السبت، 20 فبراير 2016

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ


القرآن الكريم هو كتاب هداية للناس إلى صراط الله المستقيم، لذلك فإن المؤمن يلهج بالدعاء في كل صلاة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة 6-7)

وبعد أن بيّنا في الموضوع الماضي أن رسالة القرآن تدور حول الإيمان بالكلمة التوحيد والإنصياع لها، وأهمية الذكر والتسبيح، فهو لغة الكون المذعن لله سبحانه. نشرع في هذا الموضوع بذكر موضوع الهداية وغرض الرسالة، وهو إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الهداية بطريق الله سبحانه وتعالى، يقول تعالى (الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴿١ ابراهيم﴾.

وكما بتيّن سورة الفاتحة بأن الهداية هي ثمرة العبادة لله سبحانه والاستعانة به، يظهر ذلك أيضا في مواضع أخرى منها قوله سبحانه (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران 51)، وفي قوله تعالى (وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (آل عمران 101)

والصراط المستقيم هو الصراط إلى الله سبحانه وتعالى (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) ﴿٥٦ هود﴾، ويقول سبحانه (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) ﴿153 الأنعام﴾، ويقول سبحانه (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) ﴿53 الشورى﴾

وهذا الصراط هو ما دعى إليه الأنبياء وساروا عليه، يقول سبحانه (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ  * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام 83-90)

لذلك فقد توعد الشيطان أن يضل الناس عن هذا الصراط المستقيم، ليجد لهم سبلا أخرى غير سبيل الله سبحانه، يقول سبحانه (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف 16-18). ويقول سبحانه وتعالى (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر 39-43)

والصراط إلى الله صراط إنشراح للنفوس وسعة للصدور  (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (الأنعام 125-126). وهو صراط ملئه النور (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(   المائدة 16).


وهكذا فإن طريق الله هو طريق النور، النور المعنوي في الدنيا والحسي في الأخرى، نور قلبي سببه الذكر لله سبحانه وتعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  ) البقرة (257)، لذلك فالنور له معنى مرتبط بالمعرفة واليقين بأن هذا هو الطريق الصحيح، فالذي يبحث عن الحق يسر به عندما يراه، وهذا هو حال الماضي في الصراط المستقيم، وله معنى اليقين القلبي، حينما يتخلص من الأمراض والعلل، فيصبح يرى بنور الله أنوار حكته، وذلك عندما يتخلص من ظلمات المعاصي والذنوب.

والنور يحصل من الذكر، وأوله التفكر في الخلق والنظر إليه بيعن التسبيح، وثانيه التلاوة والتدبر لكتاب الله تعالى، ثم الخشوع في الصلاة، ورأس سنام الصلاة بعد الفرائض قيام الليل، ففيها الزاد الحقيقي للنور، وقيام الليل مستشفى رباني لكل أمراض القلوب.

وبعد ذلك يأتي الإنفاق، وهو ذروة الحمد، فإذا أراد صاحب العلم مثلا أن يحمد الله على العلم الذي آتاه فلينفق منه بكثرة تعليمه وتدريسه، وكذا صالحب المال أو القوة، فليستخدمها صالحا وليحمد الله على أعطاه وأولاه. وهذا الإنفاق هو الزاد الباقي للآخرة: وهو ما يسميه الشيخ داوود بو سنان بالباقيات الصالحات. وللإنفاق فوائد كثيرة، حيث أنها تبعد الأثرة عن النفس، وحب الأنا، فلذلك فهو المستشفى الآخر للفلاح والنجاح. بهذه المعاني العظيمة لخصت مقدمة سورة البقرة طريق الهداية، بل ولخصت رسالة القرآن الكريم، فهو رسالة هداية، يقول الله سبحانه وتعالى:
(الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة 1-5)
تضع الآيات الكريمات ثلاث شروط للهداية قبل أن توضح طريقة السير فيه، وهي ترك الريب، والتقوى، والإيمان بالغيب. فمن دخله الشك، ولوث له إيمانه فلا ينتفع به، فليس المقام هنا مقام تجريب، بل لابد من الإيمان الجازم المستولي على النفس والشعور، ثم لابد من تقوى لله تعالى تورث إتباع أوامره وإجتناب معاصيه، ثم لا بد من الإيمان بالغيب.

