الجمعة، 19 يونيو 2015

إشكالات حول التربية الروحية


إشكالات حول التربية الروحية

مقدمة:
الحمد لله الذي أنار قلوب عباده الذين أصطفى بنور الإيمان والإحسان، فأبصروا به طريق الحق والرجحان، وابتعدوا بفضله عن طريق الضلالة والخسران، فكان لهم بسبب منزلتهم عنده التوفيق والرشاد، والسعادة والإسعاد. (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122)


نعم والله إن لله عبادا اصطفاهم واختارهم، وأنزلهم المنزل المقرب عنده، قد صار بصرهم الذي يبصرون به، وسمعهم الذي يسمعون به، وأيديهم التي يبطشون بها، وأرجلهم التي يمشون بها، فكان لهم كما قد كانوا له.

****

 

أولئك هم أولياء الله الصالحون، الذين اختارهم الله لخدمة دينة، وإعلاء كلمته، ورفع رايته على هذه البسيطة.

وأردت أنا في هذا الموضوع المتواضع أن أضع شيئا مما يقربنا لذلك المنهج الذي انتهجوه فقربهم إلى الله زلفى، ذلك المنهج الذي تسمو به الروح إلى بارئها، ويتعالى فيه الإنسان عن رغباته الدنيوية إلى أهدافه الأخروية الخالدة.

ترى هل ذلك المنهج واضح للعيان، وبين لكل إنسان؟ أم تعتريه الكثير من المفاهيم المغلوطة، والمصطلحات غير المحددة ولا المفهومة. ترى هل يمكن أخذ هذا المنهج من كتب الفقه؟ أم أنه مدون في كتب العقيدة؟ أم أنه في كتب الأخلاق؟ أم أنه منوط بكتب التصوف؟ أو هو في كتب الفلسفة؟ أم أن هذا المنهج لا يضمه كتاب؟ ولا يكاد يوجد إلا عند من بقي ممن اقتفى أثر ذلك منذ الرعيل الأول إلى يومنا هذا؟!

إن من الملاحظ أن موضوع التربية الروحية، على الرغم من أهميته، إلا أنه تكتنفه الكثير من الإشكالات التي ربما باعدت بينه وبين مريديه، ولذلك فنحن نظهر في هذا الموضوع، بشكل مختصر، بعض من هذه الإشكالات، وسيكون تركيزنا بإذن الله تعالى، على القضايا التالية:
1.
من أي منهج أو علم يمكن أن يستقى موضوع التربية الروحية
2.
كثرة المصطلحات التي اكتظ بها هذا الموضوع
3.
قضية الصراع بين العقل والقلب
4.
المتصوفة وأثرهم في الموضوع

والغرض من طرح هذه الإشكالات هو الإيضاح أن هذا الموضوع المهم بحاجة إلى دراسة واعية وتأصيل منهجي للنهوض به وتقريبه إلى مريديه، فربما ساهمت هذه الإشكالات في تشويه صورته، وإبعاده عن الكثير من طلبة العلم، بل اعتبره بعضهم نوع من أسباب التخلف والنكوص، في حين أن هو في الحقيقة سبب للرقي والتقدم في الدنيا والآخرة

 

 

الإشكالية الأولى: في أي العلوم
فهل موضوع التربية الروحية هو في كتب الفقه، أم العقيدة، أم الأخلاق، أم الفلسفة أم هو في كتب التصوف؟

إن من المعروف أن كتب الفقه الإسلامي تدرس التكاليف الشرعية وأحكامها. فهذه التكاليف إما أن تكون واجبة أو مندوبة أو مكروهة أو محرمة أو إنها في دائرة المباح. وقليلا ما تتعرض هذه الكتب إلى الحكمة من هذه الأحكام فضلا من أن تعالج قضيتنا التي نطرحها في هذا الموضوع!

فالمتصفح لكتب الفقه يجد أن أصحابها قد حددوا لها ثلاث قضايا لتعالجها: وهي علاقة المسلم بربه (وهو الذي يسمى بفقه العبادات)، وعلاقة المسلم بنفسه، وعلاقة المسلم بغيره.

وفقه العبادات هذا يعالج الأحكام المتعلقة بالصلاة والزكاة والصوم والحج والأيمان والنذور والكفارات إلى ما هنالك من أحكام مختلفة في قضايا الحياة المختلفة. إلا أن الذي نبحث عنه هنا هو المعنى الشمولي للعبادة، والمنهج الذي يرتقي به الإنسان ليزيد قربه من الله تعالى.

يعرّف أصحاب الفقه العبادة بأن لها معنيين عاما وخاصا!، فالعام هو الخضوع التام، والاستسلام الكامل من قبل العبد لخالقه في كل جزئيات حياته، وهو الذي لا يتناولونه إلا في ما ندر!. والمعنى الخاص هو ما يطلق عليه عندهم بفقه العبادات (1)، فنحن نبحث عن ذلك المعنى العام، ونتساءل هل وجد له من التأصيل من قبل علماء المسلمين ما وجدت له هذه الأحكام الشرعية من التأصيل والبحث؟.

أما كتب العقيدة فإنها تتكفل بعلم التوحيد، أو ما يعبر عنه بعلم الكلام. وهي تتكفل بإثبات وجود الله سبحانه، وتتحدث عن صفاته الحسنى، وعن ما ينبغي أن ينزه عنه سبحانه وتعالى، كما تبحث في النبوة والرسالة والكتب، والإيمان باليوم الآخر وبالقضاء والقدر. وهذا لا شك أنه في أصل ما نبحث عنه، ولكن كتب علم الكلام أوغلت في القضايا الخلافية وفي الردود الطويلة التي أذهبت بجوهر العقيدة ورونقها، وراحت الأقلام تتسابق في إثبات أن كلا منها على الحق التي جانبته الفرق الأخرى، ومن رحم ذلك ولدت مسائل كثيرة ومجادلات طويلة، وكان التجهيل والتفسيق. على أننا لم نجد ذلك الاهتمام كبيرا بزرع روح تلك العقيدة في قلوب المسلمين، وجعلها منطلقا لهم في كل ما يأتون وما يذرون، وذلك فضلا عن الاهتمام بالقضايا الإيمانية والروحية التي ننشدها في هذا الموضوع!.
= = = = =
(1)
انظر مثلا كتاب فقه العبادات (1)، مجموعة مؤلفين، وزارة الأوقاف، سلطنة عمان، 1998، ص23

 

 

أما كتب الأخلاق، فهي على ندرتها لم تتحدث عن ما ننشده أيضا، وإنما تكلمت عن الصدق والأمانة، وعن الحلم والصفح والحياء والجود والكرم، وعن الآداب والحقوق المختلفة، فهل هذه الأمور تمثل العلاقة بين المسلم وربه؟!
لا شك أن علاقة المسلم بربه هي في كل مجالات الحياة، وهي لا تحدها حدود، ولا تقيدها القيود، ولكن كتب الأخلاق تتكلم عن علاقة المسلم بأخيه المسلم، أكثر من أنها تتكلم عن العلاقة بين المسلم وربه!

وأحب هنا أن أنقل تعليق الدكتور عاطف العراقي على بحث الدكتور أبي زيد العجمي (المناهج الأخلاقية لدى السابقين من علماء المسلمين) والذي دافع فيه الدكتور أبو زيد عن علم الأخلاق عند المسلمين ورد على بعض الدراسات المعاصرة التي تنفي أن يكون هناك علم للمسلمين يعرف بالأخلاق، يقول الدكتور عاطف العراقي:
"
بداية فإني ما زلت مصرا على التمييز بين ما يسمى بالأخلاق، وما يسمى بعلم الأخلاق. فالمعروف أن علم الأخلاق له مجموعة من المناهج والمشكلات التي يبحث فيها، أما أن نأتي ببعض الأقوال المتقطعة من هنا وهناك فإن هذا لا يمت من قريب أو بعيد بعلم الأخلاق...."

فكان رد الدكتور أبي زيد كالتالي "أما بالنسبة للدكتور عاطف العراقي، فإنني أميّز بين الأخلاق كسلوك وبين علم الأخلاق كمبادئ ومواقف تحكم السلوك. ولكن أتحدث هنا عن أن المسلمين لهم فكر، وهذا الفكر مع بساطته فيه مبادئ أخلاقية تُحكم وتُضبط، أي أتحدث عن علم معياري هو علم الأخلاق" (2).

والذي يهمنا من هذا النقل هو البيان أن علم الأخلاق بحاجة أيضا إلى النهوض به والتأصيل فيه، وزيادة الكتابات والبحوث فيه.

أما عن علم الفلسفة فإنه تكلم في بعض جوانبه عن الخالق والكون والإنسان، وخير مثال على ذلك هو كتاب "قصة إيمان" للشيخ نديم الجسر، إلا أن هذا العلم بحاجة أيضا إلى مراجعة جادة من قبل المسلمين لاحتوائه على الكثير من الرؤى الرومانية القديمة والفلسفات الغربية الحديثة، ولذلك هناك مساع حثيثة للنهوض بهذا العلم، وتكوين علم فلسفي إسلامي، وكانت الندوة التي نقلنا منها قبل قليل تصب في هذا المصب.

وعلى هذا فإنه لم يبق لنا إلا كتب التصوف، أو ما يسمى بعلم الحقيقة أو علم السلوك، فهل وجدنا ضالتنا فيه!!، أظن أنه من الأفضل أن نعود لهذه الإشكالية لاحقا!.

لكنني أحب أن أنوه هنا أنّ على الأخوة القائمين على المراكز الصيفية أن يضيفوا وقتا مخصصا للأخلاق والتربية الروحية، جنبا إلى دروس الفقه والعقيدة، وهذا والحمد لله موجود في الكثير من هذه المراكز.
= = = = =
(2)
أبحاث ندوة: نحو فلسفة إسلامية معاصرة -1989، المعهد العالمي للفكر الإسلامي. الطبعة الأولى 1994، ص 390، والرد ص394

 

الإشكالية الثانية: المصطلحات والمفاهيم
إن الدارس والمتصفح للكتابات التي تبحث في موضوعنا هذا يجد نفسه أمام الكثير من المصطلحات التي لا يكاد يميز بينها، فهناك القلب، والعاطفة، والوجدان، والغرائز، والضمير، والنفس، والروح، والكثير من المصطلحات الأخرى التي هي بحاجة إلى تمييز، وبحاجة إلى دراسات عدة واهتمام أكبر.
يقول الإمام الغزالي عن معاني النفس والروح والقلب والعقل "يقل في فحول العلماء من يحيط بهذه الأسامي واختلاف معانيها وحدودها ومسمياتها، وأكثر الأغاليط منشؤها الجهل بمعنى هذه الأسامي واشتراكها بين مسميات أخرى"(3)،

وكمحاولة لبيان بعض هذه المصطلحات، وبعيدا عن تلك الخلافات الطويلة، نقول إن الله خلق الإنسان من طين ثم نفخ فيه الروح، فهو جسد وروح، يقول سبحانه وتعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر:29)، وانظروا كيف أضيفت الروح إليه سبحانه وتعالى، فهذه الروح قد امتزجت بجسم الإنسان، فصار إنسانا كاملا ذا عقل و قلب، أما العقل فالمعروف أنه مركز لتفكير والتخيل والتحليل إلى ما هنالك من أعمال ذهنية وتحليلية، وإن كان البعض يرى أن هذا من وظائف القلب تبعا لقوله تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24)، وغيرها من الآيات.

أما القلب فيطلق على معان كثيرة، أو هو محل لمعان كثيرة، من ذلك النفس (4)، والضمير الذي هو حاسة غريزية أخلاقية، وأيضا القوة الداخلية الدافعة للشر (5)، وكذلك الدوافع والغرائز والعواطف والانفعالات.

أما العواطف فهي كما يقول ريتشارد تشانج (6): "القوة الكامنة بداخل كل منا"، وهي التي "تغطي سلسلة من المشاعر القوية، مثل الحب، والكراهية، والسعادة، واليأس، فالعاطفة هي القوة الضمنية التي تدعم كل هذه المشاعر".
= = = = =
(3)
إحياء علوم الدين، الإمام أبو حامد الغزالي، ج 3 ص 4
(4)
القرآن وعلم النفس، نداء الفطرة الإيماني (5)، الدكتور عبد العلي الجسماني، ص 123
(5)
أصول الفكر التربوي في الإسلام، الدكتور عباس محجوب، ص 186
(6)
خطة العاطفة، ريتشارد تشانج، ص 19-21

 

أما الدوافع فهي القوى التي تدفع الإنسان نحو أهدافه الفسيولوجية والنفسية، أما الفسيولوجية فكالتحكم بدرجة حرارة الجسم، وحفظه بالجوع والعطش والتعب، وغيرها الكثير من الدوافع الفسيولوجية، فمثلا منها دوافع لأجل بقاء النوع وهي الدوافع الجنسية ودوافع الأبوة والأمومة. أما الدوافع النفسية فكالحاجة إلى الانتماء والتملك، وغيرها من الحاجات (7).

أما الانفعالات فلها صلة كبيرة بالدوافع، فإذا ما أثيرت الدوافع تحركت العواطف الكامنة على شكل هذه الانفعالات، فالانفعالات هي هيجان للمشاعر في سلوك جسدي مصحوب باضطرابات جسدية ونفسية، وهي نوعان: مصادم كالغضب والخجل، أو متراخي كالحزن والفرح. ومن مظاهر هذا الهيجان الابتسام والضحك والبكاء. (8). وعلى هذا فإن الخوف والغضب والحسد والحب والكره والندم كلها انفعالات نفسية لها الأثر الكبير في حياة الإنسان، وقد تناولها الإسلام بكثير من الأهمية (9)، وكذلك ينبغي أن يفعل المسلمون.

ومن ميادين الحياة الانفعالية الهوى، والهوى هو ميل شديد نحو موضوع ما أو شخص أو مكان، مصحوب باندفاع قوي، واستعداد للتهيج، وهذا الهوى يكون طويل الأمد، فقد يستمر مع الإنسان طيلة حياته (10).

أما الروح فإنها تختلف كليا عن العواطف، فهي ليست هذه الانفعالات النفسية أبدا، وليست هي النفس أيضا، فالروح لا توسوس، ولا تشتهي، ولا تضجر، ولا تتعذب، وإنما تلك كلها من أحوال النفس (11)

يقول الدكتور محمد عبد الله دراز "ليس المقصود بالروح هنا باسم المذهب الحيوي ومبدأ الحياة الحيوانية، أعني تلك القوة التي تقوم عليها وظائف النمو والتنفس والحس والحركة، بل المقصود نوع آخر أسمى من ذلك،... هو مبدأ الحياة العاقلة الرفيعة" (12). فالحديث عن الروح هنا لا يقصد به الحياة والنمو، فإن ذلك مما يشترك فيه الإنسان مع الحيوان، وإنما حديثنا عن تلك الحقيقة السامية التي تربط الإنسان بخالقه عز وجل، حديثنا هنا عن تلك الروح التي أضافها الله تعالى إلى ذاته عز وجل، إن هذه الروح هي من الله تعالى وهي تهفوا وتتطلع للاتصال به سبحانه وتعالى، فالفطر السليمة تتشوق لعبادة الله ومراقبته وتقواه والخوف منه والتوكل عليه سبحانه وتعالى (13).
= = = = =
(7)
التوجيه والإرشاد النفسي من القرآن الكريم والسنة النبوية، الأستاذ مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني، ص 77
(8)
علم النفس وتطبيقاته، تأليف عدنان السبيعي، ص 56-57
(9)
انظر التوجيه والإرشاد النفسي من القرآن الكريم والسنة النبوية، الأستاذ مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني، ص 123
(10)
علم النفس وتطبيقاته، تأليف عدنان السبيعي، ص 69
(11)
القرآن وعلم النفس (1)، الدكتور عبد العلي الجسماني، ص 25
(12)
نداء الروح، الدكتور فاضل صالح السامرائي، ص112
(13)
أصول الفكر التربوي، الدكتور عباس محجوب، ص181

 

ويبقى التمييز بين هذه المصطلحات التي ذكرنا، والتي لم نذكر، مهم جدا، فعلى سبيل المثال، كم نسمع من بعض الأئمة في الصلاة يرددون آيات القرآن الكريم على نحو يبعث على إثارة الانفعالات النفسية، فتجد الواحد منهم يغير من تردد صوته ويزين نغمته، كل ذلك طلبا لتهييج المشاعر وإثارة الانفعالات، فتجده يعيد تلك الآية على ذلك النحو حتى يبكي ويبكي المصلين، فيظن البعض أن ذلك نوع من الخشوع، وأن الذي يبكي أسرع وأكثر هو الذي نال بحظ كبير من الخشوع والتدبر في آيات الله وأنه بذلك يكون أكثر قربا من الله تعالى، وما ذلك في الحقيقة إلا بعدا عن الحق وعن جوهر الخشوع.

والناس على كل حال تتفاوت درجة استجابة مشاعرهم للمؤثرات، فمن الناس سريع البكاء مثلا تجده يجهش بالبكاء ولو بدون سبب!!، والبعض الآخر تجد أن مظهره الخارجي لا يوجد به أي آثار للتأثر ولو كان هو في الحقيقة متأثر بداخله، وكل ذلك ليس له في الحقيقة أية علاقة بقضية الخشوع والإيمان، فالانفعالات ليست مقياسا للتأثر، وليست هي ذاتها حاجات الروح والقرب من الله تعالى.

ولا يعني هذا أني أنفر من الإنابة لله تعالى والبكاء على محرابه، ففي الحديث (ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من الدموع)، على أن المقصود بـ(خاليا): أنه في مكان خالٍ بعيدٍ عن أعين الناس، وذلك أن البكاء أمام الناس أمر يستهجن تستهجنه الفطر السليمة، ومن الإخلاص أن يرجع الإنسان إلى ربه ويتضرع إليه وحده، حيث لا يعلم به إلا الله تعالى.

 

ومن الأمثلة التي لا أستطيع تركها لكثرة وقوعها، هو ما يسمى بمشكلة التعلق بالأشخاص، وقد عالجها الشيخ عبد الرحمن بن فؤاد الجار الله، بموضوع لا ينبغي أن يفوت!!


وهذه المسألة يقع فيها الكثير من طلبة العلم وللأسف يشجعهم عليها بعض من يتولى تدريسهم!!، وسببها خلطهم إياها بالمحبة التي أمر بها سبحانه وتعالى، وأكتفي هنا بذكر شيء يسير مما ذكره الشيخ عبد الرحمن عن مظاهرها، قال أن لها مظاهر قلبية وسلوكية، فمن المظاهر القلبية: اشتغال القلب بالمحبوب عن أي شيء آخر، ومنها احتراق القلب بالغيرة منه أو عليه، والتنافس الغير محمود، والمعاداة والموالاة، ليس لله، وإنما في هذا المحبوب.

وأما المظاهر السلوكية، فمنها النظرات الغريبة، والتقارب بالأجساد بصورة غير محمودة، والرسائل المعطرة والمفعمة بالحب وبالألفاظ الساقطة، والتجمل والتزين للمحبوب، والأنة بالكلام وترقيق الصوت، والطاعة المفرطة العمياء، وترك الواجبات من أجل المحبوب، وترك الالتزام بعد المحبوب، ومقابلة أقوال المربي الغير صائبة بأقوال من تؤخذ عنه الفتوى، والتساهل في كثير من الأخطاء، وتعظيم المربي، إلى ما هنالك من مظاهر لا تصح في دين الله تعالى.

 

 

الإشكالية الثالثة: الصراع بين العقل والقلب
وقريبا من قضية المصطلحات غير المحددة، تأتي قضية أخرى لها الأثر الأكبر في موضوعنا هذا، وهي قضية الصراع بين العقل والقلب، فهذه قضية شغلت الكثير من البشر، وما زلنا نرى أنها تشغلهم حتى الساعة!، وقد قُسم الناس إلى قسمين: أناس مع القلب وقد تركت العقل جانبا، وأناس أخريين مع العقل والفكر ورمت بالقلب جانبا.

يفتتح الدكتور مصطفى السباعي رسالته التي أسماها (الصراع بين العقل والقلب) بقوله "هذه الحياة صراع بين العقل والقلب، وذلك هو تاريخ الإنسان وتاريخ الجماعة وتاريخ الشعوب" (14).

وإنه مما لا شك فيه أن للعقل المنزلة العظمى في ديننا الحنيف، وأن المسلمين مأمورون اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى فهم وتدبر إسلامهم الحق، فهم مأمورون بحسن التلقي عن الله تعالى ليطبقوا هذا الدين الحنيف بأكمل وجه على واقع حياتهم ومعيشتهم، ولا شك في أن هذا الفهم والتدبر لا أقصى له، وأن كل من ملك آلة هذا التدبر والتفقه كان لزاما عليه أن يعمل عقله وفكره.

لكن الأهم من ذلك أنه لا يوجد أيضا هناك فجوة بين العقل والقلب في ديننا الحنيف، فالإسلام قد أحسن وضع التلاؤم بينهما –إن صح التعبير-، فعلى المسلمين أن يحسنوا وضع الأمور في مواضعها، وأن ينزلوا كل شيء منزله، فإذا قاموا بذلك تزول قضية الصراع هذه، فإنما هي ناتجة عن قصور في فهم الإسلام نفسه.

وإننا كثيرا ما نسمع عن أهمية العقل في هذه الأيام، وكم وجدنا ممن يعدد لنا الآيات التي ذكر فيها أولوا النهى، وأولوا الألباب، وغيرها من الآيات التي تشير إلى أهمية التفكر والتدبر، ولكنا في المقابل نادرا ما نسمع عن أهمية القلب وأهمية التربية الروحية، مع أن الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة مقرون بهما، فلو لم ينزل غير قوله تعالى (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:89) لكفى.
= = = = =
(14)
الصراع بين العقل والقلب، الدكتور مصطفى السباعي، ص 7

 

إن القرآن الكريم في الحقيقة في مجمله وعد ووعيد٫ واهتمامه الأكبر إنما منصب على تنقية القلوب وارجاعها إلى بارئها سبحانه وتعالى٫ فالقرآن في معظمه هو على هذا النحو٫ يقول الله تعالى في بدايات سورة هود:

(
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (هود:1-5)

إن صلاح القلب في الحقيقة هو الأصل، فعلى الإنسان أن يهتم بقلبه قبل أن يهتم بعقله، فكون العقل والفكر سليما لا يغني الإنسان شيئا إذا كان القلب مريضا، وإنما اهتمام العقل بصلاح القلب هو دليل على سلامة الفكر.

يقول الشيخ أحمد الخليلي "فإن العقل وإن كان سلطانه في الدماغ أو هو نفسه في الدماغ كما يرى المتأخرون، فإن للقلب تأثيرا عليه لأنه مصدر الانفعالات، ومنبع العواطف ومحل الوجدان باتفاق الجميع، ولكل ذلك تأثير على العقل ولا يبعد أن يكون للقلب أثر في تكوين الفكر في الدماغ" (15).

وفي الحقيقة هناك قلة ممن جمع بين مطالب العقل والقلب، ولكن الحاصل أنّ بعضا قد غالى في هذا الجانب والبعض الأخر قد جانب تلك المغالاة بمغالاة مقابلة، وهذا في حقيقته قصور عن فهم الشمول الذي جاء به الدين الحنيف.

والقرآن الكريم قد اعتنى بتربية الروح، وتصفية القلب، سواء اتخذ العقل سبيلا كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام:95-99)


أو عن طريق العاطفة كما في قوله تعالى (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ، وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ، وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ، أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ) (لأعراف:44-51)
= = = = =
(15)
جواهر التفسير، سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، ج 2 ص 256

 

الإنسان هو القضية الكبرى في هذا الوجود:
وقبل أن نتطرق إلى الإشكالية الرابعة، وهي قضية التصوف، فلنعرض شيئا مما ذكر في القرآن عن الإنسان، ثم لنعرض شيئا عن معنى العبودية لله تعالى.

يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق" الإنسان هو محور هذا الوجود، وهو سيد هذا الكون، فكل شيء في هذا الوجود مسخر له، والديانات كلها جاءت من أجله، والوحي السماوي كله قد اتجه بالخطاب إليه. والقرآن الكريم كله يدور حوله، فكل ما في القرآن الكريم إما حديث عن الإنسان أو حديث إلى الإنسان، أو عن شيء يتعلق به بأي شكل من الأشكال، وهذا يعني أن موضوع الإنسان يعد قضية القضايا في هذا الوجود" (16)، ولنجمل التصور الإسلامي للإنسان في النقاط التالية (17):

يقول الله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)، ونلاحظ هذا الاستثناء المهم، فالإنسان لم يخلق إلا لعبادة الله سبحانه وتعالى، ولهذه العبادة مدلول واسع يشمل التسبيح والتقديس لله تعالى، كما يشمل إقامة أمره سبحانه وتعالى في هذا الكون وإعماره حسب مبتغاه عز وجل

الإنسان هو الكائن الوحيد في هذا الوجود الذي نفخ الله فيه من روحه، وقد كانت هذه النفخة الروحية الإلهية هي مناط التكريم الذي حظي به الإنسان، يقول سبحانه (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر:29)

وبعد التكريم الإلهي للإنسان بالنفخ فيه من روحه، وإسجاد الملائكة له، وبتعليم آدم الأسماء كلها، أهبطه الله تعالى إلى الأرض لحكمة جليلة، يقول عز وجل (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )(البقرة30)، فهو الوكيل عن الله تعالى في أرضه، ليحقق فيها إرادة الله تعالى بإعمارها بالخير المادي والمعنوي من أجل خير البشرية جمعاء

ولكن المفارقة أن هذا الإنسان مخلوق ضعيف، يقول سبحانه (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً)(النساء: 28)، فعلى الإنسان أن لا يغتر بقوته، مهما كانت هذه القوة، وإنما عليه أن يرجع إلى خالقه ومولاه ليستمد منه القوة في جميع شؤون حياته، وعليه أن يسير حسب السنن التي رسم سبحانه.

= = = = =
(16)
الإنسان والقيم في التصور الإسلامي، د. محمود حمدي زقزوق، ص 13
(17)
المرجع السابق ص 13-69

 

ويقول عز وجل (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الاسراء:70)، نعم إن الله تعالى كرّم هذا الإنسان وجعله مركز هذا الوجود، وحفظ له نفسه ودينه وعقله وماله ونسله، وجعل له الإرادة والاختيار فيما يأتي ويذر، وفي هذا الكثير من الاحترام لذات الإنسان وشخصه.

وكون الإنسان خليفة لله في الكون فهو إذا يحمل أمانة عظيمة، يقول الله عز وجل (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72)، فالإنسان مخلوق مكلف محاسب على ما يقوم به، فلا يعيش هكذا هملا، وإنما خلق لهدف سام وموضوع جلل

ومجال الخلافة للإنسان، وتكليفه، هو الكون كله (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثـية:13)، أما مهمته في هذا الكون فهي في قوله تعالى (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا )(هود: 61)


هذه ملامح سريعة عن التصور الإسلامي للإنسان، ويمكن أن يجمع كل هذا تحت مظلة العبادة لله تعالى، فالعبادة لله تعالى هي الهدف الأسمى للإنسان في هذا الحياة.

 

العبودية لله تعالى:
يقول الشيخ أحمد الخليلي "حقيقة العبادة هو الإنقياد المطلق من النفس لأحكام المعبود، وصورة هذا الإنقياد وقالبه الإسلام، ومعناه وروحه الإيمان، وسره وغايته الإحسان" (18)، ويقول أيضا "العبادة المطلوبة من الإنسان هي الخضوع المطلق والشعور بالحاجة والفقر إلى من بيده ملكوت كل شيء والاستيقان أن صاحب هذا السلطان العظيم هو الذي يدبر كل شيء فلذلك يشعر الإنسان من أعماق قلبه بالافتقار إليه، هذه هي روح العبادة والأعمال المختلفة إنما هي ترجمة لهذه العقيدة الصحيحة التي هي متمكنة راسخة في نفس العابد" (19).

إن العبودية لله تعالى في معناه البسيط هي جعل الإرادة الربانية محل الإرادة الشخصية في الإنسان، فيكون الجهاز الحاكم في الشخصية ممتثلا لإرادة الله عز وجل، ولكي يتحقق ذلك لا بد من ثلاثة أمور(20):
1.
القدرة على التحكم في الأهواء والشهوات والسيطرة عليها، وهذي هي المجاهدة.
2.
أن تنسجم الإرادة الشخصية مع الإرادة الربانية، وهذا ما يسمى بالالتزام بالشريعة
3.
ولابد من انبعاث الإرادة الشخصية عن الإرادة الإلهية، وهذا هو حقيقة الإخلاص.

فلذلك لا بد من تعلم شرع الله سبحانه وتعالى ليتسنى للمسلم معرفة إرادته سبحانه، ولا شك أن معاني الصبر والتوكل هي مما يعزز تعلق المسلم بالإرادة الربانية.
والهدف الأسمى -النية- من هذه العبادة هو نيل رضوان الله تعالى، وهذه النية في حقيقتها هي الأصل، وإنما الأعمال دليلها ووسائلها، فقيمة الرضوان لا يستطيع أحد أن يدفعها، ولكن الله تعالى يكتفي من المرء بالنية في ذلك، فلذلك رضي الله تعالى من العبد أن يبرز من قلبه حقيقة الصدق في طلب الرضوان له سبحانه

والأعمال تظهر حقيقة هذا الطلب، فالأعمال لا تحقق الرضوان، وإنما هي وسائل تدل على حقيقة طلب الرضوان، لذلك يظل المؤمن خائفا من أن أعماله لم تصل لحقيقة صدق طلب الرضوان من الله تعالى، فهذا الخوف سببه هل صدقت النية أم لا. (21). ولا شك أن بحر العبودية لله تعالى عميق، وهو بحاجة إلى بحث بأكمله.
= = = = =
(18)
جواهر التفسير، سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، ج1 ص 244
(19)
العبادة وأثرها في حياة المسلم، سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، ص23
(20)
نظرات حول التربية الروحية للشيخ حسين معن
(21)
انظر سلسلة أشرطة الشيخ الحبيب الجفري، الطريق إلى الله

 

 

أورد ابن القيم التصنيف التالي فيما قيل في أفضل العبادات (22):
1.
صنف عندهم أنفع العبادات وأفضلها: أشقها على النفوس وأصعبها، وقالوا لأنه أبعد الأشياء عن هواها، وقالوا الأجر على قدر المشقة. وهؤلاء هم أهل المجاهدات وأهل الجور على النفوس.
2.
وصنف قالوا أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان. ومن هؤلاء من ظن أنّ هذا هو غاية المقصود، ومنهم من رأى أن هذا مقصود لغيره، وهو عكوف القلب على الله، وتفريغ القلب لمحبته، والاشتغال بمرضاته.
3.
وصنف رأوا أن أنفع العبادات ما كان نفعه متعد، فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس، واحتجوا بقوله عليه السلام (الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله).
4.
وصنف قالوا أن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار، والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار، والأفضل في وقت استرشاد الطالب هو الإقبال عليه وتعليمه والاشتغال به، وهكذا.

ويرى ابن القيم أن القسم الأخير هم الذين أصابوا، ويقول عنهم (وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبده بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم وهكذا، ولم يكن عمله على مراد نفسه بل هو على مراد ربه، فهو بالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها)
= = = = =
(22)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن القيم الجوزية، ص 75-79

 

الإحسان:
وأفضل مقامات العبودية هو الإحسان، وذلك تبعا لحديث جبريل الشهير، عندما جاء يسأل عن كليات الإسلام، فسأل عن الإسلام، وعن الإيمان وعن علامات الساعة، ثم سأل عن الإحسان، قال ما الإحسان، فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

وقد فهم كثير من العلماء من هذا الحديث أن للعبودية ثلاثة مقامات رئيسية، هي الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان، وهذه بعض الأبيات المختارة من قصيدة المحقق الخليلي "المعراج لسالك المنهاج" (23):

وأكثر من اشتهر بهذه النظرة هم الصوفية، بل إن مدار التصوف هو حول هذا الحديث، يقول عبد الله الهروي" وهذا الحديث إشارة جامعة لمذهب القوم، يقصد الصوفية، وإني مفصل لك درجات كل مقام منها لتعرف درجة العامة منه، ثم درجة السالك، ثم درجة المحقق".
ثم قام بشرح هذه المقامات في كتابه (منازل السائرين) موصلا إياها إلى مئة مقام، مختصرا بذلك، تسهيلا لطلبة العلم، المقامات الألف التي جاء بها الشيخ أبو بكر الكتاني. وقد قام الإمام ابن القيم الجوزية بشرح هذا الكتاب في كتابه (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)، ثم قام عبد المنعم صالح العلي بتهذيب هذا الكتاب الأخير، وهذا على كل حال يدلنا على أهمية هذا الموضوع.

إلا أن لمحمد الغزالي نظرة أخرى في هذا الحديث قد أوضحها في كتابه (الجانب العاطفي من الإسلام)، ولعله أفرد هذا الكتاب ليذكر هذا المعنى الذي يراه من هذا الحديث، بعيدا عن رأي الصوفية!، حيث يقول (24) "وقد شرحنا الحديث بهذا الأسلوب لأن بعض الناس وَهَم أن الكلمات الإسلام والإيمان والإحسان مراتب يسلّم بعضها إلى البعض الآخر، وأن بينها فواصل وفجوات"، فهو يرى أن هذه الكلمات متداخلة وتعبر عن معنى الإسلام نفسه، لا عن مراتب فيه.

كما يرى أن الإحسان، هو صفة للرجل المحسن الذي إذا قام بشيء أحسنه، بمعنى أنه لم ينقص في عمله شيء، بل أتمه على أحسن وجه، ثم زاد على ذلك بتحسينه وتجميله، فالمحسن هو الذي تكون هذه أحدى صفاته التي تلازمه في كل أعماله، وفي الحديث الشريف، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)، ويقول أيضا عليه الصلاة والسلام (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) (25)
= = = = =
(23)
ديوان الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، عادل بن راشد بن علي المطاعني، ص 86-88
(24)
الجانب العاطفي في الإسلام، محمد الغزالي، ص 23
(25)
السابق ص 67

 

 

الإشكالية الرابعة: منهج أهل التصوف:
وهكذا قسم الصوفية الإسلام إلى ثلاث مراتب، هي الشريعة أو الإسلام، ثم الطريقة وهو الإيمان، ثم بلوغ الحقيقة وهو الإحسان. واتخذوا المجاهدات والزهد في الدنيا الوسيلة التي تقربهم لله تعالى، يقول الإمام الغزالي في وصف الطريق الذي يتخذه الصوفية:

"
وزعموا أن الطريق في ذلك. أولا بانقطاع عن علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها، وبقطع الهمة عن الأهل، والمال، والولد، والوطن، وعن العلم والولاية والجاه، بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود كل الشيء وعدمه، ثم يخلو بنفسه في زاوية، مع الاقتصار على الفرائض الرواتب، ويجلس فارغ القلب، مجموع الهمم، ولا يفرق فكره بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسير، بل يجتهد ألا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى، فلا يزال بعد جلوسه في الخلوة قائلا بلسانه: الله، الله، على الدوام مع حضور القلب، حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان، ويرى كأن الكلمة جارية عل لسانه، ثم يصبر عليه إلى أن يمّحي أثره من اللسان، ويصادف قلبه مواظبا على الذكر، ثم يواظب عليه إلى أن يمّحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقى معنى الكلمة مجردا في قلبه....ومنازل أولياء الله الصالحين في هذا الطريق لا تحصر، كما لا يحصى تفاوت خلقهم وأخلاقهم"(26). ولا يزالون في هذا الطريق يتنقلون من مقام إلى مقام أعلى منه، وهم يجدون من أنواع المشاهدات وأحوال المكاشفات على سبيل الإكرامات وفيوض الرحمات من الله عز وجل الشيء الكثير.

وإذا ما عدنا إلى قضية المصطلحات غير المحددة فإن منهج الصوفية مليء به، يقول الدكتور محمد سيد الجليند (27): "فإذا قرأت كتابا مثل التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي أو اللمع للسراج أو الرسالة للقشيري أو الطبقات للسلمي، لا تجد واحد منها يخلو من هذه الملاحظة....لأنها كانت تسجل مواجيد وأذواق وتجارب ذاتية عبر عنها أصحابها بكلمات دالة على ما يجده كل صوفي في نفسه، ولا شك أن التجربة الصوفية موقف ذاتي خالص يختلف من شخص إلى آخر حسب انفعاله قوة وضعفا، صعودا وهبوطا في سلم مقامات الطريق".
= = = = =
(26)
إحياء علوم الدين، الإمام أبو حامد الغزالي، ج 3 ص 21-22
(27)
من قضايا التصوف، الدكتور محمد السيد الجليد، ص 7

 

شيء مما أخذ على الصوفية:
وأذكر هنا العناوين الأساسية للقضايا التي أخذت على الصوفية، فذكر هذه العناوين يغني عن الدخول في التفاصيل (28):
ابتعادهم عن الفقه، فقد قسم الدين إلى الشريعة التي اهتم بها الفقهاء والحقيقة التي اشتغل بها المتصوفة، فكثير من هؤلاء العباد الزهاد الذين اشتغلوا بالتصوف لم يكن لهم حظ وافر من الفقه والعلم الشرعي، وإنما كانوا يخوضون في علم الحقيقة، وهم في الحقيقة كانوا يصوغون انفعالاتهم بعيدا عن الفقه، الذي اكتفى فيه الفقهاء على ذكر الأقوال وتعديد الآراء والمذاهب، ولم يدخلوا أنفسهم، إلا في ما ندر، في قضايا علم الحقيقة أو ما يسمى بعلم السلوك!
اشتهارهم بالأحاديث الموضوعة والقصص الوعظية المكذوبة، فلم يكن اهتمامهم كبيرا بعلم الحديث، فكانوا يبنون قضاياهم التعبدية على أحاديث موضوعة!
ابتعادهم عن المنطق، ومحاربتهم للفلسفة، وتقديمهم انفعالاتهم الوجدانية، وإن صادمت مسلمات العقل والدين!
اشتهارهم بالتأويلات الباطنية التي تخرج بالنصوص الشرعية عن مقتضى ظواهرها، لتتلائم مع انفعالاتهم وأحاسيسهم.
عدم مقدرتهم على الجمع بين مصالح الدنيا ولآخرة، فلم يحسنوا فهم الزهد والتوكل، فلذلك اتهموا بأنهم دعوا إلى الانقطاع عن الحياة، والانكفاء على الذات خلف هذه الانفعالات، وهذا في حقيقته بعيد عن حقيقة الاستخلاف التي طالب بها الشرع الحنيف، وإنما الذي دعوا إليه يؤدي إلى شلل الحياة الاجتماعية، ويؤدي إلى إغفالهم المصالح العامة للمسلمين، وكل ذلك تسبب في تأخر المسلمين!!.
عدم دقتهم في تعريفاتهم لأعمال القلوب
وجدت عندهم مذاهب عجيبة كمذهب وحدة الوجود والاتحاد والحلول، وغيرها من المذاهب التي بحاجة إلى عالم ليحكم عليها، كما اتصلت بهم علوم أخرى: كعلم الحرف، وعلم الرمل، إلى آخر تلك العلوم التي الله أعلم بها وبحقيقتها!
= = = = =
(28)
أنظر كتاب "الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه" للشيخ يوسف القرضاوي

 

 

وكمثال على الزهد الذي يفهمه هؤلاء، يقول الإمام الغزالي تحت عنوان (بيان فضيلة الفقر على الغنى: (29) "مثل الغني المتعبد مثل روضة على مزبلة، ومثل الفقير المتعبد مثل عقد الجوهر في جيد النساء، وقد كانوا يكرهون سماع علم العرفة من الأغنياء"

وذكر (30) في باب التوكل القصة التالية "وحكي عن بنان الحمال قال: كنت في طريق مكة أجي من مصر ومعي زاد، فجاءتني امرأة وقالت لي: يا بنان، أنت حمال تحمل على ظهرك الزاد وتتوهم أنه لا يرزقك، قال فرميت بزادي ثم أتي عليّ ثلاث لم آكل، فوجدت خلخالا في الطريق فقلت في نفسي: أحمله حتى يجيء صاحبه فربما يعطيني شيئا فأرده عليه، فإذا أنا بتلك المرأة فقالت لي: أنت تاجر تقول عسى يجيء صاحبه فآخذ منه شيئا!، ثم رمت لي شيئا من الدراهم، وقالت أنفقها، فاكتفيت بها إلى قريب مكة"

ثم ذكر القصة التالية: "وقال أبو حمزة الخراساني: حججت سنة من السنين فبينا أنا أمشي في الطريق إذ وقعت في بئر فنازعتني نفسي أن أستغيث، فقلت لا والله لا أستغيث، فما استتممت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان، فقال أحدهما للآخر تعالى حتى نسد رأس هذا البئر لئلا يقع فيه أحد، فأتوا بقصب وبارية وطموا رأس البئر، فهممت أن أصيح فقلت في نفسي: إلى من أصيح هو أقرب منهما وسكنت، فبينا أنا بعد ساعة إذا أنا بشيء جاء وكشف عن رأس البئر وأدلى رجله وكأنه يقول تعلق بي في همهمة له كنت أعرف ذلك، فتعلقت به فأخرجني، فإذا هو سبع، فمر وهتف بي هاتف: يا أبا حمزة أليس هذا أحسن، نجيناك من التلف بالتلف، فمشيت وأنا أقول:


والذي يقرأ هذا النوع من القصص يتذكر فضل الله تعالى وكرمه على خلقه، فهو الكريم سبحانه الذي لا يجوز اختباره بترك الأسباب، وإنما حقيقة العبادة في الأخذ بالأسباب وتوكيل النتائج على رب الأرباب، ومن عجب أن هؤلاء اختبروا توكلهم على الله بدون الأخذ بالأسباب، فما كان منه إلا الجود والكرم لتلك النفوس التي تاهت عن هذا كله وتعلقت بعواطفها وانفعالاتها فلم يخذلها سبحانه وتعالى!!
= = = = =
(29)
إحياء علوم الدين، الإمام أبو حامد الغزالي، ج4 ص 216
(30)
السابق ج4 ص 288

 

 

على أن تفاصيل هذه المثالب التي تؤخذ على المتصوفة، ما زالت وللأسف العميق مستمرة ومتجذرة في أذهان بعض دعاتنا، وحقيقة نحن بحاجة إلى فهم روح العبادة الحقة مع الله تعالى، وبحاجة إلى اتصال عميق من شبابنا المسلم بالله تعالى، نريد منهم تربية روحية حقة، لا تشوبها شائبة ولا يعكر صفوها أي نوع من هذه الأخطاء التي ذكرت والتي لم تذكر!

على أن المتصوفة أفادوا كثيرا المسيرة الإسلامية وأغنوها كثيرا بهذا الجانب الروحي المهم في حياة المسلمين، لذلك تعلق بهم الناس وتأثروا بهم لصدقهم وقربهم من الله تعالى، فعلم التصوف هو علم بحاجة إلى تأصيل وربط بأساسيات الدين والشريعة، فلا بد من إزالة الفجوة بين الفقهاء والمتصوفة، وهذا إن شاء الله آت، كما أن التأصيل العلمي المنهجي للتصوف، وإن كان أمامه طريق طويل، فسوف يأتي بإذن الله تعالى.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي (31) "ومن هنا ظهر هؤلاء الصوفية ليسدوا ذلك الفراغ الذي لم يستطع أن يشغله المتكلمون ولا أن يملاه الفقهاء وصار لدى كثير من الناس جوع روحي فلم يشبعه إلا الصوفية الذين عنوا بتطهير الباطن قبل الظاهر، وبعلاج أمراض النفوس وإعطاء الأولية لأعمال القلوب وشغلوا أنفسهم بالتربية الروحية و الأخلاق وصرفوا إليها جل تفكيرهم. حتى قال بعضهم التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف. وكان أوائل الصوفية ملتزمين بالكتاب والسنة، وقافين على حدود الشرع مطاردين للبدع والانحرافات في الفكر والسلوك. ولقد دخل على أيدي الصوفية كثير من الناس في الإسلام وتاب على أيديهم أعداد لا تحصى من العصاة وخلفوا وراءهم ثروة من المعارف والتجارب الروحية لا ينكرها إلا مكابر أو متعصب عليهم …فنستطيع أن نأخذ من الصوفية الجوانب المشرقة، كجانب الطاعة لله وجانب محبة الناس بعضهم لبعض ومعرفة عيوب النفوس ومداخل الشيطان وعلاجها واهتمامهم بما يرقق القلوب ويذكر بالآخرة.. مع الحذر من شطحاتهم ووزن ذلك بالكتاب والسنة وهذا لا يقدر عليه إلا أهل العلم والمعرفة".
= = = = =
(31)
فتاوى معاصرة: ج1 ص735و 736

 

الإباضية وعلم السلوك
وهذا بنفسه يصلح أن يكون عنوانا لبحث متخصص آخر يبحث في هذا الموضوع. ولكن ما يهمنا هنا أن نبين أن أهل الحق والاستقامة كانوا منذ اليوم الأول هم أهل السبق في هذا الميدان، ميدان العبادة لله تعالى وزهد في الدنيا، فهم بشهادة الجميع كانوا أهل بر وتقوى، وأهل عبادة وصلاح، إنهم كانوا أرباب علم وعمل، وإقامة لشرع الله على النهج الصحيح الذي آتى به الرسول صلى الله عليه وسلم.
فكيف يذكر الزهاد والعباد، ولا يذكر سلف الإباضية الأبرار، كأبي بلال مرداس بن حدير، وعبدالله بن وهب الراسبي، وأبو عبيدة وغيرهم من الكرام العظام؟


ولست هنا بصدد ذكر القصص العجيبة التي وردت عنهم في هذا المجال، وإنما من أراد ذلك فعليه بتحفة الأعيان، أو العقود الفضية، أو كتاب قطب الأئمة (يا عقبي يا جزائري)، وعليه أن يتملى في الخطبة التي ألقاها الإمام أبو حمزة الشاري عندما كان يصف الشراة الذين معه، أو عليه أن يراجع الكتاب الذي أرسله الإمام الصلت للجنود الذين ذهبوا إلى سقطرى، إلى ما هنالك من تاريخ حافل، وسير كانت على النهج الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى، فإذا كانت تلك هي سيرهم، فكذلك ينبغي أن تكون سيرة سلفهم.

 

 

 

أما في العصر الحديث فهناك منهج تعبدي واضح لدى المتأخرين من علماء المذهب، يقول الدكتور محمد صالح ناصر (32) "ظهرت في الأدب العماني هذا النزعة من الزهد في الدنيا باعتبارها زخرفا ومتاعا قليلا، كما ظهر إلى جانبها نزوع إلى التصوف العملي وليس الفلسفي، على الرغم مما يعرف عن مناهضة المذهب الإباضي لهذا الاتجاه، بدءا من الشيخ جاعد بن خميس، ولعلّ أبرز من يمثله في الأدب العماني الحديث الشيخ العلامة الرباني سعيد بن خلفان الخليلي الذي ظهرت في أشعاره نزعة صوفية واضحة قائمة على النسك والذوق، وإخلاص الدين لله وحده، ومعاداة كل انحراف عن الصراط السوي، وكان يرى القعود عن التصوف قعودا مع الخوالف، ومما تجدر الإشارة إليه أن تصّوف الشيخ سعيد بن خلفان لم يكن تصوفا سلبيا، ولم يكن فيه تلك الشطحات الصوفية من الحلول والاتحاد أو وحدة الوجود التي وجدت عند ابن عربي، وابن الفارض والحلاج أو أضرابهم، وإنما كان تصوفه تصوفا إيجابيا"

وإذا كان ذلك موقف المحقق الخليلي فإن هناك غيره من العلماء من يرون تلك الأهمية لهذا العلم، يقول الإمام السالمي (33) "ولا بد للمكلف من هذه العلوم الثلاثة (علم الاعتقاد، وعلم الحقيقة، وعلم الأعمال) فيجب عليه أن يأخذ من كل منها مقدار ما لزمه من ذلك، ويندب للاستعداد لما لم يلزمه بعد، وهذا معنى قولهم حقيقة بلا شريعة باطلة أي إذا تركت الأعمال الواجبة عليك فتهذيبك لنفسك بعلم الحقيقة باطل، وقولهم شريعة بلا حقيقة عاطلة أي حليّ لها فلا يقبلها من أهديت إليه والمراد أن الأعمال بلا تهذيب النفس عن المحبطات غير مقبولة عند الله عز وجل". وكيف لا يكون الفقه في الإخلاص، والتوكل والزهد والورع، والرياء والكبر والعجب وغيرها من أعمال القلوب غير واجب، وهي الأسس التي تصلح عليها الأعمال، والقواعد التي ينبني عليها الإسلام.
= = = = =
(32)
أبو مسلم الروحي، د∕ محمد صالح ناصر، ص 116
(33)
جوابات الإمام السالمي، الإمام نور الدين عبدالله بن حميد السالمي، ج6 ص 76

 

فلنتوجه إلى التربية الروحية:
نعم نحن بحاجة إلى التربية الروحية، وقبل ذلك نحن بحاجة إلى معالجة جميع هذه الإشكالات، وإيجاد منهج متكامل ومؤصل لقضية التربية الروحية هذه، وإلا لستمرت معنا هذه الإشكالات، هذا إذا ما زادت تعقيدا.

ولعل سبيل فهم التربية الروحية يدور حول المحاور الأربعة الآتية:
1.
فهم الإنسان لشرع الله تعالى، والتفقه في دينه
2.
فهم الإنسان لذاته، وتحديد دور العقل والعاطفة، والدوافع والأهواء منه.
3.
معرفة الإنسان بمكايد الشيطان، وطرق وساوسه
4.
معرفة حقيقة العبودية من العبد لربه، وحقيقة الربوبية من الله لهذا العبد.

إن الإيمان في أصله فكرة وحقيقة، بل هو أم الحقائق، ولكن هذه الفكرة لابد من أن تلامس أصل القلب، فهناك فرق بين الفهم والوعي، فالوعي هو المعايشة والشعور بالمراقبة لله تعالى، وهذا لا يتحقق إلا بالمداومة على ذكر الله تعالى، لذلك نجد ذلك الإصرار الكبير من القرآن الكريم على ذكر الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً) (الأحزاب:41)، ويقول عز وجل (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (قّ:39-40)
فالذكر لله تعالى يملئ القلب بالإيمان (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد: 28)، وذكر الله تعالى يجعل المسلم متصالحا مع الله، ومعظما له، ولحدوده، وبذكر الله يستصغر الإنسان نفسه، ويرى الدنيا على حقيقتها.

إن التربية الروحية تعطي الاستقامة في السلوك، والتعالي على أهواء النفس ونزغاتها، وتؤدي إلى قوة في الشخصية يسهل عندها تجاوز الأزمات وتعدي الإبتلائات. إنها تؤدي إلى الثبات على دين الله تعالى والإتحاد وتماسك الصف، وقوة الأخوة بين المسلمين (34)، وفي الحقيقة فوائد التربية الروحية لا تعد ولا تحصى، دنيا وأخرى، بل هي الفوز والفلاح، والحياة بدونها إنما هي حياة كحياة البهائم والدواب، بل إن الفرق بين الذاكر لله تعالى وغير الذاكر كالفرق بين الحي والميت.

إن الله تعالى عندما أراد أن يبعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم رباه قبل ذلك التربية الروحية التي جعلت منه أهل ليحمل الرسالة التي أراد، وانظروا لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً، إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (المزمل:1-9)
هذا وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
= = = = =
(34)
مقال للشيخ حسين معن، نظرات حول الإعداد الروحي

 

المصادر والمراجع:
1.
الكتب:
1.
إحياء علوم الدين، الإمام أبو حامد الغزالي، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة
2.
جواهر التفسير أنوار من بيان التنزيل، سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، مكتبة الاستقامة، سلطنة عمان، 1409هـ ∕ 1488.
3.
أبحاث ندوة: نحو فلسفة إسلامية معاصرة-1989، المعهد العالمي للفكر الإسلامي. الطبعة الأولى 1994.
4.
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن القيم الجوزية، دار الحديث، القاهرة، 2003
5.
أبو مسلم الرواحي، حسان عمان، د∕ محمد صالح ناصر، مكتبة مسقط، الطبعة الأولى 1996.
6.
من قضايا التصوف في ضوء الكتاب والسنة، الدكتور محمد السيد الجليد، دار قباء، القاهرة، الطبعة الرابعة، 2001
7.
ديوان الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، عادل بن راشد بن علي المطاعني، مكتبة الضامري، السيب، الطبعة الأولى 2003.
8.
الإنسان والقيم في التصور الإسلامي، د. محمود حمدي زقزوق، مكتبة الأسرة، 2004.
9.
جوابات الإمام السالمي، الإمام نور الدين عبدالله بن حميد السالمي، الطبعة الثالثة 2001.
10.
القرآن وعلم النفس، موسوعة النفس القرآني 1، الدكتور عبد العلي الجسماني، دار العربية للعلوم، الطبعة الأولى 1997.
11.
القرآن وعلم النفس نداء الفطرة الإيماني، موسوعة النفس القرآني 5، الدكتور عبد العلي الجسماني، دار العربية للعلوم، الطبعة الأولى 2000.
12.
علم النفس وتطبيقاته، كتب قيّمة، تأليف عدنان السبيعي، دار القلم، الطبعة الأولى 2002.
13.
التوجيه والإرشاد النفسي من القرآن الكريم والسنة النبوية، الأستاذ مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني، المكتبة المكيّة، الطبعة الأولى، 1421هـ
14.
خطة العاطفة، دليل مفصل لاستكشاف عاطفتك وتطويرها والعيش بها خطوة خطوة، ريتشارد تشانج، مكتبة جرير، الطبعة الأولى 2003
15.
أصول الفكر التربوي في الإسلام، الدكتور عباس محجوب، مؤسسة علوم القرآن، ، الطبعة الأولى 1987
16.
الجاانب العاطفي من الإسلام، محمد الغزالي، دار القلم، الطبعة الثالثة، 2003.
17.
نداء الروح، الدكتور فاضل صالح السامرائي، دار عمار، الطبعة الأولى، 2004
18.
الصراع بين العقل والقلب، الدكتور مصطفى السباعي، دار الوراق، الطبعة الثانية، 2001
19.
فقه العبادات (1)،مجموعة مؤلفين، وزارة الأوقاف، سلطنة عمان، 1998
20.
العبادة وأثرها في حياة المسلم، أحمد الخليلي،مكتبة الإستقامة، الطبعة الأولى، 1992


2.
من الأنترنت:
1.
كتاب للشيخ حسين معن، نظرات حول الإعداد الروحي
2. أنظر كتاب "الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه" للشيخ يوسف القرضاوي
3. سلسلة أشرطة الشيخ الحبيب الجفري، الطريق إلى الله


هذا والله ولي التوفيق

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق