الجمعة، 23 أبريل 2021

قراءة في سورة البقرة

 

تدبر سورة البقرة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ذي الآلاء والنعم، له الفضل في الأولى والآخرة، والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

نشرع هنا بإذن الله تعالى بذكر شيء من التأملات في سورة البقرة المباركة، وتذكر سورة البقرة الجذور الأولى للهوية الإسلامية، وتتوسع في ذكر الأسس الأولى التي يقوم عليها بنيان الأمة الإسلامية، وهي لذلك تشكل أهمية خاصة لمن أراد معرفة هذه الأوصول وتلك الأسس. وسوف يظهر بإذن الله تعالى التناسق والتمازج الذي تتمتع به هذه السورة العظيمة. إن سورة البقرة أطول سور القرآن الكريم، وهي سورة مدنية تؤسس للمجتمع المسلم الوليد. تتحدث سورة البقرة عن الاسس الأولى المكونة للأمة الإسلامية الوليدة، ويدور موضوعها حول قضية استخلاف الله لآدم وبينه في الأرض، وتحذر هذه الأمة من الأخطاء التي وقعت فيها الأمة التي كانت مستخلفة قبلهم، وتعطيهم النماذج الناجحة للوفاء بالعهد، ثم تقييم الشرائع وتؤسس للنظم والأحكام اللازمة لقيام هذه الأمة الإسلامية على الحنيفية والشريعة الربانية. ولذلك تحتوي سورة البقرة على الإجابات الوافية التي ينشدها المؤسس الحقيقي لاي أمة وليدة.

 

الخارطة الكبرى لسورة البقرة:

1.     أصناف الناس بحسب موقفهم من الإيمان بالغيب (1-20)

2.     قصة وجود الإنسان (20-40)

3.     نموذج للأمة التي نقضت بالعهد (41-123)

4.     نموذج لإتمام بالعهد، إبراهيم عليه السلام، (124-141)

5.     بلورة شخصية الأمة الوليدة (142-171)

6.     الشرائع والعبادات التي ترتكز عليها هذه الأمة الوليدة (172-254)

7.     الله هو الولي (255- 260)

8.     الحظ على الإنفاق وأحكام المال (261-283)

9.     الخاتمة بالدعاء وطلب العون  على هذه المسؤولية العظيمة (284-286).

 

 

1.     أصناف الناس:

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

 

بدأت سورة البقرة بالتعريف بالقرآن الكريم وغرضه، فهو إنما أنزل ليكون هداية للمتقين إلى صراط رب العالمين، فالقرآن الكريم هو الرسالة الربانية للإنسانية جمعاء حتى تهديها إلى التصور والمنهج الذي يرتضيه خالقهم ومبدعهم سبحانه وتعالى، وهو إنما خص الهدى للمتقين لأنهم وحدهم هم المستفيدون منه، وإن كان القرآن الكريم في الأساس رسالة ربانية للعالمين جميعا. وكما يأتي الكتاب أيضا بمعنى القانون الملزم، والدستور الذي يرجع إليه في كل ملمة.

 

ثم وصف المتقين بعدد من الصفات التي تؤهلهم لينالوا الهدى والفلاح، وهي الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق ثم الإيمان بما أنزل الله من رسالات وشرائع سابقة، ثم الإيمان باليوم الآخر.

وللإنسان أن يستفسر لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى هنا يؤمنون بالله، وإنما قال: "الذين يؤمنون بالغيب"، ولعل الجواب يكمن في التالي: أنّ الإيمان بالغيب هو الفاصل بين المؤمن بشرع الله وأحكامه وغير المؤمن، ذلك لأن القرآن الكريم يمثل الشرع الرباني الذي جاء من بطن الغيب، فهي تعاليمه سبحانه وتعالى للأمته عن طريق رسله. وهناك كثير ممن يؤمن بالله سبحانه وتعالى خالقا ومهيمنا، ولكنه لا يؤمن بتعاليمه وأحكامه. وهذه هي مهمة القرآن الكريم، تقديم الهداية والرشد لبني البشر، فالإيمان بالغيب هو الفيص الحق ممن يؤمنون بهذه الحكمة وممن لا يؤمنون.

والإيمان بالغيب فرع من الإيمان بالله سبحانه وتعالى ونتيجة له، والذي يؤمن بالله سبحانه وتعالى فلا بد أنه يقبل إليه طالبا قربه وشاكرا له على نعمائه، وهنا ينبع أهمية الشرط الثاني لهذه الهداية، وهي إقامة الصلاة. وتمثل الصلاة أس العلاقة مع الله سبحانه وتعالى. إن الصلاة تمثل صدق الإيمان، وعمق المعرفة بالله الخالق الرازق، ولذلك فالصلاة هي التي تشكل شخصية المسلم وتبنيه بحسب تلك العلاقة التي يقيمها مع الله سبحانه. والصلاة تنمي المحبة والخشية في قلب المسلم.

وإذا تمكنت المحبة لله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن، فإنه عند ذلك يقبل الله سبحانه وتعالى ويزهد فيما سواه، وهنا يأتي فضل الإنفاق، ذلك لأن الإنفاق دليل عملي على صدق وعد الله سبحانه وتعالى، وعلى الاستعداد بالبذل والعطاء في سبيل هذه الدعوة الإسلامية.

ثم يشترط ليتم الهدى والانتفاع بهذه القرآن الكريم، الإيمان بما أنزل الله من قبل من شرائع ورسل. فالرسالة الربانية ليست محدثة وإنما زامنت بني البشر منذ آدم عليه السلام. وتحوي سورة البقرة على جانب كبير ذكر أخبار الأولين، وبخاصة أخبار بني إسرائيل.

والشرط الخامس هو الإيمان باليوم الآخر، يوم الحساب والجزاء. والإيمان هنا يقيني لا يقبل الشك، وإنما يعيش في الوجدان ويوجه السلوك.

وهكذا نجد هذه الآيات العظيمة تبيّن الهدف والغاية من إنزال القرآن الكريم، ثم تبيّن الشروط التي ان تحققت تم الإنتفاع به مرشدا وهاديا. والمتأمل لسورة  البقرة يجد أنها تركز على هذه الشروط وترجع إليها لاحقا بالشرح والتفصيل. وكأن السورة عموما تدور حول ثلاثة محاور، هي الهداية والعبادة والإنفاق. ويشغل موضوع الهداية الحيّز الأكبر فيها، فتحدد هوية الإنسان، وقصة وجوده، وتؤطر لسبل نجاحه وتعطيه المواعظ التي سقط فيها من كان قبله لتتم له الفائدة.

 

ومن جمال هذه المقدمة الكريمة من سورة البقرة أنها تصف هؤلاء المتحققة فيهم هذه الشروط الاولى بالمتقين، وتجعلهم الصنف الأول من أصناف البشر بالنسبة لمواقفهم من هذه الرسالة الربانية، ثم تتابع الآيات لتصف بشكل دقيق صفات الصنفين الآخرين، وهم الكفار الذين لا يؤمنون، والمنافقون الذين يظهرون الإيمان وهم لا يؤمنون حقا.

 

 

2.     قصة وجود الإنسان:

 

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

 

يقف الإنسان طويلا أمام الأسئلة الكبرى للوجود، ويعيد فيها التأمل ليعرف غاية خلقه وغرضه وهدفه في هذه الحياة، ثم ليعرف منهاج حياته وسبل النجاح فيها. ومن الواضح تماما أن سورة البقرة أتت لتهدي الإنسان في موضوع هذه الأسئلة الحائرة ولتقدم له الإجابات الشافية في هذا الموضوع.

تفتتح هذه الآيات بأمر مباشر للناس جميعا، وليس لمسلمين وحدهم، بأن أعبدوا ربكم. الغاية إذن هي العبادة لله تعالى.

وتستند الآية هنا على عدد من الحجج تقيم عليها بنيان هذه الغاية الشريفة أو الوظيفة التي أسندت لهذا الإنسان، وهي: أن المعبود هو ربكم، وأنه هو الذي خلقكم، وخلق أسلافكم، وخلق السموات والأرض، وجعل لكم حرية التصرف -أو الاستخلاف كما ستبيّن الآيات لاحقا- في الأرض والسموات، ثم أمدكم بجميع النعم والآلاء. ولا شك أنّ هذه المعاني العميقة هنا تحتاج إلى وقفات طويلة لاستيعابها، فالنص هنا مكتنز بالحقائق العميقة، وإن بدت بداهة أنها قريبة ومعقولة.

وكما تبيّن الآيات هنا غاية العبادة ذاتها، وهي التقوى، وذلك ما بدأت به السورة وما سوف ترجع إليه لاحقا لتزيده وضوحا وتجليا. والتقوى قيمة أيمانية خالصة تجعل الإنسان متحررا من غير مخافة الله سبحانه وتعالى، ومخلصا في حبه وعطائه للخالق سبحانه. ولهذه الصفة أهمية قصوى، ذلك أنها الميزان للفوز في الدارين، يقول سبحانه (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)) المائدة، ويقول عز شأنه (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63 مريم.

وكما تحذر هذه الآيات من مغبة اتخاذ الأنداد والشركاء لله سبحانه وتعالى في ملكه وسلطانه، فيقول تعالى (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22. وتستمر الآيات لتحاج المشككين في هذا (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  (29.

 

 

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

 

ثم تحملنا الآيات إلى مشهد التكريم الإلهي لبني البشر، حيث خلق آدم، وإعطائه المهمة الموكلة له. يُحدّث الله سبحانه وتعالى هنا الملائكة، وهم أكرم الخلق، بأن التكريم سوف يكون لبني آدم، وذلك بإعطائهم مهمة الخلافة في الارض. وقد سجدت له الملائكة تكريما لشأنه، وإعترافا بموضعه الجديد في الخلق.

والله سبحانه وتعالى يقول ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، فالإنسان مستخلف في الأرض ومسؤول عن هذا الاستخلاف. وما يؤهل الإنسان لهذا الاستخلاف هو العلم ثم البناء عليه، حيث أن ما يتميّز به الإنسان أنه كائن حضاري يتعلم أسلافه من أخلافه، ويبني اللاحق على ما حصله السابق، فيشيد بذلك العلوم ويبني المجتمعات، ويعمر الأرض، وما ذلك إلا بسبب إقتران العلم والعمل لدى الإنسان، وبسبب أنه يخلف بعضه بعضا في البناء والتطوير والعمران، وذلك ما فسر به بعضهم به قوله سبحانه (إني جاعل في الأرض خليفة).

وتبيّن هذه الآيات الكريمة أيضا أهمية العلم، وأن العالم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، وأن تميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات وتكريمه عليهم إنما هو بسبب العلم. يقول سبحانه وتعالى (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، إنّ القاعدة الأساسية التي تحفظ الإنسان من الزلل في موضوع الأسئلة الكبرى هو التسليم لله الخالق الذي يعلم، أمّا المخلوقات جميعا فإنها لا تعلم شئيا  (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)) البقرة. إن الحكم فرع التصور والعلم، والذي لا يحيط بالامور علما لا يستطيع أن يحكم عليها، ولذلك فعلى المخلوق أن يذعن لله الخالق فيما أمر، ولا يعني ذلك حظر السؤال أو الحجر عليه، ولكنّ المقصود هو أن يكون البناء الفكري على أساس صلب وهو التسليم والإذعان لله العليم الحكيم.

وإذا كان الإنسان نجح في ميزان التفاضل لدى المخلوقات جميعا، وذلك بما آتاه الله من علم، فإن ذلك لا يعني أنه خال من العيوب، بل كما بيّنت الآيات مزايا هذا المخلوق الجديد، فإنها أيضا بيّنت عيوبه، فبيّنت الآيات هنا طبيعة البشر والعلاقة التي تحكم ذلك بما أوكل إليهم من مهمام. ومن طبيعة هذا المخلوق الجديد أنه كثير الفساد في الأرض، وأنه متعطش لسفك الدماء، وأنه أيضا يميل إلى غرائزه التي تحجبه عن رؤية الحق وإتباعه.

إن أهم ما أعطي الإنسان في هذا التكريم الرباني هو حق التصرف، حرية الأختيار، أعطي المسؤولية، وذلك مترتب على مبدأ الخلافة، ولا توجد مسؤولية من دون حساب وجزاء.

إنّ أسرار هذا المشهد لا تنتهي، وما أن يتأهل الإنسان فيسأل الأسئلة الصحيحة إلا وتسعفه الآيات بمدد عطائها وحكمها. وإن مما تقدمه الآيات هنا أيضا طبيعة المحيط الذي يعيش فيه هذا الكائن، فهناك الشيطان الذي يحاول جاهدا لإغواء الشيطان، وهناك اختلاف التوجهات البشرية التي تولد الصراع بين الحق والباطل، (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36)). وهكذا نجد أن ميدان عمارة الأرض لا يدور حول سلّم العلم وحده، بل نجد أن شرط عبادة الله وترك أهواء النفس والشيطان هو العنصر الأول فيه.

 

وما أن أكتمل المشهد حتى وضع آدم في أول أختبار، وقد عرضت هذه التجربة الأولى بكل تفاصيلها حتى يستلهم منها الإنسان جميع العبر. إنه الإنسان الذي يسعى بحرية إختيار كاملة مبنيّة على العلم والتجربة، فيخطأ ويغوي عن الطريق، ولكنه يجاهد نسفه فيرجع ويصحح مساره. ويبيّن الله تعالى هنا عصمة الإهتداء إلى الحق فيقول سبحانه (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)، فالعاصم إذن هو هدي الله سبحانه وتعالى، وأول ذلك هو الكتاب العزيز. وهكذا وضّح الله سبحانه وتعالى المنهاج وأقام سبيله، وتلكم هي أحكام الكتاب العزيز، والكتاب كما قلنا يأتي بمعاني، ومنها العهد والقانون والدستور، ولذلك استحق من خالفه العذاب العقاب.

 

 

3.     نموذج للأمة التي نقضت بالعهد (40-123)

 

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43۞ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (48)

 

وبعد أن عرض الله سبحانه وتعالى أسس الهدى وأصول المنهاج، وأنزل للمؤمنين الكتاب، بيّن الله سبحانه وتعالى نموذج ممن خالف هذا المنهج، ونقض بهذا العهد. إنها أمة بني اسرائيل، الأمة السابقة على هذه الأمة، ليكون هنا لقاء البناء والاستفادة بين الأمم الحاملة للعهد، وليبيّن لهم ما اختلفوا فيه، وليجدد لهم العهد بأن يتبعوا الرسالة الجديدة التي هي استمرار لما كان معهم. وأهم من ذلك كله أن يذكّر هذه الأمة بالأخطاء التي وقعت فيها الأمم السابقة فيجتنبوها.

والذي يقرأ الآيات الماضية يلحظ الشبة الكبير بينه وبين بداية سورة البقرة، الأمر باتباع الهدى والكتاب، والأمر بالصلاة والتذكير باليوم الآخر. ويلاحظ أيضا الإمتنان بالنعم والآلاء الكبيرة التي أولاها الله لبني اسرائيل، حيث اصطفاهم بالأنبياء والرسالة وفضلهم على العالمين. والنعم حقها الحمد والشكر، لا الجحود والكفر. والله سبحانه وتعالى يريد من بني اسرائيل ذكر النعم، لأن ذكرها يستجلب المحبة وسهل الطريق أمام الوفاء بالعهد، ولذلك نجد الآيات تطيل في ذكر النعم التي أولاها الله لبني اسرائيل.

وعلى المؤمن دائما أن يستذكر النعم، ولا يكتفي بمعرفتها قلبيا، بل يذكرها بلسانه وبحاله، وذكر النعم يشعر بفضل المنعم، وذلكم هو الحمد، وهو أصل الإيمان. فالحمد لله على نعمة الإيجاد، وعلى نعمة الإمداد، وعلى نعمه وآلائه التي تحصى، وعلى نعمة الهداية والتوفيق. والحمد أيضا قيمة أيمانية لا تستوعبها الإطروحات المادية، فلذلك فهي لا تذكر المنعم ولا تحمده.

 

وينبه القرآن هنا على جمع من الخصال التي اتبعتها بني اسرائيل فنقضت بها العهد، وعلى الأمة الإسلامية أن تتجنبها، ومن تلك الخصال:

1.     عدم ذكر نعم الله تعالى الكثيرة عليهم وكفرانها، ولذلك سحبت منهم الفضائل، فكانوا أهل الرسالة والنبوة، وكانوا المفضلين على العالمين، ولذلك قال سبحانه وتعالى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)).

2.     لبس الباطل بالحق، وكتمان الحق وأيات الكتاب، وتحريفه، وهذا الآن كثير في أمة الإسلام

3.     المماراة والمماطلة والتحايل على الأحكام، كما في قصة أصحاب السبت

4.     اللجاج والتمرد على الأحكام، كما في قصة البقرة

5.     توهم عدم العقاب

6.     قتل النفس وسفك الدماء

7.     الإيمان ببعض الكتاب وكفران بعضه

8.     اشتراء الدنيا بالآخرة، والحرص على الدنيا

9.     الاستكبار على الرسل، المبلغين لأحكام الله وشرعه، وتكذيبهم وقتلهم.

10.  قساوة القلوب، وغلظتها، وعدم سماعها للمواعظ.

11.  معاداة أولياء الله، ومعاداة الملائكة وجبريل عليه السلام.

12.  إتباع الأهواء والشياطين والسحرة، كما في قصة هاروت ومارت.

 

وهكذا تقيم هذه الآيات عليهم الحجج دامغة، فلا تبقي لهم حجة، ولذلك استحقوا الذلة والمسكنة، يقول الله تعالى (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61).

وهكذا هو مصير كل من تنكب عن صراط الله تعالى، فيقدم الإسلام هنا الدليل العملي التجريبي على هوان الأمة عندما تتنكب عن الدعوة والرسالة. والذلة قرينة الغضب من الله تعالى، وهي تحصل لمن تنكب عن الكتاب ونقض العهد. ويقول الله سبحانه وتعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ ۖ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)).

ويقول الله سبحانه وتعالى عن موقفهم من هذه الأمة: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109).

كما ويحذر الله سبحانه وتعالى في خضم هذه الآيات من منع ذكر الله في المساجد، ويبشر من يفعل ذلك بالخزي والذل، يقول سبحانه وتعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). (114)

إنّ الأخطاء التي وقعت فيها بني إسرائيل مرشحة جدا لأن تقع بها أمة الإسلام، لأن الشبه كبير بينهما، وذلك ما حذر منه الرسول الكريم، وحذرت من الآيات الكريمات أيضا حين ألتفتت إلى مشركي مكة (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118))، ولكنّا رغم ذلك نجد أن المسلمين اليوم يحتقرون اليهود ويرون أنفسهم بعيدين كل البعد عن هذه الأخطاء، وما هذا إلا غرور، وأهواء يبثها الشيطان، فعلى الأمة إذن أن تراجع هذه الخصال الواحدة تلوا الأخرى فتحاول جاهدة أن تتجنها، حتى لا يكون تأريخ الأمة الإسلامية تكرار لتأريخ بني إسرائيل في الغواية والضلال.

 

 

4.     نموذج لإتمام بالعهد، إبراهيم عليه السلام، (124-141)

 

۞ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

 

ويأتي هنا النموذج الثاني عن أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهو نموذج لإتمام العهد، ويتميّز هذا المثال بأن إبراهيم عليه سلام فرد واحد استطاع أن يقيم أمة، بل أمم من خلفه. وهذا هو المثال للشخص الناجح الذي يسعى لإحياء أمة، ولا شك أن الصفات التي تحلى بها، جديرة بأن يتمسك بها. وأهم صفاته عليه السلام هي التسليم لله رب العالمين ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) ). والتسليم هو المعنى الأعمق للعبادة.

وذكر نموذج إبراهيم عليه السلام يعني ذكر الجذور لهذه الأمة الإسلامية، وذلك ما تهدف إليه سورة البقرة، تعريف الهوية وربطها بجذورها، وجذور الأمة الإسلامية تمتد منذ إبراهيم عليه السلام، فهو الرمز الذي ترجع إليه الرسالات جميعا، ويربط هذه الأمة بمن سبقها من الأمم (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)). وهكذا نجد مسمى المسلمين يتردد كثيرا في أثناء هذه الآيات.

 

كما أن قصة إبراهيم عليه السلام تأتي بجذور الدعوة وبدايتها في مكة المكرمة، فهو الذي أعاد بنائها، وأقامها من جديد، ولذلك هنا توثيق لصلة بالكعبة الشريفة وبمكة المباركة، وبأهم أركان الإسلام، وهما الصلاة والحج.

 

 

5.     بلورة شخصية الأمة الوليدة (142-171)

 

۞ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)

 

وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى الجذور، إبراهيم عليه السلام، وبناءه للكعبة الشريفة في مكة المكرمة، واصل الحديث هنا بموضوع تغيير القبلة، وهذه الخطوة تبلور الشخصية الذاتية لهذه الأمة العظيمة التي أراد الله سبحانه وتعالى لها أن تكون واسطة العقيد بين الأمم. إنها مرحلة الولادة لهذه الأمة العظيمة في شرائعها ورسالتها ومهمتها. فأراد الله سبحانه وتعالى أن يكون لها كيانا خاصا بها، فلا تكون تبع للأمم، بل مستقلة بذاتها، ومعتزة بشخصيتها. وفي هذا تكريم لهذه الأمة العظيمة، وتكريم لرسولها الأمين. ولذلك يقول سبحانه وتعالى (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، ومن عجيب الأمور أن هذه الآية رقمها 143، وهي في منتصف سورة البقرة التي عدد آياتها 286.

والولادة لا تكون سهلة في العادة، فلا بد من الأختبار والابتلاء (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)، وعنصر الإبتلاء هذا كان حاضرا معنا منذ بزوغ قصة آدم عليه السلام. والتمحيص هو الطريق لمعرفة حقيقة الإيمان. ولذلك نجد هذه الآيات تقيم الحجة الداحضة على المنكرين والمترددين.

وتظهر هذه الآيات أهمية ومركزية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه الآيات أتت لترسخ علاقة المسلمين برسولهم الكريم، ليكونوا مصدقين له، وتابيعن لأحكامه عليه الصلاة وأزكى التسليم. وشخصية هذه الأمة مرتبطة بشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام.

ثم تتوالى الآيات لتذكر مغزى وهدف إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152). وبالإضافة إلى الهدي الرباني في الكتاب المنزل، فإن الرسول عليه السلام أرسل ليزكي المؤمنين، ويعطيهم من فيوض الكتاب والحكمة والعلم.

وجميع هذه الآيات تدور حول مفهوم العبادة، وأهمية الصلاة، وقد سمهاها الله سبحانه وتعالى هنا بالإيمان (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ). ثم يقول سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153). فالصلاة هي التي تعين على القيام بمهام الحق، وعلى قساوة الحياة وعنتها.

واتخاذ القبلة والتوجه إليها بالذكر يفتح الآفاق أمام التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)). إنّ الآيات هنا تتدعوا إلى التفكر من أجل الوصول إلى حقيقة أن الله موجود، ولا يكون إيمان من غير قناعة.

ومن أكبر العوائق التي تحول دون تقبل المشركين للدعوة الجديدة هو اتباع الآباء والأولياء، وليت الناس ترجع إلى ذاتها فتحلل وتتفكر بنفسها (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170).

 

 

6.     الشرائع والعبادات التي ترتكز عليها هذه الأمة الوليدة (172-254)

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173)

 

وبعد التمهيد والبلورة لهذه الأمة الجديدة تأتي هنا التفاصيل التشريعية اللازمة لقيامها والحفاظ عليها. إنها تفاصيل أحكام الكتاب والدستور والمنهج الإسلامي الجديد، وهكذا نجد أن جميع تفاصيل هذه السورة أتت لترسيخ مبنى هذا الكتاب والدستور، فجميع ما سبق إنما هو تمهيد له. وكل هذا تصديقا لقوله سبحانه في بداية السورة (الم (1ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) )، فالموضوع هنا موضوع هداية لهذه الأمة، وهدايتها لا تكون إلا بالتمسك بهذا الكتاب دستورا ومنهاجا.

إن التمهيد الذي سبق يدل على عمق الإعداد وسعته، فالتمهيد هنا تناول مواضيع فكرية عميقة، شملت تعريف الإنسان، ومهمته في هذا الأرض، ومعرفة الأسس الفكرية التي بُني عليها هذا الأساس، والقرآن هنا يأصل للتأمل ويدعو إلى التفكر في خلق الله. والتأصيل شمل أيضا دراسة النماذج والتجارب التي مرت بها الأمم السابقة، وبحث في الجذور الإيمانية الأولى التي قام بها إبراهيم عليه السلام في مكة مباركة. إنّ هذا التأصيل العميق ليبعث الأمة على تنحو نحوه، وتمشي على خطاه، فتبحث في الجذور، وتبني فكرها على التأمل والتفكر العميق الذي يرضي طوح الإنسان، وبهذا يتم القبول وتذهب الإشكالات.

ثم إنّا نجد أن التمهيد ينتهي بوضع الأحكام والشرائع الثابتة الراسخة التي هي وحدها يمكن أن تقيم بناء الأمة ونظامها، فالتغيير هنا جذري يتناول فلسفة الحياة جميعا، ويغيّر مبنى الحياة في انظمتها الإجتماعية والإقتصادية والسياسية وغيرها من نظم إنسانية معروفة. وهكذا نجد أن الأحكام التي جاءت في بقية سورة البقرة تتناول تقريبا جميع هذه الأنطمة المختلفة.

ففي الأنظمة الإحتماعية تناولت السورة أحكام المأكل والمشرب، وأحكام القصاص والوصية، وأحكام الزواج والطلاق والرضاع، وغير ذلك، وفي النظام السياسي تناولت السورة أحكام القتال، والولاء، وغير ذلك. وفي النظام الإقتصادي تحدثت عن الإنفاق، وعن خطر الربا، والبيوع، والرهن، وغير ذلك.

والآيات هنا أيضا تحدثت عن عدد من أحكام العبادات: منها أحكام الصوم، وأحكام الحج، وأيضا أحكام الصلاة. فالتشريع الإسلامي إذن يمازج بين العبادات والشرائع، فالعبادات ليست ترف روحي فقط، بل لها الأثر العميق في الحياة والتشريع، وذلك ما يميّز الدين الإلهي عن غيره من الشرائع المادية.

ومما يلاحظ في الطرح القرآني هنا الإهتمام بالبشر وظروفهم، فقد ظهرت الرحمة في التشريع، وظهر الإهتمام بأسئلة الناس واستفساراتهم، ولذلك أتت عدد من الآيات مسبوقة بقوله تعالى  يسأولونك، كمثل قوله سبحانه ( ۞ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (189).

والرحمة حاضرة في هذا التشريع، فنجد معظم أحكام التشريع تتبع بآيات التخفيف والرحمة، كمثل قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، فالتشريع الإسلامي إنما قائم على هذه الرحمة التي سبقت إليها الإشارة مع بداية سورة الفاتحة.

 

7.     الله هو الولي (255- 260)

 

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

 

أتت آية الكرسي وما تبعها من قصص ثلاث، تتحدثت عن الولاية والملك والإحياء والإماتة، في خضم الحديث عن الأحكام والشرائع، فقد سبقها الحديث عن أحكام القتال، وقصة طالوت مع جنوده، وتلتها آيات الحض عن الإنفاق ثم آيات أحكام الربا. وهذا التوسط يدل على أهمية هذه المعلومة وإعتماد هذه الأحكام عليها. الله هو الحي القيوم، القائم على تدبير كل شيء، له الإحاطة والعلم، وله ملك السموات والأرض، ولا يئوده حفظهما.

إن ملك الله سبحانه وتعالى للسموات والأرض وقيمويته عليهما، يدل أن الإنسان ليس له هذا الملك، ولا يستطيع التصرف بملك الله سبحانه وتعالى، وإنما الأحكام والشرائع هذه أتت لتبضط العلاقات مع هذا الكون الواسع، وخلافة الإنسان في الأرض إنما هي محكومة بهذه الشرائع والأطر، فالله هو الولي وقد خلق الإنسان ليقيم شرع الله فيه، لا لأن يتملك هو ذاته. فلا يظنن الإنسان أن بمقدوره أن يغير القدر، ويحكم التصرف، وإنما ذلك من اختصاص الله سبحانه وتعالى، ذلك لأن الإنسان يصيبه الزهو إن هو استطاع بسط شيء من سلطانه على الأرض، كما ويصيبه القنوط إن هو فشل أو تحدته الظروف، وكل ذلك لا يصح، لأنه يخالف كون أن الملك والقيّومية لله وحده، وما على العبد إلا التسليم لرب العالمين.

وكما أن الملك والقيومية له سبحانه، فكذلك بالنسبة للعلم والإحاطة، وهذا ما تقصر دونه كل المخلوقات، إنّ الفلسفة الإسلامية قائمة على أن الإنسان يبذل ويجتهد ويسعى من أجل إعمار الأرض والصول إلى الحقيقة، وهو في ذلك يخطيء ويصيب، وبذلك يتعلم، فالعلم التام إنما هو لله وحده. وينبه الله سبحانه وتعالى هنا على عباده المؤمنين،بأن قضية الأختيار أمر مقدّس في شرع الله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). فلا إجبار في القبول على دين الله سبحانه وتعالى، وإنما ذلك بالقناعة والتفكر والتعلم.

وهكذا يظهر مناسبة هذه الآيات مع آيات الأحكام، وخاصة بعد آيات القتال. ذلك لأن المسلم معرض لأن يخطيء ويصيب، ولذلك فعليه دائما أن يتذكر أن الخير فيما وضعه الله من أحكام، فهو سبحانه وتعالى المالك والقيوم والعليم والمدبر لشؤون هذا الكون جميعا، فلا شك أنه يعلم ما يصلحه وما لا يصلحه. وسورة البقرة عموما تعطي الخلافة للإنسان لإعمار هذه الأرض، ويأتي هنا التذكير بأن الإنسان خليفة لله سبحانه وتعالى في أرضه، ولكّن الملك الحقيقي إنما هو لله وحده فاطر السموات والأرض.

 

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

 

نعم إن الله سبحانه وتعالى أنزل الشرائع والاحكام، كما وقد أبان عن المنهج وبيّن السبيل، فأقام الحجة على عباده، من شاء منهم فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولكنّ لكل شيء طبيعة، فهناك الحق والباطل، وهناك الظلام والنور، وهنا يتبيّن الرشد من الغيّ، والحق من الضلال، فليختر الإنسان إذن مكانه وموضعه. هل يكون من حزب الله المتمسكون بالعروة الوثقى، أم من حزب الضلال والطاغوت. وليعلم عندها أن لكل طريق نهاية، ولكل مسير غاية، ولكل سعي جزاء يناسبه. إن سورة البقرة تجلي فلسفة العبادة بأعمق مستوياتها، وتربط الإنسان بالمعاني السامقة في أوضح سبلها. والإنسان إنما هو في مهمة من الله سبحانه وتعالى من إجل إعمار الأرض وإقامة الشرع أو الهدي الذي اختاره الله سبحانه وتعالى للإنسان، فهو إذن حامل لرسالة ربانية،  ذلك لأن هذا الشرع يهدي للنور ويقوّم أحوال بني آدم ويسوس أحوالهم ومصالحهم بما هو خير لهم. لذلك فليس بعده إلا ضلال وإتباع للطاغوت. إنّ دين الله سبحانه وتعالى وشرعه هو دين الفطرة، ودين الرحمة، ودين القيّم السامية الرفيعة. فمن ذا الذي يتنكب على ذلك ويكفر به.

 

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)  أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

 

وهنا أمثلة على هذه التنكب، فهذا الملك أصابه الغرور، عندما بسط الله له فأعطاه شيء من الملك، فأراد أن يتجاوز ذلك إلى أمور لا يستطيعها، فالإحياء والإماتة إنما هي من أمر الله وحده، ولا يستطيعها الإنسان بحال. وهكذا هو أيضا حال ذلك الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، استهزء بقدرة الله على الإحياء والإماتة، فأراه الله قدرته في ذاته وفي حماره. إنّ على الإنسان أن يعلم حدوده، فالله سبحانه وتعالى وحده القدير والعليم والولي، ولا يصح للإنسان المخلوق أن يتجاوز هذه الحدود، ولا يستطيع على ذلك. فلتكن هذه الحدود إذن واضحة للمسلم، فيستشعر منه القصور أمام قدرة الله وعلمه. ولا يمنع بذلك بحال من التواضع وطلب العلم من الله سبحانه وتعالى في هذه المسائل، فمن أراد العلم علمه الله، ومن أراد السخرية أو رام تجاوز هذه الحدود فإن الله قدير عليه. ولم يكن إبراهيم عليه السلامم طالبا في سؤاله إلا سكون القلب وطمئنيته، وتلك حاجة يقدرها الله سبحانه وتعالى، يقول الله سبحانه وتعالى في حق إبراهيم الخليل عليه السلام:

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260).

 

 

8.     الحظ على الإنفاق وأحكام المال (261-283)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) ۞ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ  (263)

وبعد أن تبيّن أن الملك والقيّومية لله سبحانه وتعالى، وما الإنسان إلا مستخلف في هذا الملك وأمين عليه، فلما إذن يشح بما فيه يديه، ولا ينفق، إن الإنفاق هنا تصديق عملي لهذه الحقيقة الوجودية. وقد حض الله سبحانه وتعالى كثيرا على الإنفاق في سورة البقرة، ووعد المنفقين الجزاء الكبير، فالمعطي في الدنيا يضاعف له العطاء أضعافا كثيرة في الدنيا والآخرة، والله سبحانه وتعالى يقول (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)) آل عمران. ويقول عز شأنه (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39))، فهنا وعد بأن الله يخلف المنفق، وهذا من ميزة الإنفاق، فمن أنفق لله عوضه الله، وما أربح التجارة مع الله سبحانه وتعالى.

وهذه الآيات هنا مرتبطة بأول سورة البقرة، فكما ذكرنا سابقا أن السورة تدور حول ثلاثة محاور، هي الهداية والعبادة والإنفاق. والإنفاق هو دليل تحقق الإيمان عمليا، فإذا اهتدى الإنسان فعرف ربه حق المعرفة، فإنه يقبل إليه بالطاعة والعبادة والمحبة، ثم إذا تحقق ذلك، بذل من نفسه وماله من أجل هذه الدعوة الكريمة. ولذلك فالإنفاق مجاله واسع، فهو في المال كما في الجاه والسلطان، وفي تقديم العلم النافع والإرشاد وغيره، فالإنفاق سبيل لشكر النعم وحمدها، ولا يكون الحمد إلا بنسبة هذه النعم لله سبحانه وتعالى، ثم بالبذل والعطاء منها.

والأنفاق مرتبط أيضا بالغيب، فالمنفق يعطي المادي المحسوس، وينتظر الغيب المرجو من الله المقدر المعطي، ولذلك يكون جزاء العطاء من ضروب الغيب، فلا يحيط به المنفق ولا يعلم مصدره، وأول ذلك التوفيق والتيسير من رب العباد. ومن ذلك أن المنفق تأتيه فيوض الرحمات، ويؤتي الحكمة ويسدد في أفعاله وأقواله. ذلك لأن الإنفاق دليل الإيمان، ومن أوتي الإيمان فقد أوتي خيرا عظيما.

والآيات هنا وكما ذكرنا سابقا استمرار لموضوع الأحكام والشرائع، فقد توسعت الآيات في ذكر أحكام الأموال في موضوعي الربا والرهن وغير ذلك من أحكام، وذلك هو هدف سورة البقرة التوسع في ذكر أحكام الكتاب وشرائعه.

 

 

9.     الخاتمة بالدعاء وطلب العون على هذه المسؤولية العظيمة (284-286).

 

لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

 

وهنا خاتمة لهذه السورة العظيمة، وفيها تذكير بأن ملك السموات والأرض لله حده سبحانه وتعالى، ثم أنك أيها الإنسان وقد أخذت الكتاب والأمانة، وقد قامت عليك حجة الخلافة والعهد مع الله سبحانه وتعالى، فأعلم أنك محاسب على ذلك. وأعلم بأنك لست وحدك في هذا الطريق، بل هو طريق الرسل والمومنين جميعا، فلا تصيبك الوحشة فيه، ولكن إعلم أنه طريق الفضل وطريق الخير والنور. وكعادة الآيات جميعا حينما تتجلى بقيمة الرحمة، فإن لله سبحانه وتعالى هنا يستثني ويقول (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).

ثم تختتم هذه السورة بالدعاء، فالله وحده المعين على تحمل هذه المسؤولية، فليطلب المؤمن منه العون والتوفيق والتيسير.( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق