السبت، 20 فبراير 2016

في رحاب التسبيح

في رحاب التسبيح:
ألا تعبدوا إلا الله:
وبعد أن ذكرنا أن القرآن الكريم هو رسالة ربانية من الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، وبيّنا منزلة تلك الرسالة، نتطرق هنا إلى شيء من فحوى هذه الرسالة الربانية، لنستجليها عن قرب، كما تبيّنها الآيات الكريمات.

ويدور مركز هذه الرسالة حول الكلمة الطيبة، والحقيقة الأعظم في هذا الوجود، أن لا إله إلا الله، وأن لا تعبدوا إلا الله.
يقول الله سبحانه وتعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ  * أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) (هود 1-2).
فهذه هي رسالة القرآن الكريم، ورسالة ما قبله من الكتب والرسل، يقول الله سبحانه وتعالى في رسالة نوح عليه السلام (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (هود 25-26).
وعن رسالة هود عليه السلام: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ) (هود 50).
وعن رسالة صالح عليه السلام: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود 61).
وعن رسالة شعيب عليه السلام: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ). (هود 84).
وهي رسالة كل الرسل عليهم السلام: (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ)  فصلت (14)  -
وما خلقنا الله إلا لإظهار هذه الحقيقة الجليّة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ  ) الذاريات (56)

وهذه الكلمة ليست شعارا يرفع، وإنما ينبغي أن تجسد سلوكا وتطبيقا، وإنما الإختبار على حقيقة الأخذ بها، فهل ذلكم إدعاء أم على سبيل الحقيقة الراسخة، وذلكم هو تعريف الإخلاص. فهي ليست كلمة عابرة، وإنما هي عهد ومبايعة، يقول الله سبحانه وتعالى عن حال المؤمنات الآتي أظهرن إسلامهن للرسول صلى الله عليه وسلم:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الممتحنة 12).
فلم يكتف منهن بالشهادة وحدها، بل لابد من ترجمتها سلوكا وعملا. وذلك ما كان يفعله الأنبياء من قبله، فلم يكتف النبي شعيب عليه السلام من قومه بالشهادة، بل لابد من عدم انقاص المكيال والميزان، يقول سبحانه (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ). (هود 84).
فكلمة لا إله إلا الله هي عهد الله سبحانه على أداء تعاليم دينه سبحانه، وذلك كما قلنا هو شرط الإخلاص لها، يقول الله تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة 5).
وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (" مَنْ قَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُخْلِصًا دَخَلَ الْجَنَّةَ " ، قِيلَ : وَمَا إِخْلَاصُهَا ؟ قَالَ : " أَنْ تَحْجُزَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ")
ونلاحظ في الآية السابقة أن العبادة هنا مشروطة بالأخلاص، وهو عمل قلبي، يكون بترك الريب والشك في هذه الحقيقة المطلقة، كما يتجلى في إعتبار الله وحده الإله لا شريك له، فيتوجه إليه بالعبادة والسلوك في كل جوانب الحياة.
ويفرّق القرآن بين من دخل الإيمان في قلبه وبين من تسمى بالإسلام قولا، يقول سبحانه (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  ) الحجرات (14)
فهؤلاء وإن كانوا في الظاهر مسلمين تجري عليهم أحكامهم، ولكنهم عند الله لا يدخلون في الإيمان إلا عندما يحققون شروطه. لذلك فالجنة إنما أعدت للمتقين، يقول سبحانه (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)   آل عمران (133)  
ولذلك شرعت التوبة لمن يحيد عن طريق لا إله إلا الله، وهذا موضوع سوف نرجع إليه بإذن الله بشيء من التفصيل لاحقا، وإنما غرضنا هنا الوقوف عند شرط الإخلاص.

والحقيقة أن كل من لا ينطلق من عبادته الحاكمة لسلوكه من أوامر الله، فإنه يتبع في الحقيقة إله آخر هو الهوى يملي عليه ما يعمل، يقول الله سبحانه (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا  ) الفرقان (43)  -

ومن فضل الإخلاص أن أصحابه مستثنون من تأثير وسوسة الشيطان عليهم، وذلكم دليل على أن قلوبهم نظيفة طاهرة إلا من ذكر الله. وسوف نقف بإذن الله مع الشيطان في موضع لاحق. يقول الله سبحانه على لسان إبليس اللعين (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ  * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر 39-40).

والذكر بأنواعه هو الذي يجلب الإخلاص، فهو بوابة تعظيم الله والبعد عن معاصيه، ومنه التلاوة للقرآن الكريم وإقام الصلاة، يقول الله سبحانه (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) (العنكبوت 45).

وانظروا فضل المعرفة بكتاب الله والذكر في تحقيق الإخلاص بكلمة لا إله إلا الله، يقول الله سبحانه (أفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ *وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ  * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ  * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ  *الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد (19-28)

ولننظر أيضا في صفات المتقين المتستحقين للنعيم، كما ورد في سورة الذاريات: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ  * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ  * كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ  * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ  * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ  * وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ  * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ  * وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ  * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) الذاريات (15-23).
إن تحقيق الإخلاص بتفاصيل كلمة لا إله إلا الله يكون بثلاثية الأخذ بكتاب الله، وإقام الصلاة والذكر لله سبحانه، وأعظم الذكر النظر في ملكوت الله سبحانه وتعالى، كما سوف نرى بإذن الله، وسوف يتجلى هذا المعنى بما سوف يأتي بإذن الله تعالى.


التسبيح هو رسالة الوجود:
من عظم التسبيح أنه تقوم به أعظم خلق الله في أشرف مكان: يقول الله سبحانه (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) الزمر (75)  - 
ويقول عز وجل: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ  ) غافر (7)

ومن عظمه أنه هو لغة الكون الخاضع لله سبحانه، يقول تعالى (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ  ) الحديد (1)  -
ويقول عز شأنه (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ  ) الجمعة (1)
ويقول عز وجل (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)   التغابن (1)
وهو لغة الجبال (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ  ) ص (18)  
والطير (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ )  النور (41)  
وكل شيء (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)  الإسراء (44)

ويقول تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) (الحج 18).
فما من ذرة في هذا الوجود إلا وهي مسبحة له تعالى، واقفة تحت أمرة، فالكل إنما هو تحت هيمنة الإلهية في إنسجام عجيب، وتكامل مذهل، فمال هذا الإنسان يحيد عن سنة الكون.

ومن عظم التسبيح أن الله وملائكته يصلون على المسبحين والذاكرين له كثيرا، يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا  * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا  * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (الأحزاب 41-43)

والكون هو محل تجلي أسماء الله وصفاته، يبين عن بدائع صنعه، وعجائب خلقه، شاهدا على أن الخالق والمهمين هو الله سبحانه، يسيّره بمشيئته، وكل شيء فيه مقدر منه سبحانه، وهكذا ينبغي أن ينظر إليه المؤمن، فيلتفت إلى آيات صنع الله فيسبحه، وينظر إلى أمر الله فيه فيعظّمه سبحانه ويلجأ إليه.
والكون معرض دائم لعجائب صنع الله سبحانه، فإذا كانت الشركات تقيم المعارض لعرض منتوجاتها، فإن الكون هو محل خلق الله البديع، ومحل فعله سبحانه، يقول سبحانه (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ  ) الأعراف (54)  

والتفكير في الخلق ينبغي أن يتجاوز الاعتراف العقلي بأن الله هو الصانع، إلى الإستشعار القلبي الموجه للسلوك، لذلك فالله سبحانه يوصي بالنظر في الكون ليكون بعدها التسبيح له عز شأنه، يقول تعالى: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الواقعة 58-74)

ويجعل الله سبحانه هذا الخلق دليلا على أنه هو الله الواحد سبحانه، يقول تعالى (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ) (النمل 60-66)

ويقول تعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران 5-6).

وفي بدايات سورة النحل يتحدث الله سبحانه وتعالى عن أسمه الخالق، يقول تعالى (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ  * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ  * لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) (النحل 1-23)

والآيات في هذا المقام كثيرة، فمثلا سورة الأنعام تتحدث عن علم الله سبحانه في مواضع كثيرة، فيقول الله سبحانه وتعالى في أولها (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) (الأنعام 1-3).
كما ويقول فيها (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ  * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ * وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (الأنعام 56-65)

إن الكون في مجمله محل النظر والإعتبار، ومحل معرفة صفات الله تعالى في الخلق والأمر، وهو يسير بسنن ثابتة سواء منها مادي ظاهر أو غيبي يعلمه الله سبحانه وأخبرنا بكثير من قوانينه وسننه في كتابه الكريم، والأسباب المادية وعلومها هو ما متفرغ إليه الماديون اليوم، وهم في ذلك لا يربطونها بالخالق المدبر سبحانه، بل يحصرونها في عالمها المادي فقط، أما منهج القرآن الكريم فمختلف تماما. إن العلوم في أساسها تبحث في بدائع صنع الله سبحانه، وهكذا ينبغي أن تكون.

أما السنن الغيبية فكثيرة في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ  ) محمد (7)  
ومنها (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق 2-3)
ومنها (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ )  الزخرف (36)  
ومنها (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)   المائدة (91)

فهل سيصدق الماديون أن القرآن شفاء، أو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أو أن الصدقة تدفع البلاء، وغيرها من السنن الغيبية التي أخصنا الله سبحانه بها.

وهذه السنن في القرآن الكريم تبدأ من الإنسان والجزاء يكون من الرحمن، إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر، يقول سبحانه (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ  ) الشورى (30)  
ويقول سبحانه (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ  ) الروم (41)
وفي مجال الخير يقول سبحانه (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ  ) البقرة (195)
ويقول سبحانه (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا  * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) (الشرح 5-6)

وللنظر إلى بعض الأمثلة ضربها الله سبحانه وتعالى لتكون لنا منهجا وعبرة، يقول الله سبحانه وتعالى (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (القلم 19-20)، فما هي الأسباب المادية التي فعلت هذا؟!
ويقول عز شأنه (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا  * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) (الكهف 42-44)، هذا ليعلم أن الله وحده هو مقدر الأمور، وأنه على كل شيء قدير.

ويقول سبحانه (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا  *وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تَتَمَارَى  هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى) (النجم 42-56)

نعم الله سبحانه هو الذي أهلك الأولين لما طغوا، وهلاكه مباغت لهم لا يتصورون أسبابه ، يقول سبحانه (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ  * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء 11-18)

ويقول سبحانه في هلاك قوم عاد (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ) (عاد 15-16). فعاد في حقيقتها لم تعترف بأن الله هو القوي، فقالوا (من أشد منّا قوة)، فلذلك حق عليهم العذاب لأنهم نازعوا الله سبحانه وتعالى صفاته، فالمسألة كلها إنما هي تسبيح وعبادة وخضوع له سبحانه.

والتسبيح بدايته تعظيم لله سبحانه وتعالى خالق هذه الآيات، ونهايته استصغار للنفس أمام الله القدير، يقول تعالى (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ  ) الأعراف (146)  - 

فمن شأن المؤمن أن يستصغر نفسه (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ  ) القصص (24)، ويعترف لربه دائما بأنه مقصر مخطئ (أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ  ) الأنبياء (87. وذلك في مقابل معرفة أن الله هو قدير، (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  ) آل عمران (189، وهذا ما ينبغي أن يستقر في النفس وأن يكرر، خاصة وقت الدعاء.
فاستصغار للنفس في مقابل استشعار العظمة لله سبحانه. ولذلك فالاستصغار للنفس يذهب بكل الصفات المذمومة لدى النفس. وذلك ما يميّز آدم عن الشيطان الرجيم، حيث أن آدم لمّا أخطأ وذكره الله سبحانه تاب وأناب ورجع (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ  ) الأعراف (23. أما إبليس فتكبر (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ  ) الأعراف (12). وكل مظاهر القوة في الإنسان هي من الله سبحانه، فهو في أصله على الحقيقة ضعيف، فلا قوة إلا بالله.
وهكذا التعالي بالنفس والأنانية من أشد الأمراض فتكا بالإنسان، وذلك ما فعلته عاد حين غرتهم قوتهم، وذلك ما فعله صاحب الجنة، يقول سبحانه (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا   الكهف (34).

ويقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )  فاطر (15) ، ولذلك أيضا إذا اشتغل الأغنياء بأموالهم عن عبادة الله، فهم قد نسوا أنهم هم الفقراء لله، والله هو الغني، الذي يعطي ما يبحثون عنه، وهكذا في سائر الشؤون.
وبينما نرى ذو القرنين يقول (قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)  الكهف (98)  
نرى قارون يقول (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ  ) القصص (78)  

وإني لأعجب هنا من الأطروحات النفسية الموجودة الآن في السحاحة التي تحاول أن تعالج الحياة العقلية والعاطفية لدى الناس دونما أن يربط ذلك بالله تعالى وتسبيحه، وقوانينه الغيبية، وما سوف يأتي بإذن الله من أمر الشيطان وأنواع الضر في الطرح الإسلامي.

والتسبيح كما يعرّفه الشيخ بو سنان يقوم على ركنين أثنين:
1-     التنزيه، وهو الاعتراف بأن الله هو خالق الأمر وحده، والتركيز هنا على كونه وحده من غير شريك له فيه.
2-     أنه أحسن وأتقن الصنع والخلق.

والتسبيح في حقيقتة استشعار للمعاني، لا لطلب المعرفة العقلية فحسب، وإنما للتذكرة واستشعار العظمة لله سبحانه. فالذي خلق الأرض والسموات العلى هو الله وحده لا شريك له، وقد أتقن الله سبحانه وتعالى هذا الصنع، ومن استشعر ذلك فقد رجع باستعظام لله سبحانه وتعالى، وسبحه حق التسبيح. والتسبيح هو نمط الحياة ونظامها العام.
ومن ذلك، أن المطر لا ينزل بنفسه، ولكنّ الله وحده هو منزله، وهو الذي يخرج الزرع لا سواه. وذلكم في جانبي الخلق والأمر، فالتسبيح هو عمق للرؤية من وراء الأسباب ليُرى مسبب الأسباب، فعلى سبيل المثال، من أحظر الطعام الطيب اللذيذ ليست هي الزوجة وإنما هو الله سبحانه، فوجب حمده وشكره، هو لا سواه. والتسبيح هو أن ترى أن الله وحده المخرج الحقيقي لما يحدث في الكون كله، فالمخرج المسرحي وإن كان هو الذي يصيغ المسرحية جميعها، لكنه لا يرى على خشبة المسرح، ولله المثل الأعلى.
يقول سبحانه وتعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ )  الحج (63)، وهكذا يرى المسبح اللهَ تعالى في كل شيء، فهو ينسب الأحداث له سبحانه.

وتتميز قوانين الله وسننه بالثبات والاستمرار، فنزول المطر، مستمر، وكذا إخراج الزرع.
يقول سبحانه (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ  ) الأنعام (95)
فالفعل المضارع هنا، يخرج، يدل على الإستمرار، فالله سبحانه وتعالى يخرج النبات في كل وقت، وكل ما نراه من مأكولات هو أثر لهذا الإخراج، وإن توقف هذا الإخراج في وقت فلن يستطيع أحد أن يقوم به (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (الواقعة 63-67). وهذا هو منهج القرآن في المقارنة لتوضيح المعنى. ومن التذكير بهذه المعاني في واقع الحياة الضر الذي يذكر الإنسان بربه، ومنه أيضا العيوب الخلقية التي تظهر للناس مدى حاجة اللناس لله سبحانه.

والله سبحانه إذا أراد شيء فلا راد لقضائه وسننه، يقول تعالى مثلا (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) (النبأ 6-11).
فترى الناس جميعا ينامون بالليل، ولو حاول أحدهم ما حاول فإنه حتما سوف يستسلم للنوم في آخر المطاف، وذلك في جميع أجزاء الكرية الأرضية، وذلك لأن الله سبحان جعل الليل لباس، كما جعل النوم سباتا. وكذا ترى الناس جميعا في كل الكرة الأرضية تسعى للرزق عند الصباح، ذلك لأن الله جعل النهار معاشا. والله سبحانه تتكرر آياته في كل وقت وحين، على كل أطراف المعمورة.
وهكذا قراءة التسبيح في القرآن الكريم، هي باستحضار فعل الله (وجعلنا الليل لباسا). فالتدبر يكون في جعلنا، وليس في الليل، كما يكون باستحضار أسماء الله الحسنى التي تنتهي به الآيات. وذلكم هي القراءة باسم الله، فيقول سبحانه في بداية سورة العلق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  ) العلق (1


والله سبحانه وتعالى يرجع إليه الأمر كله، يقول تعالى (لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ  ) الزمر (63)
ويقول سبحانه (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ  ) هود (123)
ويقول عز شأنه (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ  ) السجدة (5)
ويقول لرسوله عليه الصلاة وأفضل التسليم (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ  ) آل عمران (128)  

وهكذا فإن كل نعمة أو نقمة هي من الله سبحانه وتعالى، (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )  التغابن (11)
ويقول سبحانه (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ  ) فاطر (2)  
ويقول سبحانه (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ  ) يونس (107)
ويقول عز شأنه (قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (الزمر 38)

