون على الهدى، وينشرونه دعوته من بعده، فأختار
الحواريين. وهذا لا شك أنه تصرف حكيم منه، استطاع به أن يبقي دعوته ويحافظ عليها.
وتتميّز الآيات هنا بالاختصار والقصر
في سرد قصة دعوته عليه السلام، ذلك لأن المقام هنا مقام محاججة ومجادلة، والتوسع
في القصة سوف يأتي بإذن الله بتوسع أكبر في سورتي المائدة ومريم.
والحواريون هم الذين نصروا دعوة عيسى
عليه السلام، وتمسكوا بها من بعده، وقالوا " نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" قالوا آمنا بالله ولم
يقولوا آمنا بالمسيح إلها من دون الله، وقالوا بأنهم مسلمون، فهم على سير الدعوة
الخالدة التي كانت مع الأنبياء جميعا. وتبيّن الآيات هنا مرة أخرى منزلة الشهادة،
فهم يستشهدون المسيح عليه السلام على اسلامهم، وذلك اتباعا لقول الله سبحانه
وتعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا). فكل نبي يشهد
على اتباعه. إنّ في قصة الحواريين لعبرة لأصحاب النبي عليه السلام. والمسلم يستشهد
الناس على إسلامه، يظهر ولا يخجل به، بل يفاخر به، ويدافع عنه.
وإذا كانت تلك سيرة الحواريين، فإن
أتباع عيسى عليه السلام كانت لهم قصة أخرى، فهؤلاء بلغ بهم المكر أن حاولوا قتله
عليه السلام، وذلك ليس بغريب على بني اسرائيل الذين اعتادوا على قتل الأنبياء،
ولكن المكر لا يحيق إلا بأهله، فالله سبحانه وتعالى نجاه من أيديهم ومكر به. ولهم
في الآخرة عذاب أليم جزاء مكرهم وتكذيبهم هذا، والله لا يظلم أحدا، بل يكرم
المحسنين في الدنيا والآخرة، ويجازي الكافرين بالعذاب الأليم.
ولقد كانت قصة عيسى عليه السلام محفوفة
بالمعجزات في الولادة والوفاة، وما بينهما، فالله سبحانه وتعالى أكرمه وأكرم
والدته، حتى إذا تكالبت عليه الدوائر وأراد بنو اسرائيل قتله، نجاه الله ورفع
شأنه، ولقد اختلف المسلمون أيضا في شأن وفاة عيسى عليه السلام، فمنهم من قال
توفّاه الله سبحانه وتعالى مصداقا لقوله سبحانه في سورة المائدة " فلما
توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم"، ومنهم من قال بل رفعه الله إلى السماء، وهو
حي سوف يعود للأرض ليملأها عدلا قبل قيام الساعة، ولنقف هنا مع جواب للشيخ أحمد
الخليلي يعالج هذه المسألة ويجليها:
"وبهذا
يتبين أنه لا دلالة في آيات القرآن يمكن أن يعتمد عليها في إثبات نزول المسيح عليه
السـلام عند قيام الساعة، وإنما عول القائلون به على الروايات وهي – وإن تعددت –
لم تبلغ مبلغ التواتر حتى يعول عليها في إثبات قضية عقدية كهذه مع ثبوت النص
القطعي بأن النبي صلى الله عليـه وسلم هو خاتم النبيين، وهو مما يتبادر معه أنه لن
يأتي من بعده نبي سواء كان مبعثه من جديد أو أنه أوحي إليه من قبله عليه الصلاة
والسلام، لأن ختام النبوة إنما هو سدٌ لبابها، وإن ذهب الذين أثبتوا نزوله عليه
السـلام إلى أنه لا يحكم بشرعه وإنما يحكم بشرع النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام."
ثم يقول:
"وبالرجوع
إلى القرآن نتبين أن الأقرب إلى الحقيقة هو ما ذهب إليه الإمام محمد عبده وتلميذه
السيد محمد رشيد رضا والعلامة ابن عاشور، وهو الذي يفهم من كلام من تقدم من
علمائنا المشارقة وهو أن المسيح عليه السـلام كغيره من الأنبياء الذين أناروا
الأرض بهدايتهم ثم قبض الله أرواحهم، وأنهم يبعثون يوم البعث كما يبعث جميع
الموتى، وإنما اختصهم الله تعالى بالتكريم ورفع الدرجات، ولهم في عالم البرزخ نوع
حياة أرقى مما أكرم الله به الشهداء، ويعزز ذلك قوله تعالى لنبيه صلى الله عليـه
وسلم: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون) الأنبياء: ٣٤."
قراءة في سورة آل عمران (10)
الآيات: 59-
64: طبيعة عيسى عليه السلام:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا
تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ
مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
بعد أن ذكر
الله سبحانه وتعالى ملخصا عن سيرة النبي عيسى عليه وسلم وسيرة آبائه الكرام، كشف
فيه كثيرا من الحقائق وأزاح فيه اللثام عن عدد من الدعاوى الباطلة للنصارى، يشرع
هنا في الرد على بعض دعاواهم بالتفصيل، ويشرع ابتداءا في الدفاع عن مبدأ التوحيد،
فالنصارى اتخذوا مع الله آلهة، فقالوا أن المسيح ابن الله، وكانت شبهتم قائمة على
النزاع في طبيعة عيسى عليه السلام.
وهكذا يجلي
الله سبحانه وتعالى الأمر، فيذكر " مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ
آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" فإذا كان عيسى
من دون أب، فإن آدم عليه السلام من دون أب أو أم، والله سبحانه وتعالى هو المصرّف،
وفي قصة أباء عيسى عليه السلام في موضوع الولد نفسه عدد من الحوادث التي تبيّن
قدرة الله سبحانه وتعالى. والآية هنا تعمد إلى تؤكيد هذه الحقيقة بشتى الطرق، ذلك
لأنها هي أهم الحقائق جميعا فيما يخص ضلال النصارى عن الحق. فإذا لم يستجب النصارى
للجدال الفكري ولشهادة الله سبحانه وتعالى في القرآن، فما من طريق إلا المباهلة،
فالقوم يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ويعرفون آياته ومعجراته. فهل يجرئون بأن
يبتهلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته بأن يجعل لعنة الله على الكاذبين.
إن المحاججة
هنا في أصلها مستندة على الشهادة الربانية منه سبحانه وتعالى، والشهادة إنما حقها
الإيمان والتصديق أو الكفروالتكذيب. والله الحق قادر على أن يظهر الحق ويجليه.
ولكن القوم تولوا عن هذا عند اللقاء، لتظهر الحقيقة جلية بأنه " وَمَا مِنْ
إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"، لتقوم
الحجة عليهم بهذا. ولم تقف الآيات مع ذكر شهادة الله وروايته للأحداث، وكفى بالله
شهيدا، بل أراد سبحانه وتعالى أن يجلي أمر هذه الشهادة واقعا، فتكون حقيقة واضحة
إلى أبد الدهر.
وتستمر هذه
الآيات في دعوة أهل الكتاب: فتدعوهم إلى البناء على المتفق فيه، بأن لا نعبد إلا
الله، ولا نشرك به شيئا وألا نجعل أربابا من دون الله. إنه تغيّر في الخطاب، لعله
يجد الأذن الصاغية منهم، ولكنّهم كذبوا وأصروا على مهم عليه، فليرجع المسلمون إذن
إلى حجتهم الأولى بأنهم مسلمون على نهج جميع من سبق من الأنبياء والمرسلين
والصالحين. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يضمن هذه الآية " قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" في رسائله إلى الملوك والأمراء.
ومن تلك
الرسائل ما كان لنصارى نجران، والآيات هنا تتحدث عن أخبار وفد نصارى نجران الذي
جائوا استجابة لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويمكن الرجوع إلى تفاصيل ما جرى
من أحداث لهذا الوفد في كتب السيّر، وقد كان هناك عدد من المحاورات بينهم وبين
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتهى بهم المطاف بأن فروا من المباهلة.
والآيات تدل
هنا على أهمية المناظرة والمباهلة في إقامة الحجة، والمباهلة كما هي ظاهر هنا
مبنية على شهادة الله سبحانه وتعالى ومتفرعة عنها.
قراءة في سورة آل
عمران (11)
الآيات: 65- 78: دحض
لبعض دعاوى النصارى
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ
إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ
حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ
لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ
يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا
آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا
أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ
قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا
خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ
مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(78)
ثم إن نصارى نجران
ويهود المدينة اختصموا في إبراهيم عليه السلام، خصام ليس بقائم لا على معطيات
العقل، ولا على أساسيات العلم. فإبراهيم عليه السلام كان قبل أن تنزل التوراة
والانجيل، فكيف بالتابع أن يأتي قبل المتبوع، ثم إنهم هنا خرجوا بالمجادلة في
مواضيع لا تقع تحت دائرة علمهم، فلا سند
لهذا الزعم الباطل من توارة أو إنجيل. والقرآن هنا يؤطر إلى أهمية الأسس العلمية
والعقلية لكل حجة ومقال.
ثم ترشد الآيات إلى
الميزان القويم لمعرفة قرب أي شخص من الله سبحانه وتعالى، أو بعده عنه، وذلك هو
ميزان التسليم لله سبحانه وتعالى، وطلب ولايته، وهذي هي إحدى محاور هذه السورة
المباركة، تقرير أن الإسلام رسالة خالدة، وأن الرسل جميعا قد جائوا بها، فهي رسالة
قد نبتت في عمق التأريخ، مبادئيا أصيلة
وثابتة.
إن إبراهيم عليه
السلام هو من أرسى قواعد التسليم لرب العالمين، فهو أحق بالنجاح في هذا الميزان،
ميزان القرب من رب العالمين ودعوته الإسلامية الخالدة. ذلكم هو الميزان الحق
لمعرفة أهل الفضل.
ثم تشير الآيات إلى
سمات أهل الكتاب وأهم أهدافهم. إن أهم مراد لبني إسرائيل، هو أن يضلوا المسلمين عن
دينهم، فيقطعون علاقتهم بالله سبحانه وتعالى، فتذهب بعد ذلك ريحهم، ولا يبقى لهم
نهج أو نظام يجتمعوا عليه. وهم في ذلك جادون غير متوانيين، وإن أدى بهم ذلك بأن
يؤمنوا بالإسلام أول النهار ثم يكفروا آخره ليضلوا المؤمنين عن معتقداتهم ويشككوهم
في دينهم. ولا يفعل ذلك من لامس الإيمان
شغاف قلبه أو عرف الله سبحانه وتعالى. إن أول ما ينبغي أن يرجع إليه هؤلاء هو أن
يؤمنوا بالله سبحانه وتعالى ويستسلموا لأوامره سبحانه، ذلك هو العهد الذي قد نقضوا
مع الله سبحانه وتعالى، فحق عليهم الغضب والعذاب.
وهنا تحذير شديد
للمسلمين من مكر بني اسرائيل فإنهم يلبسون الحق بالباطل ويحاجون بالمكر، كانوا
هكذا، وما زالوا على هذا إلى يوم الدين، ولن ينجح من تتبع خطواتهم أو سار في
منهاجهم. ولقد كشفت الآيات هنا أهدافهم ومنهجهم، ثم بيّنت منزلتهم مع الله سبحانه
وتعالى. إن بني اسرائيل اتخذوا الدين سلعة ووسيلة لتوصلهم إلى مآربهم في الدنيا
"يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا".
وهذا منهج بدأ بعض
المسملين يتبعه وللأسف العميق، إنّ المعول الذي يستخدمه هولاء شديد الأثر في تحطيم
أسس الإسلام وأعمدته، وإن لم يتوقف هؤلاء أو يوقفوا عن فعل هذا، فإن عاقبة
المسلمين سوف تكون مثل عاقبة أهل الكتاب، يحرفون الدين عن مراد الله سبحانه وتعالى
ويشوهونه.
وفي الآيات إشارة
للعدل والإحسان الذي يتميّز به هذا الدين، فهناك طائفة من بني اسرائيل ممن يمكن أن
يؤتمن في المال وغيره، ويقول الله سبحانه وتعالى في موضع آخر (ليسوا سواءا من أهل
الكتاب أمة قائمة يتلون كتاب الله آناء الليل وهم يسجدون).
وهكذا يعلمنا القرآن
الكريم العدل في التعامل مع الناس، بغضنا لطائقة معينة ينبغي ألا يعمينا عن الحق،
ويسوقنا إلى الظلم، بل علينا أن نرى الأمور كما هي، فلا ننساق للتيار العام، ولا
ننجر للأطر الفكرية الثابتة، فنخلق لأنفسنا واقعا مختلفا عن الحقيقة، بل علينا أن
ننزل الأمور جميعها في منازلها، (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن لا تعدلوا، إعدلوا هو
أقرب للتقوى).
وحالات الإنصاف هذه
مما يزخر به القضاء الإسلامي، فحكم القلب لا يتعدى إلى هضم الحقوق، وظلم الآخرين.
ولا يقوم بإنصاف الأعداء إلا الأشداء من الرجال، أما الضعيف فهو الذي يلجأ إلى
المكر وتلبيس الحق بالباطل. وهكذا يرسم لنا القرآن حدود العلاقة مع الآخر، فلا نضل
ولا نظلم.
قراءة في سورة آل عمران (12)
الآيات: 79- 85: تبرئة عيسى عليه
السلام
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ
تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ
قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا
قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى
بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ
يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ
الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ
ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ (91)
وبعد أن ذكرت الآيات منزلة بني اسرائيل
وكفرهم بآيات الله، تعود هنا للدفاع عن عيسى عليه السلام وتبرئة ساحته مما قالوا
وافتروا عليه، بل وتبرئة كل الأنبياء مما لاقوا من الأذى والإتهام. إن إتهام
الأنبياء هو اتهام لله سبحانه وتعالى، فهو الذي اختارهم ورباهم سبحانه وتعالى.
الإنبياء عليهم السلام منزهون عن كل
عيب، وعن كل ظلم، فهم قوم مكّرمون وموصطفون، اصطفاهم الله سبحانه وتعالى واخلصهم
لعبادته، وقد ذكرت الآيات السابقة نبذة من تلك العبادة وذلك اللجوء لله سبحانه
وتعالى. إن طريق الظلم والتلبيس لا يستقيم مع تربية وجهاد الأنبياء المصطفون، لذلك
فما كان لنبي أن يفعل باطلا أو يدعو إليه، فكيف بعد ذلك يدعو عيسى عليه السلام إلى
ترك عبادة الله إلى عبادة نفسه وذاته، إن هذا لقول شنيع مستنكر. بل كان عيسى عليه
السلام يدعو أتباعه بأن يكونوا ربانيين، قائمين بأمره سبحانه وتعالى.
ثم إنّ الله سبحانه وتعالى كان يأخذ
المواثيق، على أنبيائه ليبلغوا رسالته تامة غير منقوصة، وذلك ما فعله عيسى عليه
السلام مع قومه، أستشهدهم بالإيمان برسالته، بل والإيمان بشهادة محمد صلى الله
عليه وسلم من بعده، وقد أقروا على ذلك وشهدوا به، فكيف بعد ذلك يتولون. إنّ الأيات
هنا تبيّن أهمية الشهادة والإقرار الذي اتخذه الله سبحانه وتعالى حجة على أنبيائه
وقومهم من بعدهم.
وإذا كان أهل الكتاب قد نكثوا عهدهم،
وتركوا الإسلام، فإنك يا محمد ومن تبعه من بعده قد فزتم بالدين الإسلامي الحنيف،
فزتم بعلاقتكم بالله الخالق الذي أسلم له كل شيء، وكنتم استمرارا للرسالة الربانية
التي تعاقبت على أنبياء الله ورسله، وذلك هو الفوز العظيم والشرف المبين.
