السبت، 20 فبراير 2016

أطوار العلم

الدين المعاملة، والحياة السعيدة الناجحة هي في النفس المشرقة بالخير، الناشرة للنور، المتحدية للصعاب بجنان ثابت، ومبادئ لا تتزعزع، تجالد الباطل بقلب غير متكدر بعوالق النفس وأمراض القلوب، منطلقها غرس القيّم والخير، ونشر مبادئ الألفة والمحبة بين الناس.

نتحدث هنا عن أصل المواضيع لدى الإنسان، عن فكره ومنطلقات هذا الفكر، وعن سعيه ومنطلقات هذا السعي، وعن خلقه، وسمته ومنطلقات هذا الخلق.

ونحن عندما ننطلق في هذا المجال، مجال جديّة السعي لإعمار الدنيا والآخرة، ولنيل السعادة في الدارين، تقف أمامنا منظومات معرفية كثيرة، كل يدلي بدلوه لإنارة هذا الطريق.

وهذه المنظومات المعرفية تتكامل فيما بينها ولا تتصادم، لتقدم لنا الحلول التي ينبغي اتخاذها ونحن نمضي في هذا الطريق.

وهذه المنظومات المعرفية ليست دوائر منفصلة لا إتصال بينها، ولكنه لا شك أن لكل منها منطلق ومجال تمضي فيه، ونريد هنا أن نستكشف هذه الدوائر معا، لعلنا نجد مبتغانا الأصلي في كيفية إنارة هذا الطريق الذي نسلكه.

وتتعدد هذه المنظومات المعرفية، في مجالات للفلسفة، والفكر الإنساني العام، وهناك مجالات للعلوم المختلفة، سواء ما تعلق منها بعلوم الطبيعة أو الإنسانيات، ولعل أهم هذه المجالات هو الدين، الذي يهدي الإنسان ويقدم له رؤية واضحة المعالم لما نحن نصبوا إليه.


ونحن إذ نبدأ في تلمس معالم هذا الطريق الشائق والشائك لأدرى بأدواتنا القاصرة، وفكرنا العابث غير الناضج، ولكنها محاولات تروم الوصول وإن لم تصل، وتبحث عن الحق وتسعى من أجله، والله نسأل أن يهدينا إلى الحق وإلى صراط مستقيم.

ولعلنا نبدأ بداية في طرح موضوع التركيب والتكامل هذا، والذي جعلناه منطلقا لهذا الموضوع.

والتركيب والتكامل هي حقيقة ماثلة في كل أرجاء الكون، وهو مبدأ راسخ يعمل عليه، أنظر إلى جسم الإنسان، إنه يتركب من أجهزة مختلفة كل يعمل في مجاله، وتتكامل هذه الأجهزة، فيما بينها لخدمة هذا الإنسان.

وكذا كل العلوم المختلفة تتكامل فيما بينها لتبحث في مجالات مختلفة، لذلك وجد التخصص حتى في فروعها.  ولا يبعد حال الفلسفة عن هذا، وهي وإن كانت أم العلوم، إلا أنها تبحث في مجالات معيّنة سوف نعرّج عليها بإذن الله عند الحديث عنها.

كما أنّا سنبيّن بإذن الله تعالى أن هذا التركيب والتكامل يأتي حتى في نسق الدين ذاته.


في حدود العلم

نتابع أخوتنا الأفاضل في موضوعنا السابق، ونحاول هنا أن نعطي شيئا من التميز لموضوع العلم، محاولين أن نظهر ما يمكن للعلم أن يتحرّاه وينظره، وما لا يستطيعه ولا يدّعيه.

وقد يتسائل البعض وهل للعلم حدود، والجواب نعم للعلم المعروف اليوم حدود منهجية ينبغي أن نقف عليها حتى تتميّز الأمور معنا وتتضح.  وليس في هذا انتقاصا من العلم وشأنه، ولكنه صياغة لعقلية واعية تعرف حدود العلاقة بين العلم والدين.

والمقصود هنا هو العلم المادي المشهور والذي سبر أغوار المادة وأخرج ما أودع الله فيها من مكنونات.

ولا شك أن العلم المادي اليوم يدور في إطار المادة وصفاتها، فهو يبحث في المحسوسات التي تدخلها الملاحظة والقياس، فلا يمكن لأمر أن يأطره العلم حتى يكون محسوسا يمكن أن يُتحكم فيه بالتجارب فيقاس ما يؤثر فيه أو يتأثر به.

إنه إذن عالم الحس، فلا يبحث فيما وراء الحس، وهو عالم الطبيعة ولا يبحث فيما وراء الطبيعة، فذلكم من تخصص الفلسفة والأديان.

والعلم أصالة يبحث في إجابة السؤال التالي: كيف تعمل الأشياء، ولا يبحث في لماذا تعمل هكذا، فهو لا يسأل عن الغايات، بل يبحث في آليات العمل، وتسلسله، فهو يبحث في صفات الأشياء;  كيف ينمو الشجر، وكيف يحدث الثمر، وهو لا يدري عن الأسباب الغائية لذلك كله.  قد يبحث كيف تتحرك اليد أو القدم، أمّا لما تتحركان هكذا، فليس ذلكم تحت منظوره.

وقد يبحث في الصوت وأمواجه، أمّا أن يفسر كيف يمكن للمنشد أو المغني أن يجعل تلكم الأمواج ألحان شجية تثر الإحساس والوجدان، وتبعث على الفكر والخيال، فليس ذلك تحت تفسيره.

إن التفسير الغائي هو ما يميّز الدين أو الفلسفة، فالله سبحانه وحده ساق المطر، وهيء له الظروف حتى ينزل، ودبر له الريح لتسوقه إلى أرض اليباب، فتسقي البهائم والإنسان والشجر. وما الأسباب المادية من حرارة وضغط وجبال، إلا عوامل مادية قد تفسر جانب كيف حدث هذا المطر، ولكنها بالطبع لا تلغي السؤال الغائي في حكمة ذلك كله.



أطوار العلم:  البدايات

حاولنا سابقا التمييز بين مجالي العلم والفلسفة، وهو أمر ينبغي الوقوف معه بشكل أكبر، وعسى أن يتضح هذا التفريق أكبر ونحن نمضي في هذا الموضوع.

كانت البداية المعرفية للإنسان بداية فلسفية، حيث أنه بحث في الأسئلة الوجودية، ما الوجود، وكيف وجد، ومن أوجده، وعن الإنسان وماهيته، في رحلة فلسفية سوف نتطرق إليها لاحقا بإذن الله تعالى.

ونريد اليوم أن نبدأ في الرحلة الشائقة الممتعة للعلم وأطواره، فإن فيه من الفوائد العظيمة ما لا يحصى ولا يستقصى، ففيه من المعطيات المعرفية ما لا يمكن تجاوزه لمن أراد أن يكون ابن عصره ووقته.

وأول العلوم الإنسانية الرياضيات، وهو ما زال لليوم صلب المادة العلمية كلها.  وتعتبر الرياضيات أيضا الملهم العقلي لعلم المنطق، ذلك لأن الرياضيات تتمتع بالوضوح والتسلسل.

أما فيما يخص الطبيعة فكان العقل الإنساني الأول يبحث المادة وخصائصها، وكان يبحث عن المكون الأول لها، وأصغر ما تتكون منه، الجزء الذي لا يتجزأ، وتلكم هي الذرة. وكان الإنسان أيضا يبحث في الفلك والهندسة والصناعة.

وقد قسم العقل البشري الأول المواد إلى أربع مواد أساسية، هي الماء والهواء والنار والتراب، وأن لها أربع خصائص هي الرطوبة والحرارة والبرودة واليبوسة، وظلت هذه النظرة حاضرة إلى أن تشكل العلم الحديث، وذلكم ما سوف نطرقه بإذن الله في الموضوع القادم.


أطوار العلم:  نيوتن والميكانيكا الكلاسيكية

العلم بطبيعته تراكمي، ولكن به تقاطا فاصلة يمكن أن ترسم لحقبة علمية معينة، ولا شك أن من تلك الحقب، حقبة الميكانيكا الكلاسيكية التي دشنها نيوتن، وإن كان قد بنى على من سبقه من أمثال جاليليو وكبلر.

استطاع نيوتن ( 1727- 1642) سبر أغوار المكانيكا، أو قوانين الحركة والسكون، ففسر حركة الأجسام وتناسبها مع القوى المؤثرة عليها، وعرّف طاقة الحركة، وطاقة الوضع الكامنة في الأجسام، وأوضح قوانين السرعة والتسارع والشغل وغيرها.

كما إنه أكتشف الجاذبية الأرضية ووضع قوانينها، فاستطاع بقوانينه الثابتة أن يفسر حركة الأجسام وحركة الأجرام، والتجاذب وغيرها.

إن القوانين التي أتى بها نيوتن شكلت عالما واضحا تحكمه القوانين من كل جانب، فاستطاع أن يقرأ كتاب الطبيعة بوضوح تام، فلذلك سمي نتيجة لذلكّ بعالم نيوتن.

ويقوم مبدأ التفسير عند نيوتن فلسفيا على قانون السببية والحتمية، فكل شيء إنما يتبع قانون معيّن، فإذا عرفت ذلك القانون أمكنك التنبؤ بمآل الأمر كله، فلذلك نادى بعضهم أنه إذا علم القوانين كلها والمدخلات كلها أمكنه التنبؤ بتاريخ كل شيء.

وتتميّز قوانين نيوتن بكونها قوانين مطلقة وثابتة على الصغير والكبير، وهذا ما سوف يكثر حوله الكلام لاحقا.

وهي قوانين أزلية شاملة يتبعها كل شيء، وهي ولا تتأثر بالمراقب مطلقا لأنها حقائق ثابتة، وهذا أيضا سوف يوقف معه كثيرا.

وما يميّز قوانين نيوتن أنها سهلة بسيطة ظاهرة، لذلك تشربتها قلوب الناس والعلماء وبعضهم توقف معها تماما، ولكن العلم استمر في التطور ليرسم مراحل أخرى لاحقة سوف نقف معها سريعا فيما يأتي بإذن الله تعالى.


أطوار العلم:  النظرية النسبية الخاصة لأنشتاين

استمرت الميكانيكا الكلاسيكية التي أنشئها نيوتن زهاء 200 سنة قبل أن يأتي أنشتاين سنة 1905 ليغير في حقائقها وجوهرها.

وأهم ما يميّز الميكانيكا الكلاسيكية هي صفة الحتمية، حيث أنها تتصور أنه إذا عرفت القوانين الحاكمة أمكن التنبؤ بالمستقبل، فيصبح المستقبل عندها معلوما كالماضي، فالذكاء إنما هو في معرفة هذه القوانين الحاكمة.

ليأتي بعدها أنشتاين ليقول أنه لا يوجد شيء ثابت في الكون، وإنما كل شيء نتحرك، وهذه القياسات التي نأخذها إنما هي نسبية، فالمكان الذي كنا فيه مع بداية قراءة هذا المقال هو ليس بالمكان الذي سنكون فيه عند نهاية قرائته، وهكذا تبيّن النظرية النسبية انه لا يوجد شيء مطلق، وإنما كل شيء بالنسبة لنا نسبي.

وإذا كانت الأبعاد قبل أنشتاين ثلاثة، فإن أنشتاين يضيف بعدا رابعا، هو الزمن، ويبيّن أن جميع هذه الأبعاد نسبية، بما فيها الزمن، فالنجوم التي نراها اليوم قد تكون أختفت، فنحن لا نراها في زمنها الحقيقي.

وينطلق أنشتاين في نظرته النسبية هذه من منطلقين، أن كل شيء في الكون يتحرك، وأن سرعة الضوء ثابته، وهي السرعة القصوى في الكون، وقد أُثبت ذلك بدراسة الأجرام والنجوم.


وإذا أردنا التلخيص، فإن النظرية النسبية الخاصة تتكون من خمس قوانين.

1-
إنكماش الأبعاد
إذا كنت راكبا في سيارة تسير بسرعة عالية جدا تقترب من سرعة الضوء، وقابلتك سيارة تسير بنفس السرعة بالاتجاه المعاكس، فإنك في الحقيقة لن تستطيع معرفة السرعة الحقيقية للسيارة، فلا بد من مراقب خارجي لمعرفة سرعة السيارتين، وإذا أردت معرفة السرعة المطلقة فلابد من وجود مراقب خارج نطاق الكون الذي يتحرك.

بالنسبة لك في السيارة، فسوف ترى السيارة القادمة تسير بسرعة مضاعفة، وفوق ذلك فقد أثبت أنشتاين، فإنك سوف ترى السيارة أصغر حجما مما عليه، فالأبعاد سوف تنكمش لديك عند هذه السرعات العالية.

2-
قانون ازدياد الكتلة
وفي صرخة أخرى أمام الميكانيكا الكلاسيكية، فإن السيارة القادمة ستكون أقل كتلة بالنسبة لك! ، وقد أثبتت التجارب أن الجسيمات الصغيرة تتضاعف كتلتها في السرعات العالية، فالكميات إذن كلها نسبية.


3-
قانون جمع السرعات
وهذا تفسير علمي لكون أن سرعة الضوء هي الأعلى، ولا توجد سرعة فوقها.

4-
قانون تحول الكتلة إلى طاقة.
فهناك إذن علاقة بين الكتلة والطاقة، وتلكم هي فكرة القتبلة الذرية، حيث تتشظى النواه، محولة بعض الكتلة إلى طاقة.

5-
تباطئ الزمن
الزمن إذن بعدا غير ثابت، وهو يتباطئ عند السرعات العالية، فإذا سافر شخص بسرعة الضوء ثم رجع، سوف يكون الناس في الأرض قد مضى عليهم وقت أطول مما مر عليه.

وهكذا يقضي أنشتاين على القيم المطلقة بنظريته النسبية هذه، ثم يأتي بعد عشر سنوات بالنظرية النسبية العامة، في خطوات أخرى لتطور العلم.


أطوار العلم:  النظرية النسبية العامة لأنشتاين

في سنة 1915 ظهرت النظرية النسبية العامة لأنشتاين، والتي أكملت ما بدأته نظريته النسبية الخاصة، وإذا كانت النظرية النسبية الخاصة تتحدث عن الحركة المنتظمة، فإن النظرية النسبية العامة تضيف قوة الجاذبية إلى الموضوع، لتكون الحركة متسارعة، وذلك ما يمثل حقيقة الكون.

لقد أتى أنشتاين بتعريفات جديدة للأبعاد، ولم يعد الزمن ثابتا في الكون، ولا السرعة مفتوحة دون حدود، فكان عليه لزاما إذن أن يشرح الجاذبية الكونية بما ويتناسب ونظريته الجديدة.

ويربط أنشتاين بين بعدي الزمان والمكان، فيجعلهما متلازمين، فلا يوجد مكان دون زمان، ولا يوجد زمان إلا في المكان، فهما أمريين نسبيين، ليسا مطلقين، كما كان يُظن، وقد سمي ذلك  "الزمكان". ولا شك أن لهذه النتيجة بعدا فلسفيا ودينيا، كما لا يخفى.


ويرى أنشتاين أن النظرية النسبية الخاصة يمكن أن تطبق في الفراغ المفتوح، حيث لا جاذبية للأجرام المختلفة، أمّا مع وجود الأجرام، فلا بد من وجود الجاذبية الشديدة لهذه الأجرام، والتي يمكن أن تغير في مستويات الزمكان، فتكون مستويات محدبة بدل أن تكون مستوية، فيستطيل فيها الزمان والمكان.

ولمعرفة المستويات المحدبة وتعقيداتها، نضرب مثالا بسطح الكرة مثلا، فإنه سطح غير مستوي، وإنما هو سطح محدب، فلذلك إذا رسمت مثلثا على سطح المثلث فإن مجموع زواياه سوف تكون أكبر من 180 درجة!، ذلك لأن الهندسة المعروفة، والتي تعودنا عليها تكون على أسطح مستوية.

والبعد الخطي على سطح الكرة يعطي خطا أطول مسافة، مما لو كان على سطح مستوي، وهذه هي فكرة الإستطالة في بعد الزمكان، لأنها ناتجة من تحدب المستويات قريبا من الأجرام، وذلك نتيجة لقوة الجاذبية.

لذلك تجد مسارات الضوء بجنب هذه الأجرام غير مستقيمة وإنما محدبة، بفعل الجاذبية.

وقد أثبت ذلك عمليا في عام 1919 عند حادثة كسوف الشمس والتي نقلتها وسائل الإعلام، فقد أمكن حساب تحدب مسارات الضوء الناتج من النجوم التي هي في تعامد على الشمس، فقد جذبت الشمس تلك المسارات، وقد نال أنشتاين شهرة كبيرة بعد هذه الحادثة.

الكون إذن كله مجالات مختلفة للجاذبية، ومسارات الضوء تتأثر بذلك، فأمكن ذلك من سبر أغوار الكثير من حقائق الكون، فعرفت الثقوب السوداء التي تمتص الضوء  كاملا، وقد أمكن أيضا معرفة كتلة هذه الأجرام، في تطبيقات أخرى كثيرة لخرائط الجاذبية هذه.



أطوار العلم:  مراحل استكشاف الذرة

مع بداية القرن الثامن عشر أرسى إسحاق نيوتن دعائم الميكانيكا الكلاسيكية، والتي كان عمادها الأجسام الكبيرة وحركتها، شأنها في ذلك شأن النظرية النسبية لأنشتاين، إلا أن العالم الذري كان له قول آخر، وتحديات أخرى أمام الميكانيكا الكلاسيكية التي ظنت أن قوانينها تنطبق على العالم الكبير والصغير.

ومن التحديات التي واجهت الميكانيكا الكلاسيكية في هذا الجانب الإشعاع الحراري وصفات الضوء، حيث وجد أنه لا توجد هنا استمرارية في الإشعاعات، فلا تتصرف المواد هنا بعلاقة نسبية وحتمية كما كانت تقرر الميكانيكا الكلاسيكية، بل بحزم كمية كما سوف نرى بإذن الله تعالى.

ولنبدأ مع التصور المبدئي للذرة، فقد كانت كرة صلبة بحسب التصور الذي وضعه دالتون (1824-1766)، ثم لما أكتشف جوزف تمسون الالكترون في عام 1897 طور النموذج ليكون بشكل بطيخة، بذورها الالكترونات.

ثم في عام 1907 قام رذرفورد بتجربته الشهيرة على رقاقة الذهب، وذلك بعد أمد من إكتشاف الأشعة السينية في عام 1895، مستخدما قذائف ألفا في التجربة، ليظهر أن الذرة تتكون من نواة موجبة والكترونات سالبة تدور حولها، في نموذج يشبه النظام الشمسي، لتبدأ بعدها مرحلة تعريف العناصر والمركبات، والبروتونات والنيوترونات، وليقف بعدها علم الطيف الضوئي بمثابة المفتاح لهذه الحقائق.

وأول الأسئلة المهمة هنا، لماذا لا يتصرف الطيف بشكل مستمر، بل متقطع؟، ولما لا تؤثر شدة الضوء لتحفيز الالكترونات، بينما تتحفز فقط عند أطوال موجية معينة؟

ليأتي بعدها بلانك ونيلز بور من بعده ليكتشفا المدارات المحددة للإكترونات التي تدور فيها فقط ولا تدور في غير ذلك، وأن كل مدار يحتوي طاقة معينة، وأنه لكي ينتقل من مدار إلى آخر لابد من تردد معيّن فقط. ولا يستجيب الالكترون الا بذلك، ثم أن كمية الضوء المطلقة عند انتقاله إلى مدار أقل طاقة هي كمية محددة تسمى الفوتون، يحررها الالكترون على شكل طاقة أو ضوء. وكذلك يحتاج إلى نفس الطاقة لكي يذهب إلى مدار أكبر في الطاقة، وهذه هي الانطلاقة الأولى لنظرية الكم.

وبعد أن تم ذلك وظُن أنه تم تفسير الاشعاعات والضوء، وجد أن هذا لا يكفي لتفسير الظواهر كلها، ليقفز السؤال عن طبيعة الضوء في منحنى جديد يؤسس لنظرية الكم، وذلك ما سنبحثه في الموضوع القادم بإذن الله تعالى.


أطوار العلم:  طبيعة الضوء

يعتبر الضوء من الألغاز التي حيرت العقول لفترة طويلة، والسؤال عن طبيعته كان تحديا حيّر المكانيكا الكلاسيكية وذلك كما سوف نرى لإجتماع الصفات الجسمية والموجية فيه.

كان نيوتن يعتبر الضوء جسيمات صغيرة، ذلك لأنه لا يمكن للموجات أن تنتقل إلا في وسط مادي، كأمواج البحر والصوت تنتقل في الماء أو الهواء، ولا يوجد وسط في الفراغ الكوني.

ولكن معاصره هويجنز كان يرى بأن الضوء عبارة عن موجات لوجود صفات موجية، فعندما يلتقي شعاعان لا يصتدمان، وإنما كل يكمل طريقه، كما تفعل الأمواج، لذلك قيل بأن هناك وسط في الفراغ يسمى الأثير.

ثم حدد ماكسويل (1879-1831) المعادلات الرياضية التي تحكم حركة الضوء، ليسقط نظرية نيوتن في أن الضوء عبارة عن جسيمات.

إلا أن نظرية وجود الأثير أسقطت أيضا رياضيا بمعادلات مايكلسون ومورلي في عام 1887 بأعمالهما التي أيضا حددت سرعة الضوء بحوالي 300 ألف كم في الثانية.

وظلت هذه الفكرة، أن الضوء عبارة عن أمواج، إلى أن جاء أنشتاين ليثبت أن الضوء عبارة عن جسيمات، سماها الفوتونات، وهو ما تطرقنا إليه سابقا في بنية الذرة، وقد أخذ تبعا لذلك جائزة نوبل في سنة 1921، ولم يأخذها عن النظرية النسبية كما يظن البعض.

ثم أتى دي بروي الأمير الفرنسي الشاب ليقرر رياضيا بأن الضوء عبارة عن جسيم وموجة في نفس الوقت.

وبينما ظل نيلز بوز يعارض هذا التوجه، قام ألبرت أنشتاين بالبناء عليه، ليثبت بعدها بحين أن الأجسام كلها تتحرك بشكل موجي، إلا أن هذا الحركة الموجية لا تظهر في الأجسام الكبيرة لصغر الموجة، ولكنها تظهر في الأجسام الصغيرة.  وفي عام 1920 اقتتع بور بالطبيعة الثنائية للضوء، ليشكل هذا التصور الجديد صفحة أخرى غريبة من صفحات العلم الحديث، كما سوف نرى بإذن الله في الموضوع القادم.



أطوار العلم:  نظرية الكم 1

كان العالمان الكبيران، الألماني ألبرت أنشتاين والدينماركي نيلز بور هما المتصدران لعلم الفيزياء مع بداية القرن العشرين، وإذا كان أنشتاين أخذ جائزة نوبل عام 1921 عن إثباته لطبيعة الضوء الجسمية، وذلكم هو الفوتون، فإن نيلز بور أخذ جائزة نوبل عام 1922 لتطويره لنموذج الذرة وتحديده لمدارات الإلكترونات.

وقد أنتهت أبحاثهما لإثبات الطبيعة الثنائية للضوء، فهو مادة وموجة، لكن للموجة صفات لا توجد في المادة، وأهمها التحيّز، فهل الجسيمات الصغيرة متحيزة تبعا لصفاتها المادية، أم هي غير متحيزة تبعا لصفاتها الموجية، هذا هو اللغز الأكبر، أو لنقل أول الألغاز التي أتت مع نظرية الكم.

كان بور يثبت صفة عدم التحيّز للجسيمات الصغيرة، وتابعه على ذلك هايزنبرج الذي أدخل حساب المصفوفات ليثبت هذا في عام 1926، وليوجد ما أسماه قانون الإحتمال، والذي ينص على أنه لا يمكن التنبؤ بموضع الجسيم وسرعته وطاقته إلا بعد قياسه، أما قبل ذلك فمن المحتمل أن يكون في أي موضع.

ثم أتى شروينجر في نفس العام تقريبا ليزيد الأمر وضوحا، وليثبت قضية الإحتمال هذه، فإذا كانت الميكانيكا الكلاسيكية يمكن لها أن تتوقع موضع الجسم إذا عُرف اتجاهه وسرعته، فإن نظرية الكم لا تدعي هذا، بل تقول من المحتمل أن يكون في أي موضع، في صفات أخرى غريبه سوف نعرض عليها لاحقا بإذن الله.

وقد قام أنشتاين بمخالفة هذا تماما، فكثرت المناظرات والأوراق العلمية التي وجهها لبور ومن تبعه، وكان يقول "إن الله لا يلعب بالنرد" فكان بور يرد عليه"إنك لا تستطيع أن تفرض على الله كيف يتصرف في العالم".

وسوف بإذن الله نقوم في الموضوع القادم بعرض بعض التجارب التي أثبتت صحة نظرية الكم.


أطوار العلم:  نظرية الكم 2

أنتهينا سابقا إلى سقوط مبدأ السببية في عالم الجسيمات الصغيرة، ليحل محلها مبدأ الإحتمالات. ونبدأ في عرض بعض التجارب على ذلك.

تجربة الشقين:
إذا قمنا بإرسال إشعاع جسيمي على شقين ضيقين جدا، ثم وضعنا خلفه فيلم فوتغرافي حساس ليخبرنا أين سيقع الجسيم، فإننا سوف نجد التالي.

سوف نحصل على أشرطة بيضاء عمودية متباعدة، وهذا يدلل على صفة التداخل بين الجسيمات، فهي تتصرف بشكل موجي.

وهذا يمكن تفسيره إذا أرسلت شعاعا من الجسيمات، ولكن الذي لا يمكن تفسيره أن هذه الخطوط البيضاء أيضا تظهر إذا أخذنا نطلق الجسيم الواحد تلو الآخر، فهناك شكل موجي، ولكنها تتداخل مع ماذا؟!

وجد أن هذه الجسيمات يمكن التنبؤ بتصرف مجموعة كبيرة منها، ولكن لا يمكن التنبؤ بتصرف أي واحد منها، فكأنها تعمل في فريق!، توجد إحتمالات لمعرفة أين سيقع كل واحد منها، فالاحتمال كبير أن تقع في الخطوط البيضاء القريبة من الشق، ويقل الإحتمال اذا ابتعدنا عن موضع الشق.

إذن هنا على الأقل ظاهرة واحده غريبة، وهي أن تصرف الجسيم يمكن أن يحسب بالاحتمالات، لا بالحسابات الميكانيكية العادية، على أنه أيضا من الملاحظ أن الجسيمات تتصرف كمجموعة.

ثم إنه لا يعلم من أي شق تدخل الجسيمات، وقد قام هايزنبرج بعملية غلق أحد الشقوق، وفتح الآخر، وذلك لكي يرصد كيف يحصل هذا التداخل الموجي، ليتفاجئ أن الجسيم عندها ينطلق كالرصاصة من الشق المفتوح، ليتصرف كجسم لا كموجة!.

وبعد أن أثبت ذلك، أتى بمبدأ عدم التأكد أو قانون الاحتمال. فلا يمكن تحديد موضع الجسيم من أي شق دخل، وإذا حصل ذلك فقد الجسيم صفاته الموجية.


أطوار العلم:  نظرية الكم 3

لا شك أن التجربة الماضية، تجربة الشقين الشهيرة، قلبت الطاولة على الميانيكا الكلاسيكية بالكامل. وقد طورت هذه التجربة كثيرا لمعرفة ماذا يحصل للجسيم بالضبط.

فبدل غلق الشقوق، غيرت التجربة ليكون هناك جهاز يلتقط ويرصد حركة الجزئ أثناء دخوله من الشقوق.

وحدث هنا الأمر العجيب الآخر، وهو أن الجسيمات تتصرف كمادة عند الرصد، فلا أمواج ولا تتداخل!، نقل الراصد من موقعه قبل الشق، ليكون بعد الشق، فكان الأمر سيان، فهل يتحكم الراصد في صفة الجسيم!.

فعندما يغلق الراصد تتصرف الجسيمات كموجة، وعندما يفتح تتصرف كمادة.

عندها قاموا بفتح الراصد بعد أن يعبر الجسيم الشق، فوجدوه يتصرف كمادة!، وهذا ما سمي بمدأ التراكب، superposition.

حيث كأن الموجة هنا تتراكب لتخبرك بوضع الجسيم عند المراقبة، أما قبل ذلك، فلا يمكن معرفة وضع الجسيم، فقد يكون في أي مكان يمكن إحتماله، وهذه ظاهرة اخرى عجيبة في ميانيكا الكم.

وقد مثلها شرويندجر لاحقا بمثال القطة التي في صندوق معها جسيم يمكن له أن يشع، ويمكن أن لا يشع، ولكنه إذا شع سيقتل القطة. فمن الذي سيعلم إن كانت قطة شرويندجر حية أو ميتة، هي علميا بحسب قانون الإحتمالات، 50% حية، 50% ميتة!، ولعلنا نرجع لهذه القصة لاحقا بإذن الله.


وفي تطوير جديد لتجربة الشق، وضع منشور، ليقسم شعاع الجسيمات الساقط إلى شعاعين، ليذهب كل شعاع إلى شقين، ووجد أنه إذا رُقب الجسيم في جانب واحد من التجربة، فإن الجسيم في الشق الثاني من التجربة يتحول معه إلى مادة، تاركا صفة التداخل!، فهناك إذن صفة أخرى وهي الترابط بين الجسيمات التي هي من نفس المصدر.

وفي تجربة أخرى عجيبة، وهو تطوير لتجربة الشق والمنشور،  غيّر طول مسار أحد الشعاعين، بحيث يقع جزئ من الشعاع قبل الآخر، وتم رصد الجزء بعد أن وصل الآخر، ليوجد أن السابق تصرف كمادة، فكيف علم أن الآخر سيراقب!!، فكأن عامل الوقت لا يدخل في حسبان تصرف هذه الجسيمات

وللتلخيص هنا إذن صفات عجيبة للجسيمات الصغيرة:
1-
لا يمكن تحديد موضع الجزئ وصفته الموجية في نفس الوقت.

2-
أن الجسيمات يمكن أن يعرف موصعها بشكل إحتمالي، لا حتمي.

3-
أن المراقب يغير من صفة الجسيم، من موجة إلى مادة.

4-
أنه يوجد ترابط بين الجسيمات من نفس المصدر، فالتغير في أحدهم يغير الآخر، ولو كان بعيدا عنه.

وسوف نبحث في الموضوع القادم بإذن الله بعض التحليلات التي وضعت لتفسر هذه الصفات.


أطوار العلم:  نظرية الكم 4

ونريد هنا أن نقف مع بعض الظواهر التي مرت في التجارب السابقة، لنقف معها ونبيّن ما وصل إليه العلم الحديث من جموح فكري خارج الأطر المعهودة لتفسير هذه الظواهر.

إن الجسيم أظهر صفة التداخل عندما كان هناك شقين، ولم يظهر ذلك في حالة الشق الواحد، فهو إذن يحتاج إلى الشقين معا ليتصرف كموجة، ولا يوجد شي ليتداخل معه إلا نفسه، فهو إذن مر بالشقين معا في نفس الوقت، وهذا هو مبدأ التراكب، superposition، والذي ينص على أن الجسيم يمكن له أن يكون في أكثر من مكان في نفس الوقت، إنه مبدأ عدم التحيّز.


لكن المراقبة غيرت من الواقع، فجعلت كل الاحتمالات التي كان فيها الجسيم قبل المراقبة تتموضع في مكان واحد، فما التفسير، هناك تفسيران شهيران، مع تفاسير أخرى كثيرة أقل شهرة.

ولنعد قبلا لقطة شروندجر، فهي المثال المعهود للتبسيط هذه المسألة، فبحسب ميكانيكا الكم، كانت القطة قبل المراقبة في كل الاحتمالات، حية وميته في نفس الوقت، ومراقبتنا وبالتالي وعينا، هو من حدد الواقع اللذي فيه القطة.

والتفسير الأول هو ما ذكرناه بأن المراقبة والوعي هو من يحدد الواقع، فالجسيمات إنما تجمعت في نقطة واحدة بعد أن كانت في احتمالات شتى بسبب المراقبة، وهذا يعني أنه لابد من مراقب لكي تتموضع الاخيارات في واقع معين، فكل شيئ موجود إذن مراقب، وهناك مراقب واحد في النهاية، ولا بد أن يكون هو الله سبحانه.


أما التفسير الآخر فيقول أن المراقب لا يغيّر شيئا، ولا يؤثر على الواقع، وإنما المراقبة تدخله في حيّز إحدى الإحتمالات الموجودة، فكل الاحتمالات مازالت موجودة، فهناك إذن عوالم كثيرة بعدد الاحتمالات، وبالمراقبة يدخل المراقب في أحد هذه العوالم. وهذه هي نظرية تعدد العوالم.

وبمتابعة تعدد العوالم، فإن الواقع من حولنا يوجد به كل الخيارات، إلا أن عقولنا ووعينا يقودنا إلى عالم محدد منها، وذلك يمكن تشبيهه بالراديو، فهناك أمواج كثيرة حوله، ولكنه يلتقط موجة واحدة منها فقط.

ويميل علماء العصر إلى هذا الخيار الأخير، والقول بتعدد العوالم.


أطوار العلم:  نظرية الكم 5

مع الغرابة التي تظهر بها نظرية الكم إلا أنها في الحقيقة هي المسؤولة عن كل التطور التكنولوجي الذي نعيشه اليوم، فهي موجودة في صلب الكمبيوترات، وكافة الأجهزة الحديثة، وهي رغم ذلك تعتبر من أكبر الألغاز التي حيرت العقل البشري اليوم، وما زالت أسئلتها تتوهج منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

تحدثنا في الموضوع الماضي عن مبدأ التراكم superpodition، ونتحدث اليوم هنا عن موضوع الترابط بين الجسيمات من مصدر واحد، فقد بيّنت التجارب الماضية أن المراقبة لا تسقط الاحتمالات الموجية للجزئ المراقب فقط، وإنما أيضا للجزئ الآخر، ليكون مثله بالضبط، وأن هذا الترابط لا يعترف بالمكان والزمان، فالذي يحدث لهذا يحدث للآخر في نفس الوقت ولو كان بينهما مسافة بعيدة جدا، ولو رجع ذلك في الزمن، كما بيَنا هذا عند عرض التجارب.

إن هذه الظاهرة أقلقت أنشتاين، فهي لا تعترف بسرعة الضوء، وتعمل بخلاف النظرية النسبية، فكتب في عام 1935 ورقة علمية بمشاركة العالمين بودولسكي وناثان روزن يردون فيها على علماء كوبنهاجن، وهي عاصمة الدنمارك، ويقولون فيها أنه قد تكون نظرية الكم صحيحة، ولكنها بالتأكيد ناقصة.

وفي تفسير لقضية ترابط الجسيمين، قال أنشتاين أنه لا ترابط، ولكن الجسيمات قد تكون أزواج، مثل أزواج القفازات، فإذا علمت حالة هذا، عرفت حالة ذلك في الحال ولو كان بعيدا عنه، وظل أنشتاين يعارض هذا التوجه إلى أن مات عام 1955، ولكن نظرية الكم أخذت في الاشتهار والتوسع في تطبيقاتها.

وقد تمكن العلماء من نقل جسيمات عدة في تجارب أقيمت في جزر الكناري، ولاحظوا أن مراقبة الجزئ القريب يعطي نفس الصفات للجزئ الآخر.  وفي نفس الإطار يسعى العلماء لنقل الإنسان أو أي شيء آخر من مكان إلى آخر، وهو في الحقيقة ليس نقلا للجسيمات، بقدر أن الجسيمات تكون مترابطة فتنتقل المعلومات من هذه الجسيمات إلى أخرى لتكون مثلها بسبب خاصية الترابط هذه.

وقد ألهبت نظرية الكم الوسط العلمي بعد إكتشافها إلى آفاق كبيرة، فيها ما هو علمي، وفيها ما هو غير ذلك، كما أنها ألهبت الوسط الفلسفي بنفس القدر أيضا.


 أطور العلم:  نظرية الكم 6

لا يمكن لمبتدئ مثلي أن يحيط بتفاصيل نظرية الكم كاملة، ولكنها محاولة للإقتراب لهذا العالم المهم سبره، كما أنه من الصعب الإقتراب من هذا العالم دون أستخدام آلته الأولى وهي الرياضيات ومعادلاتها، والتي تتميّز بكثير من التجريد، الذي يصعب في كثير من الأحيان تصويره وفهمه واقعا، وذلك لعمقه في التجريد.

والرياضيات المدعمة لنظرية الكم ليست بتلك السلاسة والبساطة، فشرودنجر كان يستخدم حساب المصفوفات، كما كان يستخدم قبله هايزنبرج حساب الأمواج.

لم يكتف شرودينجر بتدعيم نطرية الكم رياضيا، بل طوّر النموذج الذري الذي وضعه نيلز بور، فلم تعد حركة الإلكترونات منتظمة حول النواة بل هي حركة موجية معقدة.

واستمرت عجائب ميكانيكا الكم بالظهور في أمور أخرى عجيبة، منها على سبيل المثال الدوران المغزلي للإلكترون  spin  حول محوره، وتشكيله لمجالات مغناطيسة عجيبة الإتجاه.

ثم تتابعت الإكتشافات في إيجاد أنواع أخرى كثيرة من الجزئيات الذرية، ففي عام 1964 أكتشف مري وجورج الكواركات، وهي ثلاثة أنواع تتكون منها البروتونات والنيوترونات، ثم أكتشف أنواع أخرى من الإلكترونات، وما زال حقل الاستكشاف هذا غنيا ثريا، خاصة بعد بناء المسرعات الكبرى للجزئيات وإجراء تجارب التصادم عليها.

وقد أكتشف حديثا، الجسيمات المضادة، وهي تشبه الجزئيات المعروفة ولكن بشحن مختلفة، ويعود إكتشاف بعض هذه الجزئيات إلى بعد 2000م، وتعطي هذه الجسيمات تفصيلا أكبر عن التركيب الذري، وعن أنواع القوى الحاكمة فيه.

ونكتفي بهذه الجولة في العالم الصغير، لنرجع بإذن للحديث عن العالم الكبير، ونظرية الانفجار العظيم التي ظهرت في عام 1964م.


أطوار العلم:  نظرية الإنفجار العظيم 1

تعتبر نظرية الإنفجار الغظيم اليوم نظرية مقبولة لتفسير بداية الكون، ونقدم لها هنا تعريفا مختصرا، لنزيده بإذن الله وضوحا بعد ذلك.

بعد أن أكتشف أنشتاين نظريته النسبية العامة عام 1915م، ووجد أن الجاذبية هي القوة الحاكمة لأجسام الكون وتفسير حركتها، أُكتشفت في عام 1923 مجرات ضخمة كان يظن أنها نجوم، وذلك بفضل التيلسكوبات الأكبر، إن هذه المجرات الصخمة زادت من سعة الكون بشكل كبير جدا، كما وأكتشف أيضا بأن الكون يتمدد ويتسع.

وفي عام 1927 قدم العالم البلجيكي جورج لمتر نظرية الإنفجار العظيم، والذي حدث قبل 13.8 بليون سنة تقريبا. فسرعة الإبتعاد في أرجاء الكون، والتي هي متسارعة أيضا، تدل على أن الكون ينفجر، وأنه إذا تأخرنا زمنيا فإنا سوف نجده ينكمش مع الوقت، فلا بد إذن ان يكون للإنفجار بداية، وهذا ما يمكن له أن يفسر لغز الكون، ويفسر للمختصين ألغاز أشعته الكونية، وكونه يبرد مع الوقت.


تقول نظرية الإنفجار العظيم بأن الكون وجد من نقطة متناهية في الصغر، كانت بها الطاقة عالية جدا، والحرارة مرتفعة جدا، وبحسب النظرية تشكل هذه النقطة بداية الخلق.

وتتميز البدايات بالسرعة العالية للإنفجار، والحرارة الضخمة العالية، وقد ظهرت الجزئيات نتيجة لتلك الطاقة العالية، ثم أخذت في الصطدام لتشكل جزئيات أكبر، ومع 100 ثانية الأولى تكون الهيدروجين والهليوم واللذان يشكلان معظم الكون اليوم، وكان الكون قد تمدد كثيرا في ذلك الأثناء، وبرد أيضا.

ثم بفعل الجاذبية تجمعت سحابات من الجزئيات لتكون النجوم والمجرات.

أما العناصر الثقيلة فقد تكونت من خلال تفاعلات الإنصهار النجمي.


أطوار العلم:  نظرية الإنفجار العظيم 2

تعتبر نظرية الإنفجار العظيم نظرية مقبولة اليوم، وإن كانت تفاصيلها محل سجال، فهناك إذن نظريات أخرى غير ما سيذكر هنا.

الزمان والمكان لا يوجدان إلا بوجود المادة، هذا ما يقوله العلم الحديث، كما أن العلم الحديث يتكلم عن الوجود الفيزيائي، فأي شئ له طاقة أقل من ثابت بلانك لا يعتبر له وجود في عالم الفيزياء، لأنه لا يمكن قياسه.

إذن لعلم الفيزياء المادي نفسه حدود، فيمكن إذن أن يكون هناك مواد غير فيزيائية قبل الزمان والمكان، مواد متخيلة مثلا، وفكرة وجود جسيمات خيالية يفيد في تفسير الكثير من الظواهر الطبيعية، وهذا في الحقيقة تعريف للعدم عند الفيزيائيين.

وأكثر ما شغل الفيزيائين في قضية الإنفجار العظيم، هو كيف يمكن أن تخلق طاقة من العدم، والتفسير الحالي قائم على وجود قوة هائلة كونت التشكيلات الجزئية الأولى، وهي قوة الجاذبية، والتي هي بتعريف النسبية العامة تحدب في الزمان والمكان، فالمكان والزمان كانا ضيقين كثيرا في تلكما البداية. وطبعا لا يعلم سبب هذا التحدب.

وهذا التحدب في الزمكان هو ما أنشئ الجزئيات الأولى، المتنهاية في الصغر، جزئيات إشعاعية قد لا تحمل أي كتلة، وذلكم هو كثيف بوز أنشتاين، وهذه هي المرحلة الأولى قبل الإنفجار العظيم، وهي زمنيا مرحلة قصيرة جدا، ثم تحولت هذه الجزئيات بفعل الإنفجار العظيم إلى مادة، كما مر سابقا.

وتتميز الفيزياء هنا بأنها، وإن كانت تعطي أجوبة على بعض الأسئلة، إلا أنها تفجر أسئلة أخرى كثيرة.

وما زالت نظرية الإنفجار العظيم إلى الآن في تطور، وهي إلى الآن لم تفسر ما يحدث في الثقوب السوداء.

كما يعتقد الآن بأن الكون لا يحوي النجوم والمجرات المضيئة فقط، بل حسابات الكتلة الكونية تبيّن أن هذا هو فقط 4% من كتلة الكون، فهناك المادة المظلمة التي لا ترى، ولا يعرف تفسيرها للآن.

أما قضية نهاية الكون، فهناك عدة نظريات فيها، منها:
1-
أن تمدد الكون سوف ينعكس، ويرجع إلى الإنكماش، فإن كان إنفجارا بفعل الجاذبية، فإنه من المحتمل أن ترجع الجاذبية إلى ما كانت عليه.

2-
أن الكون يستمر في التمدد ولكن الطاقة الموجودة سنتنهي، وعندها سيتجمد الكون، والكون على كل حال يبرد مع الوقت، فقد كانت الحرارة عالية مع الإنفجار وهي تنخفض

3-
أن ينفجر الكون كما ينفجر البالون، وذلك بسبب إبتعاد أطراف الكون عن مركزه، فلا يكون عندها أثرا للجاذبية



أطوار المعرفة:  نظرية الفوضى


ننتقل هنا بعيدا عن موضوع الأجرام الكبيرة والجزئيات الصغيرة إلى موضوع آخر له أهميته القصوى في الفكر العلمي اليوم، وهي نظرية الفوضى.

ونظرية الفوضى لها تاريخ تراكمي منذ نهايات القرن التاسع عشر، وأصبحت اليوم مسلم بها لظهورها ووضوحها.

كانت الحتمية هي النتيجة الأولى للميكانيكا الكلاسيكية، حتى أعتبر الكون عبارة عن آلة، فكانت مهمة العلماء منصبة على إيجاد القوانين لمعرفة المستقبل والتحكم به، ولكن التطبيق كان له كلمة أخرى. فإن كان للقوانين دور في صياغة النتائج، فإن للفوضى دور أيضا، فالرياضيات هنا إذن تقف عاجزة عن التنبؤ.

تنبع أهمية نظرية الفوضى إذن في أنها تعتبر تغيّر استراتيجي في المنحنى الفكري للعلم، فهي تحد من التوقع، في تغيّر كبير عن مبدأ الحتمية.

فقد كان الفكر الحتمي يعتقد بأن معرفة القوانين يمكن لها أن تقود الإنسان إلى توقع كل شيء ثم التحكم به، ومن ذلك الجانب المالي، فمعرفة قوانين الإقتصاد والبورصات يمكن أن يمكّن الإنسان من التحكم بهذا الجانب، وكذلك الحال بالنسبة للطقس.

والسؤال الذي كان مطروحا، هو كيف يمكن أن تعرف هذه القوانيين؟، ومع إدخال الحواسيب الآلية قفز العلماء فرحا بأن السجلات الاقتصادية مثلا سوف تكون كلها مسجلة في هذه الأجهزة، فلذلك يمكن معرفة هذه القوانيبن بتتبع حركتها، فيمكن هنا للرياضيات والإحصاء أن تسنتج القوانيين الحاكمة بعد أن تدرسها إحصائيا.

وفي عام 1962 كان إدد لورنس يحاول معرفة القوانيين الحاكمة للطقس، فكان يدخل المعلومات في حاسوبه ليحاول إيجاد هذه القوانيبن.  وقد قام بإعادة أحد التجارب ليفاجئ بأن النتيجة أختلفت!، فلمَا تتغيّر النتائج مع أن المدخلات واحدة؟، وبعد المراجعة وجد أنه قام بإختصار أحد الأرقام العشرية الصغيرة، فقد قرب أحد الأرقام اختصارا، وهكذا وجد أن تغيّر بسيط، أسماه حركة الفراشة، يمكن له أن يتفاعل مع الوقت لينتج إعصارا!

وهكذا وجد أن الشوائب البسيطة الغير محسوبة يمكن لها أن تغيّر في النتائج، فمثلا إذا دُحرجت كرة من أعلى منحدر، فإنها لن تنزل بالضبط في نفس الموضع مع إعادة التجربة، ومع أن هذه الملاحظات كانت موجودة سابقا، إلا أنه لم يكن يُظن أن لها أثرا في تغير النتائج، ولكن الوقت أثبت أن لها تغييرا كبيرا في مآلات الأمور، وهذا أصبح جليا مع الانهيارات الاقتصادية الكبرى في السبعينيات، كما أنه لليوم لا يمكن التنبؤ الدقيق بالطقس ولا بالزلازل مثلا.

الفوضى تدخل كل شيئ، وقد تكون بسيطة في الأنظمة الحديثة، ولكنها مع الوقت تنمو حتى أنه لا يمكن السيطرة عليها، وهي في الحقيقة صفة ذاتية في الكون، فكل شئ إنما يتحلل وتملئه الفوضى، ثم يعود ليتكون شيئا آخر، وذلك في كل شيئ تقريبا.