ولذلك لتحقيق لا إله إلا الله، والإخلاص في التسبيح له، لا بد من الطاعة، دون إصرار على أي معصية، ولابد من تعظيم القلب لله سبحانه، ليكون حبه أعظم من أي حب آخر، والرجاء في رحمته أعظم من أي رجاء آخر، والخوف منه أعظم من أي خوف آخر، (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا  ) الإسراء (57)

والحب لله يكون بتذكر نعمه سبحانه وتعالى الظاهرة والباطنة، فالله سبحانه إنما خلق الكون لخدمة الإنسان ونفعه (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ  ) البقرة (165)

ومن كانت دنياه تشغله عن الخشوع بين يدي الله، فحبه لله إدعاء عقلي، لا استشعار قلبي، والتسبيح التفصيلي الذي ذكرناه سابقا هو المفتاح لاستشعار القرآن الكريم، وليس المطلوب هنا إدعاء معرفي، بل المطلوب استشعار قلبي لما فيه، وهذا هو العلم الحق، العلم ما أورث الاستشعار والتطبيق، وليس العلم معلومات معرفية تحشى بها الأمغة، وتقام عليها النظريات، والقرآن على كل حال أتى لكل أحد، رسالة ربانية لكل الناس، وليس للعالمين العارفين منهم فقط.
ومن قلب حياته إلى ذكر تفصيلي، يتملى فيه عالمي الخلق والأمر، فأنه سيستشعر عظمة الله سبحانه، ومن كان كذلك، فسوف يتلو القرآن على بصيرة وتدبر، قراءة أولي الألباب، كما يقول سبحانه عنهم: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران 190-191).
ومن خشع في تلاوته، خشع في صلاته، وحصل له الإخلاص، وتجنبه الشيطان، ونهته صلاته عن الفحشاء والمنكر.

والحب يولد الرجاء لله سبحانه، فيرجو رحمته، وجناته. والمؤمن يتقلب بين الخوف والرجاء، ذلك لأن الله عظيم جبار، ينتقم من المجرمين، فالمؤمن يعتبر من حال العاصين ويخاف أن يكون منهم، ومن خاف من الناس أكثر من خوف الله، فما عرف الله حق المعرفة، يقول سبحانه (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ  ) الجاثية (21)

وهكذا فإن التسبيح والذكر هو بلسم الحياة وروحها، وقد سماه الله سبحانه وتعالى بالإخراج من النور إلى الظلمات، أو الإحياء بعد الإماتته، يقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا  * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا  * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (الأحزاب 41-43)
فالتسبيح يلخص حركة الكون، واستشعاره هو لحظة السعادة للإنسان، والمؤمن عندما يحشر بالنور يوم القيامة، فإنه لم يحصل على ذلك النور في المحشر، بل حصّل عليه في الدنيا، فهم عاشوا بالنور في الدنيا وماتو بالنور ويبعثون بالنور يوم القيامة ثم يحشرون إلى أرض النور. أما المنافقون (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ) (البقرة 17-18).
ولذلك فهم يطلبون من المؤمنين النور في يوم القيامة، (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ  ) الحديد (13)

والنور يأتي بالذكر لله سبحانه وتعالى، كما يأتي بتتبع البينات من الآيات الكريمات، يقول سبحانه وتعالى (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ )  الحديد (9)  

ومن حصل على هذا النور، فالله سبحانه وتعالى يوسع صدره، فيتقبل كل الحقائق عنه سبحانه (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) الزمر (22. وهكذا يكون مبصرا في طريق الهداية، الصراط المستقيم. لذلك فتعلم التسبيح، وانشره، وعش به، وترقى في سلّمه، فهو العلم. وكذلك عش بالآيات حيّة في واقع حياتك، انتشلها في كل حين، حتى تكون معك وتكون معها، وبهذا يتجدد الإيمان ويحصل اليقين. والقرآن إنما هو كتاب هداية لهذا الطريق، طريق العيش بمعية الله سبحانه، والنظر إلى الوجود، بالمنظور الإلهي للخلق. وهكذا فإن مبدأ الإيمان هو النظر إلى الكون بنظرة الربط له بخالقه ومسيّر أمره. وأكثر الناس عمّي عن آيات الله في الأنفس والآفاق، حالهم كحال الأنعام لا تتفكر ولا ترتقي، بل هم أضل، والمقصود بالتفكر هنا هو التفكر الذي يورث معرفة الخالق الرازق، وليست معرفة في حدود المادة وأسبابها، مقطوعة عن من مسبب الأسباب.












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق