الحجة التي أرسلها الله سبحانه وتعالى للناس
ليقيم عليهم حجته تدور بين أمرين الآيات والرسل عليهم السلام.
1-
الآيات:
يقول الله سبحانه (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى *
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ
أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) (طه 124-126)
فالقضية هنا هي قضية عمى وبصيرة، رؤية للآيات
أم لا، وقد يكون الإنسان متخصصا علميا ولكنّه لا يرى الآيات، ذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء، إنها الهداية حيث تحل. وللمهتدي جائزتان، في الدنيا والآخرة، ففي شأن
الدنيا يكون للمعرض عيشة، ولكنها تكون ضنكا وتعبا كما تبين الآيات، ويكون صدره
ضيقا حرجا، يقول سبحانه وتعالى (فَمَن
يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ
يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) الأنعام
(125)
أما المهتدي إلى شرع الله ومنهاجه فإن له
حياة طيبة، وفرق بين العيشة والحياة، يقول سبحانه (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن
ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
النحل
(97).
ومن تتبع الآيات فقد تتبع أمر الله الخالق
لهذا الوجود، وسبب شقاء البشر أنهم يهتمون بالفكر البشري أكثر من إهماماهم بالآيات
(أَفَمَن
يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) النحل
(17). فهل يصح
للموظفين في شركة ما أن يركزوا على رسائل الآتية من بقية الموظفين، ولا يلتفتون
إلى الرسائل الآتية من المدير، كيف عندها سيكون العمل.
2-
الرسل:
يقول الله سبحانه وتعالى (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) النساء
(165). ويتحسر
الإنسان عند موته أنه لم يستجيب للآيات ولم يتبع الرسل، يقول سبحانه (وَأَنذِرِ
النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا
أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ
مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ) إبراهيم
(44)
الأصل اللإقتداء بالرسل وليس ببقية البشر،
فمثالنا في الصبر مثلا هو أيوب عليه السلام، نستجلي الحكم من صبره، ومثالنا يونس
عليه السلام في مجال التقصير لنرى كيف تعلق بالله لينجو، إن هؤلاء الرسل هم أهل
الله وخاصته والإقتداء بهم يقرب إليه، لأنهم يشربون من معين الله ويهتدون بهديه،
وهي أمثلة حية لنرى النماذج الربانية غير المشوبة بالإطروحات الفكرية البشرية
القاصرة على الأرض، إنها النماذج الربانية الكاملة التي وضعت لتكون لناس عبرة
ومنهاجا.
ويقترن إتباع الرسل والآيات بالإخراج من الظلمات إلى
النور في آيات كثيرة في القرآن الكريم، يقول الله سبحانه (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ
اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة 15-16).
ويقول سبحانه (الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (ابراهميم 1).
ويقول عز شأنه (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن
مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ
لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (الأنعام 122)
وهكذا الفرق بين المهتدي وغير المهتدي كالفرق
بين الأعمى والبصير، وكالفرق بين الحي والميت، وكالفرق بين الذي يتخبط في الظلمات
وبين هو على صراط مستقيم. يقول الله سبحانه (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ
يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الأنعام 39)
ويقول عز شأنه (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا
الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ) (فاطر
19-22). ويقول سبحانه (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) (الرعد 16)
ويقول عز شأنه (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ
آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ
أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة 257). ويقول جل
جلاله (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (الأحزاب 43).
والسؤال هنا هل يهتدي الأعمى أو من كان في
الظلمات، لا شك أن البصر والبصيرة والنور هي طريق الهداية في رحلة النور والظلمات.
ومن كان في الدنيا أعمى أو مظلما فلن يكون في الآخرة إلا كذلك، فتلك حصاد لهذه،
ومن أراد النور الحسي في الآخرة فعليه بالنور الغيبي في الدنيا، هكذا يتزاوج عالمي
الغيب والشهادة ليكملا الصورة في كل آن. إن الغيب وحقائقه تلف بالشهادة والعالم
المادي من كل جانب، لتظهر متجلية في الآخرة، ولا سبيل لمعرفة هذا الغيب إلا من عالِم
الغيب والشهادة.
ومن علامات هذه النور في الدنيا:
1.
الإطمئنان لذكر الله وخاصة في الصلاة والشمئزاز من ذكر
غيره، يقول سبحانه (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد
(28)، ويقول سبحانه
(وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ
) الزمر
(45)
2.
قرناء الجن والإنس ينفرون بذكر الله، فأنظر من تصاحب (وَإِذَا
ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا
) الإسراء
(46)، والله
سبحانه يوصي بعدم القعود معهم أيضا، يقول سبحانه (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ
يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الأنعام
(68)
بل ويوصي بالصبر والجلوس مع الذن يدعون الله
بالغدو والآصال، يقول سبحانه (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ
زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن
ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) الكهف
(28)
مرحلة الموت:
السعيد ينتظر الموت، فهو عنده كالضيف الآتي
لا محالةـ وقد أعد له عدته، لذلك فيكون طيبا سعيدا عنده لقائه، يقول سبحانه (الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ
الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل 32).
أما الشقي، فإنه يتفاجأ به، لأنه لم يحسب له
حسابا، بل كان في غمرة ظلمه وضلاله، فلذلك يتفاجأ ويصاب بالإنكار، ما كنا نعمل من
سوء، يقول سبحانه (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ
فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل 28)، ثم أنهم يطلبون أمدا آخر للرجوع
إلى الله سبحانه (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ
* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ
قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون
99-100)
والإستعداد للموت يكون بكثرة ذكره، يقول
سبحانه (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء
(35) ، وكل من في
الوجود سيموتون، ليبقى الله سبحانه، في دليل عملي أنه هوالحي وحده (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ)
القصص
(88)
حوادث القيامة:
تتلخص حوادث القيامة في أمرين: زلزال في
الأرض وشق في السماء.
يقول الله سبحانه في حق السماء في تلكم
الظروف (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ )المرسلات (9) ، ويقول (إِذَا
السَّمَاءُ
انشَقَّتْ ) الانشقاق
(1)
ويقول في حق الأرض (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ) الزلزلة
(1)، ويقول عن
حال الجبال (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا
قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا) (طه 105-107)، فهي
زلزلة عظيمة تستغرق الكرة الأرضية كلها
فتجعل حتى الجبال كثيبا مهيلا.
يقول الله تعالى (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ
الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) (النبأ 18-20)
وهذه الصدمة أقوى من كل رابطة في الكون، (يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ
امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (عبس 34-37)، ويذهل كل شيء عن ما
هو فيه (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ
سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) الحج
(2)
ثم تكون النفخة الأخرى، وذلك يوم الخروج، (يَوْمَ
تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) ق
(44)
مشهد الحشر:
يمثل الشيخ داوود بوسنان حال الحشر بمشهد
السماء عندما لا يكون شمس ولا قمر، حيث ترى النجوم متلئلة منيرة كل بحسبه في وسط
الظلمة العامة في أرجاء السماء، فالمكذبون هم المظلمون وهم يشكلون أعظم السماء
ومساحتها الأغلب، ويشكل أهل الإيمان النجوم المضيئة، كل بنوره وسطوعه. وهو تشبيه
شاخص جميل من الشيخ الفاضل، وهذا على كل حال ديدنه حيث يقرب مشاهد الغيب بالمشاهد،
ولعله أقتبسه من الأثر المعروف (إن الملائكة ينظرون من السماء إلى الذين يتهجدون
بالليل كما تنظرون أنتم إلى نجوم السماء).
وأهل الإيمان، هم أهل النور الحسي في القيامة
بعد أن كانوا أهل النور الغيبي في الدنيا، عاشوا بالنور وماتوا على النور وحشروا
بالنور، تتعرف عليهم الملائكة بنورهم فتأتي مبشرة لهم، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا
رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) فصلت
(30)، وأسمعوا
إلى لا تخافوا ولا تحزنوا، فهؤلاء عاشوا بالخوف من الله سبحانه وتعالى، والحزن على
تقصيرهم، وقد صاحبهم ذلكم الإشفاق وذلكم الحزن حتى أتتهم الملائكة مبشرين. إن الإيمان طاقة صفاء، طاقة إيجابية مريحة، وقد
عبر الله سبحانه وتعالى عنه بالنور، فسبحان الله ما أعظم التعبير وما أجمله. وفي
هذا دروس، فالإيمان غذاء روحي، طاقة متجددة يحتاجها الإنسان في كل وقت، فهي إذن
ليست معرفة فحسب، وإنما شعور وطاقة تستوعبها القلوب بعد أن تتشربها العقول معرفة
بإيمان وتحقق لا ريب فيه. ويقول الله سبحانه في حال المشهد (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (آل عمران 6).
ويقول الله سبحانه (يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن
نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم
بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ
الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ
فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ
حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ *فَالْيَوْمَ لا
يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ
هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الحديد 12-15).
وهكذا تأخذ الملائكة أهل الإيمان، وهم تكسوهم
الأنوار إلى أرض النور، وأشرقت الأرض بنور ربها، يأخذونهم إلى قاعة الإنتظار وذلك
قبل دخول نزلهم، وهؤلاء هم وفد الرحمن (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا
) مريم
(85) وفي مقدمة
هذا الوفد يكون أهل الله من الأنبياء والمرسلين، والصديقين والشهداء، وحسن أولئك
رفيقا.
وهؤلاء أيضا يتسابقون على المنازل الأولى في سباق
الخير والعمل الصالح، فأيهم الأكثر بلاء، وأيهم كان الأشرف منزلا، فيفا ضل بينهم، وسوف يمر بإذن الله أن الذنوب تمحى،
فلا يكون في الصحائف إلا أعمال الخير، ويقول الله سبحانه وتعالى (وَأَشْرَقَتِ
الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الزمر 69)
أما المنافقون فيطلبون أن يذهبوا إلى أرض
النور مع المتقين، وأنى لهم ذلك، فيضرب بينهم بسور، فيه رحمة ظاهر من جهة المؤمنين،
وعذاب من جهة المنافقين، فيعزل بين الفريقين ويفصل بينهم. وفي الآيات لفتات جميلة إلى
ما الذي حال بين المنافقين والفلاح، فتذكر الأمور التالية: إفتان النفس، والتربص
والإرتياب، والإغترار بالأماني، والإغترار بالله، وهي مواقف ينبغي الوقوف معها، ليحاسب
الإنسان نفسه إن كان واقع في مثل هذه الأمور أم لا.
وأول ما يفعله المؤمنون عند دخولهم الجنة هو الحمد (وَسِيقَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا
وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ
فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا
وَعْدَهُ وَأَوْرَثْنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء
فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (الزمر 73-74)
أما المجرمون فلا بشرى لهم، يقول الله سبحانه
وتعالى (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ
حِجْرًا مَّحْجُورًا ) الفرقان
(22)، وهؤلاء
يساقون إلى جهنم خشعا أبصارهم، مسودة وجوهم، (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ
إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا)
مريم
(86، وبمجرد خروجهم
من الأجداث يرون النار تناديهم من بعيد (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) الفرقان
(12)
ويقول الله تعالى (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ
) القمر
(7).
والمعروف عن الجراد بأنه لا يصلح المحاصيل بل
يفسدها، كما أن صغير الجراد يكون لونه أسود داكن، والجراد يطير لمسافات طويلة دون توقف،
ولا تصتدم جرادة بأخرى، ويقول الله سبحانه (وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا
لَّقَدْ
جِئْتُمُونَا كَمَا
خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا ) الكهف
(48) والجراد إذا سافر لا يوقفه شيء، ولكن إذا حُفِر له خندقا وأشعلت فيه
النار، فإنه يهوي إليه أسرابا، ولا ينتفع اللاحق منه بالسابق، بل يهوي الجميع في
تلكم النار. والحشر على كل حال مواقف كثيرة جدا، يصعب
استقصائها في هذا المقام.
أما استغاثات أهل النار فكثيرة، فينادون
أصحاب الحنة (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ
عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)، فيردون عليهم (إِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ).
ويستغيثون بخزنه جهنم (َقَالَ الَّذِينَ فِي
النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ
الْعَذَابِ)، فيردون عليهم (قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ
فِي ضَلالٍ).
ويستغيثون بمالك، خازن النار (وَنَادَوْا يَا
مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)، فيرد عليهم (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ).
ويستغيثون بالله سبحانه (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) فيأتي الجواب (أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ) فاطر
(37). وهذا يذكرنا هنا بلحظات الضر المحيط، نفس الطلب
بالضبط.
ثم يكرر جل جلاله في النار بلسان المقال
فقال: (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ)
ويكون جوابهم هو: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا
ضَالِّينَ، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ).
ويقول الله تعال في مجمل هذه المشاهد: (فَإِذَا
نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَن
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ
خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ
تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا
رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا
وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا
آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ
سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي
جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ
لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا لَّوْ
أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ
لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ) (المؤمنون 101-118).
ثم إذا قضي الأمر، قام الشيطان ي وسط جهنم
خطيبا (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ
وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن
سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي
وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم
بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) إبراهيم
(22)
التوبة:
ولنبدأ من النهاية، حين توضع الكتب (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا
فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا
أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) الكهف
(49)
نعم فكل صغير وكبير مستطر، كل شيء يسجل من
الآن ليعرض يوم القيامة، (هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا
كُنَّا
نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ
) الجاثية
(29)، ويقول
سبحانه (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ
قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق 17-18)
وهكذا يأتيه الكتاب ليرى أعماله، ثم تتكفل
نفسه بحسابه (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) الإسراء
(14)، وهل يمكن
لأحد أن يحاور المرآة، إنها نفسه تحاوره وتجادله، تسطر عليه البراهين جميعها فيرى
نفسه وهو يعمل المعصية تلو المعصية وهي تُحصى عليه، فكيف له أن ينكر، إن علم الله
مطلق، والبراهين هنا ظاهرة متكاتفة، فكيف للإنسان أن لا يقر وهو يرى عمله شاخصا
أمامه، يقول سبحانه (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ
سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى) (النجم 39-41).
وهكذا يرى الشقي العابس المكفهر وجهه أعماله
السيئة كالجبال، تتراكم أمامه، أما المؤمن المستبشر فلا يرى إلا الحسنات، أما
السيئات فقد مسحت وعفي عنها بسبب توبته، يقول الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي
اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا
وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التحريم
(8)، ويقول الله
سبحانه (لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) سبأ
(4)، فهولاء
وجههم بيضاء وصحائفهم أيضا بيضاء، بعكس المجرمين، وجوههم سوداء وصحائفهم سوداء.
إن التوبة والإنابة إلى الله هي الفيصل في هذا الأمر،
فإن كان الإنسان تائبا بصدق فإنه لا يبقي له سيئات بل يسارع إلى الإستغفار، أم
المستهتر بمقام الله سبحانه، فلا تقبل منه حسناته وإن كانت مثل الجبال الشواهق،
لأن الله سبحانه إنما يتقبل من المتقين.
وهذا في الدنيا قبل الآخرة، والمثال الحي على ذلك يأتي
من قصة قابيل وهابيل، فإنّ قابيل وإن كان قدم قربانا لله، ولكنه أيضا كان عنده
أهداف أخرى فلم يتقبل منه، يقول الله سبحانه (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ
إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ
قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) المائدة (27)
لذلك فالتوبة لابد أن تكون عن ندم، وتعظيم لله سبحانه، وليست
التوبة للمتمادي في المعاصي، يتوب وهو يفكر في المعصية الآخرى، أو يتوب وهو قائم
في معصية، فهذا شأن المستهتر بمقام الله سبحانه وتعالى، يقول تعالى (إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ
يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ
حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ
الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا) (النساء 17-18)
أما الأخسرين أعمالا، فهم من كان يعمل الخير، ولا يرجو
الله به!، يقول تعالى (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي
وَرُسُلِي هُزُوًا) (الكهف 103-106)
نعم ليس
المقام إذن مقام حسنات وسيئات، وإنما
المقام، لمن عملت هذه الحسنات، فحق لها أن تحبط، ولو ملئت الأرض والسماء، إن لم
تكن لوجه الله سبحانه، واستشعارا لعظمته، أنه عمل لا ينسجم مع الخالق الرازق،
المُجازي على الخير بالإحسان والنعيم، أمّا هؤلاء، فقد ضلوا الطريق، واستهتروا
بمقام الله الخلّاق الرزّاق.
عاملي الإستصغار والزمن
والتوبة أصلها استعظام المعصية لأنها في مقام الله سبحانه
وتعالى، وأول بوابة الشقاء هي استصغار المعصية، تُستصغر المعصية وكأنها لا شيء،
وذلك بتزيين من الشيطان، يقول الله سبحانه (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ
اللَّهِ عَظِيمٌ ) النور (15)، ويقول
سبحانه (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) (الأنفال 48)، ولذلك
أقلع عن الإستصغار تقلع عن المعصية، هذه هي بوابة التوبة، تعظيم الله سبحانه
وتعالى.
والعامل الثاني هو عامل الوقت (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ) الشعراء
(205)، فمع الوقت تستخف الإنسان بالمعصية، وتصبح وكأنها لاشيء، بل يألفها مع
الوقت، فالمعصية مع الوقت تلتهم صاحبها، حتى ترديه.
ولنقدم هنا بعض الأدلة على خطورة المعصية:
1-
(فَطَافَ
عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)
(القلم 19-20)، فهؤلاء أقسموا أن يمنعوا حق المسكين من ثمار الجنة، ولم يمنعوا
بعد، فأذهب الله جنتهم بالكلية، وجعلها رمادا.
2-
(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ
هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ) طه (123)
آدم وحوى أكلا من الشجرة، فعوقبا بالخروج من
الجنة، هي أول معصية، وقد كانا على نسيان (وَلَقَدْ عَهِدْنَا
إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) طه (115)، وكذلك لم يترتب على معصيتهما ظلم
للعباد، فبعض الناس لا يهتم بمعاصي الله، وإنما فقط إذا نالت غيره بسوء، وآدم
وحواء عندما ذكرا تابا ولم يراجعا أنها معصية صغيرة، وأنها واحدة فقط (قَالَا رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ) الأعراف (23).
لذلك لا تستصغر المعصية، ولا تقل إنها واحدة
فقط، وأنّ لي أعمال آخرى، وهذه ستغيب في بحر حسناتي، فلم يفعل ذلك نوح عليه
السلام، وقد كان نبيا، وعمل في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاما، ولكن عندما ذكّره
ربه، استغفر وأناب في الحال يقول الله سبحانه:
(وَنَادَى نُوحٌ
رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ
وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ
بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي
وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) (هود 45-47). سبحان الله،
بعد مجال الدعوة كلها، انظر مقام استعظام الله تعالى، وكيف خاف أن يكون من
الخاسرين، لذلك فلا يغتر الإنسان بعمله أبدا، وليعظم الله سبحانه في نفسه، وليجعل
للآخرة منزلة عالية في نفسه، وليخطط لها، فالمؤمن ينبغي أن لا يتقتصر تخطيطه على
الدنيا فقط، بل يخطط للآخرة، يدخر لها الأعمال، ويجعل شيء مخبوء لها بينه وبين
الله سبحانه، وليكن عمله في الدنيا من مبدأ قوله تعالى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن
رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) (الإنسان 9-10).
وليعلم الإنسان
أن طريق الجنة والنور يبدأ من التوبة ، وطريق جهنم والظلمات يبدأ من الإستصغار،
فعليك بالتوبة النصوح، يقول سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا
إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ
النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) التحريم (8).
فعلى الإنسان أن يصر على التوبة وأن يتذكر كل ذنوبه،
يعصر فكره حتى يتذكر كل شيء، فيتوب عنه، قبل أن تتراكم عليه الذنوب يوم القيامة، (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم
بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
) المجادلة (6)، فيرى ذنوبا كثيرة لم يهتم
بها مستصغرا لها، وهي تتراكم عليه لتكون كالجبال، ومن أراد الله به خيرا أراه
ذنوبه في الدنيا، وتذكرها حتى يتوب عنها، وهكذا كل من أقبل إلى الله سبحانه بصدق
تذكر ذنوبه حتى يتوب عنها. فعلى المسلم أن يصفى كل ملفات المعاصي في الدنيا ولا
ينتظر الآخرة، فإنه من الخطأ أن تضمر أن تحاسب الناس في الآخرة، بل أسع لتصفية كل
الملفات العالقة في الدنيا، ولتبقي على الخصومة، فإن ذلك من وساوس الشيطان،
والتخاصم إنما هو من شيّم أهل النار (إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّار)
ص (64)
وابحث عن الناصح الأمين، أو العالم القاضي،
الذي يمكنه أن يفك الخصومة في المسائل التي تحتاج ذلك، كما فعلا ضيفا داوود عليه
السلام حين تسورا عليه المحراب، ولم ينتظرا حتى يخرج. يقول الله سبحانه وتعالى في
قصتهم (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ
دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى
بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا
إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً
وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ
لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ
الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا
فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ
ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) (ص 21-25)
هؤلاء الخصمان، أقبلا معا لفك الخصومة، ولم ينفر أحدهم
من الآخر، وقد استعجلا في ذلك حتى أنهم لم ينتظرا داوود عليه السلام ليخرج من
معبده المغلق، بل استعجلا لأن فك الخصومة مقدم على كل النوافل، فمن كان في نافلة
فليقطعها حتى يجمع بين المتخاصمين، وإطفاء الشرر أفضل من إطفاء النيران والحرائق، فلا
تنتظر حتى تصير الشرارة حريقا، بل اطفئها في الحال، يقول الله سبحانه (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا
مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ
ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) النساء (114)
وهنا خاطب أحد المتخاصمين الآخر بأخي، ولم تأخذه الخصومة
لينسى حق الآخوة، كما تبيّن الآيات أن الحق لا يدرى مع من، فقد يكون الواقع بخلاف
ما يظهر في الولهة الأولى فلا بد من الإستماع من الطرفين، ولذك استغفر داوود عليه
السلام ربه، فلا ينبغي أن يقرر حكم سابق، بل على الحكم أن يسمع من الطرفين على حد
سواء، ولا ينخدع بالمعطيات الأولى.
فهنا إذن قواعد لتصفية ملفات المعاصي:
1.
تذكر ذنوبك جميعا وتب منها قبل الممات
2.
اسئل الراسخ في العلم حتى تتيقن
3.
صفي الملفات كلها، ولا تترك منها صغيرا أو كبيرا
4.
سارع في التصفية (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
) الزخرف (32)
وأعلم أن طريق الجنة يبدأ من استصغار المعاصي، وأن
المتقين الخائفيين لله وحدهم من يدخلون الجنة، أما المصرين المستهترين فلا مكان
لهم فيها، يقول سبحانه (وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ
يَعْلَمُونَ ) آل عمران (135) ، فلا يوجد
إصرار عند هؤلاء أبدا في حال أنهم ظلموا أنفسهم.
وهذا هو حال الإيمان،يطرد المعاصي، لذلك يستحيل أن يصلى
الإنسان بخشوع وهو يسرق، (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن...)، والله لا يقبل
عملا مغشوشا أبدا، فلا تجعل أعمالك بالعملة المزيفة التي لا تقبل يوم القيامة، فإن
الشيطان يعمل على هذا الجانب. بل إجعل من ذكرك لله بالذكر التفصيلي ومن قراءة
القرآن الكريم قراءة النور سورا لك وحصنا من الشيطان الرجيم.
كيف نقرأ القرآن قراءة النور:
1.
بين الحين والآخر أذكر أسماء القرآن الكريم، وتذكر
الآيات التي تتحدث عنه، حتى يعظم كلام الله في نفسك.
2.
إعلم أن القرآن هو العلم الأصلى الوحيد، وجميع العلوم
النافعة فرعية بالنسبة له، فتمسك بالأصل قبل الفرع. وأن ثمرته دخول الجنة بعكس
غره، وأنه يؤلف بين المؤمنين في الدنيا، يقول سبحانه (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ
أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
الأنفال (63)
3.
مفتاح التأثر بالقرآن هو التفكر بالخلق، وبها تحصل قراءة
النور، فقراءة القرآن تكون أثرا للتفكر في الخلق، وسببا للخشوع في الصلاة. والقرآن
كتاب هداية، لا كتاب فلسفة أو أدب.
4.
راقب سمعك وبصرك، فالظلمات لا تجتمع مع النور، فإياك
والغيبة أو نظرة الإستهزاء، (إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) الإسراء (36) ، فمن راقب سمعه وبصره أصلح الله
فؤاده.
5.
عليك بالرفقة الطيبة التي تعينك (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ
مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) الكهف (28)، فاجعل لك صحبة تعينك وتذكرك
بالله إذا نسيت، وتيعنك في الخير.
قواعد التلاوة:
1.
قراءة اتباع لا انقطاع، فاتبع الآية ولو خالفت هواك (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ )
طه (123)، ولا تلكم من الذين قال الله فيهم (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا
مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) البقرة (170)
2.
قراءة خشوع لا قراءة شرود ذهن، فإن ذلك أول بوابات
الشيطان، منعك من الاستماع لكلام الله بأي طريقة، ويقول الله سبحانه (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ
قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) الحديد
(16)، والخشوع كما مر بوابته الذكر التفصيلي وهو التفكر في الخلق.
3.
قراءة ذكر لا قراءة شعر، فلا تغفل عن الذكر في الآية، بل
ركزعليه، فإذا قال الله سبحانه (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) الأنعام (96)،
ففكر بداية في الجاعل لا في المجعول.
4.
قراءة الميسر وليس المفسر، فركز على الواضح
البيّن في الأيات، ولا تذهب إلى الذي يحتاج إلى تفسير، فإن القرآن رسالة لجميع
البشر، وفي البيّنات من الآيات الخير وزيادة، يقول تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) القمر (17)
5.
بالذكر يحصل النور، فالدائرة هكذا، تذكر ثم تأثر ثم
تغيّر في الجوارح والأعمال، وهنا تنبع أهمية التكرار، لأن الهدف هو لتغير العادات،
فلا بد من التكرار، والتذكر الدائم (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ )
الغاشية (21)، وكذا آيات الله متجددة للتذكير الدائم، فكل ليلة يأتي الليل
ليذكرنا بقدرة الله على تسير الشمس والقمر.
6.
الإنذار بعد الذكر، والإنذار هو أن تخبر غيرك بالنبأ
العظيم الذي هم مقبلون عليه، أن الدول تجعل مجسات لتنذرهم من الحوادث، وكذا ينبغي
أن تكون منذرا للناس بين يدي حدث عظيم هم مقبلون عليه، يقول الله سبحانه في حال
الجن (وَإِذْ صَرَفْنَا
إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا
أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ) الأحقاف (29)، ولكي تذكر غيرك لابد من أن تنزل
الآيات أولا في قلبك، فإذا تمكنت من القلب خرجت إلى اللسان، والذي يمنع الآيات من
النزول في القلب، هو الغشاوة على البصر أو الوقر على الآذان، فحارب ذلك بترك
المعاصي والتوبة ثم بالذكر. ثم عليك بالصبر، يقول سبحانه (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) العصر (3)، ثم
عليك بمنهج الأنبياء وهو فذكر، ولا تستبدله بمنهج فعرّف، فالقرآن طريقه من القلب
إلى القلب، فليس هنا مجال للجدال العقيم والمحاججة المستنزفة للطاقات.
7.
التذكير من غير حكمة تنفير، يقول الله سبحانه (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) النحل (125)، والحكمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
a.
قبل النطق: وهو أن تناديه بالقاسم المشترك، كما قال
إبراهيم عليه السلام (يَا أَبَتِ إِنِّي
أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا
) مريم (45)، وكما كان يقول الأنبياء (يا
قوم....)، ولا تقل يا أيها الفاسق الفاجر.
b.
أثناء النطق: تراعي المقام وأحاسيس الناس
والمدعوين، وقد يقتضي الأمر توطئات حتى تقول ما تريد.
c.
بعد النطق: توقع النتيجة تكون سلبية أو إيجابية، فردات
الناس لا تكون دائمة متوقعة، وقد وصف المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون
وبغيرها، فصبر عليه الصلاة والسلام (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) الحجر (6)، ويقول الله سبحانه وتعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) المؤمنون (96)
هذا والله الموفق لما فيه الخير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق