السبت، 20 يونيو 2015

التزكية (ضرورتها- وسائلها-موانعها) لنبيل حامد المعاز   


تعريف التزكية (لإبي الحسن الندوي):

نسمي العلم الذي يتكفل بتزكية النفوس وتهذيبها وتحليتها بالفضائل الشرعية وتخليتها عن الرذائل النفسية والخلقية، ويدعو إلى كمال الإيمان والحصول على درجة الإحسان، والتخلق بالأخلاق النبوية، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في صفاته الباطنية وكيفياته الإيمانية (التزكية، أو الإحسان، أو فقه الباطن).

أهمية التزكية:

ليست التزكية شيئا عارضا أو هينا في ميزان الإسلام، ولكنها ركن ركين من أركانه، ويكفي أن الله سبحانه جعلها من المهام التي أرسل لها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة،وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).

وليس أدل على أهميتها أيضا من أن الله سبحانه جعل الفلاح في فعلها والخيبة والخسران في اهمالها، فقال –بعد أطول قسم في القرآن كله- (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها).

ولهذه الأهمية كان صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يزكي نفسه، ويعوذ به مما يخالف ذلك، فيقول (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها).

وقد فرض الله سبحانه وتعالى ذكره على عباده في أصعب الحالات وأشدها (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فأثبتوا واذكروا الله ذكرا كثيرا لعلكم تفلحون)، وقد حبس لسان عبده زكريا من مطلق الكلام إلا من ذكره سبحانه فقال تعالى (ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، وأذكر ربك كثيرا).

 

من مظاهر أهمية التزكية:

1. إن الله تعالى أناط النصر بالتزكية، فقال سبحانه (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم). وإذا رجعنا إلى تاريخنا، وجدنا النصر مطردا مع التزكية والتربية، ووجدنا الهزيمة مطردة مع إهمالها أو التقصير فيها، ولنرجع مثلا إلى غزوة بدر وغزوة أحد، ولنقارن بين الأحزاب وحنين، ولننظر للدولة الإسلامية أيام عزها وأيام ضعفها وانزوائها.

ولربما أراد بعض المتحمسين الاستعجال للقتال فضرب الله لهم الأمثال بأن عليهم أن يربوا أنفسهم أولا فقال سبحانه (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب).

 
ويقول سبحانه منبها على أهمية الذكر عند المواجهة (يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فأثبتوا واذكروا الله ذكرا كثيرا لعلكم تفلحون)، كما قال سبحانه (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا).

ويقول الأستاذ أبو الحسن الندوي (ومما يجدر بالذكر ويسترعي الإنتباه أن تلك القوة المعنوية والروحية والشخصية الفذة والإخلاص والربانيةـ والحنان والعاطفة، والإقدام والشهامة التي نحتاج إليها للتضحية والفداء بذل المهج والأرواح، والجهاد والكفاح والتجديد والإصلاح، والفتح والتسخير لا تنشأ ولا تظهر في أكثر الأحيان إلا بعد صفاء الروح وتهذيب النفس والرياضة والعبادة، ولذلك نرى أن أكثر من قاموا بدور التجديد والجهاد في تاريخ الإسلام كانوا يتمتعون بمكانة روحية سامية).

 

2. ضرورة التزكية للعلماء والدعاة:

فهذا محمد صلى الله عليه وسلم يأمره ربه بقيام الليل حتى يستطيع أن ينهض بعبء هذه الأمانة فقال (يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو أنقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا).

وقال سبحانه عن أنبياءه إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين). وقد جعل سبحانه عدة أنبياءه موسى وهارون التزكية لمواجهة فرعون فقال سبحانه (أذهب أنا وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري)

وقال سبحانه في وصف صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوهم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فأزرة فاستغلظ فاستوى على سوقه، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجر كريم)

والتزكية ضرورة للعلماء والدعاة من وجوه كثيرة منها:

1. ضرورة لحصول العلم والفهم، قال تعالى (واتقوا الله ويعلمكم الله)، ويقول الله تعالى أنه أتى يوسف عليه والسلام الحكم والعلم بسبب إحسانه (ولما بلغ أشده أتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين). وبين سبحانه بأن التبصر بأنوار الكتاب بكون لمن أناب له سبحانه (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب)، وقال عز وجل (وما يتذكر إلا من ينيب)

2.أن محبة الناس للداعي إن تكون بتمسكه بحب الله، قال تعالى (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا). وقال صلى الله عليه وسلم (إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض. وإذا أبغض عبدا دعا جبريل إن الله يبغض فلانا فأبغضه جبريل، فينادى جبريل في أهل السماء، إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض).

ويقول ابن عباس رضي الله عنهما (إن الحسنة ضياء في الوجه، ونور في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن السيئة سوءا  في الوجه، وظلمة في القلب، ونقصا في الرزق، ووهنا في البدن، وبغضة في قلوب الخلق).

 

3. ضرورة للدعاة حتى لا يكونوا  من الذين يقولون مالا يعلمون: فقبل أن يدع الناس إلى الدخول في هذا الباب العظيم من أبواب الدين، يجب أن يدخلوه أولا، يقول الله تعالى (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون). وقبل أن يوجه لقمان أبنه للدعوة إلى الله، وجهه إلى اصلاح نفسه بأعظم عبادة وهي الصلاة (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر).

4. هي ضرورة للدعاة لما يتعرضون له من إيذاء أو تضيق أو سجن أو غير ذلك، فالتزكية حينئذ سلواهم ونجواهم، يقول الله تعالى (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين).

ويقول سبحانه (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، ومن أناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى). ويشير الأستاذ القرضاوي إلى السر في اقتران الصبر بالتسبيح فيقول (وقد أعقب الأمر بالتسبيح الأمر بالصبر في جملة آيات، ولعل السر في ذلك أن التسبيح يعطي الإنسان شحنة روحية تحلو بها مرارة الصبر، ونشرح بها ضيق الصدر). بل إن التزكية تحول محنة الداعية إلى منحة، ومحبسه إلى جنة وافرة الظلال، وهل ألف السيد قطب تفسيره (في ظلال القرآن) إلا في السجن.

5.وكما أن التزكية شرط من شروط العلم والفهم، فإن الإهمال والتقصير فيها، واقتراف الذنوب سبب في حرمان العلم أو نسيانه أو تعذر الفهم، يقول تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية، يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به). وقال الشافعي:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور     ونور الله لا يهدى لعاصي

 

3. التزكية وسيلة للنجاة من المصائب والمكائد:

إن للمكائد والخروج من الأزمات وسائل مادية مشروعة ندبنا الإسلام للأخذ بها، ولكن التزكية عنصرا مهما يعول عليه الإسلام كثيرا في هذه المواجهة، فالله سبحانه وجهنا لعبادات جليلة حتى نتمكن من رد هذه المكائد، فقال سبحانه (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم، من بعد ما تبين لهم الحق، فأعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره، إن الله على كل شيء قدير، وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله، إن الله بما تعملون بصير). وقال عز شأنه (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما تعملون محيط)، وقال (إن الله يدافع عن الذين ءامنوا).
 

4. التزكية وسيلة للخروج من الإبتلاءات:

وفي ذلك جملة آيات منها قوله الله تعالى (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا، ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون)، وقوله سبحانه (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)، وقوله عز وجل ( استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرار، يمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا). وقد بين سبحانه أن الطاعة من أهم أسباب التثبيت، فقال سبحانه (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا).

 

5. التزكية تؤدي إلى الألفة مع الخلائق:

كل الكائنات تدور في فلك العبودية، ولا يشذ عنها إلا هالك، قال تعالى (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب، ومن يهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء).

وإذا أدرك المسلم ذلك واجتهد أن يأخذ مكانه اللائق به في فلك العبودية والتسبيح، فإنه سيشعر بالقرب والألفة والمودة مع هذه المخلوقات المسبحةـ وستبادله هي أيضا تلك المشاعر، يقول الله عز وجل (ولقد آتينا داوود منا فضلا، يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد).
 

6. التزكية هي الوسيلة للسعادة والطمأنينة والأنس:

من المعلوم أن الذكر من أعظم الوسائل للسعادة والطمأنينة، يقول الله تعالى (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم لذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وكذلك إهماله من أهم أسباب  الشقاق والقلق، يقول جل شأنه (ومن يعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا). ويقول الله تعالى (يا أيها الناس قد جائكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، قل بفضل الله وبرحمتة فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).

7. من ذكر الله ذكره الله:

يقول الله تعالى (فأذكروني أذكركم، وأشكروا لي ولا تكفرون)، ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الشرف فيقول (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة).

وقد قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا، هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما).

 
من وسائل التزكية:

1. الذكر:

وقيل هو أفضل الأعمال كلها، لأن الله تعالى يقول (ولذكر الله أكبر)، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها هي درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا العدو فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قيل: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله).

وللذكر مدلول واسع، فيدخل فيه ذكر أسماء الله سبحانه وصفاته، والثناء عليه بها وذكر نعمه وإحسانه، والطاعة ذكر، وطلب العلم ذكر، وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل، والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كلها أذكار.....

وكلمة التوحيد من أفضل الذكر، يقول صلى الله عليه وسلم (جدّدوا إيمانكم، قيل كيف نجدد إيماننا يا رسول الله، قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله).

وتلاوة القرآن الكريم حق تلاوته، بشروطها وآدابها من أعظم الذكر، يقول الله تعالى (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا).

والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الوسائل الطيبة للتزكية، فيقول صلى الله عليه وسلم (صلوا علي فإنها زكاة لكم).

2. الفكر:

أمر عز وجل بالتفكر والتدبر، وأثنى على المتفكرين، وذم الغافلين المعرضين في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، وذلك لما في التفكر من فوائد عظيمة في الدنيا والآخرة, وقيل:

إذا المرء كانت له فكرة          ففي كل شيء له عبرة

أنواع التفكر ومجالاته/

بعضنا يحصر دائرة التفكر في النظر في السماء، والتدبر في آيات القرآن الكريم فقط، مع أن مجالات التفكير وأنواعه كثيرة جدا، ويستطيع المسلم بتوفيق الله أن يجعل منها زادا متجددا لقلبه، ومن أعظم مجالاته:

1. أكثرها نفعا ما كان لله والدار الآخرة، وهو ينقسم إلى أنواع منها:

) التفكر في آياته المنزلة وتدبرها وفهم مراده سبحانه منها

) التفكر في آياته المشهودة، والاعتبار بها والاستدلال بها على أسمائه وصفاته وحكمته سبحانه

) التفكر في نعمه وإحسانه على خلقه

) التفكر في عيوب النفس وآفاتها، وفي عيوب العمل

) التفكر في واجب الوقت وكيفية الحفاظ عليه

2. ومن مجالاته العظيمة، التفكر في أمور الآخرة، بدءا من الموت والقبر حتى دخول الجنة أو النار.

3. ومن مجالاته الدقيقة، التفكر في حال الله سبحانه مع العصاة والمكذبين، يقول الله تعالى (وقد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
 

3. الصحبة الصالحة:

للصديق التأثير البالغ في صديقه، فقد يذّكر بالله، وقد يضل عن الذكر، وقد يكون كحامل المسك، وقد يكون كنافخ الكير، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).

ومعايشة الصالحين وقراءة أخبارهم والاستماع إليها من أعظم وسائل التربية والتزكية، ولأهميتها فقد استخدمها القرآن الكريم والسنة المطهرة، فلكم ذكر القرآن من قصص (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك).

والله سبحانه وتعالى يقول (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم).
 

4. الفرائض والنوافل وكل الطاعات:

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما أفترضته عليه....)

يقول خالد محمد خالد (إن أهل، الله ليدركون أن طاعة الله في تعاليم دينه هي طريق البدء، وطريق السير، وطريق الختام، وإن كل زيغ عنها أو تفريط فيها إنما يعني –والعياذ بالله- الطرد من نعمته وحضرته، وكذلك فهم يدركون أن الدأب على أداء فرائض الدين ونوافله ليس طريقهم إلى المزيد من فضل الله وحبه وحسب، بل هو أمانهم الوحيد من الخذلان).

أما النوافل فهي دليل على شغف العبد بدوام الإتصال بالله سبحانه، فهو لا يكتفي بالفرائض بل يحرص على زيادة فرص القرب، ويستغرق فيها حتى يصير عبدا ربانيا (وما زال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها).

والطاعة والعمل الصالح أعم وأشمل من الفرائض والنوافل، يقول الله تعالى في آيات الاستئذان على البيوت (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم)، وهذا يدل على أن للطاعة أثر عظيم في التزكية:

وقد ذكر العلماء للطاعة شروطا منها، الإخلاص، والشعور بمنة الله وتوفيقه، والشعور بالتقصير والخوف من عدم القبول:

1. الإخلاص:

وهو شرط أساسي لقبول العمل (فمن كان يدعوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)

يقول الندوي عن الإخلاص (إن هذا الإخلاص والحب يحيي موات الأعمال وينفخ الروح في الجهود الإصلاحية والكفاح الإسلامي، ويملؤه قوة وأملا، ونشاطا وعزة، فترجع الروحانيات إلى العبادات، ويرجع النور إلى العلم، وترجع القوة والبركة إلى التعليم والتدريس، ويرجع التأثير إلى الخطابة والوعظ، ويرجع القبول والقوة إلى الدعوة والإصلاح، ويرجع الأثر المسلوب والجمال المحجوب إلى الكتابة والتأليف، ويعود التوفيق والنجاح وحسن العاقبة إلى الجهود السياسية والتنظيمية).

2. الشعور بمنة الله وتوفيقه:

أعظم نعم الله علينا هدايتنا للإيمان والإسلام وهذه الهداية بمحض فضل من الله وكرمه وتوفيقه، ولا حول لنا فيها ولا قوة، يقول الله جل ذكره (وما بكم من نعمة فمن الله)، ويقول بلسان أهل الجنة (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله).

وقد ارتجز النبي صلى الله عليه وسلم عندما غمرهم هذا الإحساس وهم يحفرون الخندق:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا          ولا تصدقنا ولا صلينا

وقال موسى عليه السلام (يا رب إن أنا صليت فمن قبلك، وإن أنا تصدقت فمن قبلك، وإن أن بلغت رسالتك فمن قبلك، فكيف أشكرك، قال: الآن شكرتني).

3. الشعور بالتقصير والخوف من عدم القبول:

وذلك لأن طاعتنا مهما بلغت فهي لا تساوي شيئا بجوار نعم الله سبحانه، ولا تناسب قدره وجلاله، فضلا عن أنها حدثت بتوفيقه ومعونته، لذلك كان الصالحون والعارفون في كل عصر يستقلون طاعاتهم ويشعرون بتقصيرهم ويخشون من عدم القبول.

ويقول الله في وصف المؤمنين (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون).

وقال الحسن البصري (إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمنا).
 

من موانع التزكية:

1. التنعم أو حتى الفقر والمصائب:

على المسلم أن يدرك أن إقبال الدنيا عليه ليس دليلا على حب الله له، وإن ادبارها عنه ليس دليلا على البغض، بل كل ذلك ابتلاء يرفع الله به أقواما ويخفض آخرين، قال تعالى (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن، كلا  )

2. الذنوب: كبائرها وصغائرها:

للذنوب آثارا وخيمة على الأفراد والشعوب، وذلك في كل جوانب الحياة المادية، والمعنوية، فكم أزالت من نعم، وجلبت من نقم،وأذلت من دول، والذنوب التي تتعلق آثارها على القلوب، وما يتصل بالتزكية فهي من أخطر ما يحول بين المسلم وربه وهداه، ويدس النفس في وحل الخيبة والخسران والعياذ بالله.
 

وفي الحديث (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، وذلك الران الذي ذكر الله عز وجل في القرآن (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).

ويقول الله تعالى (والله أركسهم بما كسبوا)، ويقول صلى الله عليه وسلم (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه).

3. الشيطان والنفس:

شاءت حكمة الله سبحانه أن يكون للشيطان اللعين من الوسائل ما يمكنه من أداء مهمته في الفتنة والإضلال، لذلك أمرنا سبحانه بعداوته وحذرنا من أن نطيعه أو أن نتبع خطواته التي يتلصص بها ليصيد العبد، ونجد ذلك واضحا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك جعل للإنسان عدوا من نفسه، وهي نفسه التي بين جنبية، والتي تسيرها قوى الغضب والشهوة.

ولكن المسلم يستطيع التغلب على هؤلاء جميعا بما ذكرنا من وسائل التزكية.

 
وينهي الإستاذ نبيل الكتاب بقوله: (ويبقى الكلام في التزكية والكتابة فيها من الأمور المطلوبة، بل يجب أن تأخذ مكانها اللائق بها).

 

مقومات الشخصية الإسلامية- ملخص محاضرة للشيخ أحمد الخليلي

مقومات الشخصية الإسلامية

نظرا لأهمية شخصية المسلم وإجلالا لما يجب أن تتميز به عن سائر الشخصيات, قام سماحة الشيخ أحمد الخليلي بإلقاء محاضرة خاصة عن أهم مقومات الشخصية الإسلامية. ويسعدني هنا أن أعنون لهذه المقومات وذلك نظرا لأهمية الموضوع واعترافا بمقام الشيخ الجليل.

1. الإيمان:

وهذا لإيمان هو أساس لبقية المقومات فهو أصل وهي تابعة له. ولا قيمة لأحد دون الإيمان, والإيمان يدخل في أعمال المؤمن كلها فيكيفها حسب ما يقتضيه, وكذا يدخل هي أخلاقه وأقواله.

 

صفات المؤمنين

ويبن القرآن الكريم صفات المؤمنين فقال سبحانه (قد أفلح المؤمنون, الذين هم في صلاتهم خاشعون, والذين هم عن اللغو معرضون, والذين هم للزكاة فاعلون, والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين, فمن أبتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون, والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون, والذين هم على صلواتهم يحافظون, أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)

وقال عنهم أيضا (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم)

وقال سبحانه (إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون)

كما بينت السنة النبوية جملة من صفاتهم منها:

قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)

وقال (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)

وقال (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)

وقال عليه الصلاة والسلام (الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها كلمة لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)

 

وهكذا ترون حرص الإسلام على أن يأخذ الإنسان بكليته ويصيغة بصياغة خاصة تتلائم وما أريد لهذا الإنسان من أن يكون خليفة لله في الأرض.

2. توثيق الصلة بالله:

وذلك عن طريق العبادة والذكر، قال تعالى (إنما يؤمن بأياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون، تتجافي جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون)

فالمؤمن يحرص على الذكر أشد الحرص، وانظروا إلى الأمر الرباني بإقامة الصلاة حتى في حالة الحرب.

وعندما ينفلت الإنسان من صلاته يؤمر بأن يذكر الله على كل حال، قال تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)، ويقول (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم).

ذلك لأن الذكر هو الذي يعمر القلوب، وينور البصائر، ويحيي الضمائر، ويقوم سلوك الإنسان. فالإنسان بدون الذكر يكون ميتا، ولا يكون فكره بحال من الأحوال مشعا وإنما هو مظلم متعفن.

3. التسليم لأوامر الله ونواهيه:

على المؤمن أن يعلم أن الله تعالى لا يأمره إلا بما فيه مصلحته، ولا ينهاه إلا عما فيه مضرته، فيؤثر ما جاء به الله على ما تدعوه إليه نفسه, يقول سبحانه (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا)

فلذلك يتحرر المسلم من ربقة تأثير الهوى على نفسه، فلا يستأمر لنزعاته ورغباته. بل يكون دائما مع الله ويرى مصلحته في اتباع أوامره سبحانه، وفي الازدجار عن نواهيه.

ولا يرضى أن يحتكم إلى غير الله تعالى وحكم رسوله (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا)، ويقول (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).

4. الموالاة لله ورسوله والمؤمنين:

على المسلم أن يكون معتزا بصلته بالله تعالى ومعتزا بصلته بنبيه عليه الصلاة والسلام، وبعباد الله المؤمنين، وهذه هي حقيقة الموالاة، والله تعالى يقول (يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم، إن كنتم خرجتم في سبيلي وأبتغاء مرضاتي، تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل، إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون).

إن هذه الموالاة تأتي من مرض نفساني يتغلغل في القلوب فيعمي بصيرتها، ويكدر سريرتها حتى تتخيل العز والخير في موالاة أعداء الله، قال تعالى (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين).

وهذه الموالاة عندما يسترسل الإنسان فيها قد تؤدي إلى الإلحاد والعياذ بالله.

وبين الله تعالى من الذي ينبغي أن يحصر المسلم ولاءه له، فقال (إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون). والنتيجة (ومن يقل الله ورسوله والذين ءامنوا، فإن حزب الله هم الغالبون).

والمسلمون عندما يتوادون ويتحابون يكونون بمثابة الشخصية الواحدة فيكونون قوة في وجوه أعدائهم، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله). ومن الصفات اللازمة لهم، التواصي بالحق والتواصي بالصبر. والله تعالى يقول (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).

 

فعلى المسلم أن لا يرضى أن يترسم خطى أعداء الحق والدين الذين أمر الله سبحانه وتعالى بمنابذتهم وقطع الحبال الواصلة فيما بين المؤمنين وبينهم، فيستمد فقط من القرآن والسنة فالمؤمن يعتز أيما أعتزاز بما جاء به الله تعالى، ويرى المهانة والذل في تقليده لأعداء الحق والدين. وليكن متميزا في شخصيته: في قوله وفي عمله، في فكره وتصوره، في أخلاقه ومعاملاته، والشذوذ عن ذلك إنما هو ترك لما فرض الله سبحانه، وأعراض عن دينه.
 

5. الخوف والرجاء:

إن المؤمن يعلم أن الخوف إنما هو من الله وحده، وكذا الرجاء منه تعالى.

وزن صالح الأعمال بالخوف والرجاء ** هما جنة للصالحات وسور

وبذلك تصبح أعماله كلها متكيفة حسب أوامر الله تعالى ونهيه. الخوف هو أهم رادع عن المعاصي، والرجاء هو أهم دافع للطاعات، والخوف والرجاء هي من الصفات التي لا تنفك عن المؤمن يقول سبحانه (يدعون ربهم خوفا وطمعا).

 

ولا تجدي الموعظة فيمن لم يكن خائفا من الله، يقول تعالى (سيذكر من يخشى) ويقول (وذكر بالقرآن من يخاف وعيد)

ويتكرر هذا الخوف حتى في مقام الإحسان (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون).

فالمؤمن يخشى التقصير، ويحس بهول الأمر، وبعظم المسؤولية،وأنه سينقلب إلى الله وسيسأل عما قدم وأخر، ولذلك كان الخوف يملئ قلبه.