السبت، 20 يونيو 2015

(من صفات الداعية) محاضرة للشيخ الدكتور جابر السعدي


الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد،سبحانه استغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فالسلام عليكم أيها الأباء الكرام والأخوة الأعزة ورحمة الله وبركاته

ومن فضل الله سبحانه وتعالى أن منّ علينا بهذه الجلسة المباركة الطيبة، في هذا المكان الطاهر المبارك، الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا في هذه اللحظات المباركة من المقبولين عنده. وأشكر الأخوة الأعزة على دعوة هذا الضعيف الماثل أمامكم للحديث في هذه الأمسية المباركة، وحديثي معكم بإذن الله سبحانه وتعالى سيكون عن بعض صفات الداعية إلى الله، إذ كل الصفات تحتاج إلى أوقات كثيرة، لا تفي هذه الجلسة بها، وبالحديث عنها

وسيكون حديثي عن هذا الموضوع، مركزا على أمرين أثنين:
الأمر الأول على صفات الداعية النفسية، أي على ما يتحلى به الداعية في نفسه، فيما بينه وبين نفسه، وأيضا على ما ينبغي أن تكون حاله في علاقته بربه سبحانه وتعالى، فالحديث في هذا الباب سيكون عن الخلال والصفات النفسية للداعية وعلاقته بخالقه ومولاه.

وأما الشق الثاني فسيكون الحديث فيه عن معاملة الداعية لغيره وعن أسلوبه في دعوته، أي عن مخالقته لغيره من الناس، وعن أسلوبه في إيصال دعوته إليهم.
 
أما بالنسبة إلى الموضوع الأول، وهو صفات الداعية النفسية، فأولها تقوى الله سبحانه وتعالى:

وهذه الصفة التي هي صفة التقوى مطالب بها كل مسلم، فكل مسلم عليه أن يكون تقيا، عليه أن يتقي ربه سبحانه وتعالى، والتقوى كلمة جامعة مانعة، مبناها ومدارها على امتثال الواجبات والانتهاء عن المحرمات، والمسارعة إلى المندوبات، والترفع والتنزه عن المكروهات، هذه الأمور هي مدار التقوى، فالتقي هو من يفعل ما أمر الله سبحانه وتعالى به، وينتهي عما نهى الله سبحانه وتعالى عنه.

وهذه الصفة العظيمة والركيزة الأساسية ينبغي أن يتحلى بها الداعية، فمن تحلى بهذه الصفة موعود وموصوف بعدة أمور:

أولا هو موعود بتقبل عمله، فالله تعالى يقول (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(المائدة: 27).
وهو موعود بإصلاح العمل، أي أن الله سبحانه يصلح له عمله إن اعتراه شيء من النقص أو التقصير، وهذا ديدن البشر، ديدن الناس، الناس جلبوا على التقصير وعلى الهفوات، فالله سبحانه يصلح عمل المتقين، حيث يقول (اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)(الأحزاب: 70-71).
والله سبحانه وتعالى أيضا وعد المتقين بوجود الفرج والمخرج عند وقوع الشدة والأزمة والضيق والعسرة، حيث يقول سبحانه (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)(الطلاق: 2).
وهناك آيات كثيرة بينت جزاء التقوى في الدنيا، بل لها جزاء في الآخرة، فجزاء الآخرة رضوان من الله سبحانه وتعالى، وجنة عرضها السماوات والأرض.

فلما كان الأمر كذلك كان على الداعية أن يكون متقيا لله سبحانه وتعالى، متقيا لله جل ذكره.

وإنما يجب على الداعية ذلك لأنه مكلف بما أمر الله سبحانه به عباده، هو مكلف كبقية الناس، فيجب عليه أن يكون قائما بهذا التكليف. أيضا لا يستقيم الحال أن يدعو الداعي غيره إلى تقوى الله وهو مفرط في ذلك، إذا سيكون والحالة هذه منفرا أكثر منه داعيا إلى الخير، لأن أفعاله حينئذ ستباين أقواله، وهذا ما لا ينبغي، ينبغي للداعية أن تؤكد أقواله أفعاله، وأفعاله أقواله، أي أن يكون قوله وفعله على نسق واحد، وهو أن يكون على طاعة ربه جل ذكره.
 
ومن الصفات أيضا، التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية إلى الخير، العلم والمعرفة بما يدعو إليه، بما يأمر به وينهى عنه:
إذا لا يستقيم أن يدعو الإنسان إلى ما لا يعلمه، لا يعلم صلاحه، لا يعلم خيره، وكذلك لا يستقيم أن ينهى عن شيء لا يعرف حرمته ومضرته.

فلا بد أن يكون الداعي متصفا بصفة العلم، وهذه الصفة قد تشذ على بعض الناس فيحملها ما لا تحتمل، فيظن أنه لا يسوغ للإنسان أن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يكون عالما مجتهدا بليغا، والأمر ليس كذلك، المقصود بهذه الصفة أن الإنسان لا يأمر أحدا بشيء إلا وهو يعرف أنّ ذلك الشيء هو خير، ولا ينهى أحدا عن شيء إلا وهو يعرف أنّ ذلك الشيء المنهي عنه هو ضر ونهى الله تعالى عنه.

وكل ذلك بحسب المأمور به والمنهي عنه، فقد يكون العامي داعي للخير وذلك إذا أمر أحدا بالصلاة، والمواظبة عليها، فكل مسلم يعرف أن الصلاة فرض وركن من أركان الدين، وكذلك إذا أمره بإخراج الزكاة، نصحه بأنه عليه أن يخرج زكاة ماله، أيضا هذا يعلمه كل أحد، لكنّ عند أمره بذلك هو يعرف أن الصلاة فرض،وهو يعرف أن الزكاة فرض، وإذا نهاه مثلا عن الفواحش، كالسرقة والزنا وغيرها من الأمور التي حرمها الله سبحانه وتعالى، هذه يعلمها كل مسلم.
وهكذا يتدرج العلم والمعرفة بتدرج الدعوة، أو الأمر المأمور به والمنهي عنه.

كذلك بالنسبة للعالم الذي يأمر طلابه أو يعلمهم، مثلا أبواب التوحيد، أو أبواب الفقه، فإذا جاء إلى المحرمات من الرضاع مثلا فلا يسوغ أن يأتي الجاهل مثلا فيدعو إلى الخير أو يأمر أحدا بما لا يعرفه، فينهاه عمّا لا يعلم، فلا بد لمن خاض في هذا الباب أن يعرف المستثنيات، مثلا من المحرمات من النسب لأن المحرمات من الرضاع كالمحرمات من النسب، لكن يتطلب معرفة أفراد هذه المحرمات معرفة وفقها، فقد استثنى أهل العلم بعض المحرمات من النسب مثلا، يقول أحد المشائخ:
............................واستثني من حكم الرضاع كالنسب ### أم أخ وأخت ابن ذي حسب
....................................
أم أخيه، أمه في النسب#### أولى فإنها حليلة الأب
....................................
وأخت ابنه، فإما ابنته #### بنفسه أو أنها ربيبته
................................
من ثم تحرمان بالإجماع #### من جهة الأنساب لا الرضاع

فإذا المقصود بصفة العلم هي أن يكون كل شيء بحسبه، فلا يستقيم أن يدعو الإنسان وهو يجهل ما يدعو إليه، هذا هو المقصود بهذه الصفة، وليس المقصود أنه لا يدعو الإنسان إلى الخير حتى يكون من كبار أهل العلم، أو حتى يتقن جميع فنون العلم أو أغلبها أو جلها، لا، كل بحسبه، منطلق ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل في بيته راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية وهي مسؤولة عن رعيتها ...إلى آخر الحديث).

ومن الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعي إلى الخير: الإخلاص لله تعالى جل ذكره
فلا بد أن يكون الداعي مخلصا لربه جل ذكره، ودليل ذلك قوله تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(البينة: 5)، (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ )(الزمر: 3)، وقوله صلى الله عليه وسلم (الأعمال بالنيات)، وفي رواية (إنما الأعمال بالنيات).

فالعمل معقود على النية، والنية هي ملاك العمل، فالمخلص لا بد أن يكون قاصدا لله تعالى، أن يكون عمله لله وحده، لا يشوبه رياء ولا سمعة، ولا عجب.

وهذه الأمور مما يتطرق إلى الداعية، هو مظنة هذه الآفات، لأن الداعية غالبا ما يكون مشهورا ومنظورا إليه، ولا يتأتي له إيصال دعوته إلا بتسلم المنابر، وتقدم الناس، فالداعية هو مظنة أن تدب إليه هذه الآفات، آفة الرياء، وآفة العجب.

والرياء معناه إرادة إظهار العمل للآخرين، المرائي هو العامل، والمرائى هو الشخص الناظر أو المقصود بذلك العمل، والمرائى فيه هو العمل نفسه.

والرياء والعجب والإخلاص هذه أمور قلبية، أي خفية، ليست ظاهر، ولو كانت هذه الصفات أمورا ظاهرة لسهل علاجها والاعتناء بها، ولكنّها لما كانت خفية، إنما يطلع عليها الله سبحانه وتعالى، كانت محتاجة إلى مزيد عناية ومزيد تبصر، ومزيد بحث ومزيد عرض للإنسان نفسه على كتاب ربه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذه الآفات القلبية ماحقة للعمل والعياذ بالله تعالى، لذلك ينبغي التركيز عليها، وأول ما كان ينبغي أن يعتني بها هو من كان قدوة للناس، كان منظور إليه، ينبغي أن يكون قدوة في كل أموره، في أفعاله وأقواله، في تصرفاته، في حركاته وسكناته.


فالمرائي يقصد بعمله أن يظهر، أن يراه الناس، قد يكون طالبا للحظوة عند الناس، أي القرب منهم والاشتهار عندهم، وقد يكون طالبا الجاه، وأن يكون منظورا إليه.

وهذه الصفات مما ظهر واشتهر في الآونة الأخيرة، والعياذ بالله، هي صفات موجودة، لكن بعض البوادر عند بعض الناس تدل على مثل هذه الآفات، فإذا كان الداعية يحب أن يظهر أمام الناس، يحب أن يكون له جاه عظيم، أو منظورا إليه، أو مشارا إليه بالبنان، وذلك أمر يعرفه في قلبه، لا يعلمه الناس، ذلك أمر يطلع عليه الله سبحانه وتعالى، إذ كما أخبرتكم لا بد للداعية أن يظهر أمام الناس، وقد يقدمه الناس لفظله ومعرفته، لأنهم يظنون فيه الخير. وهذا الأمر القلبي يطلع عليه الله سبحانه وتعالى.

وهذه الآفة، علاجها يكون بأمرين:
الأمر الأول هو أن ينظر إلى نفسه وحاله، من خلقه ومن أنعم عليه، من يتغمده بالصحة والعافية والحفظ في كل لحظة وفي كل سكنة، إنه الله جل ذكره، فالله تعالى أنعم على الإنسان بصنوف النعم، بنعم لا تحصى، وهو الذي يملك الأمر من قبل ومن بعد، فجدير بهذا الإنسان إذا استشعر هذا الشعور أن يستحي من خالقه، أن يستحي أن يعمل عملا أمره الله وهو يقصد به غير الله، إذا علم أن الله هو الخالق وهو الرازق، وهو الضار وهو النافع، وهو المنعم عليه بجميع النعم، فكيف يسوغ أن يقصد بعمله غيره سبحانه، فهذا الشعور وهذا الأمر داع إلى نفي هذه الصفة المذمومة.

الأمر الثاني هو أن يعلم أن الناس لا يضرونه بشيء ولا ينفعونه بشيء، الناس لا يملكون ضرا ولا نفعا، إنما الضار والنافع هو الله، فكيف يطلب رضاهم ويطلب الوجاهة عندهم، وكل ذلك لا يغني شيئا، وأيضا فرضا الناس غاية لا تدرك، فقد يرضي طائفة من الناس بعمل ما، ويغضب طائفة أخرى بنفس ذلك العمل، فمن طبيعة الناس الاختلاف والتباين، فهذا الشعور ييئسه وينفره من طلب هذه الأمور عند الناس، فيرجع إلى نفسه، ويمحص النية، ويخلص لربه تعالى.
ومن الآفات أيضا العجب:
والعجب هو أن يستكثر الإنسان ما عنده من علم أو ما عليه من دعوة أو ما عليه من خلق، أو ما عنده من مال أو ما عليه من صحة وعافية،هذا هو العجب، معجب بنفسه، معجب بعلمه، بأسلوبه، بدعوته، بأي شيء من الصفات التي قد يعجب بها الإنسان.

وهذا الشعور، شعور استكثار الإنسان ما عنده، يورثه انتقاص الآخرين، فهو ينظر إلى غيره نظرة الأقل، نظرة الدون، وهذه آفة عظيمة، لا تستقيم معها دعوة، بل ولا يستقيم معه عمل.

وعلاج هذه الآفة أن يعلم إن كان معتدا بعلمه، أن علمه ما هو إلا قطرة في بحر جهله، فالإنسان يخوض في بحر الجهل، وما العلم الذي أكرمه الله به، هو شيء يسير، بجانب علم الله سبحانه وتعالى.
ويعلم أيضا أن هذا العلم إنما هو فضل من الله ومنّة، تفضل الله سبحانه وتعالى عليه فينبغي له أن يتواضع لربه، وأن يعلم أنّ هذا من عنده تعالى، فلو شاء جل ذكره لنزعه منه، وأودعه غيره.

وهكذا بالنسبة للانبعاث إلى الدعوة مثلا إلى الخير، الإنسان لا يعتد بكثرة دعوته، أو سعيه إلى الخير، بل عليه أن يكون دائم الحذر من مكر الله تعالى، أن يكون دائم التضرع والخضوع والتذلل لله جل ذكره أن يحفظه، وأن يسدده وأن يحسن خاتمته.
وهكذا بالنسبة إلى القوة، بالنسبة إلى المال. لكنّ الداعية إنما يعجب بعلمه أو بأسلوبه أو بدعوته، ولذلك ذكرنا أنه مما يعالج به الإنسان هذه الآفة هو أن يعلم أن ذلك من الله، وأن الله تعالى اختصه بشيء من العلم، فينبغي له أن يشكره جل ذكره، وأن يعلم يقينا أن الله الذي أنعم عليه بهذا الشيء اليسير، هو سبحانه قادر على أن ينعم على غيره، بل ينبغي له أن يدعو الله تعالى أن ينعم بهذا العلم وبهذه الدعوة على غيره من أبناء المسلمين، من أبناء أمة الإسلام، يسأل الله ذلك، ويدعوه أن يكثّر من أمثال هؤلاء.
 
من الآفات أيضا الكبر:
والكبر صفة قد تداخل الداعية، فينبغي له أن يعاهد نفسه ويتعاهدها لينقيها من هذه الصفة المذمومة فيتحلى بنقيضها وهو التواضع.

والكبر يعني غمظ الحق، وبخس الناس أقدارهم

وكما قيل إن من صفات المتكبر إذا دعا عنّف، وإذا نصح أنف. إذا دعا عنّف أي ينظر إلى غيره بنظرة دون، فتراه ينظر إليهم بطرف خفي، بنظرة المستصغر لهم، وإذا نصح أو هذّب أنف وتعالى ونأى بجانبه وأعرض.

وهذا ما لا ينبغي أن يكون عليه المسلم، فضلا عن الداعية، لأن هذه الصفات ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم، الصفات المحمودة، والصفات المذمومة ينبغي أن ينأى أيضا عنها كل مسلم، والداعية من باب أولى لأن الداعية تصدى لإرشاد الناس ولدعوتهم إلى الخير، فينبغي أن يكون مثالا يحتذى

لا يعني ذلك أنه مكلف بغير ما كلف به الناس، لا، هو كأحد المسلمين لكنه لمّا كان قدوة كان ينبغي عليه مزيد حرص، ومزيد تعاهد، ومزيد تفحص لنفسه وأخلاقه وسيرته، ومزيد استشارة لغيره من خلّص إخوانه، الذين يكونون عضدا له في أموره ودعوته.
 
أما بالنسبة لعلاقته لربه سبحانه، فينبغي أن يكون حبل الصلة ممدودا بين الداعية وربه، ويكون ذلك الحبل وثيقا متينا، فالداعية دائم اللجوء إلى ربه، دائم الاستغاثة به والاعتماد عليه إذا نامت أعين الناس ترى الداعية يصف قدميه بين يديّ ربه سائلا إياه التسديد والتثبيت، والنصر والتأييد والحفظ.

وهذا يعني أن يكون الداعية على درجة من التقوى، ومتوكلا على الله تعالى:
والتوكل صفة من الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم ومنهم الداعية، فالداعية قد تعترضه العقبات والمصاعب، لا سيما عند إظهاره دعوته، ومخاطبته غيره فالمتوقع والمعتاد أن يجد بعض المعارضة وبعض الإعراض.

فينبغي عليه أن يكون متوكلا على الله، لو سدت المنافذ في وجه وغلقت الأبواب وحلولكت السبل، وأظلمت في وجهه الدنيا تراه متمسكا بحبل الأمل، ترى قلبه ينبض بالتفاؤل، واثقا بنصر الله سبحانه، لأنه متوكل على ربه، لأنه يعلم أن طريق الدعوة طريق ممدود، ممتد، طريق عظيم واضح المعالم، سلكه أنبياء الله جل ذكره، من لدن آدم عليه السلام، وسلكه أيضا العلماء الصالحون، والدعاة المخلصون أفواجا أفواجا، وما هو إلا واحد من هؤلاء.

إن يسر الله وقبلت دعوته فذلك من فضل الله جل ذكره، وإن كان غير ذلك فالأمر لله من قبل ومن بعد، وخيرة الله للعبد خير من خيرته لنفسه، فلله تعالى هو الذي يعلم الضار والنافع، وهو الذي يعلم ما فيه الخير، فتراه يتوكل على الله ويسلم الأمر له تعالى، ولا يفت ذلك في عضده.

لأن الدعوة لا ينظر إليها على أنها أمر مادي يقوم به ابتداء ثم يكتمل وينتهي منه، لا، الدعوة سلوك، الدعوة عمل يلازم الإنسان إلى أن يأتيه الوعد الحق، فهو مستمر عليه غير ناظر إلى نتائج هذا العمل.

هذا لا يعني أن الإنسان لا ينظر إلى ما هو عليه وإلى أحوال مجتمعه، وإلى الظروف المادية المحتفة به، لا، ينبغي أن يكون منطلقا في دعوته من أحوال مجتمعه، من حيث حاجتهم، ومن حيث ما يراد له من النواقص المراد سدها، والخلل المراد علاجه، وكذلك من حيث الإمكانيات المتوفرة للداعية، فينطلق في دعوته من هذه الأمور، ويتوكل على الله سبحانه وتعالى، والثمرة والنتيجة بيد الله جل ذكره.

هذا بالنسبة للأمر الأول الذي هو صفات الداعية النفسية وعلاقته بربه، وهناك صفات كثيرة وحديث يطول في هذا الباب، لكن في هذا كفاية.
 
أما المحور الآخر وهو مخالطة الداعية لغيره، معاملته غيره من الناس، وأسلوبه في دعوته:
لا شك أن الداعية من أكثر الناس اختلاطا بغيره، فهو يخاطب الناس جميعا، وهو يخاطب الناس على اختلاف أعمارهم، واختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، فكان حري به أن يكون بصيرا بكيفية التعامل معهم، والالتزام بما أمر الله به كاف في هذا الباب.

والداعية في هذا الجانب ينبغي أن يكون ناظرا إلى نفسه وغيره نظرة الطبيب إلى المريض، فكأن الداعية طبيب يعالج الناس، وكأن الناس المدعوين يشتكون من بعض العلل يحتاجون إلى العلاج، ولا شك أن العلاقة بين الطبيب ومريضه ينبغي أن تكون علاقة تراحم، علاقة رحمة وشفقة، علاقة مودة، علاقة عطف، لا تكون علاقة تنافر.

إنما كان الداعية كذلك لأنه ينطلق من مقصد ومن غاية أرادها، فالداعية ما الذي يريده من دعوته، بالنسبة إلى غيره إلى الناس، يريد هدايتهم وإرشادهم وحملهم على الخير وإخراجهم من النار إلى الجنة، وإرشادهم إلى طريق السعادة في دنياهم وأخراهم. هذا الذي يرد الداعية للناس، يريد لهم كل خير، ويضمر لهم كل بر.

هذا بالنسبة إلى قصده لغيره، أما بالنسبة إلى قصده في نفسه، بينه وبين خالقه، لماذا يدعو؟
يدعو امتثالا لأمر الله تعالى، يدعو كي يكون ممتثلا لما أمر الله تعالى به، قائما بما حثه سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه، فهو يريد الأجر والثواب من رب العباد بالنسبة لنفسه، وهو يريد الخير والسعادة لغيره

هذا الأمر يدعوه إلى الحرص على هؤلاء الناس الذين يتوجه إليهم بدعوته، فلو كان خلقه شديدا عليهم، لكانت تلك الشدة مؤدية إلى النفرة، لكانوا نافرين منه، فإن كان الأمر كذلك فنفروا منه، وأشمئز هو منهم أدت هذه الحالة إلى غير المقصود، كانت النتيجة وجود عداوة، وجود بغضاء، شنآن، بينه وبينهم، وهذا ما لا يريده، لأن قصده إيصال الخير إليهم، إيصال السعادة إليهم، الأخذ بأيديهم إلى طريق الخير، فكان حري به إذن أن يمتثل بأحسن الطرق وأحسنها في سبيل الوصول إلى ذلك المقصود، الذي هو إيصال الخير إلى هؤلاء الناس.

هذا الأمر يقتضي منه التواضع لهم، لأن الناس بطبيعتهم ينفرون من المتكبرين، لا يحتقرنّ الداعية أحدا أبدا، بل إن رأى من هو على غير طاعة الله فليحمد الله تعالى، وليعلم أنّ القلوب بين يديّ ربه، بين يديّ الله، يصرفها كيف يشاء فعليه أن يستشعر الرحمة والشفقة بذلك الشخص، نعم هو يكره معصيته، ويكره ما هو عليه من مجاهرة لله تعالى، لكنّه يحب له الخير، يحب له أن يكون على طريق الصلاح والنجاح.
 
 
كذلك أيضا ينبغي للداعية أن يكون متحليا بالصبر في تعامله مع الناس، أن يصبر عليهم.

والصبر من أهم الصفات التي ينبغي أن يحرص عليها الداعية، وهي صفة قد تستثقلها النفوس، تحتاج إلى مزيد عناية، تحتاج إلى أن يروض الإنسان نفسه حتى يتأتى له الاتصاف بهذه الصفة.

لأن الداعية غالبا ما يواجه بما يكره، فينبغي عليه أن يصبر على الناس، فالصلاح لا يأتي إلى الناس في يوم وليلة، اليوم كانوا على غير صلاح، فأتاهم محاضر ما أو داع ما فأصبحوا على طريق الهداية، لا، لابد من الوقت والزمان، لابد من الصبر.

الرسول صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاثة عشر عاما يدعو أولئك القوم إلى الإسلام، وهو من هو عليه أفضل الصلاة والسلام خلقا وتأييدا من قبل الله جل ذكره، فهو متصل بربه عن طريق الوحي، وهو أفضل خلق الله تعالى، لكن جابه ما جابه من الإعراض، ولحقه ما لحقه من الأذى، فما كان منه عليه أفضل الصلاة والسلام إلا الصبر، الصبر حتى كان بعض الصحابة يشتكون مما يلاقون، ويتمنون أن يجعل الله تعالى لهم مخرجا من ذلك، لكنّ الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام يصبرهم وينهنههم، ويبشرهم بنصر الله تعالى.

مكث ثلاثة عشر عاما لاقى من أغلب الناس آذانا صما وقلوبا غلفا، من أغلب المشركين، هدى الله على يديه بعض النفر لكنّه لم يجد تلك الاستجابة التي يأمل أن ينتشر بسببها الإسلام، فما كان منه إلا أن هاجر إلى المدينة المنورة بتأييد وأمر من الله تعالى، فمكث عشر سنوات يدعو ويقيم أركان الدولة الإسلامية حتى ظهر الإسلام وانتشر بعد وفاته عليه أفضل الصلاة والسلام.

فينبغي للداعية أن يصبر على الناس، لأن الدعوة، كما أخبرتكم، ليس بعمل يقوم به الداعية فينتهي منه، لا، هي طريق وسلوك يسلكه في حياته، ومنهج يرتضيه، وعليه أن يعرف ما يترتب عليه من غمز ولمز واستنقاص وشتم وإساءة.

هذا شيء اختاره لنفسه لمّا اختار هذا الطريق، فينبغي له أن لا يتعجل من ذلك، فهذا طريق الدعوة، وهذا طريق الدعاة، فالدعوة طريقها ليس مفروشا بالورود والرياحين، لا، مفروش بالعقبات، بالمكاره التي يكرهها الإنسان، فينبغي له أن يعلم ذلك، وأن يكون ذلك نصب ناظريه.
 
بالنسبة إلى الأسلوب الذي يخاطب به الناس، الأسلوب في الدعوة:
يختلف بحسب الدعوة التي يقوم بها الإنسان، أو حسب الوسيلة التي يقوم بها الإنسان الداعية، فالدعوة قد تكون عن طريق اللسان، بإلقاء محاضرة، قد تكون عن طريق الكتابة بتأليف كتاب، قد تكون عن طريق شيء من وسائل الإعلام، الصحف وغيرها. للدعوة الآن وسائل كثيرة، كل ما كثرت وسائل الاتصال بالآخرين كانت وسيلة من وسائل الدعوة.

ومبنى أسلوب الداعية في دعوته قوله سبحانه (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل125)، وأيضا قوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:33-35)

الآية الأولى أمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو على خلق عظيم، أمرته أن يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والحكمة هي وضع كل شيء موضعه، ثم ثنت بذكر الموعظة الحسنة.

والآية الأخرى كذلك تركز على الأسلوب الحسن والموعظة الحسنة، ادفع بالتي هي أحسن، فمبنى أسلوب الداعية ومنطلقه الدعوة الحسنة المحتفة بالرفق بالأناة، بالأسلوب الحسن قولا وسلوكا، أن تكون دعوته بالموعظة الحسنة في سلوكه وتعامله كما تقدم، وفي كلامه ولفظه، في خطابه إلى الناس أن لا يكون شديدا على الناس في خطابه، منفرا لهم، مقبحا لأفعالهم، مركزا على مساوئهم، مذكرا بمصائبهم.

إن كان لا بد من ذلك فيكون على سبيل الانفراد، أو بأسلوب طيب لا يجرح شعور غيره، ولا ينفر غيره، فالله تعالى خاطب رسوله الكريم في هذه الآية في دعوة المشركين الذين كانوا على غير إسلام، فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم قال (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )، إن كان هناك جدال وحجاج، وخصومة قولية، فلا بد أن تكون هذه الخصومة وهذا الجدال بالتي هي أحسن، فلا يسوغ أن يكون بالتي هي أخشن. لأن الدعوة بالتي هي أخشن تؤدي إلى نتيجة عكسية، غير مرضية، إلى مقصد غير مطلوب.

كذلك الآية الأخرى التي قال الله فيها (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ)، هذه الآية بينت أن الدعوة إلى الله من أفضل الأعمال وأحسنها،( وَعَمِلَ صَالِحاً) وهذا تأكيد لما تقدم من أنه لا بد أن تصدق أفعال الداعية أقواله، (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين)، وهذه إشارة إلى إنه ينبغي للداعية أن يكون مقتنعا بدعوته، معتزا بما هو عليه، الداعية عندما تصدى إلى الدعوة إلى الخير كان واثقا من مبدأه، لا يمكن أن يتزحزح عنه، وإن وجد ما وجد في طريقه، بل هو يعلن ذلك ويظهر (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين).

ثم قال سبحانه (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ) وهذا أمر يعرفه العقلاء، أنه لا تستوي الحسنات والسيئات، إذا كان هناك أمران أمر حسن وأمر سيئ، لا شك أن العقول تقتضي أفضلية الحسن وخيريته، قال (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني إذا كان هناك أمران لدفع الأذى، لدفع الشبهة، لدفع غير الصواب، هناك أمران، أسلوب حسن، وأسلوب خشن، فيكون الدفع بالتي هي أحسن،( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، إذا الفجائية هذه، يبين الله تعالى أنه إذا كان بين الداعية وغيره أو بين الشخص المسلم وغيره أمر فيه عداوة وبغضاء وإحن، فإن الشخص الذي يدفع بالتي هي أحسن، يقابل الإساءة بالإحسان، يقابل السيئة بالحسنة، يكون جزائه أن ذلك الشخص المسيء إليه يكون كأنه ولي حميم، الولي هو الناصر، الحميم هو القريب، فكأنّ الشخص الذي أساء إليك إذا جابهته وقابلته بالحسنة، بالإحسان إليه يكون وليا حميما.

ثم قال سبحانه في بيان هذه الدرجة ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا)، هذا الأمر وهو مجابهة ومقابلة الإساءة بالإحسان لا يستطيعه إلا الصابرون، الذين يستطيعون كبح جماح أنفسهم، لأن النفوس مجبولة على مقابلة الوقوف وجه الظلم ودفع الإساءة، فمن استطاع أن يتغلب على هذا الطبع، ويقابل الإساءة بالإحسان، فإنه لا شك من الصابرين، لأنه يتجرع مرارة الإساءة ويصبر عليها، فإذا أساء إليه مسيء، وغالبا ما تكون هذه الإساءة بغير وجه حق، في حق الداعية، تكون ممن يناصبونه العداء، أو ممن لا يحسون بأهمية دعوته، فإن استطاع أن يصبر ولا يرد فإنه من الصابرين.

(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، لأن هذا الأمر الذي هو مقابلة السيئة بالحسنة فيه جانب طبعي، النفوس فيها طباع فطرت عليها، من الناس من جبل على الحدة وسرعة الغضب، ومنهم من جبل على الأناة والحلم، ولا شك أن من استطاع أن يتغلب على طبعه فيصبر فإنه ذو حظ عظيم، ذو حظ عظيم من حيث درء ما قد يبدر منه في حق غيره، لأن الإنسان إذا أسيء إليه غالبا ما يغضب، فإن غضب قد يرد بما لا يجوز أو بما يتجاوز حقه، الإنسان شرع له الانتصاف لنفسه، درء الضر عن نفسه مشروع، لكن هناك منزلة أعلى من هذه المنزلة وهي منزلة الصبر على هذا الضر واحتسابه عند الله تعالى، والإحسان إلى ذلك الشخص علّه يرجع إلى طريق الخير، هذا من أبواب الحظ، وهو أن يدرء الإنسان عن نفسه كثيرا من أسباب الأثم. ثانيا أيضا يكون محبوبا عند الناس، أي يستطيع إيصال الخير وإنقاذ كثير من الناس بهذه الوسيلة، وبهذا الأسلوب، بهذا الخلق، ويكون كل ذلك في ميزان حسناته عند ربه يوم القيامة.

هذه الآيات تدل على أن مبنى الأسلوب الدعوي الحكمة والموعظة الحسنة، وهناك آيات كثيرة، وحديث طويل حول أسلوب الداعية وفقهه في دعوته، إلا أنّ في هذا كفاية.


وهكذا انتهى عرض محاضرة (من صفات الداعية)
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق