بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
يمكن
تأمل سورة الفاتحة من جهتين اثنتين:
الأولى:
أنها الدعاء الذين نتلوه في كل صلاة.
والثانية:
أنها فاتحة الكتاب العزيز.
أولا
الفاتحة هي الدعاء في كل صلاة:
تمثل
سورة الفاتحة الشريفة الأصل الأصيل لكل صلاة والمركز المهم التي يقوم عليها بنيان
الصلاة، فهي التي تمثل الدعاء والمناجاة بين العبد وربه سبحانه. ومعروف أهمية
الصلاة في الإسلام، فهي الركن الأساسي فيه، وتتمثل هذه الأهمية في كون أن الصلاة
صلة بين العبد وخالقه سبحانه وتعالى، يعترف بفضله، ويحمده على مديد نعمه، ويعترف
له بحق الربوبية، ويستعينه على رؤية الحق وإتباعه، وهي التي تجدد أيمان المسلم
وتقوي علاقته بالله، فيتكرر وقوف المؤمن متذللا أمام الله سبحانه وتعالى، طالبا
عفوه ورضاه ومعترفا له بقيوميته وملكه لهذا الكون.
وإذا
أردنا أن نقرأ سورة الفاتحة بهذه الزاوية فإن معانيها الجليلة تنساب إلينا روعة
وجلالا.
بسم الله: هنا الإعتراف
بالله الإله الحق، الذي بيده تدبير كل شيء، فهو دعاء منبثق عن عقيدة راسخة بأن
الله هو خالق الوجود ومدبر أمره، وإنما يطلب المسلم الاستعانة به وحده، تاركا ما
سواه جانبا، فليس ثمة قدرة ولا تدبير إذا حضر تدبير الله العلي القدير.
الرحمن الرحيم: يظهر
هنا الله سبحانه وتعالى ويتجلى بأسم الرحمة عز شأنه، فهو الرحمن الرحيم، وهذا
التقديم والتكرار للرحمة يظهر أن الله سبحانه وتعالى يقضي بالرحمة في شؤون خلقه،
وهي القاعدة التي ينبغي أن تحكم خلق المسلم ونظرته للحياة والكون.
الحمد لله: استحق الله
سبحانه وتعالى للحمد، فهو المنعم المتفضل، الذي لا تحصى نعمائه، وهو أهل المحامد
كلها، ما من محمدة إلا راجعة إليه سبحانه، فالرحمة والقوة والعزة، إنما كلها محامد
مختصة به سبحانه، وهو الذي أعطى كل المحامد للناس.
رب العالمين: الله
سبحانه وتعالى هو الرب والعائل لكل مخلوقاته، فهو الذي يحفظهم ويمدهم بجميع النعم،
لذلك استحق الحمد والشكر.
مالك يوم الدين: ما من
شيء في الكون إلا ويعود ملكه لله سبحانه وتعالى، يدير ويقدر أموره كيفما شاء عز
شأنه، ولا شك أن هذا الإعتراف يوجه السلوك ويصحح بوصلة المسلم في كل ما يأتي وما
يذر. ولكن الله سحبانه وتعالى يخصص هنا من مملوكاته يوم الدين. وهذا ينزع بالإنسان
إلى أن يتجاوز في مراميه وأهدافه، وتقييمة ومخاوفه هذه الحياة الدنيا، ليجعل
الآخرة نصب عينه، فيزن الأمور بميزانها، ويوم الدين هو يوم الحساب، ويوم الجزاء.
ولا شك أن استحضار هذه المعلومة يصحح الميزان لدى المسلم ويقومه.
إياك نعبد: ما من هدف
لمسلم إلا عبادة الله سبحانه وتعالى، هي أس العلاقة بين العبد وربه، وهي القاعدة
التي تحكم سلوك المسلم وتصوره، وما من عمل يأتيه المسلم إلا وينبغي أن يكون
مستنيرا بهذه القاعدة الاصيلة. وإذلا كانت أعمال المسلم مبنية ومنطلقة من هذا
الأساس، فإنه حق على الله أن يزكيها ويوصلها غايتها.
وإياك نستعين: وإذا
كانت أهداف الأعمال مبنية ومنطلقة من قاعدة العبودية، فإنه أدائها لا يكون إلا
بعون الله وتوفيقه، فهو المدبر لشؤون هذا الكون، سبحانه وتعالى.
اهدنا الصراط المستقيم،
صراط الذين أنعمت عليهم: طلب الهداية ورؤية الحق، والسير على خطى الصالحين، هذه هي
غاية منى المسلم، أن يجعل خطواته في سبيل الحق، ومقربة لله سبحانه وتعالى، منتميا
إلى تلك الفئة الباحثة عن الحق سبحانه وتعالى وسائرة في منهاج الخير والصلاح.
غير المعضوب عليهم ولا
الضالين: ولا تتعكر خطواته بحظوظ النفس وأهوائها، فتضله عن طريق الحق، فيكون سيعه
في سبيل الباطل والشيطان عياذا بالله.
إنّ
الفاتحة الكريمة هنا تضبط علاقة المسلم بالله سبحانه وتعالى، وتضبط البوصلة التي
تحكم أعماله، فتوجهه إلى الإقتراب من قيّم الحق والخير، وتبعده عن الأهواء والزلل.
إنها تصوغ أعماله لتكون خالصة لله سبحانه وتعالى، وتجعله مراقبا لذات الله في كل
ما يأتي وما يذر، مستحضرة قيوميّة الله تعالى على الوجود، الذي يحكمه سبحانه
بالرحمة والحكمة. ومذكرة أياه بيوم الحساب فتجعله متساميا عن رغبات الدنيا وفتاتها
وملتفتا إلى ميزان الآخرة، التي يفوز فيها الصالحون ويخسر فيها كل ضال عن الحق أو
كل متنكب عنه. والفاتحة الكريمة تذكر المسلم بهدفه في هذه الوجود، وهو عبادة الله
الرحيم سبحانه وتعلى.
ثانيا:
فاتحة الكتاب العزيز
تعطي
الفاتحة الشريفة صورة عامة لرسالة القرآن الكريم، وتؤصل لمعانيه ومراميه المنثورة
في بقية الكتاب العزيز، يقول الله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا
مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر 87). إنها تعطي الصورة الكبرى للتصور
الإسلامي للكون والحياة، كما أنها تبيّن غاية الإنسان وهدفه في هذا الوجود، ثم
تبيّن غرض إنزال القرآن الكريم. وهي أيضا تعطي المركزية لأهم القيّم التي جاء بها
الإسلام، كما أنها تضع الميزان لصالح الأعمال وطالحا مبيّنة الجزاء المناسب لكل
الساعين في هذه الحياة. ويمكن بهذا أن تشكل الفاتحة الكريمة المفتاح للخارطة
المعرفية التي جاء بها القرآن الكريم.
يقول
الله سبحانه وتعلى:
باسم الله: إقرار بوجود الله سبحانه وتعالى وتسليم له وإيمان به
سبحانه، لذلك فكل عمل لكي يحقق مراده ينبغي له أن يتساوق مع كون الله هو الخالق
والمدبر. وهنا تفسير لوجود هذا الكون، ومدخل للنظرية المعرفية في الإسلام. حيث أن
التوحيد هو المبنى الأساس التي تقوم عليه نظرية المعرفة في الإسلام.
الرحمن الرحيم: هذه هي صفات الخالق المعبود، الذي خلق الكون ودبر
أمره، إنه الرحمن الرحيم، أقام كل شيء على ميزان الرحمة. إنها مركزية الرحمة في
الفكر الإسلامي عموما، بما في ذلك من تشريع رباني، فالرحمة صفة متجلية في كل زوايا
القرآن الكريم، وبها الإفتتاح مع البسملة في كل سورة من القرآن الكريم. وتكرار ذكر
الرحمة يدل على مركزيتها في هذا الكون، ورسالة الدين الحق هي الرحمة، وما خالف
الرحمة فهو بريء من دين الله سبحانه وتعالى.
الحمد لله: هذه هي لغة الكون المخلوق، التسبيح لله بالحمد والشكر
والإمتنان، والإعتراف له بالعظمة والكبرياء، والله سبحانه وتعالى هو المعطي
والمنعم والمتفضل بكل أنواع المحامد والألاء، والحمد هي لغة الكون المسبح لله
سبحانه وتعالى، فكيف للإنسان أن لا يحمد الله ويشكره ويعبده، وهو إنما يستقي جميع
النعم منه سبحانه. والحمد لله هي أعلى مقامات العبادة لله سبحانه وتعالى، وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون.
رب
العالمين: هذا هو سبب الحمد، فهو المربي والمنعم، الخالق الرازق سبحانه، للعالمين
جميعا. إن رسالة الإسلام ليست إنسانية فقط، بل هي عالمية، ولا يصح تأطيرها في فئة
وحزب.
مالك
يوم الدين: هنا إشارة إلى القصة الكاملة للحياة، منذ مبتداها إلى منتهاها، قصة
الإبتلاء والجزاء، قصة الصراع بين الحق والباطل، قصة الغيب والشهادة. إنه اليوم
الذي يحق فيه الحق وترفع راية القسط والعدل.
إياك
نعبد: هذا هو سبب الفلاح، الإستجابة والتسليم لله سبحانه بالعبادة، حتى يصل
الإنسان إلى حقيقة التقوى فيفلح في عمارة الأرض على مراد الله سبحانه.
وإياك نستعين: وهذا هو سبب
الفلاح الآخر ليفوز المرء في يوم الدين، إنه السعي والعمل بمنهاج الله تعالى،
فيطاع أمره وتجتنب نواهيه.
اهدنا:
الهداية هي السبب للوصول إلى هذا النور، والهداية هي النعمة الكبرى من رب العالمين
على الحق والخير، وإلا فهو تائه عن فهم الوجود وحكايته، والهداية هي توفيق من الله
لمن عبد الله واستعان به واتقاه. والهداية هي ثمرة العبادة
لله والاستعانة به سبحانه وتعالى، والهداية إنما تكون باتباع دين الله سبحانه
وتعالى ومعرفة أحكامه وسننه، ولذلك إنزل القرآن الكريم ليكون مرشدا للناس وهاديا،
يقول سبحانه وتعالى (ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).
الصراط المستقيم: منهج الله في الحياة، الذي يرتقي بالإنسان من
طموحاته الذاتية الأنانية إلى أن يكون معينا للحق متمسكا به، محاربا للباطل
ومبتعدا عنه. ولا يكون ذلك إلا بهدي
من الله سبحانه وتعالى.
صراط
الذين أنعمت عليهم: إنه منهج النبين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك
رفيقا. وهؤلاء من أتى القرآن
الكريم بالتعريف بهم وبمنهاجهم.
غير المغضوب عليهم ولا الضالين: وليس بمنهج من سعى لإهلاك
الإنسانية واستعباد خلق الله، وكل منهج غير منهج الله إنما هو ضلال يؤدي إلى
الهلاك.
والهداية
الربانية هي رأس مال المسلم وسبب فلاحه وسعادته، يقول الله سبحانه وتعالى (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ
مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ)( المائدة 16).
وهكذا نجد أن الفاتحة الشريفة تحوي مباديء
العقيدة الحقة، والأسس التي تقوم عليها تصور الإنسان ومنهاجه في الحياة، كما تحوي قواعد
الأساسية للتشريع الإسلامي. وأسرار الفاتحة الشريفة لا تنتهي عند هذا.
والله الموفق لما فيه الخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق