ما
أهمية دراسة الفلسفة؟
طلب الحقيقة وحب المعرفة
والتطلع إلى خبايا الأمور وأسرارها هو جوهر عميق في الذات الإنسانية، خلقه الله في
الإنسان وأعلى من شأنه وشأن أدواته فيه، والعقل هو أداة العلم، وله تأريخ قديم
معه، ولقد كان الإنسان دائم البحث عن المعرفة، غير منقطع أو متوان عن السعي في
طريق العلوم والمعارف، ذلك لأن الإنسان دائما يبحث عن الأفضل له ولبني جنسه،
فتتقدم حياته ويسهل له تلبية حاجاته، كما أن فهم الوجود الذي يولّده هذا العلم
يشعره بالرقي والإنسجام مع ما حوله. والله سبحانه قد خلق الكون بإحكام وإتقان، كما
خلق للإنسان من الطاقات ما يمكّنه من سبر أغوار هذا الوجود والإستفادة منه، وفوق
ذلك ما يمكّنه أن يعرف أن لهذا الكون خالق ومصرّف هو الله سبحانه، فيعبده ويستقيم
على أمره.
يقول الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت:53) ويقول سبحانه: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان:20)
ويقول عز وجل: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الاسراء:85)
ودراسة الفلسفة تساهم في دراسة تأريخ تلك العلاقة بين العقل والعلم، ولها في رأيينا المتواضع أهمية قصوى بالنسبة للمفكر والباحث المسلم، لذلك فنحن في هذا الموضوع نحاول إظهار أسباب تلك الأهمية، ولن يكون طرحنا هذا على سبيل الاستقصاء والتحقيق، وإنما هو لملمة لأطراف هذا الموضوع، ومحاولة لإظهار الجوانب المختلفة لتلك الأهمية.
يقول الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت:53) ويقول سبحانه: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان:20)
ويقول عز وجل: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الاسراء:85)
ودراسة الفلسفة تساهم في دراسة تأريخ تلك العلاقة بين العقل والعلم، ولها في رأيينا المتواضع أهمية قصوى بالنسبة للمفكر والباحث المسلم، لذلك فنحن في هذا الموضوع نحاول إظهار أسباب تلك الأهمية، ولن يكون طرحنا هذا على سبيل الاستقصاء والتحقيق، وإنما هو لملمة لأطراف هذا الموضوع، ومحاولة لإظهار الجوانب المختلفة لتلك الأهمية.
الإمام الغزالي يبحث عن الحقيقة:
وأحب هنا قبل البداية أن أنقل شيئا مما قاله الإمام الغزالي عن نفسه في طلب الحقيقة، وهذا على كل حال ليس فريدا في شخص الإمام الغزالي ولكنه شيء مما يزخر به تأريخنا الإسلامي، ذلك لأنهم ساروا على نهج القرآن الكريم الذي هو منبع الحكمة وأول داع إليها، يقول الإمام الغزالي:
(ولم أزل من عنفوان شبابي، منذ راهقت البلوغ، قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم على كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميّز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطّلع على باطنيته، ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته،ولا متكلاما إلا واجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته).(أنظر المنقذ من الضلال)
إن القارئ اليوم في شتى صنوف المعرفة عموما، وفي قضايا الفكر خصوصا لتطالعه أسماء ومصطلحات ومفاهيم تبعده عن الإلمام بكثير من قضايا هذا الفكر إذا لم تكن عنده خلفية جيّدة بالفلسفة وتأريخها، بل إنّ الأمر ليتجاوز الحاضر إلى الماضي فكثير من مباحث العقيدة وعلم الكلام، بل وربما الفقه والنحو لها ارتباط قل أو كثر بالفلسفة وعلم المنطق. كما أنّ علوما كأصول البحث العلمي، والذي هو أساس لكل باحث ومفكر ما زال مرتبط بالفلسفة، ودائر تحت لوائها. وكذالك هو الحال بالنسبة لعلم الأخلاق.
فإذا كان الحال كذالك، فلماذا هناك عزوف عن الإقبال على الفلسفة، أهو عدم وعي لهذه الأهمية، أم هو استجابة لدعوات بعض روّاد صحوتنا الكبار كسيّد قطب مثلا، فهو على سبيل المثال لا الحصر يصر على أن الفكر الإسلامي غني عن الفلسفة من أساسها، فيقول في كتابه القيّم خصائص التصور الإسلامي ومقوماته:
(ولسنا حريصين على أن تكون هناك "فلسفة إسلامية"! لسنا حريصين على أن يوجد هذا الفصل في الفكر الإسلامي، ولا أن يوجد هذا القالب في قوالب الأداء الإسلامية! فهذا لا ينقص الإسلام شيئاً في نظرنا، ولا ينقص "الفكر الإسلامي". بل يدل دلالة قوية على أصالته ونقائه وتميّزه!)
ويقول قبل ذلك في نفس الكتاب: (نحن نخالف "إقبال" في محاولته صياغة التصور الإسلامي في قالب فلسفي، مستعار من القوالب المعروفة عند هيجل من "العقليين المثاليين" وعند أوجست كونت من "الوضعيين الحسيين"). ويدلل على أنه لا يمكن مقارنه العقيدة الإسلامية بالفلسفة الميتة، ويذهب أيضا إلى أن الإسلام ليس مجرد نظريات كتلك التي تأتي بها الفلسفة، فيقول في معالم في الطريق (يجب أن ندرك خطأ المحاولة وخطرها معا، في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي يجب أن تتمثل في واقع تام حي متحرك، إلى (نظرية) للدراسة والمعرفة الثقافية، لمجرد أننا نريد أن نواجه النظريات البشرية الهزيلة (بنظرية إسلامية)).
ويناقش الدكتور أحمد محمد حسين الدغشي هذه الآراء في كتابه (نظرية المعرفة في القرآن الكريم)، فيقول:
(إن الإستاذ سيّد قطب وإن كان باحثا يجري عليه ما يجري عليهم من الخطأ والصواب، بيد أنه باحث تتسم نظرته بالعمق، وحجته بالقوة في مجمل منهجه، ولذلك فإن فكره خليق بالنقاش،.....إن النصوص السابقة لا ترفض سوى الاستسلام والانهزام أمام النظريات الغربية التي تشل العقيدة الإسلامية من فاعليتها السلوكيه والحركية، وتجعل منها مجرد نظرية معرفية ذهنية فحسب،.... ولا يتشدد سيّد قطب في رفض فكرة النظرية من حيث المبدأ، ولكنه يرفضها فقط حين تكون بديلا عن الفاعلية...).
ولا شك أن هذا موضوع عميق يلتصق برأيي المتواضع بقضية أسلمة المعرفة، فالمبادئ والقواعد الإسلامية ربانية المصدر، يقصر فكر البشر عن اللحوق بها، ولا يمكن قولبتها في نظريات فلسفية، فعلى من أراد أن يشتغل بهذه المبادئ أن يحذر من أن ينطلق من الفلسفات الغربية في التعامل مع النصوص الإسلامية، بل عليه أن ينطلق من النصوص ذاتها لصياغة مبادئ الإسلام التي هي رحمة للعالمين.
بيد أنّ هذا لا يعني عدم الاطلاع على الفلسفة وعلومها، كيف وكثير من جوانب واقعنا اليوم تصوغه فلسفات ونظريات بعضها صحيح والكثير منها خاطئ، إن النظرة العالمية للإسلام تحتم علينا أن نسبر جوانب الفكر الإنساني من جميع جوانبه، وكما يقال وبضدها تتميّز الأشياء، وسيّد قطب نفسه قد تعرّف على هيجل وغيره من الفلاسفة، بل إنه كتب الصفحات الطويلة عن تأريخ الديانات في الهند والصين ومصر وغيرها، كما أن الإطلاع على الفلسفة يعطي شيئا من التعمق في جذور ما وصلت إليه البحوث والدراسات المعرفية في وقتنا المعاصر.
مدخل إلى الفلسفة:
ترجع جذور الفلسفة إلى ما يطلق عليه بالأسئلة الأولى وهي الأسئلة المستكشفة لفحوى هذا الكون وسبب وجوده ومن أوجده، والأسئلة المستكشفة لهوية الإنسان ودوره في هذا الوجود، والأسئلة الملتفتة إلى هذه الأرض ومكنوناتها المطروحة فيها، لذلك يقال بأن التساؤل هو جوهر الفلسفة، لكنه تساؤل ليس عن الجزئيات بل هو عن الكليات والعموميات، كما يقال بأن التعريف هو جوهر الفلسفة، فهي تبحث عن الأفكار والمفاهيم والتعاريف وتحاول تحديدها بدقة لتجعل منها حقولا معرفية يمكن أن يصاغ منها المعارف الكبرى، لذلك فالفلسفة تنشئ النظريات والعلوم التي تنشد الرقي والتقدم لبني البشر. وهي بالعموم تحاول إيجاد نسقا تاما ومتناسقا لتفسير الطبيعة الكبرى للكون.
لذلك كله فإن الفلسفة هي رديفة التفكير، وهي تبحث في العمليات الفكرية، وفي الطرق الموصلة للحقائق والعلوم، وتبحث في أهمية العقل وحدوده.
إن الأسئلة الأولى الملحة على العقل تكوّن ثلاثة مباحث أساسية في الفلسفة، نلخصها هنا، وسنعود إليها لاحقا بشيء من التفصيل بإذن الله تعالى:
1. نظرية الوجود (الميتافيريقيا): تبحث في الوجود، كيف وجد، ومن أوجده، تبحث عن الحياة والإنسان وحريّتة، إلى ما هنالك من مسائل.
2. نظرية القيّم: تبحث في ما الذي ينبغي أن يفعله الإنسان، ما هو هدفه في الحياة.
3. نظرية المعرفة: كيف نتوصل إلى الحقائق التي نبني عليها تصوراتنا في الحياة.
وسوف لن يقتصر موضوعنا هذا على هذه المباحث الأساسية الثلاثة، ولكنّا سوف نحاول ابراز كيف أن العلوم انبثقت من الفلسفة، وأنها جميعا تتكامل فيما بينها لتؤدي رسالتها الكبرى وهي نهضة الأمم وتقدمها، لذلك فإن المفكريين والفلاسفة ترى لهم نشاطا عظيما عند كل نهضة تأريخية، وأن نتاجهم الفكري ذلك هو من أكبر المساهمين في مسيرة تلك الأمة في نجاحها وفشلها. لذلك فإنّا سوف نعرض على التأريخ للقراءة في بدايات الفلسفة إلى أن نصل في لمحة تأريخية إلى وقتنا المعاصر، فإن لذلك فائدة كبرى في إيضاح الكثير من الزوايا التي نروم الكلام عنها.
وإذا أردت الاختصار فإن هناك ثلاثة محاور للفلسفة لا بد من استحضارها ونحن نقرأ في هذا الموضوع:
1. الفلسفة هي عملية فكرية، تستخدم المناهج العقلية للوصول إلى العلوم المختلفة.
2. للفلسفة ثلاثة مجالات كبرى: مبحث الوجود، ومبحث القيّم، ومبحث المعرفة.
3. من أهداف الفلسفة هو نهضة الشعوب ورقيها، وإمدادها بالعلوم المختلفة.
وميدان الفلسفة بدأ متسعا في بداياته، حيث كانت الفلسفة أم العلوم الشاملة لجميع الحقائق العلوية والسفلية، ثم أخذت العلوم في الاستقلال عنها تباعا، فاستقلت علوم الرياضيات والفلك والطب وغيرها، وهكذا حتى انحصرت في فترة من الفترات في قضايا الميتافيزيقيا أو خبر ما وراء الطبيعة فقط، غير أنها رجعت لتدخل الكل العلوم مرة أخرى، مكونة فلسفة العلوم، ومنها فلسفة التأريخ، وفلسفة القانون، وهكذا، وهي هنا تحاول توجيه العلوم، وإرجاع البحوث إلى مبادئها، والكشف عن فروضها ونظرياتها.
نبذة مختصرة عن تأريخ الفلسفة:
إن القراءة في تأريخ الفلسفة هو قراءة في مسيرة الفكر الإنساني في هذه الأرض، تعطي معالم التجربة المعرفية لكيفية استكشاف الإنسان لهذا العالم، وما هي الجذور الأولى لكل علم من العلوم، وما هي الأسس الأولى المكونة لكل فلسفة، لذلك فإن الفلسفة شديدة الإرتباط بالتأريخ، وهي كذلك كانت مرتبطة بالظروف الاجتماعية والسياسية لكل أمة من الأمم.
كانت البدايات الأولى ممتزجة بالأسطورة التي يتعلق بها بنو البشر عند غياب العلم، وإنه من الخطأ جعل بدايات الفلسفة في العصر اليوناني، حيث يصر بعض الكتاب على الربط بين الفلسفة اليونانية القديمة والحضارة المادية الغربية الحديثة، ويجعل هؤلاء مرحلة الديانة المسيحية والإسلامية مرحلة عثرة في طريق العلم الذي بدأه اليونان، ويسمونها بمرحلة العصور الوسطى، والتي عادة ما يضاف إليها كلمة مظلمة!.
إن بعض العلوم في الحقيقة بدأت قبل عصر اليونان، وذلك كالرياضيات، وعلم الفلك والطب والهندسة التي كانت معروفة عند السومريين والمصريين القدماء، الذين اشتهروا أيضا بالعمارة واستصلاح طرق جديدة للزراعة والري. والعلوم ذات طابع تراكمي كل حضارة تزيد فيها، وكذلك الحال بالنسبة للفلسفة، وإن كانت الفلسفة شديدة التباين من حضارة إلى أخرى.
كان النشوء الفلسفي في الهند القديمة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد وذلك بظهور كتاب الفيدا (Veda) الذي تخالطت في الفلسفة بالدين والسحر، وفي القرن السادس قبل الميلاد ظهرت البوذية والجاينية ومعظم المدارس الفلسفية الهندية الكبرى والتي مازال بعضها موجودا حتى اليوم. وفي الصين ظهرت الفلسفة الكونفوشيوسية في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو مذهب فلسفي ما زال سائدا في الصين حتى اليوم، ولعله يغلّب الجانب العملي على المتاهات الفلسفية للميتافيزيقيا.
وفي بلاد الرافدين كانت هناك الحضارة السومرية، وفيها كانت الخطوات الأولى للعلوم الطبيعية كالفلك والطب والرياضيات وغيرها. وفي مصر القديمة ازدهرت الصناعات الخزفية، وعلوم الفلك والحساب والهندسة ووسائل التحنيط وغيرها. كما وجدت أيضا المسائل الميتافيزيقية في هاتين الحضارتين، ويقال بأن أخناتون مصر كان يعتنق مبدأ التوحيد. ومن مصر انتقلت المعارف والعلوم والفلسفات الشرقية إلى اليونان.
الفلسفة اليونانية:
لقد كانت أثينا واليونان عموما مركزا مهما للحضارة في تلك المرحلة، القرن الرابع قبل الميلاد، كانت مرحلة للفتوحات والنقاشات والمجادلات العلمية والفلسفية، لقد ازدهرت الفلسفة وتبلورت مسائلها على أيد فلاسفة كبار، من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، فواكب الفتوحات التي قادها الاسكندر المقدوني نقلة علمية وفلسفية في تلك الحضارة القديمة.
ومن أهم علوم المرحلة; العلوم الطبيعية والتي تبحث في أجسام العالم من حيث الحركة والسكون، وفي الطب والطلسمات والسحر، كما كانت العلوم الرياضية كالهندسة والحساب والموسيقى وعلم المناظر وغيرها، ثم كانت هناك علوم أخرى كتدبير المنازل وغيرها.
وفي الإلهيات أو ما يسمى الفلسفة الأولى بحثوا في الوجود والعدم، والجوهر والعرَض، والعلة والمعلول، ونوقشت مسائل قدم العالم وبحثوا في مسألة الفيض التي سنعود إليها لاحقا، وبحثوا أيضا في (الإنسانيات) في حرية الإنسان وغاية وجوده وفي الأخلاق، وتحدثوا عن أمور السياسة وعن المدينة الفاضلة التي تصورها أفلاطون وغيرها من المسائل، فتكونت هناك الفلسفات الكبرى ذات الصبغة الشاملة، وظهر الاتجاهين السائديين في الفلسفة اليوم، وهما الاتجاه الروحي والاتجاه المادي لتفسير الكون، واللذين سيكون لنا معهما بإذن الله وقفة لاحقا.
ولعل أهم منجزات تلك الفترة هو علم المنطق الذي وضعه أرسطو وهو يبحث في طرق الاستدلال إلى الحقائق عن طريق العقل، وكان لهذا المنهج العقلي أثر بالغ في الفلسفة والعلوم الأخرى، وهكذا هو ديدن المناهج العلمية فإنها وحدها هي التي تحدث النقلات النوعية للعلوم، فقد شكل هذا المنهج طفرة نوعية ألقت بالاساطير والسفسطات التي كانت سائدة جانبا.
الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى:
أنتقلت الفلسفة اليونانية إلى الرومان فكانوا استمرارا لما بدأه اليونانيون في الفلسفة، ثم لمّا تحوّلت الإمبراطورية الرومانية إلى النصرانية على يد الامبراطور قسطنطين الذي تنصر، ومن بعد ذلك على يد البربر الذين استولوا على الامبراطورية في بداية القرن الخامس الميلادي واعتنقوا النصرانية أيضا، كانت هناك الإنطلاقة للنصرانية التي بدأت في إزالة معالم الحضارة اليونانية والرومانية، واستبدلت كل ذلك بآوامر وسلطة الكنيسة مؤذنة بخمود تلك الفلسفات الأولى، وذلك على الرغم من أن رجال الكنيسة الأوائل كانوا فلاسفة أوجدوا لعقائدهم متكئا في الفلسفة، وقد كانت الامبراطورية الرومانية متقدمة حتى عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تلك البلاد في ظلام حتى أقبلت عليها كتب ابن رشد من الأندلس في مرحلة لاحقة.
الفلسفة الإسلامية:
يهتم الكتاب هنا بثلاثة فرق لتدليل على وجود الفلسفة في الإسلام، وهم رجال علم الكلام، والفلاسفة الذين اتبعوا نهج اليونان من المسلمين كالفارابي وابن سينا، وأهل التصوف. وهذا بحسب رأيي ناتج بسبب اختزال الفلسفة في مبحث الوجود، وإلا فإن المسلمين أوجدوا الكثير من العلوم، وإذا كان هدف الفلسفة هو النهضة الفكرية والحضارية فإن علم الفقه الذي ابتدعه المسلمون والذي شمل كل جوانب الحياة لديهم، كان قوام حضارتهم ودستور حياتهم، وقد أقاموا له من مناهج البحث ما عز مثيله إلى وقتنا الحاضر. ثم أنهم قد فرّعوا كثيرا من العلوم حول القرآن والسنة المشرفة واللغة العربية.
كما كان هناك اهتماما كبيرا بمناهج البحث العلمي، فقد أقاموا علم أصول الفقه، وعلم المصطلح في الحديث وغيرها، كما كان هناك اهتماما أيضا بعلوم الطب والرياضيات والفلك وغير ذلك من علوم طبيعية أخرى.
أما العقيدة فكان الاهتمام بها في علم الكلام، أما بالنسبة لعلم الأخلاق فكان التوسع في الجانب العملي منه أكثر من الجانب النظري، وإن كان الغزالي على سبيل المثال قد تابع أرسطو في بعض مسائل هذا الجانب، فقد جعل الفضيلة وسط بين رذيلتين، كالكرم وسط بين الاسراف والبخل.
علم الكلام:
هذا العلم لعله من أسخن العلوم الإسلامية على الإطلاق، فقد حوى أكبر مسائل الخلاف والتفرق بين فرق المسلمين; المعتزلة والأشاعرة والشيعة والإباضية. و هذه بعض أهم المسائل التي بحثت في هذا العلم:
• الآيات المتشابهات وصفات الله تعالى
• حرية الإنسان، وقضية الجبر والاختيار بين الجبرية والمرجئة
• قضايا القضاء والقدر
• الخلاف في مرتكب الكبيرة
• ثم ظهرت الأراء المتكاملة للفرق الإسلامية كالأصول الخمسة عند المعتزلة وغيرها من الأراء عند الفرق الأخرى.
• وقد خاضوا في جميع المسائل تقريبا!، كقضية قدم العالم وغيرها من المسائل
وعلم الكلام هو علم من صنع المسلمين، أتى لمعالجة بعض القضايا التي ثار عليها الخلاف بين المسلمين أنفسهم، كقضية الإمامة مثلا، كما جعل مصدرا للرد على النصارى واليهود وأهل العقائد المنحرفة الأخرى، وفي الحقيقة قليلا ما تناول التجلية الحقيقية لعقائد الإسلام، وهو ما ينبغي أن يفعل.
قرأت قبل فترة كتاب (كبرى اليقينيات الكونية) للشيخ الدكتور محمد سعيد البوطي فوجدت فيه محاولة جادة للبحث في علم الكلام عند الأشاعرة بثوب جديد!، والحقيقة أنّ أمر العقائد أمر في غاية الأهمية وقد لاحظت العزوف عن القراءة فيه عند البعض بسبب أنهم يرون أنه سبب للخلاف بين المسلمين، ولكني أنصح كل طالب علم بأن يتعمق في القراءة في العقائد، فعليه بقراءة البعد الحضاري للعقيدة الإباضية، وكتاب الحق الدامغ، وكتاب مشارق الأنوار.
الفلاسفة المسلمون:
هؤلاء أتوا مع مرحلة الترجمة للكتب اليونانية والرومانية، لقد ترجموا علومهم ثم شرحوها ووسعوا فيها، غير أنّ أكثرهم لم يستطع الفلات من أفكار أفلاطون وأرسطو ومن لحقهم، ومن هؤلاء الفارابي وابن سينا واخوان صفا والكندي وابن رشد وغيرهم.
لم يتقبل المسلمون أكثر ما جاء به هؤلاء، خاصة في جانب مبحث الوجود، بل كثر الرد عليهم، وأشهر من رد عليهم الإمام الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) الذي ربما أراده ضربة قاضية لهذا التوجه، غير أن ابن رشد رجع ورد عليه في كتابه (تهافت التهافت) ثم انتقل هذا التوجه بمباحثه إلى الغرب. وإن كان لبعض علومهم، كالمنطق مثلا، أثرا طيبا على المسلمين.
نادى الفارابي بثنائية الوجود: بين واجب الوجود وهو الله تعالى، وممكن الوجود وهو العالم، ثم جعل بمبدأ العلة والمعلول علة بين الأثنين، فقال بقدم العالم، ثم قال تبعا لأفلاطون بنظرية الفيض وهي أن المخلوقات تفيض وتنبعث من الله تعالى بدون نقص منه، فهو انبثاق بدون حدوث ولا انقسام في ذات واجب الوجود، وكأن مسألة الخلق من غير شيء لم تدخل عقله القاصر. وقد رد الغزالي بأن واجب الوجود قديم ذاتي، بمعنى أنه مستغن عن غيره، وأنه أحدث العالم بإرادة منه قديمة، فيصح عقلا أن يكون العالم غير قديم. وما زالت هذه الفكرة اليوم محل بحث واسع في علم الفيزياء.
هناك من العلماء من يرى أن الفلسفة اليونانية كانت محل تشويش على المسلمين، وأنهم لو تركوا بأنفسهم لأبدعوا خيرا منها، ولأدركوا مباحث علم المنطق بأنفسهم، والحقيقة أن ردة الفعل على الفلسفة بالعموم ما زالت ظاهرة، ويظل النقاش عميقا حول الموازنة بين هل كان لترجمة كتب اليونان أثر حسن أم سيء وكيف كان يمكن أن يكون التعامل معها.
التصوف:
قد يستغرب البعض من وجود التصوف هنا، وهو عنده عبادات روحية توثق العلاقة بين العبد وخالقه، والحقيقة أن التصوف المقصود هنا هو ذلك التصوف الذي له نظرة وتصور خاص عن الخالق والكون، أدت ببعضهم إلى القول بوحدة الوجود والحلول وغيرها من العقائد الفاسدة، فهو توجه روحي باطني له منهجه الخاص في كيفية الوصول إلى الحقائق. وأكبر منظري هذا التوجه هم الحلاج وابن عربي. وقد وصم هذا الإتجاه من التصوف بالتأثر بالتراث الفارسي والهندي والرهبانية المسيحية.
ومن العقائد والفلسفات الفاسدة التي أصابت الأمة أيضا الفلسفة الباطنية التي تبنتها القرامطة وغيرها من الفرق المنحرفة، وقد كان لها صولات وجولات في العالم الإسلامي.
التمييز بين الفكر الإسلامي والفلسفة:
الفكر الإسلامي بدأ منذ نزول الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الوحي هو الذي يميّز بين الدين الإسلامي والفكر الإنساني، حيث ينطلق الفكر الإسلامي من القرآن والسنة النبوية ليظهر مراد الله منهما، بينما تنطلق الفلسفة من التصورات العقلية للذات البشرية، ولا شك بأنه يمكن للفكر الإسلامي أن يستفيد من الفلسفة، كما يُحثّ أيضا على السعي في بناء العلوم المختلفة والاستفادة منها.
والمسلمون تمايزت اتجاهاتهم الفكرية، كما تمايز مدى ثقتهم بالعقل، وهذه مسئلة قديمة حديثة كانت تسمى بقضية الرأي، أو قضية العقل والنقل، وقد كان للإباضية وما زال رأي وسط في هذه المسألة، فهناك من المسلمين من قال بأنه يمكن للعقل أن يفهم مراد الله تعالى المرسول للعالمين، ومنهم من قال لا يمكن فلا بد من وجود الإمام المعصوم ليخبرنا بمراده، وآخر يقول لا بد أن يكون فهمنا هو فهم السلف بلا زيادة ولا نقصان، وآخر يقول بل إن العقل مقدم على الوحي، فالحسن ما حسّنه العقل والقبيح ما قبّحه. ولا شك أن الموقف من العقل هو الذي يحدد العطاء الفكري المرجو منه، ولا بد من الثقة في العقل فيما هو له مجال فيه ليتم نمو العلوم وتطورها.
ويذكر الدكتور محمد ابراهيم الفيومي في بحثه (المدرسة الفلسفية في الإسلام بين المشائية والإشراقية) بأن بعض المفكريين يرى بأن القرآن الكريم هو من أهم العوامل التي دفعت المسلمين إلى التفلسف، ويرد بأنه إذا كان المقصود بالفلسفة هو إثارة الأسئلة وتوجيهها، فإن القرآن يدعو إلى ذلك، ولكن أي أسئلة؟ هل تلك التي تخوض في المتاهات الميتافيزيقية؟ بالطبع ليس الحال كذلك، وإن كان المقصود بالفلسفة تحصيل المعرفة الحقة لله والتدبر في الكون الطبيعي، أي عالم الشهادة، والتسليم بعالم الغيب، فإن القرآن يدعو لهذا.
ولعل سؤالا وجيها يتبادر للأذهان هنا، وهو لماذا لا يستغني المسلمون بمصطلح الفكر الإسلامي، بدل إستيراد المصطلحات، فيقبلوا على تعلّم الفلسفة؟
ولعل الجواب يكمن في أن للفلسفة أسلوبها ومباحثها التي ألحقت بها، ومن ذلك كما قدمنا مبحث الوجود، ومبحث القيّم ومبحث المعرفة، كما أنّ لها ميراثها الذي كوّن كثيرا من التعريفات التي نعيشها اليوم، لذلك نادى البعض بإيجاد فلسفة قائمة على الإسلام لمعالجة تلك المباحث، وعلى هذا فالفلسفة الإسلامية التي يرام إنشائها هي جزء من الفكر الإسلامي المستمد من الدين الإسلامي الحنيف.
الفلسفة الغربية الحديثة:
بدايات هذه الفلسفة كانت مع مطلع النهضة الأوروبية الحديثة، بل هي التي دارت رحاها، وكونت لها المفاهيم والأفكار التي قامت عليها حضارتها المادية الحديثة، إنها مرحلة النهظة والتنوير، أو ما يعرف بالحداثة. إن هذه المرحلة أتت بتحولات كبرى، بداية من النظام الاقتصادي الرأسمالي المفتوح، الذي جاء بعد النمط الزراعي الإقطاعي المغلق للقرون الوسطى، عروجا على الكشوفات الجغرافية، وازدهار الصناعة والتعدين، والاكتشافات العلمية المختلفة، وانتهاء بنظام البنوك والثورات الشعبية التي قامت على النظام الكنسي ونادت بالديموقراطية وتحرير الأفراد.
لقد كثرت الفلسفات الحديثة التي شكلت الإطار والقاعدة الفكرية لهذه المرحلة، بداية من مكيافيللي الذي قال بأن الغاية تبرر الوسيلة، ومرورا بديكارت الذي أعلى من قيمة العقل وجعله أساس الوجود (أنا أفكر أنا موجود)، ونتشيه وهيجل وغيرهم الكثير، كما وجد العلماء الكبار من أمثال جاليلو، ونيوتن وأنشتاين وغيرهم الذين أوجدوا العلوم والاكتشافات الحديثة، كما وجدت هناك نظريات لدارون وفرويد وغيرهم. ومن أهم هذه الفلسفات المادية: الوجودية والبنيوية والعلمانية والماركسية والشيوعية، وغيرها من الفلسفات التي قامت بتعريف الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، إلى ما هنالك من تعاريف شملت النظرة إلى القيم الأخلاقية، وأصل الكون ومعناه وغايته.
وإذا كان المنطق العقلي هو أساس الفلسفة اليونانية القديمة، فإن المذهب التجريبي، أو المعرفة من خلال التجارب، هو المنهج الذي يعد أساسا لقيام هذه المرحلة. لقد نادى فلاسفة هذه المرحلة بنقل الفلسفة من السماء إلى الأرض، ومن بحث العلاقة بين الله والعالم، إلى بحث العلاقة بين الإنسان والعالم، أو بين العقل والمادة، وكان العقل أوالإنسان هو مركز والوجود عند الفلاسفة الاوائل كديكارت مثلا، فهولاء وتحت نشوة الإنتصارات الجغرافية والعلمية رفعوا شعار أن بإمكان الإنسان السيطرة على الطبيعة عن طريق العلم!!
ثم تبيّن أن التجارب العلمية ونتائجها قد تأتي بغير ما تسوّغه الحواس ويقتضيه العقل، وقد أثبت أنشتاين بالنظرية النسبية ذلك، وقوانين انشيتاين هذا حقيقة في غاية الغرابة، فقد أثبت الرجل أن سرعة الزمن ليست ثابتة في كل أرجاء هذا الكون!.
وهكذا تبيّن بأن العقل نفسه عبارة عن جزئيات مادية، فكيف يمكن له أن يتجاوز نفسه!، إن المادة في الحقيقة ذات طبيعة محايدة، ليست لها هدف أو غاية تسعى لها، والطبيعة دائمة التغيّر ليست ثابتة، بل هي في صراع دائم، وهكذا تبيّن بأن قضية ثبات الأخلاق والقيّم ليست إلا وهما من مخلفات الماضي، ليست له حقيقة في الواقع، إنما على الإنسان أن يبحث عن السعادة واللذة الجسدية الآنية، وهكذا غابت القيّم والغايات في فلسفة ما بعد الحداثة.
والفلسفة الغربية اليوم لها توجه عالمي، تحاول التعايش مع الجميع في ظل العولمة، فهي تمتص الاختلافات العرقية وتحاول وضع الجميع تحت سلطانها، كما أصبح السوق والسلعة هي أهم مفردات هذه الحضارة الماديية الحديثة. وأصبحت الحضارة اليوم لا تهتم بشيء اسمه عقائد أوأخلاق، فهي على استعداد أن تأخذ من الجميع سواء كان مؤمنا أو ملحدا، كاسيا أو عريانا، المهم أن يساهم في نموها ويكون أداة من أدواتها.
بين المثالية والمادية:
تًقسم الفلسفة إلى قسمين رأيسيين، لكل منهما نظرته الخاصة لتفسير أصل الكون وغايته، هما الفلسفة المادية والفلسفة المثاليه، فما الفرق بين الفلسفتين؟
الفرق الأساس هو أن المثالية تقول بأن الحقيقة النهائية ذات طبيعة روحية، أما المادية فتقول أنها ذات طبيعة مادية، فكل ما في الكون إنما هو مادة أو أحد تجلياتها، حتى الطاقة والحياة إنما هي من أشكال المادة لا غير. ولا خلاف بأن معادلة أنشتاين تمكّن من تحويل الطاقة إلى مادة، كما أن نظرية دارون في النشوء والإرتقاء تبيّن أن أساس الحياة كلها إنما هي من خلية الأميبيا، وقد تطورت جميع الحيوانات منها، ولا زالت التجارب العلمية لإيجاد الحياة من المادة قائمة، وعندما تنجح هذه التجارب فسوف تموت الفلسفة المثالية بأسرها!!.
تقول الفلسفة المثالية، والتي هي متأثرة بالدين النصراني، بأن الطبيعة النهائية هي العقل الأول، الذي هو بعيد عن العشوائية، والكون مخلوق له، فكل ما في الكون إنما يسير بمعقولية ومنطق، وإن تجلى المظهر بغير ذلك في بعض الأوقات حيث يرى الشر واللامعقولية في الواقع المعاش، فالحقيقة النهائية إنما هو الخير والمثل العليا، أما العالم المادي فليس إلا ظلا، وإنعكاس لعالم عاقل أعلى، والحواس لا تستطيع معرفة هذه الحقائق، بل هي محجوبة عنه، فالعقل فوق الحس، وهكذا تعلي الفلسفة المثالية من شأن الأخلاق، وتجعل من وظيفة الإنسان البحث عن الخير والبعد عن الشر، والتوق إلى المثل العليا. وهكذا نجد بأن الكون مبني على أساس من القيّم، بل هناك توحيد في المثالية بين الخير والحقيقة، بمعنى أن القرب والبحث عن سنن الكون إنما هو قرب من إيجاد هذه المثل العليا التي قام عليها الكون، فالعلم إنما هو اقتراب من المثل والأخلاق، وهذا مضاد تماما لما تقول به فلسفة ما بعد الحداثة المنتمية إلى الفلسفة المادية.
وفي إجابة السؤال التالي: هل الكون يسير على نظام أخلاقي، أم أنه نظام آلي يسير بنفسه بدون هدف؟
يرى المثالي أن عدم القول بأن الكون قائم على نظام أخلاقي يؤدي إلى ويلات على البشرية، وأن عدم اتصال هذه القيّم بالكون، يعني أنها ليست لها حقيقة، بل تكون عند ذلك فراغ عديمة الدلالة، لذلك فالأخلاق هدف للوجود. إن الذهن هو وحده الحقيقي، أمّا المادة بكل مظاهرها ما هي إلا مظمون ذهني، ووجود الشيء معناه إدراكنا له!، فلا يوجد الكون إلا في الأذهان!.
ويقول المادي بأن المثالية رفيقة الدين، أما المادية فإنها رفيقة العلم، وهو يرى بأنه مستعد لترك المثالي ورجل الدين في شأنهم، على أن يتركوه في شأنه يبحث في البراهين والتجارب، فهم أمانيهم وأحلامهم تؤثر على بحثهم عن الحقيقة، بل تشوهه، على حين يكون هو واثقا من صفحته في هذا الجانب، فهو دائما مستعد بالدليل والبرهان.
إن المادي يرى بأن الكون ليس له شأن بالأخلاق، فالقيّم لا وجود لها إلا بالنسبة إلى الكائنات العضوية الحية، ولا نستطيع إسقاطها على شاشة الكون، وما هذه القيّم الأخلاقية إلا طبائع ووظائف بيولوجية في بعض الكائنات الحية. والإنسان بذاته إنما هو أحد أفراد النوع الحيواني، وإن كان معه عقل، فهو لا زال جزء من هذا الواقع المشاهد للعيان، لقد كانت الطبيعة أولا، ثم تطورت في عملية طويلة شديدة البطء ليظهر الإنسان، وهكذا يجعل المادي الطبيعة كل شيء، ولذلك يسمى مذهبه أيضا بالمذهب الطبيعي.
الفلسفة الإسلامية المعاصرة:
هذه الفلسفة الإسلامية المعاصرة هي التي نادى إليها إقبال والدكتور مصطفى عبدالرزاق والدكتور على النشار وغيرهم الكثير، وقد بات لها قبولا في أوساط واسعة من الأمة، وهذه الفلسفة لا تحصر نفسها في مجال الفلسفة الأولى أو التي نادى بها الفارابي وغيره ممن تأثر بالمنهج اليوناني، بل ترى أن ذلك التوجه قد أضر بالفلسفة الإسلامية أكثر مما نفع، وإن كان هذا لا يعني عدم الانتفاع بكتاباتهم، ككتابات ابن رشد مثلا، كما يمكن الإنتفاع بكل التجارب الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية.
إن القاعدة الفكرية التي تتناول كل جوانب الحياة الحديثة أمر تحتمه عالمية الإسلام ونظرته الحضارية للكون والحياة، فلا بد من وجود منظومة متكاملة من المفاهيم والنظم القائمة على منهج إسلامي واضح. إن هؤلاء المفكرين يحاولون الخروج من الفلسفات البشرية المسيطرة على عصب الحياة اليوم إلى المنهج والفلسفة التي يرتضيها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، محاوليين من خلالها إرجاع الهوية الإسلامية إلى شؤون الحياة المختلفة. وقد توسعت الكتابة عند هؤلاء في الآونة الأخيرة، فقد وجدت كتابات كثيرة في قضية نظريّة المعرفة على سبيل المثال.
وإذا كان مكيافيللي وجاليليو وديكارت ونتشيه ودارون هم رواد الحضارة الغربية الحديثة، فإن روّاد النهضة الإسلامية الحديثة هم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وسيد قطب والباروني والشيخ نور الدين السالمي والشيخ أحمد الخليلي، وغيرهم الكثير ممن نهضت بهم الشعوب في تأريخها الحديث. فإذا كان يعد هؤلاء الغربيون روّادا للفلسفة الغربية الحديثة، فإن هؤلاء الأعلام الإسلاميين هم روّاد الفكر الإسلامي في العصر الحديث، فعلى أيد هؤلاء تم تجديد الفكر، وعلى أيديهم بدأت النهضة الإسلامية الحديثة التي طالت جميع جوانب الحياة.
إن النهضة بحاجة إلى روّاد ليواكبوا المرحلة الجديدة التي تمر بها الأمة، كما هي بحاجة إلى مؤسسات، وصناعات مختلفة، وهي بحاجة إلى الإنطلاق من الإسلام بدل الإنطلاق من الفلسفات المادية الغربية التي أجبرتنا على أن نعيش في مفرداتها ومفاهيمها، ونحن ولا شك في حاجة إلى بديل إسلامي لهذه المصطلحات التي تتنافى والتصور الإسلامي للكون وغايته، ونحن كما أننا بحاجة إلى تأصيل في الفكر، فإنّا أيضا بحاجة إلى تأصيل في العلم، وهذا هو المراد من أسلمة المعرفة.
إن أهم العقبات التي تقف أمام هذه النهضة الإسلامية الحديثة هي: التبعية للمستعمر الغربي، والتخلّف الحضاري الذي تشهده الأمة في مجالاتها كلها، كما أن هناك بقايا من التعصب المقيت بين المسلمين أنفسهم، وفهم منقوص لمعنى الدين الإسلامي الخالد، وخلط في معنى الأصالة والمعاصرة، أو ما يسميه البعض بما ينبغي أن يؤخذ من التراث وما ينبغي أن يؤخذ من الغرب. وقد وجدت هناك محاولات لإيجاد فلسفة تنسب للعرب بدل أن تنسب للإسلام. كما وجد هناك كثير من الكتاب الذين يكتبون عن الفلسفة الإسلامية وهم لا يفهمون عن الإسلام سوى اسمه.
إن النهضة في الشعوب الإسلامية في الحقيقة لا تتم بعيدا عن الإسلام ومنظومته الفكرية، كما أن للإسلام الغلبة كل الغلبة في مباحث الفلسفة كلها، ولكنّها بحاجة إلى من يجليّها للناس.
أهم مباحث الفلسفة:
بعد هذا المرور التأريخي الخاطف على الفلسفة منذ نشأتها إلى اليوم، فإنه يجدر بنا التعريج على أهم مباحث الفلسفة الأساسية ولو بشكل مختصر لتكون نظرتنا إليها أوسع وأعمق. وقد ذكرنا سابقا بأن أهم المباحث هي: مبحث الوجود، ومبحث المعرفة، ومبحث القيّم.
مبحث الوجود (Ontology):
قد ذكرنا سابقا بأنه يبحث في طبيعة الحقيقة النهائية للكون، وعن معنى الكون والحياة، إلى ما هنالك من أسئلة، ولعلنا عرّجنا عليه أكثر من غيره في سردنا التأريخي، وقلنا أن أشهر الفلسفات هنا، هما الفلسفة المادية والفلسفة المثالية.
ولن نقوم هنا بالتفصيل في هذا المبحث، ولكنّا نذكر بأن القرآن الكريم، قد فصّل وأجاب أجوبة واضحة عن جميع أسئلة الميتافيزيقيا أو أغلبها، وجعلها من المسلمات لدى من يؤمن برسالة الإسلام، وهذا لا شك أنه يستدعي السؤال لماذا؟
من البدهي أن للعقيدة الدور الأكبر في حياة الناس وسعيهم على هذه المعمورة فلا بد أن تلاقي الإهتمام الأكبر في القرآن الكريم، وأن الله لم يخلق الخلق عبثا، وإنما خلقهم لعبادته والقيام بأمره سبحانه لذلك فقد دلهم على الطريق ورسم لهم معالمه، وهو بهذه الإجابات أيضا أوضح للعقل الإنساني أن مجال الميتافيزيقيا مجال تحار فيه العقول، وتزل فيه الأقدام، وإنه بهذه الإجابات الواضحات يرشد العقول بالتوجه إلى التفكر في الخلق، بدل من التفكر في الخالق، فلن يسع عقل المخلوق خالقه، وإنما مجاله الحقيقي في التفكر في الكون ونواميسه.
والحقيقة النهائية للكون عند المسلمين هو الله سبحانه، جل شأنه وعظم سلطانه، وتعالت صفاته وأفعاله، ويدرس هذا الجانب المهم والأساسي في الدين الإسلامي في علم التوحيد أو العقيدة، وبها يدرس أركان الإيمان الستة، أسسها وآثارها، أمّا إظهار الحجج المثبتة لوجوده وصفاته إلى غير ذلك من مسائل فهو مما يختص به علم الكلام الذي سبق الحديث عنه.
نظريّة المعرفة (Epistemology):
المعرفة هي أسمى وظيفة للإنسان في هذا الوجود، وهي بحر عميق لا ساحل له، ونظريّة المعرفة تُعنى بالبحث في مبادئ المعرفة الإنسانية، وفي مصادرها، وفي طبيعتها، وفي الصلة بين الذات المدركة والموضوع المدرك، وغير ذلك من مسائل وقضايا. والبنية الأساسية للمعرفة هي الفكرة، والأفكار تكون التصورات والمفاهيم والمصطلحات ثم التعاريف، وتعنى فلسفة العلوم على إيجاد المناهج والآليات لضبط العلوم وتوجيهها.
ولنظريّة المعرفة في الإسلام تميّز وخصوصية ، ذلك لأن الإسلام يؤمن بالوحي ويجعل العقل في مرتبة ثانية بعد القرآن والسنة النبوية المشرفة، ثم هو يؤمن بميداني الغيب والشهادة، والمعرفة فيه قائمة على اليقين لا على الشك، وهو فوق ذلك يقرن المعرفة بالأخلاق، كما أنه يؤمن بوحدة المعرفة، التي سبق العروج عليها في التفريق بين المادية والمثالية، وهي تنبثق من الإيمان بحقيقة الوحدة في الكون، ووحدة الإله المعبود، ووحدة القوانين المنظمة لأجزاء هذا الكون، ووحدة المنشأ والمصير، وفي ضوء ذلك يتحدد معنى وحدانية الله سبحانه، وحدود الصلة بين الإنسان وربه، والكون وموجوداته، ومن أراد الإستزادة في هذا الموضوع فعليه بكتاب (نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية) للدكتور أحمد الدغشي.
والمعرفة لصيقة بالتربية، فإذا كانت المعرفة والفلسفة عموما تعطي التصورات والمفاهيم والمبادئ التي تشكل نظرة الإنسان إلى ما حوله، فإن التربية هي المتكفلة بغرس تلك النظرة في قلوب الأتباع والأبناء. ثم أن الفلسفة والتربية جميعا بحاجة إلى علم النفس، وهذا أمر ظاهرة أسبابه، والعقل الذي هو آلة المعرفة، كما أن له اتصال بعلم المنطق وعلم أصول البحث، وأساليب وأنماط التفكير، فهو أيضا يتأثر بالعواطف والغرائز وباللغة والبيئة والمجتمع. والحقيقة أنّ لعلم النفس فوائد جمّة لا تحصى، لذلك فقد عده البعض مدخلا لمبحث الوجود، وذلك لأن الإنسان عموما والعقل على وجه الخصوص له حدود وآليات وضوابط لا بد من أن تعرف أولا، قبل أن يستخدم آلة في سبر أغوار العلم والمعرفة.
مناهج البحث:
مناهج البحث هي طرق التفكير الموصلة إلى نتائج العلم، ويقسّمها أصحابها إلى ثلاثة مراحل، هي: مرحلة الإسطورة، ومرحلة الفلسفة، ومرحلة العلم.
كانت الأسطورة هي المسيطرة على الشعوب والعقول في سالف الدهور الغابرة، والإسطورة كانت تنقل بالرواية، فلذلك فإن المنهج النقلي هو أقدم المناهج على الإطلاق، وله أهميته خاصة قبل وجود الكتابة. ثم ألصق الدين بالأسطورة والأباطيل كالسحر والشعوذة، وكأن الدين هو فترة من فترات النضج الإنساني في مجاله البحثي!.
ومع ظهور الفلسفة اليونانية وجد المنهج العقلي وعلم المنطق، لذلك فقد ارتبطت الفلسفة بالمنهج العقلي لأرسطو، ثم لمّا أشتهر المنهج التجريبي في النهضة الأوروبية الحديثة، سميّت هذه المرحلة بمرحلة العلم.
ويقسّم المنهج إلى قسمين: تلقائي يعتمد عليه عموم الناس في حياتهم اليومية ببداهة وتلقائية، وتأملي يأتي بالتأمل والتفكير، وهذا التأملي هو نوعان: مناهج عامة كالمنهج النقلي والعقلي والتجريبي والوجداني وغيرها من المناهج المختلفة، ومناهج خاصة كمثل منهج أصول الفقه مثلا. وأريد هنا أن ألخص خطوات المنهج التجريبي وخطوات بحث أصول الفقه، كما وردت عند الدكتور عبد الهادي الفضلي في كتابه القيّم (أصول البحث).
تبدأ خطوات المنهج التجريبي بدراسة الوقائع المشاهدة للظاهرة المراد دراستها، ثم يتم تفسير تلك الظواهر بفرضية تتخذ منطلقا لمزيد من البحث، ثم إذا ألغيّت جميع الثغرات المتعلقة بتلك الفرضية أصبحت نظريّة، ثم إذا قام الدليل القطعي على صحتها أصبحت قانونا، ويظل ذلك القانون تعميم للتجربة لا تقرير لحقيقة سرمدية.
أمّا بالنسبة لعلم أصول الفقه، فهو منهج تأملي خاص للوصول إلى معرفة خاصة في علم الفقه، وتبدأ خطواته بتعيين الدليل من الوحي الإلهي ويعتبرالدليل هنا مصدرا للحقيقة، ثم يقام بتعريف هذا الدليل ويقام البرهان على حجيته لإثبات ما يرام إثباته من قواعد، ويحدد مدى حجيتة، ثم تستخلص القاعدة الأصولية منه، ويبيّن دلالة تلك القاعدة، ثم يبيّن كيفيّة تطبيق تلك القاعدة لإستفادة الحكم الفقهي.
وقد نادى الغرب بأنهم هم أرباب مناهج البحث الفغّالة للعلوم، وأن المسلمين لا شأن لهم سوى بالأساطير والوجدانيات المستمدة من الأساطير والشعوذات، فهم لا شأن لهم بالعلوم، ولا شك بأنّ هذا يتنافى مع العلم والبحث!، فالمسلمون أقاموا المناهج المختلفة، فقد أصّلوا للمنهج النقلي، واستخدموا المنهج العقلي، وأوجدوا الاستقراء والقياس، بل حتى إنهم ابتكروا المنهج التجريبي، وتوسع الغرب فيه لا يعني أنه لم يستخدم قبلهم!، بل ما زال معروفا في كتب المسلمين الاوائل، والمسلمون لم يكتفوا بهذه المناهج بل استخدموا مناهج خاصة لعلوم الفقه والحديث وغيرها من العلوم.
ومناهج البحث تطورت اليوم بشكل كبير، فأصبح الإستمداد من الطبيعة هو سمة العصر، فعلى سبيل المثال درست منهجية الطيور في الطيران، واستخدمت تلك المنهجية لتطوير أداء الطائرات، وهكذا غيرها الكثير من التقنيات المختلفة استمدت من الطبيعة، كيف لا والقوم يعبدون الطبيعة!.
مبحث أو نظريّة القيّم (Axiology):
ينبثق هذا المبحث من الأسئلة الأولى: ما هي الحقيقة؟، ما الذي ينبغي أن نفعله؟، ما هو هدف الحياة؟، كيف نحصل على السعادة؟، لماذا الخير والشر؟، كيف نحيا الحياة الخيّرة؟
إن الأشياء تقدر إما باعتبارها وسائل لغايات أو هي غايات بنفسها، وكل الغايات إنما ترد إلى ثلاثة قيّم كبرى، هي: الحق والخير والجمال.
1. الحق: البحث عن الحقيقة والتحلي بالحقيقة هو أهم الغايات، وقد اعتمد القرآن الكريم وبنى نظامه على نشدان الحقيقة، وجعل وجود الحق أساسا للوجود كله، وإنما أتى الإسلام لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، والحق إنما يعرف بالعلم.
2. الخير: نشدان الفضيلة والبعد عن الزيلة هو أساس علم الأخلاق، وهو ربط لإرادة الإنسان بالمثل العليا التي قام عليه الكون. وعلم الأخلاق في أساسه يبحث في ماهية الحياة الخيرة التي ينبغي أن يعيش عليها الإنسان، وعن كيفية حصوله على السعادة، وهو له ارتباط وثيق بمبحث الوجود، فهما معا يقيمان المثل، ويحددان السلوك.
3. الجمال: هو البحث عن الجمال والفن، وهو من مباحث علم الجمال، ولا أدري إن كان للمسلمين دور في بلورة هذا العلم، والبحث فيه.
ولقد فصّل الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه الحضارة الإسلامية في مبحث الحق ومبحث الخير، فمن شائهما فليرجع إليهما فيه، أما في هذا الموضوع فسوف نتكلم قليلا عن علم الأخلاق الذي هو مرتبط بقيمة الخير وطلب الفضيلة.
علم الأخلاق:
يحاول علم الأخلاق من حيث البداية الجواب على السؤالين التاليين: ما الذي ينبغي أن نحيا من أجله؟ وكيف ينبغي أن نحيا؟ بمعنى أنه يبحث عن الأهداف والغايات النهائية، كما يبحث عن ما ينبغي فعله في المسيرة الإنسانية.
وعلم الأخلاق هو في الأساس فرع لمبحث الوجود، لذلك نجد التعدد الواسع في تفسير سلوك الإنسان، ويمكننا إيجاد عدة تفاسير هنا، لعل من أهمها:
1. الطبيعة البشرية: يعرّف هؤلاء الأخلاق على أنها طبيعة بشرية ناتجة عن طبيعته الاجتماعية، فهو إنما أتى بهذه المبادئ لتستقيم حياته الاجتماعية ذات الطبيعة الحميمية والطيبة من حيث الأصل مع بني جنسه، ومنهم من قال بل هي ناتجة عن العاطفية الجمالية، فالأخلاق نتيجة للغريزة والعاطفة الكامنة فيه.
2. المثالي العقلي: السلوك الإنساني ينبغي أن يكون وفقا للمثل العليا التي قام عليها الكون، لذلك فعلى العقل البشري أن يساير تلك المثل، لا لغاية ولكن لأنها الحق الذي ينبغي أن يتبع، فعلم الأخلاق هنا علم معياري يحاول فيه الإنسان الوصول إلى المثل العليا للحق والخير.
3. الاتجاه النفعي الأناني: يصر هذا الاتجاه على أن العبرة بالنتيجة لا لبواعث الأعمال، فإنما المراد هو المنفعة العامة للبشر والحيوانات أو المنفعة العملية، وقبل ذلك إنما هي المنفعة للشخص ذاته، فعلى الإنسان أن يسلك الطريقة التي تنفعه ذاتيا قبل غيره.
4. عند الاجتماعي الوضعي: يدرس عالم الاجتماع السلوك البشري مرتبط بالزمان والمكان، فكيف يكون التصرف الفردي والاجتماعي في مختلف الظروف المعيشية، فهو هنا علم يدرس حالة السلوك البشري، لا ما ينبغي أن يكون عليه، فهو ليس علم معياري.
ومن الملاحظ هنا بأن الأتجاه المثالي قائم على فكرة الإلزام، فالإنسان هنا ملزم بأن يتبع قواعد سلوكية تقربه من المثل العليا، ولقد وجدت هذه الفكرة حوارات ومناقشات كثيرة في عالم الفلسفة، فالاعتراف بهذا الإلزام هو عمدة يقوم عليها النظام الأخلاقي في الإسلام، وهو أصل يترتب عليه الهيكل الأخلاقي فيه، وكم كنت قد تمنيت أن يعرض عليه الدكتور محمد عبد الله الدراز في كتابه القيّم (دستور الأخلاق الإسلامية في القرآن) ولكنه أخذه كالمسلم به ثم أبدع أيما أبداع في ذكر الهيكل الأخلاقي في الإسلام.
والحقيقة أن ديكارت هو من جلى موضوع الإلزام هذا، فعنده أن الأفعال ينبغي أدائها والقيام بها لأنها حق، فالأخلاق قيّم مطلقة تحمل قيمة الحق المطلق، والحق لا يسأل هل ينبغي القيام به أم لا، فهو بعيد عن كل جنس أو مذهب أو عقيدة، بل هو حق شيئنا أم أبينا، أريتم لو أن أحدنا لم يعر للحقائق الكونية بالا أتراه يستطيع الاستفادة من خيراته أم هل يستطيع النجاة من كوارثه، وكذلك الأخلاق فمن أراد السعادة والتقدم فعليه الأخذ بالأخلاق، ومن أراد غير ذلك فإنه مخالف لقيّم الحق وسننه، وليرى نتيجة أفعاله وتصرفاته، وهكذا يكون هذا الإلزام تمسك بالحق، فهو على ذلك لا يتعارض مع الحرية الشخصية
ويتحدث الدكتور الدراز في كتابه القيّم الآنف الذكر عن الإلزام والتكليف والابتلاء، ويتحدث عن المسؤولية والإرادة والحرية، ثم يتحدث عن الجزاء الخلقي والقانوني والالهي في الدنيا والأخرى، كما يتحدث عن النية وعلاقتها بالعمل، وعن الدوافع الموجهة للنية الحسنة والسيئة والمباحة، وعن الجهد وغيرها الكثير من المسائل المعتبرة كأسس نظرية للنظام الأخلاقي في الإسلام، فإن الأخلاق عند المفكرين المسلمين تقسّم إلى أخلاق نظرية وعملية، ومن الكتب التي أجادت في الجانب الأول كتاب علم الأخلاق الإسلامية للدكتور مقداد يالجن، ومن الكتب التي أجادت في الجانب الثاني كتاب الأخلاق الإسلامية وأسسها للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني.
وعلم الأخلاق له تأريخ طويل وقد مر بمراحل كثيرة، سوف لن نعرض عليها هنا، ولكنا نحب التذكير بالاتجاهات الأخلاقية للمسلمين الأوائل، فقد كان هناك توجه عقلي يمثله ما يعرف بالفلاسفة المسلمين وآخر روحي يمثله المتصوفة، أما الإمام الغزالي فقد حاول الجمع بين هذين التوجهيين.
الاتجاه العقلي: يمثله الفلاسفة المسلمين وبعض المتكلمين، وهو ظاهر عند الشيخ ابن مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق، وينطلق هؤلاء من مبدأ العلة والمعلول، فلكي يحصل الإنسان على السعادة ويبتعد عن الشقاء فإن عليه بالاعتدال الذي هو أسمى الفضائل، وهذا بطبيعة الحال متابعة واستكمال لما قاله أرسطو من قبل، وعندهم المبادئ الأخلاقية هي مبادئ عقلية ثابتة، ذات طبيعة وسطية، والفضائل الأخلاقية تندرج تحت أمهات الفضائل الأربع التي هي الحكمة، والشجاعة والعفة والعدالة، وأساس الفضيلة هو التصرف بمقتضى العقل والحكمة، وأن أيا من هذه الفضائل هو وسط بين رذيلتين فالشجاعة وسط بين التهور والجبن، وقد حاول الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين الجمع بين هذا التوجه والتوجه الروحي الذي نحن بصدد الحديث عنه.
الاتجاه الروحي: ويمثله المتصوفة، وهناك من المتصوفة من جعل الأخلاق جوهرا للتصوف كما يقول الشيخ القرضاوي، وقد لخص الدكتور مقداد يالجن هذا الجانب الروحي عند المتصوفة بالنقاط التالية:
1. الاهتمام الزائد بإصلاح الباطن، وإصلاح الباطن يتطلب أمورا ثلاثة:
أ. معرفة النفس ونوازعها ورغباتها، وهم مشتهرون بالتحليلات النفسية الدقيقة
ب. تطهير القلب وتصفية الروح من الرذائل، وذلك عن طريق المجاهدات والعزلة والزهد والعبادة المتواصلة
ج. التحلي بالفضائل والمكارم الأخلاقية، فهو تخلي وتحلي وثبات
2. التفاني في الاخلاص لله في جميع الأعمال، والتنكر للإرادة البشرية، والاتحاد مع إرادة الله تعالى
3. تنمية علاقة المودة والمحبة والإخاء بين الناس، والتفاني في الفداء والإيثار
4. إيثار الزهد في الدنيا والتقشف في الحياة
5. الثبات في الشخصية في جميع الظروف والأحوال
6. الاهتمام بالجانب التطبيقي والعملي من الأخلاق أكثر من الجانب النظري.
ويتابع الدكتور مقداد يالجن بأنه لا خلاف بين الجميع بأن السعادة نتيجة للأخلاق، ولكن الخلاف كان في تعريف السعادة، فالاتجاه الروحي يرى أن الروح هي حقيقة الإنسان وجوهره، وما الجسد إلا أداة تستعملها الروح، فالسعادة روحية تتم بتحقيق مطالب الروح وتزكيتها من العلائق المادية ونزعاتها الجسدية. أما الاتجاه العقلي فيرى بأن السعادة هي شعور غالب بالسرور في جميع الظروف، يأتي نتيجة لإخضاع السلوك لحكم العقل، واتباع قوانينه وسننه والتمسك بالفضائل وقيّم الحق والخير. أما الاتجاه المادي فيرى أن السعادة هي الشعور الناتج عن إشباع الدوافع الطبيعية والغرائز الحسية للإنسان.
أما الدكتور مقداد يالجن فيرى أن السعادة ناتجة عن إحساس بخيريّة الذات وخيريّة الحياة وخيريّة المصير، وخيريّة الذات هي في صحة العقل والنفس والفكر المتشرب بالعقيدة الصحيحة، أما خيريّة الحياة فهو في السلامة من الأمراض وفي تحقيق المطالب الأولية للأنسان بالحكمة، أما خيريّة المصير فتنتج عندما تصح العقيدة ويعمل بمقتضى تلك العقيدة.
ثم يربط الدكتور مقداد يالجن بين الأخلاق والنظم الإسلامية، فيجعل الأخلاق روحا للتشريع الإسلامي تسري في جميع جوانبه، ثم يجعلها ضرورة للحياة الاجتماعية (النظام الاجتماعي) فعلم الأخلاق كفيل بتقدم البشرية من الناحية المادية والمعنوية، إنه نظام يحقق رغبات البشر ويقف أمام ميولهم ونزعاتهم الشريرة فيوجههم إلى الخير ويبعدهم عن الشر، فللأخلاق دوران في المجتمعات البشرية:
1. دوام الحياة الاجتماعية وتماسكها
2. تقدم الحضارة من الناحية العلمية والعمرانية، وذلك لأن الصلة بين طلب الحق و طلب الخير شديدة، لذلك فطلب العلم هو من أهم الأخلاق، مثله مثل إتقان العمل وبلوغ درجة الإحسان فيه.
ومن أهم المبادئ الأخلاقية المتصلة بدوام الحياة الاجتماعية مبدأ العدالة، وهو إعطاء كل ذي حق حقه، والعدالة هي أيضا صلة بين الحق والخير، والتعاون على الخير لتحقيق التقدم الإجتماعي هو أيضا من أهم الأخلاق الاجتماعية، وكذلك جميع الأخلاق شديدة التماسك فيما بينها فتكوّن جميعا نظاما أخلاقيا شديد التماسك.
إن النظام الأخلاقي هو جزء من النظام الذي أقام الله سبحانه وتعالى عليه الكون، فالخير والشر، والحق والباطل هما من مفردات هذا الكون ومكوناته، والتشريعات الإسلامية إنما أتت لجلب المصلحة ودفع المفسدة، وهذا لا شك بأنه هدف أخلاقي، لذلك فالعلاقة بين الأخلاق والفقه شديدة، كالعلاقة بين الأخلاق والعقيدة، فبعض القيّم الخلقية هي في الأساس قيّم إيمانية عقدية، كالتوكل، والإخلاص والمحبة لله تعالى.
هذا والله الموفق لما فيه الخير.
💖💖💖💖💖💖💖💖💖💖
ردحذف