إن هؤلاء النصارى لا يستحقون هذا
الشرف، وكيف يستحق هذه المنزلة العظيمة خائن ناكث للعهد، هؤلاء اتخذوا الدين سلعة
يؤمنون اليوم يكفرون غدا، لقد استحقوا اللعن والابعاد عن مقام القرب من الله
سبحانه وتعالى. إنّ العاقبة التي التي تنظر هؤلاء وخيمة، ولن يفيدهم الندم يوم
القيامة. ويظل طريق الرجوع لله سبحانه مفتوحا، لمن تاب وآمن، ليفتح الله سبحانه
وتعالى مجالا لمن أراد منهم أن يدّكر ويرجع لله سبحانه وتعالى.
قراءة في سورة آل عمران (13)
الآيات: 92- 99: دعاوى أخرى لبني
اسرائيل
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ
كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى
نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ
فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ
اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ
إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا
وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(99)
ثم وفي آخر تتطواف هذه الجدال، تقف بنا
الآيات مع بعض من دعاوى أهل الكتاب لتفندها وترد عليهم فيها، وأول ما تبدأ به هو
علاقتهم بالمال، فعلاقة أهل الكتاب بالأموال غريبة، فهم اشتروا الآخرة بالدنيا من
أجل المال، والله سبحانه وتعالى يتوعدهم بأن هذا المال نفسه لن يغنيهم عن عذاب
الله، ولو افتدوا بمليئ الأرض منه، بل إن الحق أنه لا ينال البر ومنازل التقوى إلا
من أنفق في سبيل الله، واشترى الأخرة. إن الإسلام يصيغ الإنسان صياغة أخرى، ليجعل
الدنيا كلها في يديه، ويجعله مسلما لله وحده سبحانه وتعالى.
وتستمر الآيات في مناقشة شيء من شبهات
اليهود والنصارى، ذلك أنهم قالوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم أحل لنفسه بعض مما
حرمته التوراة، والحال أن الطعام كان كله حل لبني اسرائيل إلا ما حرم اسرائيل على
نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وذلك بسبب جرائم أهل الكتاب (فبظلم من الذين هادوا
عليهم طيبات أحلت لهم)، فالتحريم لم يكن في التوراة كما يزعمون، ولذلك طلب منهم
إظهاره إن كان في التوراة حقا. إن الجدال هنا دقيق، والذي يطرحه عارف بتأريخ أهل
الكتاب وبتفاصيلهم المختلفة، فهل يحاجج هؤلاء الخبير العليم.
ثم كانت شبهتم الأخرى بأن الرسول صلى
الله عليه وسلم لم يكرم بيت المقدس، بل انصرف عنه إلى الكعبة التي في مكة، فكيف
يدعي مع ذلك اتباعه للأنبياء والمرسلين، ليكون الرد بأن مكة المكرمة هي أول بيت
وضع للناس، وأن الذي وضعه هو إبراهيم عليه السلام. ولكن واقع الحال أنكم أيها
اليهود غير متبعين لنهج إبراهيم عليه السلام، فإبراهيم عليه السلام كان يدعو
للوحدانية، وهو الذي أعاد بناء الكعبة المشرفة، التي هي بيت الله الآمن، والحج
إليه كان من سابق العهد. ثم تختم الآيات بسؤال أهل الكتاب لم يكفرون بآيات الله
ويصدون عن سبيله، ألم يأن الأوان بأن يؤمنوا بالله سبحانه وتعالى، ألا يخافون الله
ويتقوه، فإنه شهيد عليم بما يعملون.
قراءة في سورة آل عمران (14)
الآيات: 100-110: أسباب لتقدم الأمة
ورقيها
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ
تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي
رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا
عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ
آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
وبعد ذلك الجدال مع بني اسرائيل، تلتفت
الآيات هنا للمؤمنين، لتوجههم إلى الموقف الصحيح مع النصارى واليهود، وولترشدهم
إلى التمسك بدينهم وعقيدتهم. فتتوالى هنا النداءات للمؤمنين إلى نهاية هذه السورة
الكريمة. إنها تدعوهم إلى الحذر من دعواى اليهود والنصارى، وتدعوهم إلى التمسك
بأهداب الدين الحنيف، واللجوء إلى الله في كل حال، وتدعوهم إلى عدم الفرقة
والتحزب. إن هذه الآيات هنا تقدم علاجا ناجعا لأمراض المسلمين اليوم وفي كل وقت،
تقدم لهم أسباب الرقي والتقدم والتحضر.
إن حبل اتباع أهل الكتاب يؤدي في نهاية
المطاف إلى الكفر وترك الإيمان، هكذا يقول الله سبحانه وتعالى، فليت قومي يعلمون،
وليتهم يرجعون إلى دينهم ليجددوا علاقتهم بالله سبحانه وتعالى، ثم ليتهم يرجعوا
إلى أمتهم فيمدوها بأسباب النصر والتمكين، بدل أن يتبعوا خطوات الكفارين في كل
شؤون حياتهم. وكيف لهؤلاء المسلمين أن يتركوا تعاليم ربهم جل جلاله، الذي بيده
تدبير الأمور وهو سبحانه مسبب الأسباب، ولكن الإيمان اليوم مهمول لا ينظر إليه،
والنظام والشريعة الإسلامية تركت من قبل أهلها، ولم يقدموا لها أسباب الحياة
والرقي. فليتقي الله المؤمنين، وليرجعوا إليه سبحانه وتعالى.
إن الأمة الإسلامية لن تقوم إلا بمنهاج
الله سبحانه وتعالى، وترك سبل التعصب والتحزب والتفرق، والله سبحانه وتعالى يدعو
عباده إلى الاجتماع والاعتصام بحبل الله، وترك أسباب الفرقة والتحزب. والمتابع
لهذه الآيات يرى العلاقة بين التفرق وموالاة أعداء الله سبحانه وتعالى. وهكذا سقطت
الدول الإسلامية، حينما استعان المسلم بالكافر لحرب أخيه المسلم. ثم إن الله
سبحانه وتعالى يرشد إلى اتخاذ فئة مؤمنة تصلح بين المسلمين، تأمر بالمعروف وتنهى
عن المنكر، لتجنب المسلمين أسباب التفرق والتحزب. إن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر واجب شرعي وسمة أصيلة لهذا الدين الحنيف، به تستقيم الأمة وترتقي، وهل
يرتقي شيء دون مراقبة ونقد.
إن الآيات هنا تقدم ملخصا دقيقا لأسباب
التقدم والرقي لهذه الأمة الأسلامية الكريمة، وهي تتلخص في أولا: ترك مولاة
الكافرين، وثانيا الاعتصام بهدي الله القويم، وبمنهاجه الكريم، وثالثا ترك أسباب
التفرق والتحزب، ورابعا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي الآيات وعد بانتصار
هذه الأمة إن هي آمنت بالله وتمسكت بشرعه.
ولا شك أن الدين الإسلامي لا يعنى
بموضوع الدنيا وحدها، بل بأمر الدنيا والآخرة، والإيمان بالآخرة هو الذي يصحح
السلوك ويوجه بوصلة الأعمال للوجهة الصحيحة، فليعمل المؤمن لله ولآخرته، بدل أن
يعمل لنفسه ودنياه.
قراءة في سورة آل عمران (15)
الآيات: 111- 120: لن يضروكم إلا أذى
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ
النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ
اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا
يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
(115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا
يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ
وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ
قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ
قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ
تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ
بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
وتستمر الآيات في إرشاد المسلمين في
كيفية التعاطي والتعامل مع أهل الكتاب. والله سبحانه وتعالى هنا يثبت عباده
المؤمنين ويطمئنهم بأن كيد أهل الكتاب ضعيف، ولن يضروكم إلا أذى، وفهم في ساحات
القتال جبناء يولون الأدبار، وذلك لأن الله
كتب عليهم الذلة والمسكنة أينما كانوا، جزاء بما كانوا يعملون، فهم
استمرئوا العدوان، واعتدوا على أصحاب الرسلات، وقتلوا الأنبياء.
ولكنّ السؤال هنا يرجع إلينا بقوة بعد
أن نرى واقعنا المعاش، أين نحن من هذا النصر، وأين تلك الذلة هم فيها؟ ولعل الجواب
يكمن في أن المسلمين اليوم لم يوفوا بشروط النصر التي ذكرها الله سبحانه وتعالى
سابقا، فإنما يُجنى النصر عندما تتحقق شروطه، فالله لا يحابي أحدا، فلنوزن أنفسنا
إذن بميزان الإيمان: هل الجيوش العربية اليوم والتي حاربت اليهود حاربتهم بأسم
الله، أم كان الله محاربا في هذه الجيوش، ثم أين نحن في ميزان المولاة لهؤلاء
الكفار؟ وفي ميزان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وفي ميزان الإعتصام بحبل الله
وترك أسباب التفرق والتحزب؟. إن الله سبحانه وتعالى يقول (إن تنصروا الله ينصركم
ويثبت أقدامكم)، فأين نحن من نصرة الله سبحانه وتعالى.
ثم تنبه الآيات مرة أخرى إلى قضية
العدل والإنصاف، فإن هناك أمة من أهل الكتاب قائمة بأمره تتلوه وتعمل به، وهؤلاء
لن يكفرهم الله سبحانه وتعالى أعمالهم. ثم تعضد الآيات المسلمين في موضوع الأموال
التي يمتلكها أهل الكتاب وينفقونها للصد في سبيل الله، فإن هذا الأموال لا تغني
عنهم شيئا، فلييحسن المؤمنون علاقتهم بالله سبحانه، ليستقيم لهم النصر والتمكين.
ثم قبل الانتقال إلى موضوع آخر، تنبه
الآيات بعض المؤمنين الذين كانت تربطهم ببعض الكفار علاقات، وكان المسلمين يفضُون
إليهم بمخبوءاتهم في بعض الأوقات، ولقد جائت الآيات هنا لتنهى المسلمين عن هذا،
فهؤلاء لن يقصروا فيما فيه خبالكم وتقصكم وضلالك، ودوا عنتكم ومشقتكم، قد بدأت
البغضاء من أفواهم وما تحوي صدورهم أكبر، وإن تمسسكم حسنة تسؤهم، هكذا يصفهم الله
سبحانه وتعالى، وهو أعلم بهم.
وهكذا لا ينبغي للمس أن يضع المسلم مع
أهل الكفر والضلال. وإذا نظرنا اليوم إلى حال الدول الإسلامية وجدنا كثيرا من
مستشاريها من هؤلاء، فكيف بعد هذا ننتظر النصر والتمكين للأمة الإسلامية في هذه
الأرض. يقول سبحانه " هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا
يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا
آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ".
وتختم هذه الآيات بدعوة إلى الصبر
والتقوى، وهو أحد المحاور المهمة التي تقوم عليها سورة آل عمران، تظهر هنا عند
خاتمة الحديث عن أهل الكتاب، وتعود للظهور مرة أخرى في خاتمة السورة كاملة.
قراءة في سورة آل عمران (16)
الآيات: 121- 129: أسباب النصر
والتاييد للمؤمنين
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ
مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ
مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ
فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى
لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
(128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (129)
وبعد ذكرالله سبحانه أسباب التمكين
والنصر في مواجهة أعداء الخارج، تلتفت الآيات هنا إلى داخل نظام الدولة الإسلامية
فتتحدث عن أسباب النصر والتمكين داخليا. وكما استخدمت قصة وفد نصارى نجران للحديث
عن أهل الكتاب، اتخذت السورة من غزوة أحد منطلقا للحديث لتوجيه المجتمع الإسلامي
داخليا، وتستمر هذه الآيات في موضوع غزوة أحد في نحو ستين آية.
وبعد الحديث عن تطمين المسلمين في
مواجهة أهل الكتاب، ينتقل المشهد الآن إلى صورة مغايرة، وتأخذ الآيات هنا سبيل
الرواية والقصة للتعبير عن تلك الأحداث. " وَإِذْ
غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ"،
وهذا في مشهد الإستعداد لمعركة أحد، وذلك بعد موضوع اشتشارة أصحابه في موضوع
المعركة، هل تقام في المدينة أم الأفضل الخروج لملاقاة العدو. إنّ الرسول صلى الله
عليه وسلم هنا يستعد للمعركة، ويوزع الجيش، فيولي الولاة على الأنصار والمهاجرين،
ويهيء الرماة على جبل أحد، ويولي على المدينة، فقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم
بتنظيم الجيش وإعطاء التعاليم للجند.
" إِذْ
هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا" وهما بني حارثة وبني سلمة،
وهما حيان من الأنصار، همّا أن لا يشاركا ولكن الله عصمها عن الخذلان. وقد كثر
الخذلان في غزة أحد، حيث رجع المنافقون بزعامة عبدالله بن أبي ابن ابي سلول بثلث
الجيش وذلك قبل أن تقوم المعركة.
ثم تنتقل الآيات مباشرة للتذكير بنصر الله للمؤمنين يوم بدر،
فيذكّر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأن أمر العدد لم يكن هو الفيصل في نصرهم يوم
بدر، بل كانوا يؤمئذ أذلة أي قليل في العدد، وقد أمدهم الله بالنصر وبالملائكة.
وقد ذكر سبحانه شروط الإمداد، " بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ". وما النصر إلا من عند الله العزيز
الحكيم. هو الذي يدبر الأمور كلها، له ما في السموات والأرض. إن المؤمنين يوم بدر
نصروا الله حق النصر، ولم يعصوه سبحانه وتعالى، فكان لهم النصر المبين، تلك هي سنة
الله في نصرة عباده الصالحين. والأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى وحده، لا يشاركه
فيه حتى الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يقول سبحانه: " لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ"،
فالأمر كله لله.
قراءة في سورة آل عمران (17)
الآيات: 130-138: إن تنصروا الله
ينصركم
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ
إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ
يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ (138)
لقد أعطتنا الآيات السابقة لمحمة عن
الاستعداد لمعركة أحد، وقد بدأ الحديث عن أسباب النصر والتمكين، فمن نعمة الله
سبحانه وتعالى أنه تأييده ونصره للمؤمنين حاضر ابتداءا، ليكون هنا التفصيل في
كيفية نصر المؤمنين لله سبحانه وتعالى، ويبدأ الخطاب هنا بـ "يا أيها الذين
آمنوا" في تذكير لصفة المميّزة لهذه الأمة، وهي الإيمان بالله سبحانه وتعالى،
ولا تستقيم معصية مع الإيمان.
يحذر الله سبحانه وتعالى هنا من معصيته، ويبدأ
بأكبر المعاصي المذهبة للتقوى، وذلك هو الربا، الربا كما مر في سورة البقرة حرب
لله ورسوله، فكيف بعد ذلك يستقيم إيمان ونصر وتمكين، وكذا حال كل المعاصي والآثام،
فلا بد من تحقق التقوى لله سبحانه وتعالى، وذلك خلق لا يفعله إلا من خاف الله سبحانه
وتعالى، وخاف عقابه سبحانه، فأسرع إلى أبواب التوبة والمغفرة. والنصر هنا ليس في
المعركة وحدها، بل النصر تتجلى أسبابه في مجتمع إسلامي متمسك بمنهاج الإسلام،
ومتأدب بآدابه وأخلاقه.
إن الآيات هنا تجلي صفات التقوى الذي
يمتاز بها من ينصرهم الله من عباده، أولئك الذين آمنوا بالله فغيّر ذلك الإيمان من
صفاتهم وأحوالهم، فأصبحوا ينفقون في السراء والضراء في سبيل الله، ثم انضبطت
انفعالاتهم لأمر الله سبحانه وتعالى، فهم الكاظمين للغيظ العافين عن الناس
والمحسنين لهم. ثم تمكّنت مراقبة الله في أنفوسهم، حتى إذا فعلوا فاحشة أو ارتكبوا
معصية رجعوا الى الله مسارعين له بالتوبة والغفران. إن الله يحفظ وينصر هذه
المجتمعات الإسلامية الموفية لحقوق الله تعالى. وفي المقابل فإن المجتمعات المكذبة
لله سبحانه والمتكبرة على أحكامه يصيبها الهلاك والدمار، والله سبحانه يأمرنا بأن
ننظر في أحوال هؤلاء من أجل أخذ العبرة والموعظة منهم. وهكذا يتبيّن للناس أسباب
النصر والتمكين وأسباب الهزيمة والخذلان.
قراءة في سورة آل عمران (18)
الآيات: 139- 143: عزاء للمؤمنين لما
أصابهم في أحد
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ
قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ
الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
(142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
وترجع الآيات مرة أخرى لتعزيز المؤمنين
وتثبيتهم، ولما كان هلاك الكافرين المكذبين سنة ثابتة في قصص الأمم السابقة، وإذا
علمتم أن أسباب النصر ترجع إلى ميزان التقوى والإيمان، فلا تهنوا أو تحزنوا أيها
المؤمنون فأنتم الأعلون بقربكم لله ونصره لكم. ولقد بدأت الآيات هنا بتعزيز الروح
المعنوية للمؤمنين وتثبيتهم وذلك قبل أن تدخل لاحقا لإعطاء المواعظ والعبر في
مجريات معركة أحد كلها. فإن يكن أيها المسلمون مسكم قرح في أحد فقد مس القوم قرح
مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس، هي إذن جولة واحدة سوف ترجعون بإذن الله
اقوى وأظهر في الجولات القادمة.
ثم تذكر الآيات التعليل والحكمة مما
صار: فالله سبحانه وتعالى أراد أن يعرف المؤمنين ويمحّص أخبارهم، ليعرف من ثبت مع
الإيمان ومن تنكب عنه عندما دارت الدوائر، وأراد سبحانه أن يتخذ أولياءا وأصفياءا
وشهداءا له فيكرم نزلهم ويعلي مرتبتهم عنده. والإصطفاء هذا سنة من سنن الله سبحانه
وتعالى، فلا يدخل الجنة من دون ثمن، بل حتى يتميّز المجاهدون والصابرون وقت البلاء
والنزال من غيرهم، فيبلوا الله سبحانه وتعالى أخبارهم. ولقد كان بعض المسلمين على حماس
للقاء عدوه قبل المعركة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يختبرهم فيما قالوا ليعلم
صدقهم في دعواهم تلك، فمنهم من صبر وقتل واستشهد، ومنهم من ولى وهرب، وهكذا عُرف
الصادق من المدعي، ومعركة أٌحد تحوي البطولات الأسطورية من بعض الصحابة عليهم
السلام، وتحوي أيضا قصصا من الخذلان والهروب من المنافقين وغيرهم. وهنا على المسلم
أن لا يدعي شيئا فوق طاقته، فإنه مختبر فيه.
والتمحيص والأختبار هو أكبر فوائد
معركة أحد، وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يهيء المؤمنين للعظائم من الأمور،
فيتحملوا الأمانة ويسعوا فيها بكل إخلاص وصبر واجتهاد.
قراءة في سورة آل عمران (19)
الآيات: 144- 148: الولاء لله وحده
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ
يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ
يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا
لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا
كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ
ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
وتنتقل بنا الآيات هنا مباشرة إلى ذروة
الأحداث في معركة أحد، حين أشيع أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل. هناك
كانت الزلزلة العظيمة للمسلمين. حين جاء عمرو بن قميئة فقتل مصعب بن عمير رضي الله
عنه، ثم صاح إني قتلت محمدا، هنا انقسم المسلمون وتمايزت صفوفهم، فمنهم من ثبت
وجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من توقف عن القتال وألقي في أيديهم
حين سمعوا بوفاة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من بدأ يستسلم ثم بدأ يحث
المسلمين للإستسلام، فأخذ يفت في عضدهم ويكسلهم. أما المنافقون فقالوا لو كان نبيا
ما قتل، ألا من رسول يذهب إلى عبدالله بن أبيّ بن سلول فيطلب لنا الآمان من سفيان
بن حرب. وهكذا تمايز الناس، فمنهم من نكص على عقبيه ومنهم من صبر.
وتستند هذه الآية على حقيقة ثابتة بأن
الدين لله سبحانه وتعالى وما محمد صلى الله عليه وسلم إلا رسول مبلغ. ولذلك كان
يصيح بعض المسلمين "إن كان محمد قد قتل فإن الله حيّ لا يموت، قاتلوا عن
دينكم". إنّ سنة الموت جارية على الأنبياء والمرسلين ومحمد صلى الله عليه
وسلم واحد منهم، فليتعلق المسلمون إذن بالله سبحانه وتعالى ولا يتعلقوا بشيء غيره.
إنّه الدرس الأعظم لحادثة أحد، وهو التعلق بالله وحده سبحانه وتعالى. ثم إن الموت
بيد الله سبحانه هو الذي يحدد وقته، ولم يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك
المعركة، ولكنه كان الاختبار، فمن المؤمنيين من كان يريد ثواب الدنيا ومنهم ما كان
يريد ثواب الآخرة، فهذه الأحداث وحدها التي تظهر ما في الصدور، وتجلي الصابرين
الصادقين من غيرهم.
إن أفضل قسم هم الذين ثبتوا وجاهدوا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولئك هم الربانيون، في تذكيرواضح لوصف حواريي عيسى
عليه السلام من قبل، ذلك لأنهم ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما
استكانوا، وتلك هي ميزة الربانيين، إنهم قدّموا نفوسهم رخيصة لله سبحانه وتعالى،
والله يحب الصابرين. إولئك الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى وجعلهم من المحسنين.
إنّ صفة اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والتبتل إليه ظاهرة في هذه القسم من
الصحابة رضوان الله عليهم.
قراءة في سورة آل عمران (20)
الآيات: 149- 152: أسباب الهزيمة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ
كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ
اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ
صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا
فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ
مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
وتبدأ الآيات هنا في معالجة الأحداث
جميعا، وردها إلى الطريق المستقيم، فتبدأ بتوجيه للمسلمين بعدم سماع دعاوى
الكافرين لأن هؤلاء يرومون خسارتكم وضلالكم، فلا تنتصحوا بنصائحهم ولا تسمعوا
لندائتهم، بل ليكن اعتمادكم وتوكلكم على الله سبحانه وتعالى. والآية هنا تذكّر بما
حدث من نداءات في بداية المعركة، حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد على
أبي سفيان "الله مولانا ولا مولى لكم".
لقد كان التمهيد في بداية السورة بأن
الله ينصر عباده المؤمنين، ما لم يحدثوا في أمرهم أو يخلوا بالشروط، وهكذا تبتدأ
الآية بذكر فضل الله على المؤمنين إذ صدق الله وعده فنصركم عليهم في بداية الأمر،
وقد كان التأييد حاضرا أيضا فالله سبحانه وتعالى ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب
بما أشركوا بالله تعالى. ثم كانت المعصية والفشل من جانب المؤمنين، فحل ما حل على
المسلمين حينها.
فيشرع الحديث في ذكر وصف الرماة الذين
خالفوا أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم من ابتدئوا بالعصيان،
فهؤلاء لم يثبتوا في أماكنهم، بل لمّا رأوا الغنائم التي يحبون انصرفوا إليها
وتركوا مكانهم، والخطأ في المعركة قد يكون قاتلا. "حَتَّى
إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ"، والفشل هو
الخور والجبن، وهم اختلفوا وتنازعوا في الأمر، ثم عصى بعضهم وانسحب طلبا للغنائم.
وهكذا يصف الله سبحانه وتعالى مرضهم بأن منهم من يريد الدنيا ومنهم من يريد
الآخرة.
ويقول سبحانه وتعالى: " ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ"، أي أنه سبحانه وتعالى كان ينظر
حالهم، ولقد قدّر سبحانه وتعالى أن ينصرف الرماة هنا عن القتال ويتّبعوا الغنائم،
وذلك لغرض ابتلائهم واختبارهم، فالإبتلاء هو الذي يمحّص الأشخاص ويصوب فكرهم فيما
يأتي. فقد كان في هذا درس لهم. ثم يقول سبحانه وتعالى عن هؤلاء " وَلَقَدْ
عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" فسبحانه تعالى ما
أسع رحمته ومغفرته.
قراءة في سورة آل عمران (21)
الآيات: 153- 154: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا
عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
(153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى
طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ
بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ
الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ
الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
وبعد الوقوف مع خطأ الرماة، تتحول
الآيات هنا إلى مشهد آخر، وهو مشهد الإنسحاب والفرار، حينما انكشف الرسول صلى الله
عليه وسلم على المشركين، حين فر عدد من المسلمين يصعدون في الوادي ولا يلتفتون إلى
الوراء، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم من خلفهم، إنه المشهد الأكبر في هذه
المعركة، هنا توالت الأخبار السيئة على المسلمين فأصبحوا في حالة من الضياع.
لم تتوقف رحمات الله سبحانه وتعالى عن
المسليمن حتى في تلكم الأوقات العصيبة، فلقد كان لتكرار الأخبار السيئة فعلا
معاكسا على النفوس، فلقد أدخلتهم في حالة من عدم المبالاة، يقول الله سبحانه وتعالى
" فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا
تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ". ثم إن الله سبحانه وتعالى ووسط تلك الأحداث العظام أنزل
على بعض الصحابة النعاس، فسبحان الله المدبر للأحداث، وكل شيء عنده بميزان.
لله حِكمة في تقديره، فنجد التفاوت هنا
حاضرا، بين من أخذه النعاس آمنة وتوكلا على الله سبحانه وتعالى، وبين من ضاقت عليه
الدنيا بما رحبت، وقد أهمته نفسه بحثا لسلامتها، ويظن بالله الظنونا. إنّ أثر
الإيمان هو الذي يظهر في تلكم المواقف العصيبة. وما هذه الأحداث إلا اختبار
وابتلاء ليظهر ما في النفوس.
ثم تمادى هؤلاء الذين أهمتهم أنفسهم،
فأخذوا يلومون، يقولون لو اتُبع رأينا ما قتلنا هاهنا، ويقصدون أنهم كانوا قد
اختاروا الجلوس في المدينة، " يَقُولُونَ
هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ "،
أي هل لنا من اعتبار وتقدير، قلقد اظهرت الأحداث صدق رأيينا، ولكن ليس لنا منزلة
ومقام عند قومنا، وهكذا أخذوا يصبون اللوم.
فكان رد الله سبحانه وتعالى عليهم بأن
الأمر كله لله، فلا يرد قضاء الله أمر، ولا معنى للرجوع الآن إلى ذلكم الحديث، فقد
قضي فيه بأمر شرعي وهو الشورى. أما أمر الموت فإنه بيد الله سبحانه وتعالى، ولا
يرد قضاء الله راد، والله سبحانه وتعالى أراد أن يختبرهم ويعري موفقهم أمام
أنفسهم، وإلا فإن الله عليم بما في الصدور.
وهكذا اختبرات الأحداث الجميع، ليعرفوا
منزلتهم من الإيمان، وليحاسبوا أنفسهم بعد ذلك، وليستفيدوا من هذه الدروس العظيمة
في مستقبل الأحداث والأيام، والملاحظ أن هذه الآيات لم تذكر لهؤلاء جزاءا، إلا
التمحيص وهو السبيل لرقي الأمة ورفعة شأنها.
قراءة في سورة آل عمران (22)
الآيات: 155- 158: الذين تولوا يوم
التقى الجمعان
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا
اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا
ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا
وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ
يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ
تُحْشَرُونَ (158)
وهناك طائفة من المسلمين تولوا في تلك
الأحداث، والله سبحانه قد حرّم التولي يوم الزحف، وهؤلاء إنما استزلهم الشيطان
ببعض ما كسبوا، وتذكرنا كلمة استزلوا بقصة آدم عليه السلام وزوجه، حيث قال سبحانه
"فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه". ولذلك كان دعاء رسولنا
صلى الله عليه وسلم "اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذُ بِكَ أنْ أَضِلَّ أو أُضَلَّ ،
أَوْ أَزِلَّ أوْ أُزلَّ ، أوْ أظلِمَ أوْ أُظلَم ، أوْ أَجْهَلَ أو يُجهَلَ
عَلَيَّ". وهؤلاء أيضا قد عفا الله عنهم وغفر لهم، إنه هو الغفور الرحيم.
ثم تلتفت الآيات لذكر طائفة أخرى، وهم
بعض الأنصار الذين كانوا يستمعون للمنافقين. فقد كان من دأب المنافقين أن يذكروا
المستشهدين في المعركة ويمدحون سيرتهم، ثم يقولون لو لم يذهب إلى المعركة يومها ما
قتل، ولكان معنا اليوم، يفتّون في عضد المسلمين، ويثيرون في أنفسهم الحسرة. ولا
يقول هذا إلا من في قلبه مرض وتأكله الحسرات. وإلا فإن الاستشهاد في سبيل الله هو
الغنيمة والفوز، ولقد كان الصحابة أكثر إناس إقداما وبيعا لنفوسهم رخيصة في سبيل
الله، لذلك لعلمهم بمنزلة الشهيد عن الله سبحانه وتعالى.
قراءة في سورة آل عمران (23)
الآيات: 159- 161: صفات الرسول القائد
محمد صلى الله عليه وسلم
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
(161)
وبعد تلكم التربية الإيمانية للمسلمين،
تلتفت الآيات هنا إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لتذكر أهم ميزاته وصفاته في
هذه المعركة، ولتظهر في سياق الحديث معه، أهم الصفات وأكرمها لتشكيل الفئة
المؤمنة. وترجع هذه الآيات إلى البدايات حيث موضوع الشورى، وما أظهره الرسول صلى الله
عليه وسلم من حلم لأصحابه. إنها تظهر أهم الصفات وأكثرها أصالة في هذا الموقف،
الليّن والمشورة والنزاهة ممثلة هنا بعدم الغلول.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
رحيما ليّنا قريبا من الناس، فلم يكن فظا ولا غليظ القلب، فلم يكن يستوحش منه أحد
أبدا، بل كان يستوعب الجميع بخلاله الطيبه وصفاته الحسنة، وقد كان قلبه رقيقا سريع
التأثر. هذه هي الصفات التي يحتاجها القائد المسلم: استيعاب الناس واحتوائهم.
ثم يقول سبحانه: "فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". وهذه
الخطة لإدراة الناس، فلنجعل الشورى منهاجا وطريقا لجمع ما تفرّق من أراء الناس،
وهنا درس في المشورة، وذلك رغم النتيجة النهائية لمعركة أحد، ولكن الله سبحانه
وتعالى أقرها لتكون منهجا أسلاميا ثابتا. ثم بعد أخذ الرأي يكون التنفيذ بكل عزم
وقوة، معتمدين على قوة الله ومتوكلين عليه. النصر أو النتيجة عموما إنما تكون من
عند الله سبحانه وتعالى، وهو تجري به المقادير في ميزان الله تعالى لأمور مختلفة.
وليس معنى المشورة أن تغييب العواقب، وأن تتجواز تدابير الله وحكمه. بل هي جزء من
منظومة واسعة، والإسلام دائما ما يجمع بين الأسباب المادية والروحية.
ثم تبريء الآيات الكريمة تهمة الغلول
عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أن دافع الرماة للنزول كان جمع الغنائم،
والرسول صلى الله عليه وسلم، كان يوزع الغنائم بالعدل، ولم يكن يخفي منه شيئا صلى
الله عليه وسلم. وتبيّن الآيات هنا عاقبة الغلول، "وَمَنْ
يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، حاول اخفائها في الدنيا
فيظهرها الله على عيون الأشهاد يوم القيامة. والفساد هو الذي أفنى المجتمعات
اليوم، ولذلك لن تقوم أمة إلا بالنزاهة والعدالة.
قراءة في سورة آل عمران (24)
الآيات: 162- 168: فائدة الإبتلاء
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ
مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ
عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا
أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا
قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا
لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ
يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا
مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (168)
وهكذا أظهرت غزة أحد الثوب الحقيقي
الذي كان يلبسه المسلمون، فجعلتهم درجات عن الله، وهذا هو أصل الاختبار في الآخرة،
التمييز بين من اتبع رضوان الله، ومن الذي باء بسخطه، ثم إن الإختبار له فوائد
عظيمة في الدنيا، حيث يستفيد منه المؤمن في الرقي بأخلاقه وصفاته. والله سبحانه
وتعالى أراد أن يرفع شأن هؤلاء القوم ويعلي ذكرهم إلى يوم الدين، فكان هذا البلاء
سببا لرقي أصحاب رسول الله ورفعة شأنهم، ولا يوصل إلى ذلكم المقام إلا عن طريق
إحتياز هذه الابتلاءات والإختبارات. ولقد أنعم الله على عباده بأن أرسل لهم رسولا
يزكيهم ويرفع رايتهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. ففي غزوة أحد فوائد عظيمة للمؤمنين،
هكذا يثبّت الله سبحانه وتعالى عباده ويرفع من معنوياتهم في مقارعة المشركين.
وما هذه المصيبة إلا جزء من تقلبات
الحياة ودروسها، ولا يعرف طعم النصر إلا من ذاق الهزيمة، ثم إن هذه المصيبة هي
نتيجة لبعض الذنوب التي اقترفها المسلمون. وكل هذه الأحداث إنما صارت بعلم الله
وإذنه. ومن أكبر فوائدها أنها كشفت المنافقين، وعرّتهم أمام المسلمين، وكم كان خطر
المنافقين هؤلاء في المدينة، فكم من ضرر قد دفع بسبب هذا البلاء.
ثم تشرع الآيات في حوار المنافقين:
هؤلاء تركوا القتال بالكلية، وهل من ذنب أكبر من هذا، " قَالُوا
لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ
مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ". وأكبر مصائب المنافقين هو عدم الصدق، فتحدث ألسنتهم
بما ليس في قلوبهم، وهل من عقاب أكبر من هذا، يظنون أنهم سوف يدفعون عن أنفسهم
الموت لو قعدوا في بيوتهم، والموت لا يدفعه إلا الله سبحانه وتعالى.
قراءة في سورة آل عمران (25)
الآيات: 169-175: منزلة الشهداء
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ
الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
(174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى
المنافقين الذين يخافون من الموت، تذكر الآيات هنا منزلة الشهداء عند الله سبحانه
وتعالى، وهؤلاء لهم المنزلة الراقية الرفيعة مع الله سبحانه وتعالى، فهم ليسوا
بأموات بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله من نعيم ومقام
كريم، ويستبشرون بمن سيلحق بهم من المؤمنين أن ما ينتظرهم هو الفلاح المبين. والله
أبدا لا يضيع أجر المؤمنين المحسنين، سواء منهم من لاقى ربه واستشهد، أو ما زال
يصارع حجج الباطل ويدحضها في هذه الحياة الدنيا.
ثم تذكر الآيات فئة أخرى من المؤمنين،
وهم الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، ذلك لأن المشركين
بقيادة أبي سفيان تذاكروا فندموا على استعجالهم على ترك ساحة المعركة دون القضاء
على المسلمين، فهبوا راجعين لذلك الغرض، وهنا عندما علم المسلمون بذلك، تنادوا
لمناجزة المشركين، فدعى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يقابلوه في حمراء
الأسد لملاقاة جيش قريش، فهب الصحابة رضوان الله عليهم لتلكم المعركة دون هواده،
ولم يثبطهم ما حدث في أحد عن القدوم للعدو، ولقد استجابوا لله والرسول من بعد ما
أصابهم القرح.
وهنا كان التمييز النهائي للمسلمين،
ليعرف الله سبحانه وتعالى من الذي نذر نفسه لله، ومن الذي قد غلبته نفسه، يقول
سبحانه وتعالى " الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، هكذا هو ديدن الشيطان وحزبه، السعي الدائم
للتخويف المسلمين وصدهم عن سبيل الله تعالى، وطريقته بأن يثير القلوب بالخوف
والوجل، أو بالشهوات، ولكن هؤلاء انتصروا على كل ذلك.
لم يكمل أبو سفيان مهمته فقد خذله الله سبحانه وتعالى في متصف
الطريق فرجع، وهكذا رجع هؤلاء المسلمين منتصرين فرحين، وقد انمحت كل آثار معركة
أحد من صدورهم، فسبحان الله القدير المدبر، له الفضل في الأولى والآخرة.
قراءة في سورة آل عمران (26)
الآيات: 176- 179: تعزية للرسول صلى
الله عليه وسلم في كفر قومه
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ
حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا
اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ
تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
تقدم سورة آل عمران معالجات تربوية لكل
الفئات التي شاركت في معركة أحد، فبدأت بوقفات طويلة تعالج فيها الأخطاء التي وقع
فيها المسلممون، ثم عرّجت إلى ذكر صفات الرسول القائد محمد صلى الله عليه وسلم،
لتجعل منها دستورا ومنهاجا، ثم ذكر الآيات منزلة الشهداء، ثم تحدثت عن المنافقين،
وهي هنا تتحدث عن المشركين، ثم سوف يكون الختام مع موقف اليهود في المدينة. وهكذا
تقدم هذه السورة معالجات تربيوية لكل فئات المجتمع آنذاك.
فتقف هذه الآيات هنا مع الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم لتخاطبه في موضوع الكافرين الذين تمادوا في حربه، فرسول الرحمة
كان يتفكر في حال قومه، لما يناصبونه العداء؟، وهو لا يريد حربهم، وإنما يريد لهم
الهداية. إن الإسلام دين الهداية وليس بدين حرب، وقد كان يطمع صلى الله عليه وسلم
أن يؤمن قومه بدون هذه الحروب، فلما لا يدعون له المجال يبلغ ما أرسل به؟، ففي ذلك
عزهم في الدنيا والآخرة.
لتأتي الآيات هنا لمواساته عليه الصلاة
والسلام، فلا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، فلن يتمكنوا من صد دعوتك، والله أرفع
شئنا من أن يضره هؤلاء. والجزاء إنما موكول بالعمل وهؤلاء اشتروا الكفر بالإيمان،
فلن يكون لهم حظ في الآخرة. ولا يحسبن هؤلاء الكفار الذين أخذتهم العزة بالإثم أن
أموالهم وأولادهم سوف تغنيهم عن الله شيئا، بل هم يستخدمونها فيما يضاعف دركاتهم
في جهنم. وهكذا حال الحياة الدنيا، لم يتركها الله سدى، بل جعل فيها من الأسباب
والتدابير ما يتميّز به الناس، فيظهر الخبيث من الطيب.
قراءة في سورة آل عمران (27)
الآيات: 180- 184: عداء اليهود
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ
مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا
بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
وبعد أن ذكر الكفار وسبب عدم كفرهم،
انتقل إلى اليهود، وهم من جملة المناوئين له صلى الله عليه وسلم ولدعوته، فذكر
أسباب كفرهم وبعدهم عن الله سبحانه وتعالى. وهكذا تكون الآيات قد كشفت حال كل
الأعداء المناوئين وفضحت مكائدهم وعرتهم أمام الجميع، ودحضت دعواهم، ليكون الرسول
صلى الله عليه وسلم وقومه على علم كامل بأحوال من حوله من أعداء، إنّه التأييد
بتحديد الأعداء ومكرهم فلا يكون هناك لبس في الأمر، بل الحذر والجهاد.
ولليهود علاقة غريبة بالمال، فهم أهل
الفساد المالي منذ الأزل، وهم أصحاب سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى، وقد قدمت
الآيات بذكر صفات اليهود حتى نعلم منزلتهم، ثم أعقبت ذلك بالرد على دعواهم. قد
أعماهم حب المال واستحوذ على نفوسهم، فكيف بعد ذلك ينفقون في سبيل الله، ثم أخذوا
يكيلون لله التهم، فهل هم الأغنياء لكي ينفقون على الله الفقير، كبرت كلمة
يقولونها، ولعنوا بما قالوا. إنّ هؤلاء أصحاب سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، فكيف
بالذين هم من دونه سبحانه وتعالى، وليس ذلك بغريب عليهم فهم الذين يقتلون
الأنبياء، فساءت منزلتهم يوم القيامة، فكيف بعد هذا يشك ناس في عدائهم لله سبحانه
وتعالى ودعوته.
ثم إنهم قالوا لما دعوا للإيمان برسالة
محمد صلى الله عليه وسلم: " قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ
إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ
النَّارُ".، فذكرهم الله سبحانه وتعالى بما بمواقفهم السابقة مع الأنبياء
السابقين، فقد استقبلوهم بالقتل رغم تتالي الآيات والحجج. فلا تحزن يا محمد صلى
الله عليه وسلم، على تكذيب هؤلاء ومكرهم، فإن ذلك صفة ثابتة فيهم مع كل الرسالات.
والله غالب على أمره، وقادر على إجلائهم من المدينة.
قراءة في سورة آل عمران (28)
الآيات: 185- 188: خلاصات في طبيعة
الحياة وأهمية الرسالة الخالدة
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
(185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى
كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
(186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ
وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
(187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ
الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
هنا تتويج لمشوار هذه السور الكريمة
ببعض الخلاصات المهمة في التعريف بطبيعة الحياة وأهمية الرسالة الإسلامية الخالدة.
فالحياة جميعا من دون رسالة متاعا للغرور، يعيش فيها الإنسان خادما لشهوات نفسه،
ومستخدما في مصالحها الآنية الزائلة، وهي رغم ذلك حياة قصيرة جدا، وكل نفس عما
قريب سوف تنتهي رحلته في هذه الحياة فيذوق الموت. لينقلب بعدها إلى حياة إخرى
أبدية يحصد فيها جزاء عمله، هنا يتمايز الناس إلى فريقين، فمنهم من سعى لله ومنهم
من عمل لنفسه والشيطان، وهكذا يعرف الفائز من الخائب، وهل من فوز أعظم من ذلك
الفوز أو خسارة تفوق تلكم الخسارة.
هكذا هي الدنيا إذن دار ابتلاء
واختبار، لا محيص عن ذلك ولا مفر، " لَتُبْلَوُنَّ
فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ"،
الإبتلاء في النفس والمال وفي كل اصناف النعم، وقد توسعت السورة في شرح أهمية
الإبتلاء وفائدته في الدارين، فليكن المسلم إذن على استعداد لهذا البلاء الشديد،
بالصبر والإيمان والتقوى، فبذلك يتمايز الناس وتعرف درجاتهم.
ومن أعظم البلاءات هو حمل رسالة
الإسلام وتبليغها للناس، وهكذا نجد أن الإبتلاء ممتزج بالتشريف والتكريم، وتلك هي
حال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه هنا، فقد اختارهم الله سبحانه وتعالى
لوظيفة عظيمة، وظيفة تبليغ شرع الله وتمكينه في الأرض، وهم سوف يجدون كل العنت في
ذلكم السبيل " وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ".
إن طريق النجاح والفوز يحتاج إلى تضحية
وبذل، فعلى المسلمين أن يبذلوا الغالي والنفيس من أجل تمكين شرع الله سبحانه
وتعالى في الأرض، ولا يكونوا كمثل الذين أوتوا الكتاب من قبل، فقد نبذوه وراء
ظهورهم وأشتروا به ثمنا قليلا. وهكذا نجد السورة هنا تلتف فترجع لتذكرنا بالغرض
السامي الذي بدأت به السورة، وهو تمكين شرع الله القيّوم في الأرض. كما وتحذر
السورة من التأسي بأهل الكتاب الذين تنكبوا عن ما أرسلوا به. ثم تذكر الآية بموضوع
الأخلاص في العمل، وأن الله الرقيب يعلم أهل الفضل ممن يدعي ذلك، فيحذر سبحانه ممن
يحب أن ينسب له فضل التبليغ ويحب أن يمدح بأنه جاهد، وهو رغم ذلك لم يفعل شيء، بل
كان يعتذر من أن يحضر أي موقف جهادي.
قراءة في سورة آل عمران (29)
الآيات: 189-200: المؤمنون حين يلجأون إلى الله الملك القيّوم
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ
هَذَا بَاطِلًا
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ
النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا
إِنَّنَا سَمِعْنَا
مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا
فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ
الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا
تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
(195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ
خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
وتختتم الآيات بذكر الله سبحانه وتعالى
المصرّف والمدبر لهذا الكون، قيّوم السموات والأرض، له الملك والأمر سبحانه وتعالى،
لترجع السورة هنا لتذكرنا ببداياتها، ولتربط بين المبتدأ والختام. فكل ما في الكون
هو من تدبير رب العالمين وتصريفه. والمؤمنون عرفوا الله سبحانه وتعالى حق المعرفة،
فقاموا في محرابه يعبدونه ويسبحونه. يتفكرون في خلق السموات والأرض، ويسعون فيهما
بما يرضي الله سبحانه وتعالى، مستجيبين لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، وساعين
لتحقيقها في هذه الأرض، بكل ما أوتوا من قوة وصبر. وهم في ذلك يطلبون رضاء الله
سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة. إن المؤمن له سمت خاص، وله صفات خاصة تربطه
بالله سبحانه وتعالى، فيفهم الوجود من خلال معرفته بالخالق سبحانه وتعالى، فيحسن
عند ذلك تعاطيه وتعامله وسعيه في هذه البسيطة.
والآيات هنا تحوي ملخصا معرفيا للسورة،
مختصر يحتوي القواعد العلمية التي يرتكز عليها المؤمنون في لجئوهم لله تعالى.
هؤلاء الذين عرفوا أن الله هو خالق الكون ومالكه ومدبر جميع أموره، وهو سبحانه
الذي يصرّف الليل والنهار ويجري بالأحداث كيف يشاء، فكيف بعد ذلك لا يعبدونه
ويلجئون إليه. حاشا لهذه الأحداث الكونية أن تجري من دون هدف أو معنى، بل هي مسيرة
من قبل قدير عليم.
إن المؤمنين يتفكرون في الأحداث من
حولهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ليصلوا إلى حقيقة ثابتة بأن لهذا الكون
مدبر ومصرّف، وأن حياتهم إذن ليست عبثا بل هي لهدف ومعنى، فعرفوا ربهم من خلال
الكون، كما عرفوه من خلال الرسالة الإيمانية التي جاء بها المرسلون، فزاد تشبثهم
ولجئوهم لله سبحانه وتعالى. والآيات هنا يمكن لها أن تخاطب المؤمنين عامة في كل
العصور، ويمكن لها أيضا تخاطب الصحابة رضوان الله عليهم.
ولقد خاطبت السورة منذ بدايتها ثلاثة
طوائف، نجدها هنا حاضرة أيضا في النهايات: فهناك مدح للمؤمنين وذكر لشمائلهم، فكيف
لهؤلاء أن يخذلهم الله سبحانه وتعالى، وهناك تطمئين لهم بأن أموال الكفار متاع
قليل في جنب تصريف الله وقدرته، وأن الفوز والنجاح هو في تقوى الله سبحانه وتعالى،
فلا يرجح الميزان بالمال والجاه، وإنما بالبر والتقوى. ثم أيها المؤمنون المجاهدون
الملتجئون لله سبحانه وتعالى، لا تعتدوا في الحكم على أهل الكتاب جميعا بحكم واحد،
بل مع عدائهم هذا الذي عرفتموه، هناك طائفة منهم مؤمنة خاشعة لله سبحانه، فليكن
ميزانكم في التعامل مع الناس دقيقا وبصيرا.
ثم تُختتم السورة بالرسالة التالية:
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".
فالفلاح هو الهدف الأسمى لهذا الوجود، فلاح يتعدى الآخرة إلى
شؤون الدنيا. ولا يتحقق هذا الفلاح إلا
بتحقق الإيمان والتقوى ثم بالصبر والثبات والمرابطة. إيمان سبر أسرار هذا الكون
وعرف غايته، ثم سار فيه بالتقوى والصبر والمرابطة، بهذا ينال المؤمن التمكين في
هذه الحياة، وبهذا ينال الجزاء الأسمى في الآخرة.
وهكذا تنتهي سورة آل عمران بموضوع
التقوى، لتفتح سورة النساء بعدها بنفس الموضوع، يقول سبحانه وتعالى: "يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)".
وهكذا انتهت هذه القراءة المتواضعة في
سورة آل عمران، والله الموفق لما فيه الخير والصلاح.