الإيمان هو جانب غيبي في الأصل، وليس ماديا، هو ثمرة لرسالة إلاهية أتت من رحم الغيب، حملها الملائكة الكرام وهم من الغيب إلى الرسول صلى عليه وسلم، أتت هذه الرسالة لتضيف للعالم المادي المشاهد بعد غيبي يكمل الصورة ويضع لها معنى وغاية، ومن دونها لا هدف ولا غاية. والغيب يعطي لكل صورة مادية بعدا غيبيا يضيف لها رونقا وجمالا، ويفسر هدفها وغايتها، والقرآن في الأصل يقدم حلولا عميقة هي في الأساس على الطريقة الغيبية. والعالم به مادة وغيب، حتى جسم الإنسان بدن من عالم المادة، ونفس من عالم الغيب، والهداية لا علاقة لها بالبدن، بل متعلقها بالنفس، ولذلك فأن سنننها كلها غيبية، يقول سبحانه (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ  ) العنكبوت (69. ولذلك فالغرب رغم حضارته، لم يقدم حلا للمشاكل الغيبية كلها، ومنها كما سوف نرى العداوة والبغضاء.

ويتصدر وسائل الهداية الكتاب العزيز، ثم إقامة الصلاة، وبعد ذلك الإنفاق. والصلاة والإنفاق كما مر هما مستشفيان ربانيان لعلاج الإنسان من كل الأمراض المؤدية إلى الظلمات وتنتشله إلى عالم الإيمان والنور. والإنفاق لا يكون في الرخاء فقط، بل في كل الأوقات، يقول سبحانه (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ  ) آل عمران (134)



مع فلسفة الضر:
وآيات الله سبحانه وتعالى متلوة ومنظورة، فالله سبحانه وتعالى لا يكتفي بتذكير الناس بالقرآن الكريم، بل يريهم في ملكوته آياته ما يبشرهم وينذرهم، ليعلموا أن مرجع الأمور إليه، وأنه هو الملك القاهر فوق عباده، وأسماء الله سبحانه تعالى جميعها تتجلى في عالم الملكوت. والملكوت يذكر أيضا بعالم الغيب، فالله سبحانه وتعالى يدلل على بعثه للناس بمشهد إخراج النبات إلى غير ذلك.

والإنسان يتقلب في نعم الله سبحانه وتعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ﴿١٨ النحل﴾، وفقدان نعمة واحدة منها يحيل الحياة إلى تعب ونصب وجحيم. ومن حكمة الله سبحانه أن يقلب الناس بين النعمة والضر، وأكثر الضر إنما يصيب الإنسان بسبب ما كسبت يده، لذلك فلا يوجد في الجنة ضر، لأن ليس فيها معاصي. يقول الله سبحانه (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ  ) الأنعام (65، ويقول سبحانه (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ  ) الشورى (30)  ، والضر يتعلق بأسم الله الملك، فكل شيء إنما هو ملكه، وهو معار لدى الإنسان، فالإنسان لا يملك شيء من نفسه وإنما هو ملك الله سبحانه يأخذه متى ما شاء، ولا يصح لمن أخذ عارية أن يسخط عندما تؤخذ العارية منه. فالنعم التي يمنحك الله سبحانه وتعالى ليست هي على سبيل التمليك، فعلى الإنسان أن يحمد الله سبحانه ويذكر نعمه، ولا يجزع عند فقدها (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ  ) البقرة (156)، ويقول سبحانه (أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) يونس (31).

والنعم تعرف قيمتها بالضر، وهذا خو منهج القرآن الكريم، يظهر الأمر بما يناقضه، يقول تعالى (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُون)َ   الواقعة (70)  ، وكذا يظهر الله سبحانه وتعالى بعض الأمراض وبعض العيوب الخلقية حتى يرى الإنسان ويشعر بعظم نعم الله عليه. والضر من أكبر الأسباب لرجوع الناس لله سبحانه وتعالى، فيتذكرونه ويحمدونه عندما يقع عليهم الضر، يقول الله تعالى (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)   النحل (53). ورغم ذلك فقد أعيى الضر الفلاسفة ولم يدروا غرضه، فهم يتسائلون لماذا خلق الله الشر؟!

والضر يذكر بالموت والاستعداد له، فهو سحب جزئي في مقابل السحب الكلي، ويعتبر الموت من أعظم المواعظ للناس، فهو يضع الناس عمليا أمام الحقائق الكبرى. وعلى الإنسان أن يصبر عند المصائب، ويقتدي بالنبي أيوب عليه السلام في هذا (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ  ) ص (44)، ولا يجزع، يقول الله سبحانه (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ  ) الحج (11. وهنا يعتبر الذكر وقود للمؤمن في هذه الحوادث، فمن كان قلبه عامرا بوقود الذكر تذّكر ورجع لله سبحانه، أما إن كانت بطارية الذكر فارغة فإن وساوس الشيطان تكثر عليه فترديه إلى الهلاك.


والضر ثلاثة أنواع:
أولها ضر الرحمة، وهو اختبار لأسم الله الملك، هل هو معلومة أم إيمان راسخ، ومنه صبر النبي أيوب عليه السلام، يقول الله سبحانه وتعالى (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ  * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء 83-84)، فأيوب عليه اسلام أراد الله أن يبتليه ويرفع منزلته، فأصابه الضر دون معصية سابقة، فأراد إختبار صبره وإيمانه، وقد أبتلي في جسده وأهله وماله، كما مسه من الشيطان ووساوسه نصب وعذاب، يقول الله تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ *وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص 41-44)

وثانيها ضر العذاب، وهو نوعان، أدنى وأكبر، والعذاب الأدنى هو سبب رجوع أكثر الناس إلى الله تعالى، ومن هنا أنظر إلى بلائك فإن أكثره نتيجة لعملك، وأكثر البلاء يكون على شاكلة المعصية، فالغيبة مثلا تقطع العلاقات، وعدم غض البصر يؤدي إلى مشاكل زوجية، وهنا رسالة من رب العالمين بأن لا تظن بأنك ذكي وأنت تعصي الله، فالله سبحانه وتعالى هو المدبر لا أنت وهو قادر على أن يصيبك أينما ذهبت، (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ  ) الشورى (30) . فلذلك فضر العذاب يأتي بعد معصية، ويكون سببا للرجوع، لعلكم ترجعون، إنّ في ذلك لذكرى. يقول الله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ  ) الأعراف (96)

ومن أمثلة العذاب الأدنى ما أصاب أصحاب الجنة (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ *كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (القلم 17-33)

فهؤلاء جزموا أن لا يعطوا الفقير حقه، فعاجلهم العذاب بأخذ الجنة كلها، وليس أخذ حق المسكين فقط، فالله سبحانه أراد أن يذكرهم بأن الذي يفعلونه عاقبته الخسار في الدنيا والآخرة، وأصحاب الجنة هنا أعترفوا بذنبهم وقالوا (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
والعذاب الأدنى لا يصيب الأشخاص وإنما يصيب أموالهم وممتلكاتهم، بينما العذاب الأكبر فإنه يغلق المنافذ على الشخص نفسه، ولا يبقي له مخرجا، ومن ذلك قصة يونس عليه السلام، فهو عليه السلام خرج من بلدة قومه، مغاضبا لهم، وقد كان في ذهول عن أن يسأل الله الخروج، فهنا تقصير، ولا يوجد معصية محققة، وهذا قد يحدث عند كثير منا، فقد يستعير أحدنا مبلغا ثم ينسى أن يرجعه لصاحبه، إلا أن الله سبحانه وتعالى أصاب نبيه يونس عليه السلام بضر أكبر، ولم يدعه ذلك حتى تذكر خطائه وأعترف أمام الله سبحانه وتعالى وأناب.
يقول الله تعالى (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ  * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ) (الصافات 139-146)، ويقول سبحانه {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء : 87]

والإنسان لا يعلم هل الذي يصيبه ضر رحمة أو ضر عذاب، ولكنه مأمور بعدم تزكية نفسه، يقول سبحانه (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ  ) النجم (32)


وثالثها الضر المحيط، وهو أقوى أنواع الضر، وعنده يلجأ كل أحد لله سبحانه وتعالى، هنا تنقطع الأسباب الدنيوية بصفة تامة، ولا يبقى أمام الإنسان إلا أن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، وكل إنسان هنا أيا كان يرجع لله تعالى، حتى فرعون أعتى العصاة رجع، يقول الله تعالى (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (الأنبياء 90-92)
عندما توصد كل الأسباب المادية كاملة، يلجأ الإنسان إلى الحقيقة النهائية، هنا يعرف أنه لم علاقته بربه ليست على ما يرام، فيلجأ إلى الوعود، إنها لحظة إخلاص اضراري بسبب إنقطاع كل الأسباب المادية، فيتعلق الإنسان هنا بحقيقة الغيب، ويراها حاضرة أمامه، وهذا في الحقيقة من أقوى الأدلة العملية على وجود الله تعالى بالتجربة العملية.

إن حوادث الإضطرار هذه تكشف زيف ادعائات الإنسان عمليا، تنطقه بضعفه، وتقيم عليه الحجة بينه وبين نفسه، ولأهمية هذه الحوادث تتكرر في القرآن لتذكرهم بحقيقة منزلتهم، ولا شك أنها تتكرر في الواقع لتري الإنسان ضعفه أيضا.

يقول الله تعالى (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (العنكبوت 65)
ويقول سبحانه: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (الروم 33)
ويقول عز وجل: (فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر 49)
ويقول عز شأنه: (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (يونس 12)
ويقول سبحانه وتعالى: (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (الزمر 8)

وقد تكون البدايات طيبة مريحة مستبشرة، ثم بعد ذلك تنقلب الموازين، لأن مصرفها هو الله سبحانه وتعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ   يونس (22)

والله سبحانه لا يخذل المضطر الصادق، بل ينصره، يقول تعالى (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴿62 النمل﴾، ويقول سبحانه وتعالى (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴿10 القمر﴾.

مع الشيطان:
إذا ذكر الذكر فلا بد من ذكر الشيطان اللعين، وإذا ذكر الصراط المستقيم فلا بد من ذكر الشيطان الرجيم، ذلك لأن الشيطان هو عدو الإنسان الأول في الصد عن ذكر الله، يقول سبحانه (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ  ) المجادلة (19، وقد توعد لأن يصد عن الصراط المستقيم (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف 16-18).

والشيطان هو العدو الأول للإنسان ذلك لأنه يدعوه إلى السعير (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) فاطر ، ويقول سبحانه (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) يس 60. وغاية ما يصله الإنسان من العداوة لأخيه الإنسان أن يطلب قتله، كما فعل قابيل بهابيل، ولكن الشيطان لا يكتفي بذلك، وإنما يريد أن يدخل الإنسان الجحيم. يقول سبحانه (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا) النساء 60.

وهو يأمر بالفحشاء والمنكر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، النور 21، وهو يدعو لكل عمل من شأنه كفران الله وعدم شكره، يقول سبحانه (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) الاسراء 27
والشيطان إنما يتسلط على من ترك الذكر (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف (36. وكسب المعاصي (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) آل عمران 155، ويقول سبحانه (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) الحج 53.

والشيطان هو من أعلم المخلوقات، يعلم كل السنن ويعمل على مخالفتها، وهو أقوى من الإنسان وقادر على البطش به، يقول الله سبحانه وتعالى (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ  ) الأعراف (27، فهو مطلع على السرائر عارف لخبايا الأنفس، قادر على أن يتصرف بالقلوب الخالية من ذكر الله سبحانه، وهو يعمل على مهل بخطوات مدروسة من كلل أو ملل.(وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) البقرة 168.

وهو يعمل على الوعد والأماني (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ) النساء 120، كما ويعمل على التخويف (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) آل عمران 175، والتخويف والأماني هما أكثر ما يدفع الإنسان للفعل والكسب. كما ويعمل على تزيين المنكر، يقول سبحانه (تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النحل 63. ويقول سبحانه (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الأنفال 48

والشيطان يعمل على أمور بسيطة نستصغرها، ومن ذلك شرود الذهن، والنسيان، وهي أكبر معاوله وخطواته (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) الكهف 63. ومع هذه الخطوات البسيطة فإن له صولات وجولات، يقول سبحانه (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ) الاسراء 64، ويقول تعالى على لسانه (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ) النساء 119

وساوس الشيطان لا تنقطع حتى عند المرسلين، يقول الله سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )  الحج 52

وقد نسب إليه موسى عليه السلام قتله للغلام (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص 15

وقد أصاب النبي أيوب عليه السلام عذاب نفسي منه لعله أكثر من العذاب الحسى، يقول سبحانه (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) ص 41.
والشيطان يضل كثيرا من الناس، (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)  الأعراف (17)، ويقول الله سبحانه (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ) النساء 83.

وللشيطان قصة قديمة مع أبونا آدم عليه السلام، استعلى على الله ولم يطعه في السجود له، والله سبحانه وتعالى سخر الكون كله لخدمة الإنسان، ولكن الشيطان أبى واستكبر، فطرد من رحمة الله في مشهد تكريم لآدم وبنيه من بعده، فتوعد الإنسان وصار لها عدوا، وقد نجح في إخراج آدم وزوجه من الجنة، يقول الله تعالى (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) الأعراف 27.

وطبع الشيطان هو الخذلان، فتجده تبرئ من الإنسان بمجرد وقوعه في الخطأ، وهذا ما يفعله في جهنم في خطبته المشهورة، (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) إبراهيم 22.

والشيطان هو العدو، وينبغي إتخاذه عدوا، هو عدو للإنساننية جيعا فأين هي من أن تتأخذه عدوا، وينبغي محاربته باللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، ومن سار وجاهد في سبيل الله، فإن كيد الشيطان يكون ضعيفا، يقول الله سبحانه (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ) النساء 75

وإذا كان شيطان أقوى من الإنسان وأعرف ببواطن نفسه، فإنه ليس المطلوب من اللإنسان أن يقاتله بنفسه، بل عليه اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى فهو الكفيل به، وتلكم هي الإستعاذة، يقول الله تعالى (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فصلت 36. فعلى الإنسان أن يكثر من الإستعاذة من الشيطان، ويحصن نفسه دائما منه بكثرة الذكر وقراءة المعوذتين.ويلاحظ أن هاتين المعوذتين قد أتيا بعد ذكر الله وتسبيحه في سورة الإخلاص، وهكذا ينبغي أن يفعل الإنسان، يذكر الله ويعظمه ثم يستعيذ من الشيطان، ثم يكثر من الأستغفار من ذنوبه حتى يدعو الله ويطلبه وهو متبرء من الشيطان والذنوب.

والذكر اللساني لا يذهب بالشيطان، فهو لا معنى له، بل ينبغي ذكر الله بقلب حاضر، والقلب إما أن يكون وعاء لذكر الرحمن أو لوسوسة الشيطان، فهو بين النور والظلمات، ولا يجتمع في القلب نور وظلمات، على أن القلوب المظلمة متشبعة بالمعاصي، ولا يدخلها نور الذكر ولو حاول الإنسان لأن المعاصي والشيطان مستقر فيه، ولو ذكر الله قليلا، فإنّ الشيطان يرجع بمجرد إنتهاء ذلكم الذكر العابر، وهؤلاء من استحوذ عليهم الشيطان، يقول الله سبحانه (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ  ) المجادلة (19). وهنا أول ما يفعله الشيطان هو أن ينسي الإنسان ذكر الله سبحانه وتعالى ويشغله بغيره عز وجل. والشيطان يعمل كل ما يستطيع ليصد الإنسان عن الصلاة وعن تدبر القرآن الكريم، لذلك أمرنا بالاستعاذة منه في هذه المواضع، يقول سبحانه (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) النحل 98


والقلب المظلم لا يشعر بوسوسة الشيطان، بل يستحسن ما يقول ويتبناه ويقتنع به، فتمضي نفسه في تطبيقه، أما القلب المطمئن بنور الذكر فإنه يشعر بظلمة الشيطان ووسوسته بمجرد وصوله فيطرده، وكيف لا ينكر النور الظلمات، يقول الله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ .). الأعراف 201. والوساوس إذا تمكنت من القلب حجبت الحقائق، وجعلت على العين غشاوة وعلى الآذان وقرا.

والذكر هو الذي يشرح الصدور وينيرها، يقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا  * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا  * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (الأحزاب 41-43)، ومن تمسك بالذكر الكثير أنار الله قلبه، وأبعد عنه الشيطان، وقد كان قلب الرسول صلى الله عليه وسلم منيرا كالسراج (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) (الأحزاب 45-46). لذلك فالشياطين لا تستطيع الإقتراب منه، والرسول صلى الله عليه وسلم أتى بشرط الذكر الكثير فحقق الله له قاعدته السابقة، يقول سبحانه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) الأحزاب 56.

وإذا كان الذكر هو الذي يؤلف بين القلوب، وأن الماديات جميعها لا تستطيع فعل ذلك، مصداقا لقوله تعالى (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  ) الأنفال (63)، فإن الشيطان يسعى إلى زرع العداوة والبغضاء بين الناس، يقول سبحانه وتعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ  ) المائدة (91)، وتلاحظون أن عمله على العداوة والبغضاء مقدم حتى على صده عن ذكر الله وعن الصلاة، فما من حدث يحدث إلا والشيطان يسعى لأن يزرع فيه العداوة والبغضاء، وهذا هو سر نجاح الشيطان الرجيم.

وعباد الرحمن يتنبهون لهذا، فلا يدخلون في صراع شخصي أبدا، يقول الله تعالى (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا  ) الفرقان (63)، ولم يكن صراع الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه صراع شخصي، بل كان صراعا بين الحق والباطل، وهو صراع دائم ما دامت السموات والأرض، لذلك فهو لم يكن يكرههم صلى الله عليه وسلم، بل كان يكن لهم الشفقة والرحمة، يقول تعالى (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ  ) الزخرف (89).والعلاقات الدائمة هي ما قامت على الذكر، وخاصة بين الأزواج، ومن أراد أن يستمعه أولاده فليقم فيهم حلقة ذكر، ولن يبقى معها أي عناد أو تشتت أسرى.

والعداوة والبغضاء هي من أشد أنواع الفتن، أشد من الطوفان والزلازل، ذلك لأن محلها القلوب، وهي إذا أصابت المجتمعات لا تبرى منها إلا بعد عسر، لذلك فهي عذاب الله لبني إسرائيل، يقول الله سبحانه (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ  ) المائدة (64)  ، ومجتمعاتنا الإسلامية اليوم تعاني من سلاسل العداوة والبغضاء هذه.

والعداوة أصلها قساوة القلب، حين تنكرت للذكر، فصارت مستعمرة للشيطان والأمراض النفسية، فتصبح القلوب بحاجة إلى الإنتقام، وهذه العداوة هي التي فرقت بين الأزواج والأخوة، ولا تعالج هذه العداوة إلا بالذكر والقرآن الكريم. والله تعالى يقول (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ )   الزمر (22)

وكذا كل متبوع لم يقم العلاقة بين أتباعه على ذكر الله فستقسوا قلوب أتباعه، فيتصارعون أو يصاروعون غيرهم، والله سبحانه وتعالى يقول (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون)َ   المؤمنون (53)، فتجد هؤلاء يفرحون برأي أتباعهم أكثر من فرحهم بكلام الله سبحنه وتعالى.


القرين:
والإنسان إنما خلق لعبادة الله وذكره، والشيطان يحاول بكل الطرق أن يصده عن ذكر الله سبحانه، ويشغله عن التفكير في الخلق بالتسبيح والذكر بالإشتغال بنفسه أو الاشتغال بعيوب الآخرين، فيجعل دائرة فكره تدور حول طموحاته ورغباته في أنانية واضحة، ومن ترك الذكر فإن الله يقيّض له شيطانا يكون له قرينا يلازمه، يقول سبحانه وتعالى (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (الزخرف 36-40)
ويقول سبحانه (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) ﴿٢٥ فصلت﴾، ويقول عز وجل (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا ) النساء 38.

وهؤلاء القرناء يصحبونهم، وقد لا يدري عنه الإنسان شيئا بسبب ظلمة قلبه إلا يوم القيامة، يقول سبحانه وتعالى (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ  ) الزخرف(38) ،

ويقول عز وجل (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ *أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) (ق 21-29)

كما ويقول سبحانه (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ)   إبراهيم (49)  

والقرناء هم ثلاثة، أولهم الشيطان نفسه، ثم شياطين الجن، ثم شياطين الإنس. وإبليس وحده الملعون، (لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) النساء (118)، وهو الشيطان الأكبر، والشيطان هو كل من لم يكتفي بتضليل نفسه، بل يسعى لتضليل غيره، وهي صفة قد تكون في الجن أو الإنس، وجميع المجاهرين بالمعاصي شياطين. يقول الله تعالى (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) الأنعام (112)

وشياطين الإنس أكثر ضررا من شياطين الجن،,وكذلك يحدث بينهم التنافر يوم القيامة، (يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) ﴿٢٨ الفرقان﴾ ، ويقول سبحانه (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) ﴿٦٧ الزخرف﴾.  وهم أيضا عند ذكر الله يولون عن المرء ويتنافرون عنه، يقول سبحانه (وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ) الإسراء (46)


النفس:
النفس في أصلها ليست محلا للخير أو الشر، بل هي مجرد وعاء قابل لان يكون محلا للتقوى أو الفجور بحسب ما يوضع فيها، يقول سبحانه وتعالى (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) الشمس 8. ولذلك فليس المطلوب هو الصراع مع النفس، بل المطلوب هو تغيير مدخلاتها، المطلوب إعمارها بذكر الله سبحانه وتعالى وطرد وساوس الشيطان الذي يتقن مخاطبة الغرائز، وإعطاء الأماني والوعود، والصد عن ذكر الله بالتخويف والتزيين.

والذكر كما مر هو مفتاح الشفاء والسعادة، والنفس إذا كانت عامرة بذكر الله فإن الإنسان يشعر بأي طائف من الشيطان يأتيه، أما إذا كانت مظلمة بسبب ترك الذكر فإن الشيطان يعمرها بالوساوس، فالشيطان يكون بالمرصاد لبني آدم، متى ما ترك الذكر فإنه حاضر بوساوسه، والنفس إذا تشبعت بالوساوس صارت منقادة للشيطان، تطاوعه في أمره وتتبنى ما يملي، ولا توجد معصية البتة من دون وسوسة، ولكن النفس عندما تتمكّن مها الوسوسة فإنها تأمر بالمعصية، لذلك فالله يذكر عن هابيل (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ  ) المائدة (30)، فالنفس هنا هي من تبنت وأمرت.

أما في حالة آدم عليه السلام، فإن قلبه كان نظيفا نقيا إلا من ذكر الله، لذلك فالمعصية هنا أتت من وعز شيطاني مباشر، يقول سبحانه (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ)   طه (120).

والشيطان إذا تمكّن من بني آدم جعله طائعا له يصرّفه أنى شاء، (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ)  الأعراف (30)  ، وبعض أصحاب المنكرات يعملونها وهم أصلا غير مقتنعين بها، ولكنهم وقعوا في حبائل الشيطان ولا يتسطيعون الفكاك عنه. يقول سبحانه (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يس 60-62)

أما صاحب القلب السليم فالله سبحانه وتعالى يجعل له نورا يبصر بقلبه الطريق المستقيم، وهي رؤية غيبية، ولذلك فالصراط المستقيم يرى بالقلوب، وهو ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم، بأستفت قلبك، وإن أفتوك وأفتوك. وهذا ما يعرف عند البعض بالضمير، وهو ما يكون في اصل الفطرة، ولكن الذكر يزكيه ويزيده نورا. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لأنها ذكر ونور.

والأصل هنا هو كثرة الذكر، وليس الذكر وحده فقط، الله سبحانه وتعالى أمر بالذكر الكثير، ونعى على المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا، يقول سبحانه (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا )  النساء (142)


ولا توجد معصية من دون قرين، ومعظم الذنوب تأتي من اللسان والنظر، ولذلك فعلى الإنسان أن يواضب على محطات الذكر الثلاث: التفكر في خلق الله، تلاوة المصحف وتدبره، والصلاة بخشوع، وهذا ما يجعل للإنسان سور من نور يحجب الشياطين عنه.وكل معصية أصلها وسوسة قرين، حيث تدخل تلك الوسوسة إلى النفس فتنشيء المعصية، حالها كحال النطفة عندما تدخل الرحم فتكون الجنين، يقول سبحانه (وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ  ) الأنعام (113).

والمعصية تؤدي تنكت نكتة سوداء في القلب، وتكون ملفا أسود، وكما أن الحسنات تجلب الحسنات، فكذلك السيئات تجلب مزيدا من السيئات، والملف الأسود والواحد يولد ملفات سوداء كثيرة، وتتراكم تلك المفات السوداء حتى تؤدي إلى الفتن. فتجد الدنيا تموج بالفتن، وهم إن لم يرجعوا إلى الله فإنه يعذبهم ويهلكهم، فللتنبه أمتنا الإسلامية اليوم من هذه الفتن التي تحيط بها.

وهذه هي سلسلة المعاصي، تبدأ بالإعراض عن ذكر الله، ثم وجود القرين، ثم الوسوسة، ثم المعصية، ثم الملف الأسود، ثم تتكاثر الملفات السود، ثم تكون الفتن، حيث ينحرف الوضع عن الجادة، ثم ينفجر في وضع بالهلاك والدمار. هذا هو تاريخ الأمم وقد ذكرنا الله سبحانه وتعالى به في مواضع كثيرة. يقول سبحانه وتعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96) الأعراف)

والله سبحانه وتعالى يرسل مذكراته من الضر وغيره لينوب الناس ويرجعوا إليه، ولكن أكثر الناس لا يتذكرون، وإلا فإن المؤمن يستشعر التوبة عند أدنى مذكر أو ضر يصيبه، فيكون واعيا بحكمة الله فيه، وأنه يخاطبه ليرتدع ويرجع. وما من مشكلة في الأرض إلا بسبب الإعراض عن ذكر الله، أما الجنة فلا معصية فيها، أما الدنيا فدار فتن لقلة الذكر فيها، فهل سنجد هذا الميزان في عالم المادة، أو في أي كتاب آخر غير القرآن الكريم.


الدنيا
يشبه الله سبحانه وتعالى حال الدنيا بحال النبات، وهي صورة مصغرة لشكل الدنيا، يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) يونس (24)  ، ويقول عز من قائل (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) الكهف (45)  

وهكذا حال الدنيا في كل شيء، كمن يمر بفصول السنة الأربعة، فأوله الشتاء، مرحلة الغيث، الذي سبقه القحط، في فترة إنتظار من المزارعين، فلما أتاهم المطر فرحوا به أشد الفرح، فهم كانوا ينتظرونه  لأمد، والآن حان أوان الزراعة، وهم أيضا في حالة إنتظار لخروج النبات بفارغ الصبر، وإذا خرج النبات في فصل الربيع وأخضرت الأرض وتبهرجت، وجدت المزارعين مسرورين فرحين، والنبات في قمة جماله في وقت الربيع. وكذا حال الوظيفية والسيارة الجديدة، يفرح بها صاحبها في أول الأمر، زقد كان ينتظرها كثيرا بفارغ الصبر. ثم يبدأ مع الوقت يتعود عليه فيخف الإعجاب ويصير الأمر عاديا مع الوقت، وهذا هو فصل الصيف حيث ينتقل النبات من كونه مزهرا أخضر إلى كونه مصفرا، فتصبح السيارة قديمة، فيقل الإعجاب بها، وهكذا كل إعجاب في الدنيا هو نسبي ومؤقت، ثم بعد ذلك لابد من وقت الخريف، حيث تساقط الأوراق، ويصبح الزرع حطاما تذروه الرياح، وهكذا تنتهي السيارة وتصبح هنا السيارة هنا خردة ليس منها فائدة. وهذا حال متع الدنيا كلها، يمر بفصول السنة كلها في كونه عدما إلى كونه مزهرا براقا، إلى أن يكون حطاما، أما الآخرة فلا تحوي إلا الربيع الدائم. إن الجنة مقام آخر في ربيع مقيم، جنات ونهّر، وعيش رغيد في مسكن شائق رائق، ولا شك أن نعم الدنيا تذكر بشيء من نعيم الآخرة. وتجد الناس اليوم يتسابقون لأرقى الأماكن وأفخرها ليزوروها وليعيشوا فيها مدة قليلة من الزمن، حتى وإن تعنوا السفر الطويل أو الأموال الطائلة.

والدنيا كي يم الفلاح فيها، وتخلو من وساوس الشيطان، لا بد من أن تقوم على ثلاثة أركان، فلا يقتصر على المال والبنون، وإنما يضاف إليهما الباقيات الصالحات، يقول الله تعالى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ) الكهف (46، فلا بد من الإنفاق في الخير من كل أسباب القوة، ولابد من العمل للآخرة قبل العمل للدنيا.

وليس وجود البنين محذورا أو مكروها، ولا إقتناء المال مكورها أو محرما، وإنما المعيب هو حب المال حبا جما، يقول سبحانه (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ) الفجر (20)  ، كما أن المحذور هو الإقتصار على دائرة المال والبنون دون الإلتفات إلى الباقيات الصالحات، يقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون) المنافقون (9). وعندها يصلت عليهم الشيطان، يقول سبحانه (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) الإسراء (64).

وهؤلاء لا ينبغي الإلتفات إليهم، لأن السعادة أصلها في الباقيات الصالحات، وليست في الأموال والأولاد، (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة (85). أمّا المؤمن فيقول (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) الفرقان (74).

وهنا درس في التخطيط، حيث ينبغي أن يقسم الوقت إلى ثلاثة أقسام، ومن أدعى أن ليس له وقت فهو كاذب!، يقول سبحانه عن المنافقين (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) الفتح (11)  ، إنه لابد من هذه الموازنة وإلا فسوف يضيع التوازن، وتنقلب الموازين، كما حصل لصاحب الجنة (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) الكهف (34، أو لمن أخذ في جمع المال وحده (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (الهمزة 1-4)، وهؤلاء لاشك أنهم سيخسرون يوم القيامة، (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ)  الحاقة (28).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق