الجمعة، 19 يونيو 2015

الوسطية كما يراها الشيخ زاهر العبري


يسعدني أخوتي الأفاضل أن أقدم لكم هنا مقتطفات مما قاله الشيخ زاهر العبري في محاضرته عن الوسطية.
 
 
  أهمية الفكر:
  إن الإنسان في تفاعله مع هذه الحياة يكون ناشرا لمخبوءة الفكري, فالحركة التي يباشرها الآدمي تكون تجسيدا لما انطوى عليه ذهنه من معرفة، ووقر في وجدانه من تصور، واستحكم على أحاسيسه وعقله من مقاييس وتطلعات.
  لذلك يعلم أن المحك في محاكمة الأمور، ووضع الناس مواضعهم الصحيحة يكون مؤوله إلى المقاييس الفكرية والضوابط المعرفية. وإن لم تؤصل هذه التصرفات البشرية فإنها تصبح من العبث السلوكي والطيش الآدمي الذي كثيرا ما يزري بصاحبه فردا ومجتمعا، وذلك فضلا عن أن تكون له مشخصات تميزه في هويته الثقافية، وتميزه في انتماءه العقدي والفكري، فيتصارع مع الثقافات المتباينة، ويتطور مع الأنماط الحضارية المغايرة.
 
  ومن هذا نعلم:
  - أن نجاح صياغة الإنسان يتوقف على ما يتوفر له من رصيد فكري ومعرفي، على أن تكون هذه مرتضاة من الأمة الإسلامية.
  - أهمية التربية وكونها سببا في بناء شخصيات المجتمع وفق ثقافة الأمة، ولكي تحصد المفكرين لا بد أن تجد لهم البيئة الخصبة لذلك.
 
  على أن تكون هذه التربية وفق ثقافة الأمة، وحسب المقاصد العليا للمجتمع، آخذة بأسباب النجاح، سائرة في السنن المستقيم، ملتزمة ما أعتقده المجتمع من معينه الأصيل منهجا ووسيلة وغاية. ووفق عقيدة تحلل رموز هذا الكون، فيكون سيره مخططا على معالم سلوكية واضحة، ومبادئ فلسفية مستقرة, ولا يكون منكفئ على ذاته، بل عليه أن يستشرف ما عند الآخرين.
 

 

المرجعية الثقافية:
  إن الأمم الواعية إنما تنطلق مما يعرف لديهم بالمرجعية الثقافية، والتي يلتزمونها في صنع مناهجهم التربوية، وفي تغذية أبنائهم وأجيالهم بالمعارف المدروسة، لأن العبرة في المنهج ليس بأن يشحن ذهن المتلقي بمعارف مجردة، ولا يملئ عقل الطالب بعلوم جمة، بقدر ما يستطاع توظيف هذه المعارف في إحداث أثرها البالغ داخل الكيان الإنساني فعلا وانفعالا. ولا يتم هذا إلا بالحرص على تأصيل المشخصات المميزة للمجتمع عقيدة ودينا وثقافة.
 
  وعندما يتطرق إلى موضوع منهج الوسطية في الإسلام، فإنه إنما يكون تطرقا إلى تلك (الأصول الثقافية للأمة)، ومنهجها التي تتعامل وفقه مع الحياة. والمسلم لا يتعاطى دنياه إلا انطلاقا من عقيدته، ولا يسير في عيشه إلا حسب أحكام شرعه، فالدين الإسلامي هو خطاب ألهي لمن سلمت فطرته، وصح عقله، إلى ما فيه مصلحة هذه الإنسانية جمعاء. والإسلام جاء شاملا لقضايا الحياة وما بعدها، وهو جاء متوائما مع الفطرة، منسجما مع السنن الكونية التي يسوس بها الخالق سبحانه هذا الكون من أدق الذرات إلى أعظم المجرات.
 
  وكان المسلم في الأصل في غنى عن هذا التنظير المنهجي لإبراز خصائص الإسلام، وبيان مقاصده، لأن الإسلام فكرا وثقافة وعقيدة وعبادة ومنهجا يفترض أنها قد اختلطت بعصب هذا المسلم ليستحيل ترجمة لحقيقة الإسلام في تعاطيه لهذه الحياة.
 
  ولكن أسباب التنظير لهذا المنهج كثيرة، منها:
  - قد أشيبت العقيدة الإسلامية الصافية بمكدرات.
  - تم التأثير على النمط السلوكي والعاطفي للبشر بمختلف القوى.
  - تعمد لي الحقائق الكونية والتشريعية عن قصد.
 
  لذلك كان لزاما من أجل جذب ناشئة الأمة إلى دينها، ولدرء الأخطار المحدقة بهذا الدين من قبل الأعداء، أن ينبري المفكرون الواعون من علماء الأمة يبحثون خصائص الإسلام، ويؤكدون على مقاصده السامية. فظهر في البحث العلمي الأكاديمي المعاصر دراسات تعنى بدراسة الخصائص العامة للإسلام، كما ظهر هناك اتجاه في علم الفقه وفي علم أصول الفقه يعرف بعلم المقاصد. كل هذا من أجل إيجاد الخطاب الديني المنطقي للعقل البشري حتى يلم بهذا الدين إلماما قائما على البرهان يتلائم والوقع.
 

 

 

الوسطية من خصائص هذا الدين:
  وفي مقدمة تلك الخصائص، خصيصة الربانية: مصدرا ووسيلة وغاية، فالإسلام جاء من عند الله، يُصلح الدنيا، ويَصلح لها، وللبشر قاطبة بل للعالمين. ومن خلال إدراك هذه الحقيقة تندرج الخصائص الأخرى، والتي يتعارف عليها باالعالمية والشمول والثبات والمرونة وبأنه يرفع الحرج عن الناس، وأنه جاء باليسر، وأنه جاء واقعيا، خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكذلك خصيصة الوسطية المندرجة هي الأخرى تحت الخصيصة الربانية لهذا الدين.
   
  الوسطية في العقيدة:
  تتجلى تلكم الوسطية في العقيدة باحترامها للعقل، لأن الإسلام جاء خطابا لهذا العقل يفتح له آفاق العلم والتطلع في هذا الكون، فطاقة العقل وصحته هما اللذان يعول عليهما في جعل الإنسان صالحا للتكليف من قبل الله تعالى، لذلك تخرم هذه الأهلية بفقد هذا العقل الذي هو مناط التكليف في الإسلام.
   
  ومن مظاهر احترام الإسلام للعقل:
  - أنه حرره بادئ ذي بدء من أن يوغل في المتاهات والخرافات والأوهام.
  - وأرشده بأن لا يستقي فكره ومنهج تصوره لحقيقة الغياب وحقيقة الشهادة، وتفسير فلسفة هذا الوجود مما تسفر عنه التجارب البشرية عبر مراحلها التطورية في مسيرتهاالمدنية من فجر التأريخ وإلى الآن.
  - وألا يلز فكره للاستقاء من البيئات الإنسانية لأن البيئات موصومة بما جبل عليه الإنسان ذاته من النقص.
  - كذلك عصم العقل الإسلامي من الزيغ والتيه وراء أقوال الفلاسفة الموغلة في المثالية مثلا، أو الانجذاب إلى التنظير المنطقي الذي لا يزيد الإنسان إلا بعدا عن الحقائق.
 

 

كانت الوسطية في العقيدة بادئة من صون هذا العقل حتى لا يظل جامدا ليتلقى دون ماتفكير، لأن التوحيد الذي جاء بلاغا نقليا من الله سبحانه بواسطة الوحي إلى الناس يعزز بطاقة العقل تنبث في آفاق هذا الوجود، تدرس أسراره وصولا إلى معرفة الحق تبارك وتعالى، معرفة ترسخ دعائم الإيمان. فالله سبحانه يقول (وإلهكم إله واحد، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إن في اختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، لآيات لقوم يعقلون). فهذه الآيات التي تستخدم لفهمها قوانين الكون، إنما ترسخ الحقائق الكونية للذين يعقلون، بغية ترسيخ الإيمان، وهذا الكون الذي خلقه الله إنما هو لدلالة على عظمته ووحدانيته.
   
  لم تأتي هذه العقيدة موغلة في المثالية البعيدة عن الواقع، بل جاءت تفسر للواقع حقيقة مبدئه ومعاده، من خلال معرفته بالله سبحانه وتعالى، إيمانا بالله، ومن خلال المعرفة باليوم الآخر، وبذلك رسم طرفي الحركة الإنسانية في هذا الوجود، وشفع له من ذلك بالمحددات الضابطة لسلوكه بين ذلكم الطرفين ليسلم دوره في هذه الحياة باعتباره خليفة لله سبحانه وتعالى فوق البسيطة، والمسلمون يعلمون أنهم سوف يحاسبون بالميزان الذري، والله لا تخفى عليه خافية. ومع ذلك كله جاء الإسلام متوائما مع الفطرة الإنسانية، وصينت تلك الفطرة كذلك من شوائب الأوهام والخرافات.

 

 

الوسطية في العبادة:
  وكما كانت الوسطية في العقيدة، كانت الوسطية في العبادة، فلا رهبانية في الإسلام، ولا إفراط ولا تفريط، ليس هناك عبادة تجعل الإنسان ينقطع عن هذه الحياة، ويترك مواقع التأثير فيها لمن انصرفوا عن منهج الحق تعالى، وارتضوا الهوى سائقا، ورضوا بمناهج مخالفة لدين الله تعالى حكما. كما أنه لم يأتي من أجل أن يدفع بهولاء الناس يتهارشوا على هذه الحياة، متابعين لأهوائهم وغرائزهم ونزعاتهم ونزغاتهم، إنما أعطيت العبادة لهذا الإنسان سموا روحيا، وصياغة شعورية ترقى به من أجل أن يتصل بالله دون وسائط.
   
  ومن وسطية هذه العبادة أن أسرارها لم تكن من أجل تزكية الضمير، ولا تصفية الوجدان، ولا إشباع التطلع الروحي داخل الذات الفردية فحسب، بل المتأمل في أسرار العبادات الموصوف منها وغير الموصوف، إنما يجدها تريد أن تصنع الإنسان المؤمن صناعة ربانية، فإن أسرارها وأثارها لا بد أن تفهم على أنها تريد أن تصنع الجماعة المسلمة. فكل عبادة لها أثرها الاجتماعي البالغ، فهي تهيئ الإنسان لأن يكون منبع فضيلة، ومشرق بر، وداعية إحسان للعالمين قاطبة.
  فالصلاة مثلا تنهى عن الفحشاء والمنكر، وعندما يكفكف الإنسان نزعاته وأهوائه عن الفحشاء والمنكر، يكون سببا في أن يبرهن للآخرين أن هذا الخير الرباني إنما يكون واقعه وأثره واضحا بالتزام الإنسان العبادة أداء وأسرارا وغاية ومقصدا.
<

 

الوسطية في الأخلاق:
  والوسطية في الإسلام منهجا تتجسد في الأخلاق، فالأخلاق الإسلامية لم تأتي من أجل أن ينزوي المسلمون في مثالية مترفة، ورهبانية منقطعة عن هذه الدنيا. كما أنها لم تأتي بنظريات فلسفية معقدة، كما كان عند الإغريق، التي كاد الإغراق العقلي فيها أن يجعلها ألغازا معماة عن الناس. بل كانت الأخلاق لحمة في نسيج الدين الإسلامي، وكانت غاية لهذا الدين الإسلامي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
 
  وبهذا يعلم أن الأخلاق تجسد العقيدة، وهي مقرونة بالعبادة، وبذلك يعلم أن المسلم عندما يخالق الناس بالخلق الحسن، ليس ذلك من باب الكمالات التي يتفضل به، أو من الفواضل التي إن أتاها كانت خيرا وإن لم يأتها فلا بأس عليه، بل هي من واجباته الدينية التي عليه أن بمتثلها.

 

 

الوسطية في مجال التربية:
  الوسطية من حيث المنهج تتمثل في كل جانب من جوانب الفكر الإسلامي، ولعلها تبرز واضحة في مجال التربية، لأن التربية في مفهومها، إنما هي مخاطبة الطاقة الذهنية لهذا المتلقي، مخاطبة تلتزم منهجا علميا بحيث لا تضاف نسبة إلى شيئين أو إلى واقع إلا ببرهان، حتى تستجمع التربية أطراف الكينونة البشرية كلها، من عقل له طموحاته وآفاقه، ومن روح لها شفافيتها ونورانيتها، ومن جسد له جاذبياته ونزغاته وأهواءه وغرائزه.
   
  وعلى ذلك فإن استخدام النظريات التربوية، وتوظيف ما أسفرت عن التجارب من دراسات لخصائص النفس البشرية في مختلف أطوارها، وعوامل نموها الجسدي والفكري، إن هي إلا اقتراحات علمية مدروسة المروم منها التوصل إلى صحة الخطاب الذي يوصل به إلى منافذ الذهن البشري لدى المتلقين. وقد سبق الإيحاء أن التربية الصحيحة لا يراد بها صب معارف مجردة، ولا علوم مختلفة، بقدر ما يراد بها إحداث الاتزان داخل الكينونة الإنسانية لدى المتلقي، وذلك بحسن إشباع الروح بما تطلبه من عقيدة سمحة تربطهابخالقها، وبالعبادة الصحيحة، وبحسن إشباع العقل ببسط المناهج البحثية العلمية
  المتقنة لينطلق في أبعادها هذا الكون.
   
  والتشريع الإسلامي من حيث وسطيته جاء بقواعد ثابتة تقرر بعلم الله سبحانه وتعالى مايكون لهذا المؤمن زادا في كل عصر، فمهما يتطور العلم يسبق الإيمان والدين هذا العلم في تفسيره حقائق هذا الكون، على أن كتاب الله لم يكن كتاب حياة أو كتاب كون أو كتاب في النفس، بقدر ما هو قواعد عامة في حد ذاتها موجهات ضابطة لعمل العقل الإنساني، يجوب هذه الدنيا ويدرس أحوال البشر.

 

المجاهدة بالأموال والأنفس:
  إن الله تبارك وتعالى قد ربط النصر والتمكين بالمجاهدة بالأموال والأنفس، يقول سبحانه (يا أيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين).
 
  وهذا لا يكون إلا بالعلم، والعلم يقتضي دراسة الحقائق الكونية، ومعرفة خصائص المجتمعات، وليعمل المسلمون من أجل أن يحصلوا على هذه البشارة الربانية، ولا يكون ذلك إلا بالاتصال الدقيق بواقع الأمم، ومعرفة خصائصهم النفسية وتوجهاتهم الفكرية، ومناهجهم السياسية، وأبعادهم الإستراتيجية، ومخططاتهم، والدراسات حولهم اجتماعيا ونفسيا وطبيا وعلميا حتى يتم للمسلم أن يجادل بالتي هي أحسن، ولكي تكون كذلك، لا بد من فقه ما يعانيه ويعنيه صاحبك الذي يجادلك، وإلا لم تكن أحسن.
 
 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق