الجمعة، 19 يونيو 2015

ومضات في التأريخ والحضارة


ومضات في التأريخ والحضارة

يقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143)

إن الله سبحانه أراد لهذه الأمة الإسلامية أن تكون في مقدمة الأمم، تهديها إلى الحق بقولها وفعلها، وتكون مثالا للعالمين في كافة شئون الحياة بمنهاج الله تعالى، ليتحقق لها مقام القدوة والتأثير، وإلا كانت في مقام التبعية والتأثر بالأخريين. ولا يتحقق هذا المقام بأماني النفس أو لقلقة اللسان، وإنما يتحقق ذلك بالعلم والعمل. إن المقام المطلوب هنا يتجاوز الوعي بالماضي والحاضر إلى صنع المستقبل برؤية واضحة ومنهاج مستقيم ونظام متكامل. أما إذا تقاصرت خطوات الوعي والعمل عن هذا، فإن خطوات الريادة والشهود الحضاري سوف تتأخر هي الأخرى.

إن الأزمة الكبرى التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم هي في الأساس أزمة وعي وفكر، وما سائر الأزمات الأخرى إلا أحد نتائج هذه الأزمة أو أحد مظاهرها. والفكر هنا يشمل آليات ومناهج التعاطي مع القضايا والمشكلات، وكيفية التعرف على هذه المشكلات وتحديدها قبل الخوض في علاجها. ودائرة الفكر تتسع لتشمل المناهج والعقائد والثقافات والأنظمة والعلوم، ويتميز العلم عن الفكر بنضوج منهاجه الذي قام عليه.

وإذا كانت مشكلة الأمة الإسلامية اليوم في فكرها، فلا غرو إذن أن يلخّص البعض العلاج في الأخذ بروح الحداثة للخروج من هذه الأزمة. ذلك لأنه في رأي بعضهم أنه ليس المطلوب أخذ الحداثة الغربية بقوالبها الجامدة، وإنما بأخذ روحها المتمثلة في إعلاء قيمة العقل وتوسيع دائرة النقد. ويقول هؤلاء بأن الأزمة التي تعيشها الأمة الإسلامية هي نفسها التي كانت تعيشها الأمم الغربية قبل نهضتها الحالية، وما أخرج تلك الأمم من ظلامها كفيل بأن يخرج غيرها إلى نور العلم والحضارة، ولعل ما يغفل عنه هؤلاء بأن هناك فروقا عظيمة بين الحالتين كما سوف نرى بأذن الله تعالى، وأن استيراد الحلول الجاهزة هي مهمة من قلة همته، وضحلت بضاعته.

ولا أدري لما يغفل هؤلاء عن رؤية أن الحضارة الغربية قد تجاوزت الحداثة إلى ما بعد الحداثة التي هي في الأساس ثورة على كل الثوابت والقيّم، ولم يعد للعقل البشري المركزية الكونية فيها بل زيحت مكانته وهمش وجوده، ولا أدل على ذلك من أن المنهج التجريبي ذاته الذي أقام الغرب عليه حضارته يعتبر في حد ذاته ثورة على المنهج التجريدي العقلي، وعندما سئل أنشتاين عن نتائجه بأنها لا يصدقها العقل، أجاب بأنه ماذا يعمل إذا كان الواقع هكذا!. وهذا على كل حال لا ينفي أن هناك تجارب كثيرة يمكن أن يستفاد بها من الغرب في مجالات علمية وفكرية.

 
ومما يهتم به الغرب اليوم في هذا المجال الأنتروبي أو نظرية الفوضى والتي هي في الحقيقة مقابلة لنظرية التطور حيث أن هذه النظرية تقول بأن المادة بطبيعتها تسعى إلى الفوضى وترك النظام، فلو أتيت بقضيب من حديد مهيئ ومنظم في حالة معينة فسوف يسعى مع الوقت إلى الخروج من حالة النظام تلك، وهذه وصلتين تحدثان عن الموضوع:

http://www.shorfah.com/vb/showthread.php?t=34103

http://www.55a.net/firas/arabic/?pag...select_page=13


ويذهب البعض إلى أن الحداثة الإسلامية والتنوير الفكري والحس النقدي في الإسلام لم يعد موجودا، بل ألغي بقضاء الإمام الغزالي على الفلسفة. لذلك ونتيجة للقضاء على الفلسفة أصبحت الأمة الإسلامية مهملة للعقل وللحس النقدي. ويرد الشيخ القرضاوي بأن فلسفة يستطيع شخص واحد أن يسقطها، مهما علا شأنه، فإنها أجدر بالسقوط، إن الحقائق أعظم جذورا في الوجود من أن تقطع بهذه السهولة، وتبسيط القضايا الكبيرة التي تتعدد أسبابها ليس من العلمية ولا الموضوعية في شيء، فقضية تخلف الأمة لم تنشئ مرة واحدة، وإنما تراكمت أسبابها، ثم إنه وجد هناك فلاسفة بعد الغزالي، وقد ازدهرت أيما ازدهار في الأندلس. ثم إن الغزالي بهدمه للفلسفة غدا فيلسوفا منه تؤخذ النظريات النفسية والاجتماعية والتربوية في الإسلام.

ويقول محمد عمارة: إن النقص لم يكن في الكفاءة، والعيب لم يكن في المعدن، والمشكلة لم تكن في الأرض الرافضة للتفلسف والفلسفة، وإنما كان العيب والمشكلة في البذرة الغربية، غير الصالحة للإنبات والنمو في عقل الأمة ووجدانها، لأنها من خصوصيات الغير الاعتقادية، وليست من المشترك الإنساني. أما أبو يعرب المرزوقي فيقول: إن نقد الغزالي للفلسفة القديمة يمثل البداية الحقيقية لتجاوز التقابل السطحي بين الفكر الفلسفي والفكر الديني، فهو له الفضل على الفلسفة لأن قضية الخلاف بين العقل والنقل قضية ساذجة.

والحقيقة أن مصطلح الحداثة هنا بنفسه بحاجة إلى كثير من التمحيص، فالبعض يطلقه ويريد به العقلانية، بينما الحداثة شيء والعقلانية شيء آخر، كما أن البعض يطلقه ويريد به العلمانية، ومعلوم أن العلمانية هي قطع الصلة مع الدين والتراث، والآخر يختزل الحداثة في معنى النقد، والنقد مع الحاجة إليه إلا أنه ليس هو بمعنى الحداثة. كما أن الحداثة تختلف عن التجريدية العقلية التي جاء بها أرسطو.

ومما يمكن أن يستفاد به من التجربة الغربية، فكرة النقد التي ترى الثغرات وتحاول سدها، وقد حاول المفكرون المسلمون الإستفادة من ذلك، فعلى غرار كتاب نقد العقل الخالص الذي ألفه كانط، ألف عدد من المفكريين المسلمين كتبا على نفس المنوال، ومما ذكره عبد الحليم أبو شقة في كتابه نقد العقل المسلم: أن الدين جاء يحرر العقل من الأنفال، ولكن ورثة الدين قد حجروه في:

1.
تضييق نطاق عمله وحصره في حفظ المتون
2.
إهمال تغذيته بما ينفع، فلا نظر ولا بحث علمي رشيد، ولا دراسة لرأي المخالفين
3.
بتقديس السابقين ، ومجرد تقديسك عقل غيرك يعني حتما إلغاء عقلك أنت

ويقول إن الإنحطاط في عالم المسلمين بدأ منذ القرن الخامس الهجري، وتلخص في: الجمود الفكري، والتقليد المذهبي، فلا جديد في الإنتاج بل صرنا عالة على القديم، وانحصرت الجهود المبذولة في عالم اللغة وعالم الشريعة وذلك بالتقعّر فيهما، ونبذ العلوم الطبيعية من فلك وطب وكيمياء وجعرافية وهندسة، وذلك فضلا عن الإنقسام وزوال الوحدة السياسية وإنعدام الإستقرار السياسي.

أما عن أعراض انحراف العقل المسلم المعاصر، فيذكر الآتي:
1.
الغفلة عن القواعد الأصولية والقواعد الفقهية، ومن مظاهر هذا:
‌أ. الغفلة عن مراعاة درجات المصلحة والمفسدة
‌ب. الغفلة عن دراسة الواقع وملاحظة الظواهر عند تقرير الأحكام، وكذلك الغفلة عن التأمل الفكري
‌ج. الوقوف عند المشتبهات وتحريمها، وبهذا يقع الغلو في الاحتياط
‌د. الغفلة عن مراعاة شروط قاعدة سد الذرائع
‌ه. الغفلة عن ضرورة التعدد والتنوع، وهو أمر طبيعي بشري

2.
الوقوع في بعض المزالق الفكرية الخطيرة، مثل:
‌أ. التفسير بالرأي دون علم، وهنا تحتقر الأدوات الممكّنة من الاجتهاد
‌ب. الدين يحل جميع مشاكل الحياة، يفهم بأنه لا حاجة للعقل والتفكر
‌ج. عدم تقدير العلوم الحديثة، بدعوى أنه فكر منحل، إباحي ملحد.

3.
سيطرة الأغراض النفسية السلبية، ومن أخطرها غلبة روح الإنهزامية:
‌أ. عدم القول برأيي لم يسبق أن قاله أحد من القدامى
‌ب. طغيان حلاوة الحديث على ضبط المعاني
‌ج. الانشغال بالجزئيات على الكليات
‌د. الخلط بين الثوابت والمتغيرات
‌ه. السطحية والعجز عن التأصيل والتمحيص
‌و. الميل إلى الإرتجال وفقدان الثقة في التخطيط
‌ز. الانشغال بالشعارات عن تحليل مضمونها
‌ح. الاهتمام بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل
‌ط. التفكير الأحادي غير متعدد الزوايا
‌ي. غياب المعايير الصحيحة التي يعرف بها أقدار الأشياء وقيمها. 



ومع فائدة فكرة النقد هذه، إلا أن قضية تخلف الأمة تؤخذ بلكيتها، وتدرس بمجموعها ليتضح الأمر فيها، لذلك فإني سوف أمكث هنا في وقفة قصيرة مع أحد مفكرينا الكبار، وهو محمد قطب، فهو بتحليلاته العميقة درس أزمات المسلمين، كما درس أزمات الغرب، ثم درس كيفية تصدير هذه الأزمات إلى أمتنا الإسلامية.

وقبل الخوض في تفاصيل هذه الأزمات، يصدّر محمد قطب كتابه "واقعنا المعاصر" بذكر أهم سمات الأمة الإسلامية في وقت عزتها، ليوضح مواضع الأصالة والقوة، وليستبين أسباب الوجود والتفوق، في الحالة التي تَمثّل فيها المسلمون الإسلام بواقعيته ومثاليته، ومن أبرز هذه السمات:

1-
صدق الإيمان وجديّة الأخذ بالكتاب والسنة، وصدق الجهاد في سبيل الله: الإيمان هو القوة الدافعة لهذه الأمة، لذلك حرص القرآن على التذكير الدائم بقضية الألوهية ذلك لأنها هي التي تدفع الناس إلى الخير، فحرص الإسلام على أن يرى المسلم دلالات الألوهية في كل شيء يقع عليه بصره، فيتوجه فكره ومشاعره لله سبحانه، غير أن المفاهيم أختلفت لدى المسلمين، فأصبح مفهوم (لا إله إلا الله) بفضل فكر الإرجاء لقلقة باللسان لا علاقة لها بالواقع ولا مقتضى لها فيه، وأنحصر مفهوم العبادة الشاملة في أمور الشعائر التعبدية فقط، وبدل أن يكون مفهوم القضاء والقدر دافعا وموجها، أصبح بفضل الصوفية في صورة سلبية مخذلة مثبطة، ولم تعد الدنيا مزرعة للأخرة، بل أصبحت ضرة للأخرة فإما الدنيا أو الآخرة فأنتشر التقاعس والجهل، وذهبت الروح عن حياة الناس وأصبحت حياتهم تقاليد موروثة يحافظ عليها.

2-
تحقيق معنى "الأمة" في صورتها الحقيقية: لقد انتقل العرب من شتاتهم المتناثر ليكونوا خير أمة أخرجت للناس، فأصبحت لهم القوة والعزة، غير أن هذه الأمة الواحدة أصبحت شيعا فيما بعد، فذهب ريحها وتناحرت فيما بينها.

3-
تحقيق العدل الرباني في الواقع: وتحقيق هذا العدل في النفس والغير إنما يكون عندما يرتبط هذا العدل بصحيح الإيمان، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم القمة العليا في تحقيق هذا العدل الرباني في واقع الأرض، ذلك لأنهم جاهدوا النفس وسعوا إلى الحق وعملوا من أجله.

4-
أخلاقيات (لا إله إلا الله): من أبرز سمات هذا الدين قاعدته الأخلاقية العريضة الشاملة لكل تصرفات الإنسان، والأخلاق مربوطة بالإيمان وهو من سمات هذه الأمة.

5-
الوفاء بالمواثيق: والوفاء بالمواثيق هو من أهم السمات الخلقية لهذا الدين، به يتميّز المسلمون عن غيرهم من أهل الكتاب الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، فهو خلق تتميّز به هذه الأمة وسط الجاهلية المحيطة بشعوب الأرض.

6-
الحركة العلمية والحضارية: من طبيعة الحركة العلمية والحضارية أنها لا تكون آنية، غير أن بذورها وجدت في عصر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والمسلمون أنشئوا العلوم والبحوث العلمية، واتسعت تجارتهم من الصين إلى أوروبا، ولقد كان العالم المسلم يكتب في صنوف مختلفة من العلم وروح الدين موجودة في تلك النصوص، فلم يكن هناك تعارض بين الدين والعلم.
 

وإذا كانت تلك هي أهم مميزات هذه الأمة، فإن الحالة التي آل إليها المسلمون من التخلف والانحطاط لتصيب المرء بالدهشة والاستغراب، فهل له عند ذلك أن يؤمن بنظرية ابن خلدون وتوينبي من بعده في أن الدول تتداول بمقتضى سنة الشيخوخة، ويجيب محمد قطب بأن الأمة الإسلامية لا تقوم على شعب وإنما تقوم على عقيدة، ثم إن الدين ليس جهازا يعمل من تلقاء نفسه بصرف النظر عن نفوس الذين يحملونه، بل إن الله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11). فما هي أهم الانحرافات التي وجدت عند المسلمين؟. وسوف أذكر هنا ما أورده بكثير من الاختصار.

1.
الانتقال من الخلافة الراشدة إلى الملك الوراثي:
إن أول تغير فاجأ الناس هو الإنتقال من الخلافة إلى الملك في زمن الأمويين، وهذا بدوره نتج عنه أمرين أثنين، أولهما استقرار المللك الوراثي بعد الخلافة، والثاني -وهو الأخطر برأيه- التخلي التدريجي عن مراقبة الحكام وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل هذا كان بسبب قسوة الأمويين في التعامل مع خصومهم السياسيين. ثم التبحبح بأموال بيت المسلمين وصرفه على غير النهج الذي سار به الخلفاء الراشدون. ثم أن نفس هذه الإنحرافات تكرست في العهد العباسي، بل كانت أشد، فكثرت المذابح على الخصوم السياسيين، ووصل البذخ بالأموال إلى حالة لا تخطر على بال، ثم كان الترف في قصور الأمراء مع الجاريات والغواني فكثر اللهو والمجون حتى حدث الإنهيار في الدولة العباسية.

2.
فتنة الفرق:
ولعل أخطر فتنة وقعت زمن العباسيين هي فتنة الفرق التي نشطت مع الحركة العلمية والترجمات الإغريقية والاتينية، وهذه الترجمات وإن أتت بالكثير النافع الذي تحتاجه الأمة فإنها أيضا أتت بأشياء انخدع بها المسلمون، ومن ذلك الفكر التجريدي أو الفلسفة الإغريقية، وبرأيه أن أسوء ما في ذلك الفكر (عقلانيته التجريدية التى تحول كل شئ إلى فكرة مجردة باردة لا حياة فيها ولا حركة ، فضلا عن تضخيم دور العقل حتى يصبح هو الحكم الأخير فى كل أمر من الأمور ...ولكن المعتزلة لم يكونوا وحدهم الذين تأثروا بالعقلانية الإغريقية وانحرفوا بها عن العقيدة الأم الصحيحة ، فكل الذين خاضوا فى قضايا الصفات من " المتكلمة " وفى قضايا القضاء والقدر والجبر والاختيار.. كان اعتمادهم فى " الكلام " الذى قالوه ، على تلك العقلانية التى تعطى العقل أكبر من حجمه الحقيقى ، وتجعله هو المرجع وهو الحكم فى كل قضايا الوجود ، فانزلقوا إلى تصورات لا هى إسلامية صافية ، ولا كانت العقيدة الإسلامية الواضحة البسيطة السمحة فى حاجة إلى شئ منها ، ولا هى قدمت أى خدمة لتلك العقيدة ، بل حولتها من تصور صاف ووجدان وسلوك عملى يقصد به مرضاة الله ، إلى قضايا ذهنية تجريدية باردة ، لا تزيد الإيمان إن لم تبعث على إثارة الشكوك والشبهات المناقضة للإيمان ، ولا تحرك الوجدان ، ولا تؤدى إلى سلوك واقعى ، لأن من شأن العقلانيات أن تبدأ فى الذهن وتنتهى فى الذهن ، وتجد تحقيق غايتها فى ذلك الجهد الذى يبذله الذهن ، دون أن تخرج من هذه الدائرة المغلقة إلى الواقع الحى عن طريق الوجدان والسلوك.) ثم تكونت الفرق الباطنية التي انتشرت في العصر العباسي وكونت له دولا وشغلت المسلمين بمحاربتهم ومطاردتهم بضعة قرون.

3.
الفكر الإرجائي:
ولم تكن تلك وحدها جناية الفرق، بل إن الفكر الإرجائي بجميع شعبه وألوانه كان على امتداد الزمن أشد خطرا على العقيدة والحياة الإسلامية من كل معضلات الفلسفة التي دخلت في دراسة العقيدة. فهل أنزل الله دينه وأرسل رسله، لمجرد أن يصدق الناس بقلوبهم ويقروا بألسنتهم، ثم يتركوا واقع الحياة تحكمه الجاهلية التي لا تصدق بقلبها ولا تقر بلسانها؟!.

4.
الفكر الصوفي:
ولا يكتفي محمد قطب بشن حملة قوية على الإرجاء، بل إنه يشن حملة أخرى لا تقل ضراوة على الصوفية، إن الصوفية في حقيقتها هروب من المواجهة للواقع ومجالدته، هروب إلى عالم خاص من صنع الوجدان، ينعم فيه الإنسان بمشاعر القرب من الله وهما أو حقا فيقعد عن العمل، مكتفيا بتلك المشاعر التي تختصر الطريق!. وقد ستر الفراغ الهائل الذي خلفته الصوفية في مجال العمل، الفكر الإرجائي، حيث أن المهم هو الإيمان، والإيمان في القلب ولا يضر مع الإيمان شيء. وهكذا ضل المسلمون لقرون طويلة لا تكاد تتغير أمور في حياتهم إلا على نطاق محدود، ووقفت عنده الاجتهادات الفقهية.


وإذا كان محمد قطب قد فصّل في انحرافات الأمة الإسلامية، فإنه أيضا يقوم بإلقاء نظرة على الحضارة الغربية من الداخل ليوضح كيف تكونت وعلى ماذا قامت.

قصة الكنيسة:
إن الدين الذي كانت تعيشه أوروبا في العصور الوسطى دين محرّف عن الهدي الإلهي الذي أنزل على عيسى عليه السلام، تدخلت به أيدي البشر فحولته إلى طغيان عم جوانب الحياة كلها، وظل كابتا على نفوس البشر قرونا متطاولة. لقد تحول الدين إلى روحانيات صرفة خالية من كل الجوانب العملية، طغى فيه الكهنة على عقول الناس، وجعلوا لأنفسهم الواسطة بين الناس وربهم، هم الذين يوزعون عليهم صكوك الغفران، ويبيعنهم منازلهم في الجنة مقابل دريهمات، وهم وحدهم من يعرف أسرار الدين، وألغاز مبدأ التثليث.

ولم يقتصر طغيانهم على الجانب الروحي والفكري، بل ربما كان طغيانهم في الجانب الإقتصادي والسياسي أعمق، فلم تقتصر الكنيسة على القول بأن ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ساكتة بذلك عن ظلم الأقاصرة والأباطرة، بل إنها كانت جزءا من ذلك النظام. لقد كانت الكنيسة بفضل الهبات والإتاوات والعشور والهدايا والغصب والنهب والتدليس تملك الإقطاعات الواسعة، وما أدراكم ما الإقطاع وما ظلم الإقطاع، فإن أمير الإقطاعية هو الحاكم المطلق في إقطاعيته، لا قانون إلا قانونه، بيده التشريع والقضاء والتنفيذ، هو المالك وما سواه هم العبيد، يورثون ويباعون ويشترون. لقد كان السيد صاحب الإقطاع هو الذي يرعى الأرض والبشر الذين يقومون عليها، هذا هو النظام الإقطاعي التي كانت تعيشه أوروبا لقرون طويلة.

والحقيقة أن قبضةالكنيسة كانت قوية حتى على أصحاب الملك والسلطان، فينقل لنا محمد قطب ما يرويه "فشر" عن قصة الصراع بين البابا هلدبراند وهنري الرابع إمبراطور ألمانيا قيقول: (...فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا ورد البابا بخلع الإمبراطور وحرمه وأحل اتباعه والأمراء من ولائهم له وألبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الإمبراطور نفسه كالأجرب بين رعيته، ولم يكن فى وسعه أن ينتظر وصول البابا، فضرب بكبريائه عرض الحائط واستجمع شجاعته وسافر مجتازا جبال الألب والشتاء على أشده، يبتغى المثول بين يدى البابا بمرتفعات كانوسا فى تسكانيا، وظل واقفا فى الثلج فى فناء القلعة ثلاثة أيام وهو فى لباس الرهبان متدثرا بالخيش حافى القدمين عارى الرأس يحمل عكازه مظهرا كل علامات الندم وأمارات التوبة حتى تمكن من الظفر بالمغفرة والحصول على رضا البابا العظيم).

ولقد كان كثير من هؤلاء الكهنة على فساد أخلاقي عظيم، فكانوا يعيشون في حياة ملؤها الخلاعة والفسق والدعارة واللواط. ولم يكن حال الراهبات ملائكة الرحمة عن ذلك ببعيد. ثم أنهم استحدثوا في القرن الثالث عشر محاكم التفتيش التي جعلوها أداة تحقيق دائمة تحت إدارتهم، فيقف رجال الكنيسة بأعداد كبيرة في الساحات والأسواق ليراقبوا أجساد أعدائهم وهي تحترق بالنار. إن هذه المحاكم هي نفسها التي أبيد فيها المسلمون في أسبانيا في مدة قدرها مئتا سنة. إن النظام الإقطاعي التي كانت تعيشه أوروبا في قرونها الوسطى نظام ملؤه الظلم والجهل والرتابة العلمية والعملية، فكانت الحياة هي نفسها الحياة، يذهب أمبراطور ويأتي آخر، ويذهب سيد الإقطاع ويأتي وريثه، ويظل عبيد الإقطاع على حالهم، ليس لهم هم سوى في معيشتهم اليومية، وصارت العبودية جزءا من حياتهم.

ثم بدأت أوروبا في التململ من رقدتها، بعدما احتكت بالعالم الإسلامي، سواء كان ذلك عن طريق الحروب الصليبية، أو سلما عن طريق طلب العلم في مدارس المسلمين في الأندلس أو في صقلية أو في غيرها، لقد فتحت أوروبا أعينها على عالم مختلف كل الإختلاف عن عالمها، إنها الحضارة والعلم والمبادئ والآفاق الجديدة للتفكير، فلا عجب إذن أن يقول "روجر بيكون": (من أراد أن يتعلم فليتعلم العربية). وهكذا بدأت أوروبا في التململ من قبضة الكنيسة وبدأت تبحث عن كيفية الخروج من قبضتها.
 

دور اليهود:
لقد اقتربت إذا لحضة انهيار الكنيسة، وهي ما زالت محاولة بكل قوتها الإمساك بالأمر، ولو أدى ذلك إلى طمس العلم وقتل العلماء، ولقد اهتبل اليهود هذه الفرصة السانحة، فهم ضلوا لقرون متطاولة محتقرين بسبب الدين وسلطة الكنيسة، ينظر إليهم نظرة الإزدراء بسبب طبائعهم وفضائحهم التأريخية التي كانت حاضرة في ذهن كل المتمسكين بالأديان السماوية، لذلك فإن حقد اليهود أعمى بالنسبة إلى الدين والأخلاق، وما فتئوا يسعون إلى تحطيمهما والتخلص منهما.

إن المحافل الماسونية هي التي قامت بالتحضير للثورة الفرنسية، وهي التي رفعت شعاراتها الخاصة (الحرية والإخاء والمساواة)، ولقد اشترك اليهود في إلهاب حماسة الجماهير وتفجير الغضب المكبوت. ولقد كانت هذه الثورة هي المسمار الذي أسقط نعش الكنيسة، وأتى بفكرة الديمقراطية لحكم الجماهير بدل رضوخها لحكم الكنيسة.

ثم كان لليهود دور آخر في بدايات الثورة الصناعية التي بدأت تدق أبوابها في ذلك الوقت، فاليهود كانوا يقرضون بالربا لكل من أراد أن يقيم مصنعا، فهم على طريقتهم لا يخسرون شيئا، فلهم أموالهم كاملة سواء خسرت الصناعة أم ربحت، وفكرة المصارف هي لهم، واليهود كانوا يشجعون على خروج الناس من الإقطاعات إلى المدن للعمل في المصانع، ليس فقط لاستثمار رؤس أموالهم، ولكن أيضا لتقويض النظام الإقطاعي وإسقاط قبضة الكنيسة عن المجتمع.

لقد تسلم اليهود قيادة المجتمع الأوروبي الآخذ في الإنسلاخ من دينه، فهم أخذوا بزمام الثوار الذين كانوا ينقمون على رجال الدين طغيانهم ومساندتهم لأفراد الإقطاع ضد دعوات التحرر من الظلم، ولم يبق هؤلاء اليهود أي توجه لإصلاح الدين ذاته وإنما قيدت الجماهير للإنسلاخ من الدين والأخلاق والتقاليد. ثم قاد هؤلاء اليهود معركة أخرى هي معركة النظريات العلمية.

لم يكن دارون يهوديا، ولكن اليهود استغلوا نظريته على نطاق واسع، ذلك لأنها تقوض بنيان الدين، وتقضي على الأخلاق، ولقد استغلوا فكرة التطور في القضاء على كل المعارضات، فإن العالم يتطور ومن لا يجاري هذا التطور فإنه يعد من المتخلفيين، ونظرية دارون هي نوع من التطور ومن لا يؤمن بها فهو متخلف كباقي المتدينين، ولأثر هذه الفكرة الكبير وأهميتها قام محمد قطب بتخصيص كتاب لها أسماه التطور والثبات. ومن أهم الأسماء اللامعة التي شكلت الفكر الأوروبي الحديث ثلاثة أسماء على الأقل لكبار اليهود هم ماركس، وفرويد صاحب النظرة الشهوانية، ودوريكام، ولننظر كم جر هؤلاء من ويلات على البشرية.
 

المجتمع الجديد:
لقد كان طعم الحرية له ذوق خاص بالنسبة للذين خرجوا من الإقطاع إلى المدينة، فهم الآن أحرار يستلمون أجورهم في نهاية الأسبوع نظير عملهم في المصانع. لقد كانت المدينة حلما بالنسبة لهم، ولم يكن في المدينة سوى فريق قليل من موظفي الدولة، وفريق قليل من أصحاب الصناعات اليدوية وفريق من التجار وأصحاب الحوانيت والمقاهي، وفريق من المرابيين اليهود، وأصحاب الثروات من الإقطاعيين الذين ينتقلون دائما بين الإقطاع والمدينة، وفريق من البغايا الآتي يبعن أجسادهن خاصة لأصحاب الثروات.

لم تدم فرحة هؤلاء الشبان طويلا إذ سرعان ما انكشف الواقع الجديد عن صعوبات جديدة, لقد كانت ساعات العمل طويلة ومضنية، والأجر مع ذلك زهيد، فجشع أصحاب رؤس الأموال والمصانع كان أعمى, لكن طعم الحرية جبرهم على ألا يرجعوا إلى الإقطاع حيث وطأة السيد، فتحمل هؤلاء الفتيان العيش في جماعات بعيدا عن الأسرة، ولم يكن لهم من حل سوى في البغاء مقابل دريهمات معدودة، وعلى كل حال فسيصبح هذا مقبولا الآن بسبب قانون التطور ومستلزمات المدينة الحديثة.

بدأ العمال يضربون عن العمل في جماعات يطالبون بتخفيض ساعات العمل وزيادة الأجور، فما كان من حل في ظل الرأسمالية الجديدة المؤمنة بالتطور إلا أن تأتي بالمرأة لتقوم بنفس العمل ولكن بنصف الأجر، لقد أقدمت الفقيرات فقط في البداية فلقد كان العمل عارا هائلا بالنسبة للمجتمع الأوروبي المحافظ إلى درجة التزمت.

لقد بدأت عجلة الحياة الجديدة في التكون، ولم تزل الصحافة تشجع المرأة على البغاء وجعله ضرورة اجتماعية للحياة الحديثة، ثم بدأت النساء الآتي وقع عليه الغبن في المطالبة بالمساواة في حقوقهن، وأنه ينبغي أن يعطين الأجور كاملة، لكن الرأسمالية الجديدة وأصحاب المصانع رفضوا ذلك، وإن كانت فكرة التطور لا تبق الأمور على حالها، غير أن ذلك استلزم جهادا طويلا في البرلمانات المنتخبة.

لم تقف المرأة عند هذا الحد، ولكنها طالبت بحق الانتخاب (اختيار المرشح)، فوقف الرجال لها في المرصاد، ثم طالبت بحق أن تُنتخب، وقامت قضية المرأة ولم تقعد وأصبحت قضية "تحرير المرأة" من أهم القضايا السياسية والاجتماعية.

لقد كانت الطبقة الارستقراطية هي المهيمنة على مجالس النواب، ولم يكن لطبقة العمال كثير من النواب في البداية، لذلك لم تكن الحقوق لتعطى بسهولة، فلقد عارض الأغنياء بداية حق التعليم وحق التنقل الذي سلبه النظام الاقطاعي من الفقراء، لم يستسغ أصحاب المدن أن يختلط أبناءهم عند الفقراء في المدارس، ذلك لأن المستوى التعليمي والخلقي سوف ينخفض بسبب جهل وعدم كفاءة الفقراء، ثم إنه لن يكون هناك عمالا، ولابد من وجود العمال وإلا فلن تستقيم الحياة.

ولقد كانت معركة التعليم بالنسبة للمرأة أشد، وكم هللت الصحافة عندما نجحت المرأة وتفوقت في الدراسة، أأريتم أيها الرجعيون، أيها الظالمون، يا جنس الرجال المغرورن المتعصبون، إن المرأة مثلكم تماما فلا بد من مساواتها بالرجال، وما زالت الصحافة ونظرية التطور تنفخ في هذه القضية حتى ألغيت الأسرة، وأبدل الزوج بالصديق. وكل هذا إنما أتى بعد معركة طويلة، فيذكر محمد قطب أن المعركة ضد حياء المرأة استمرت قرابة نصف القرن. وهكذا ألقى المجتمع دينه وخلقه وتقاليده جميعا واتجه نحو حالة التطور، ولا يفرحن أحد بالديمقراطية، فإنها مازالت تحت قبضة الرأسمالية توجهها حيثما تشاء.
 
ذالكم هو الإطار العام للمجتمع الأوروبي عند انحلاله من دينه وخلقه، ولقد افرزت هذه المرحلة كثير من الاتجاهات الفكرية الهدامة للقيم والدين، وأقل ما يقال عن هذه التيارات أنها انتاج خاص لهذه الحضارة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصدّر هذه السموم الفكرية إلى غيرها، وينظر إليها على أنها خلاصة الفكر الإنساني، بل لا بد من التأصيل الإسلامي للقضايا الفكرية.

والحضارة الغربية ليست مجرد أساليب حياتية في الطعام والشراب والملبس والمسكن، بل هي أيضا تصور للحياة والكون والإنسان، وموقف حضاري عام، ونسق للقيّم، وإن كان طابعها المادي (الآلي والتقني) قد زاحم الجانب الروحي وكاد يقضي عليه. والحضارة الغربية لا تخلو من نقاط إيجابية، لعل من أهمها:
1.
الحضور التأريخي: فالتأريخ حاضرا في العقل، ينظمه على صعيد الوعي، ويحركه على صعيد الممارسة، فهو يصنع ويؤل التأريخ. والوعي بالتاريخ هو أمر في غاية الأهمية، وهو الخطوة الأولى التي تسبق صناعة التاريخ وصناعة المستقبل.
2.
الحضارة الغربية تتميز بقدرة كبيرة على المرونة مع النقد، فهي تتقبله وتتفاعل معه، فهي تتجاوز الذاتية، مما يعطيها دفعة للأمام.
3.
الحضارة الغربية كانت نهضة إنسانية تمتع بحسن الإدارة والتنظيم لشؤون الحياة، والعناية بحرية الإنسان وحقوقه.
4.
وهي تركز على ثورة المعلومات، والقدرة على فهم فيض المعلومات الذي يتدفق، وحسن توظيفها، واتسامها بسرعة التغيير، والانتصار فيها يكون للأقدر على الابداع والأكثر جدية.


وبعد أن تابعنا الحال التي آليت إليه الأمور عند الغرب، حيث أُبعد الدين وقُضي على الأخلاق وفُككت الأسر في معارك طويلة ومعقدة، ينتقل بنا محمد قطب إلى محاولة زرع هذه السموم في جسد الأمة الإسلامية في فترة الاستعمار الغربي للأمة الإسلامية، وسوف أذكر هنا مثالا واحدا مختصرا عن قضية الحجاب. فإذا كانت للمرأة قضية في الغرب، فإنه لا بد أن يكون لها قضية في ديار المسلمين، ومن أهم قضاياها هو طلب السفور لها ونزع حجاب العفة والحياء عنها. ومن أهم مواقف مسرحية نزع الحجاب في مصر هي مظاهرة بعض النسوة في ميدان قصر النيل أمام ثكنات الجيش الإنجليزي سنة 1919، وذلك ضمن الثورة المصرية التي قامت ضد المستعمر الغاشم، عندما ملأت المظاهرات شوارع القاهرة وغيرها من المدن تهتف ضد الإنجليز وتطالب بالجلاء التام أو الموت الزؤام لهم، ويطلق الانجليز الرصاص من مدافعهم الرشاشة على المتظاهرين فيسقط منهم كل يوم قتلى بلا حساب. في وسط تلك المظاهرات الدامية قامت مظاهرة للنسوة أمام ثكنات قصر النيل في ميدان الإسماعيلية وهتفن ضد الإنجليز، وكان على رأس تلك المظاهرة صفية هانم زغلول زوجة سعد زغلول، ثم بتدبير سابق ودون مقدمات ظاهرة قمن النسوة بخلع حجابهن، وألقين به في الأرض، وسكبن عليه البترول، وأشعلن فيه النار، ليحررن بذلك المرأة.

إنّ ما يعجب له هنا ليس خلو الأمر من منطق يقوم عليه في تبرير خلع الحجاب، وإنما يعجب من جو البطولة الذي وضعت فيه المسألة، ليكون هذا العمل البطولي ظلا تتوارى خلفه أعمال التخريب والتحطيم. لذلك فلا يعجبن أحد أن هدم قواعد الإسلام في العصر الحديث إنما قامت على أيد أبطال تجلهم الجماهير وتحترم بطولاتهم. يقول حافظ إبراهيم في شأن هذه المظاهرة:

خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعنّهْ
فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه
فطلعن مثل كواكب يسطعن في وسط الدجنه
وأخذن يجتزن الطريق ودار سعد قصدهنه
يمشين في كنف الوقار وقد أبن شعورهنه
وإذا بجيش مقبل والخيل مطلقة الأعنه
وإذا الجنود سيوفها قد صوبت لنحورهنه
وإذا المدافع والبنادق والصوارم والأسنه
والخيل والفرسان قد ضربت نطاقا حولهنه
والورد والريحان في ذاك النهار سلاحهنه
فتطاحن الجيشان ساعات تشيب لها الأجنه
فتضعضع النسوان والنسوان ليس لهن منه
ثم انهزمن مشتتات الشمل نحو قصورهنه


وتدريجيا في ظل البطولة المدوية.. سقط الحجاب!، وأصبح من المناظر المألوفة في العاصمة أولا، ثم في المدن الأخري بعد ذلك، أن تري الأمهات متحجبات، والبنات سافرات، وكانت الأداة العظمي في عملية التحويل هذه هي التعليم من جهة، والصحافة من جهة أخري.

 
محمد قطب والتأصيل الإسلامي للمعرفة:
وإذا كانت الانحرافات التي وقع فيها المسلمون فكرية في الأساس، فإن محمد قطب وبجنب كتبه التي درست أسباب هذه الإنحرافات في ماضيها وحاضرها وأصلت لبعض المفاهيم المهمة التي وقع فيها اللبس عند المسلمين، قد خصص كثيرا من كتبه لمسألة مهمة هي مسالة التأصيل الإسلامي للمعرفة، ذلك لأن محمد قطب جعل الإسلام هو المركز الذي ينظر به إلى كل العلوم والأفكار، فلذلك عمد إلى نقد كل فكر محتكما إلى منظور الإسلام، ومن الكتب التي ألفها في قضية تأصيل المعرفة:
1.
حول التأصيل الإسلامي للعلوم الإجتماعية
2.
كيف نكتب التأريخ
3.
حول التفسير الإسلامي للتاريخ
4.
دراسات في النفس الإنسانية
5.
منهج التربية الإسلامية
6.
منهج الفن الإسلامي

ومن بين كتبه التي ألفها عن التأصيل الإسلامي للمعرفة، سوف نتوقف قليلا عند مسألة التأصيل الإسلامي للتأريخ أو التفسير الإسلامي للتأريخ، وذلك ليس لأنه خص الموضوع بكتابين منفصلين، وليس لأن الأمر تحوطه بعض الغرابه كون أن علم التأريخ ليس حديثا بل وجد قبل بزوغ الحضارة الغربية الحديثة، وإنما لأهمية موضوع التأريخ وحيويته في مسألة البناء الحضاري. والحضارة الغربية فسرت التأريخ بمنظورها هي، وقد رسخ ذلك المنظور حتى في عقول المسلمين.

وينطلق التفسير الغربي للتأريخ من زاويتين:
1.
الرؤية الدارونية التي ترى أن الإنسان هو نهاية التطور الحيواني، وأن تاريخ الكون هو تاريخ لذلك الصراع والبقاء فيه إنما يكون للغالب، فقدست القوة واحتكم لقانون الغاب. والإنسان في هذه النظرة إنما هو حيوان شهواني يبحث عن منفعته.
2.
العلوم الاجتماعية كلها في الحضارة الغربية نشئت في بيئة معادية للدين، والصراع كان فيه على أشده مع الكنيسة التي كانت تحجر على العقل والعلم.

لذلك فإنه من المهم أن يعاد كتابة التأريخ من زاوية الرصد الإسلامي، لإزالة التناقض القائم اليوم بين عقيدة الأمة وبين دراستها للتأريخ، وهذا أمر من صميم احتياجات الأمة. إن قضية كتابة أو تفسير التاريخ هو اجتهاد بشري يخطئ من يقوم به أو يصيب، شأنه شأن أي اجتهاد بشري في استنباط النظريات التربوية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وهو بحد ذاته علم يلحقه التطور والتجديد.

والناظر في المنهاج الإسلامي يجد أن الرؤية الإسلامية للتأريخ تنطلق من كون أن التأريخ البشري هو تحقيق للمشيئة الربانية من خلال الفاعلية المتاحة للإنسان في الأرض بقدر من الله. والإسلام لا يقسم الأمم إلى أمم متقدمة وأخرى متأخرة، وإنما يقسمها إلى أمم مؤمنة وأخرى كافرة، وأن الجميع هم بحاجة إلى عبادة الله والخضوع له.

والإنسان الذي هو أساس التأريخ، فهو الكائن الوحيد الذي له تأريخ، تختلف النظرة إليه في الإسلام من حيث طبيعته وتكوينه ومميزاته ودوره على هذه الأرض، وهذا وحده هو الذي يحدد لنا فهم تاريخ هذا الإنسان. إن الإنسان في الإسلام ليس هو بحيوان ولا بإله، بل هو إنسان، يمكن له أن يعلو إلى الملائكية إن هو تمسك بالعبادة والأخلاق، ويمكن له أن ينكب إلى البهائمية إن هو بعد عن عبادة الله تعالى. لذلك فالإنسان على مفترق طرق (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد:10)، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الانسان:3).

والقرآن الكريم يجعل التأريخ محلا للعبر، وتاريخ الإنسان في القرآن هو تاريخ القرب من الله تعالى أو البعد عنه، أما الحضارة الغربية فالمرجعية فيها للإنسان، لا ما يبتغيه منه خالقه، ثم إن دراساتهم تنطلق من الانموذج الغربي للإنسان، والإنسان في حضارتهم في حالة غير طبيعة، فهل الإنسلاخ من الأخلاق وتفكك الأسر يعتبر حالة طبيعية تستمد منها النظريات وتجعل انموذجا للبشرية في الدراسة.

 

التقويم الهجري:
إن التأريخ الذي يحمل هوية الأمة الإسلامية هو التأريخ الهجري، المرتبط بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتأريخ الهجري هو قوام الحضارة الإسلامية. وأنا في هذه الجزئية أريد أن أقف قليلا مع أهمية التقويم الهجري الذي كثر الكلام فيها عند كل رمضان أو حج.

والمسلمون اليوم، والعالم أجمع، إنما اعتمادهم على التقويم الشمسي، ليس فقط لأنه يحتضن فصول السنة الأربعة، وكونه وثيق الصلة بأمور المعاش كمواسم الزراعة وغيرها، وإنما لأنه تقويم منضبط، فهو أثبت قدرته على استيعاب التطورات الحديثة في حياة البشر، عليه الاعتماد في المستشفيات، والجامعات، والمصانع والشركات. وهذا ليس بغريب على صنع الله تعالى (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يّـس:40)

ومع أن الشمس من خلق الله سبحانه، إلا أن الله سبحانه وتعالى أقام الشهور على حركة القمر، يقول سبحانه (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة:189)،ويقول عز من قائل (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (التوبة:36).

إن البعد الحضاري لهذا الموضوع الفقهي في غاية الوضوح، ذلك لأن الحضارة إنما تقوم على التخطيط والعمل المثمر، فكيف تتم حضارة من دون تقويم منضبط للتأريخ. أما النقاش الحاصل حول تشرذم الأمة في شهري الصوم والحج فهو وإن كان ينم عن فوضى لا تتماشى مع روح النظام التي تسري في الإسلام، إلا أنه لا أدري لما يغفل عن هذه القضية الحضارية المهمة.

 
المشروع الحضاري الإسلامي:
إن الحالة الفكرية لدى المفكريين المسلمين في الوقت المعاصر مرت بمراحل عدة، يمكن تلخيص أهم مراحلها في الآتي: أنها بدأت بفكرة الجامعة الإسلامية أي أن الوحدة الإسلامية هي الطريق للعزة والمقاومة والإصلاح، ثم اتجه الخطاب إلى توضيح شمولية الإسلام وسعة أفقه ومبادئه، ثم لمّا أتت المشاريع النهضوية في العالم الإسلامي، كان الشعار الذي رفعه الإسلاميون أن الإسلام هو الحل، ثم تبلور الخطاب بالقول بالمشروع الحضاري للإسلام، ففكرة المشروع الحضاري الإسلامي مرت بمراحل كثيرة قبل أن تتبلور في شكلها النهائي.

وإذا كانت الحضارة الغربية مرت بخمسة قرون في مراحل مكنت أهلها من استيعاب تغيراتها، فإن الأمة الإسلامية يراد لها اليوم أن تستوعب هذه الضربة الحضارية للغرب في وقت قصير، مع وجود استعمار فكري وسياسي متغلغل في شؤون حياتها. لذلك فهناك كثير من المتناقضات التي تعيشها الأمة اليوم، فهناك تناقض بين مظاهر الحضارة الغربية البادية عليه، وبين حالة الاستهلاك التي يعيشها الفرد، مما ولد تخلف في الفكر والسلوك. هناك تناقض بين ضرورة الوحدة والتكامل العربي والإسلامي، وبين التنافس القطري الضييق بين دويلات الأمة الإسلامية، وهناك تناقض حتى في موقف الإعجاب من الغرب حامل لواء الحرية وبين كونه المحتل والمستعمر. ولم تزل القضايا الفكرية الكبرى للأمة هي نفسها منذ زمن: التخلف، والتشرذم، والاساتبداد، والاستغلال، والهيمنة الأجنبية، والجمود الفكري.

ورغم هذا فلا يخلو الوضع من بعض الإنجازات، فهناك سعي إلى الوحدة والتقريب بين المذاهب، كما أن المعركة الفكرية الشرسة والعلنية مع الحداثة الأوروبية وربيبتها الصهيونية قد كونت قاعدة متينة للفكر الإسلامي. ولعل أهم منجزات المشروع الإسلامي أنه هو الذي حرر الشعوب الإسلامية من أيدي الاستعمار الظالم. ولعل المجال التقني والتنموي لا يخلو أيضا من بعض الإنجازات.


الحضارة في الشريعة الإسلامية
إن الهدف الذي يتوخاه المنهج الإسلامي في إدارة نظم الحياة المختلفة هو تحقيق معنى العبادة لله تعالى في حياة الناس، التي هي غاية وجود الإنسان. والمسلم عندما تتمثل فيه معنى العبودية لله تعالى يتخلص من جميع الأغلال التي عليه، وهذا هو التحرر الحقيقي الذي يرتكز عليه البناء الحضاري للإنسان في هذا الكون، وهو الذي يحقق معنى الاستخلاف في الأرض. إن الدين الإسلامي يحترم الإنسان ويعلي من شأنه، ويزكيه ويظهر خصائصه الحقيقية، فليس اللون والجنس هو الذي يمثل الإنسان، وإنما الذي يمثله فكره وروحه. والإسلام أحسن الجمع بين مطالب الجسد والروح. والرابط الحقيقي في المجتمع الإسلامي هو رابط العقيدة، والقيّم التي تحكم وجوده هي الأخلاق الإسلامية العليا. وفي الحقيقة إن هذه الإنسانية بحاجة إلى مثٌل الإسلام ومنهاجه في الحياة لينقذها مما هي فيه. ذلك لأن الإسلام وحده وهو الذي يحقق التناغم الحقيقي بين مكونات هذا الكون، فالشريعة الإسلامية ذات بعد كوني، وهو ما ينبغي أن يعكسه الفقه الإسلامي.
 

تجديد الفقه الإسلامي:
قد عالج الدكتور جمال الدين عطية هذا الموضوع بشيء من التفصيل، ومما ذكره في كتاب "تجديد الفقه الإسلامي" أن هناك تجديد يعنى بالشكل، وتجديد يعنى بالموضوع، وهناك تجديد يقوم على منهج، وآخر لا يشير إلى منهج معين، وهناك تجديد موضوعي آت من داخل النسق الإسلامي، وآخر يحاول إسقاط النظريات الغربية الحديثة على الإسلام، ثم يقول أن التجديد المطلوب يشمل موضوع الفقه وأصوله.

أما عن ملامح التجديد الفقهي الذي يراه فنذكر الآتي:
1.
نحتاج إلى تقديم اجتهادات جديدة في مسائل قديمة، على غرار ما فعله الأقدمون من مواكبة لتطور الحياة. ومن أمثلة ذلك الطبيعة المدنية لحياة العصر، من مثل انبثاق مؤسسات اجتماعية للقيام بفريضة الزكاة، أو تطوير لمؤسسة القضاء أو مؤسسة الوقف.
2.
تقديم اجتهادات في مسائل مستحدثة، وأمثلة ذلك كثيرة في مجال الاقتصاد والمؤسسات، والطب وغير ذلك.
3.
ربط الأحكام الجزئية بالمقاصد الكلية، فالإسلام كل لا يتجزأ، ثم لا بد من توسيع دائرة الفقه، فالعقيدة والأخلاق وثيقة الصلة بالفقه.
4.
توضيح الأحكام الشرعية الضابطة لكل علم من العلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية المعاصرة، سعيا إلى ربط هذه العلوم بضوابط الشريعة الإسلامية.
5.
ومن الضوابط أيضا بث الروح في الكتابات الفقهية، فالسجود مثلا في كتب الفقه عبارة عن تمرين رياضي خال عن بعده الروحي الذي وضعه الشارع له.
6.
اجراء دراسات مقارنة بين المذاهب المختلفة لأجل تدعيم الوحدة، ولتقنين الفقه الإسلامي.
7.
اجراء دراسات مقارنة بين الفقه الإسلامي والفقه الوضعي، لأجل معرفة مواضع الخلل فيه.
8.
الاهتمام بالجانب التنظيري من الناحية الكلية، كنظرية عامة للشريعة، ومن الناحية الجزئية كنظريات فرعية عن هذه النظرية العامة.

ومما ذكره الدكتور جمال الدين عطية في كتابه "نحو تفعيل مقاصد الشريعة" أن نظرية المقاصد الشرعية تجاوزت المنحى التجزيئي في تفهم أحكام الشريعة إلى معالجة المشكلات وفق رؤية كلية تستفيد من التفسير الموضوعي للقرآن الكريم للوصول إلى النظريات الأساسية والتصورات الرئيسية التي تمثل وجهة نظر الإسلام، ومن أمثلة ذلك النظرية الأخلاقية لدى محمد عبدالله الدراز، والنظرية الجنائية لدى عبد القادر عودة، والنظرية الحقوقية لدى عبدالرزاق السنهوري، والنظرية الاقتصادية لدى محمد باقر الصدر. وبجانب هذه النظريات الفقهية فهناك كتابات منهجية تعنى بأسلمة المعرفة، حيث يكون التركيز على العلوم الإنسانية والاجتماعية.



إشكالية تجديد أصول الفقه:
وإذا كان قد أصبح من المسلم به أن علم الفقه الإسلامي بحاجة إلى تجديد، فإن الحوار ما زال عميقا في قضية تجديد أصول الفقه، ومن أمثلة ذلك، الحوار الذي أدارته دار الفكر السورية بين الدكتور أبو يعرب المرزوقي والدكتور محمد سعيد البوطي، والذي نشر تحت مسمى "إشكالية تجديد أصول الفقه". ويرى الدكتور البوبطي بأن علم أصول الفقه هو منهج ثابت لاستخراج الأحكام الشرعيةـ يرتكز على أدوات ثابتة وقواعد مرتبطة باللغة العربية التي لا تتغيّر، فما الذي يمكن أن يُغيّر في القاعدة الأصولية التالية: اللفظ المطلق يخضع للتقييد بأي من الألفاظ المقيدة، أمّا الدكتور المرزوقي فيرى بأن أصول الفقه ليس بمنأى عن الأزمة التي تعانيها الأمة الإسلامية. وإذا كانت حجج الدكتور البوطي واضحة وقريبة من الفهم، فإن عبارات الدكتور المرزوقي لم تأت كذلك، بل مع استعصائها على الفهم تسفر برأيي المتواضع عن معان لا أظن أنه يوافق عليها، وبخاصة في بحثه الثاني.

إلا أن الحوار بالحقيقة لم يرض شغفي!!، فهل فعلا المناهج لا يدخلها التجديد!، و ليس الكلام هنا عن تغيير في قاعدة معيّنة، ولكن الكلام عن دخول مناهج أخرى في البحث، ثم إنّ هناك علوما أخرى جديدة، من مثل نظريّة المعرفة، ونظريّة القيّم، فهل هذه ليست لها أي أضافات في علم أصول الفقه. إن علوم القرآن الكريم وما التصق بها من علوم في الإعجاز القرآني فتحت المجالات لسبر أغوار آيات أخرى غير آيات الأحكام، فهل يمكن أن يوظف ذلك في علم أصول الفقه؟.

 
المجتمع المدني:
إن مصطلح الحضارة شديد اللتصاق بمصطلح المدنيّة، والمجتمع المتحضر مقابل للمجتمع البدوي القائم على الفردية، فالمدنيّة هي ارتقاء بالمجتمع للعمل الجماعي المنظم في إطار مؤسسي لخدمة مصالحه وتطلعاته. ومصطلح المجتمع المدني من حيث أصله نشأ في أوروبا لمقابلة المجتمع الديني التي كانت قد استبدت به الكنيسة وهيمنت فيه على الحريات، فجاءت أطروحة المجتمع المدني لتفتيت سلطة الكنيسة ولتعطي المجتمع شخصيته المستقلة حتى عن سلطة الدولة، بل إن المطلوب من الدولة أن تمارس سلطتها في دائرة اختيارات الشعب وإرادته، لذلك فإن المجتمع المدني أصبح فيما بعد مقابلا للنظام السياسي وهو الذي يضمن التخلص من النزعة الاستبدادية التي قد يصادر بها حرية الشعب كما كانت تفعل الكنيسة أو السلطة الدينية من قبل.

والمجتمع المدني هو أيضا نتيجة طبيعية لتطور المجتمعات الإنسانية، فيرى البعض أن المجتمع البشري قد مر بمراحل عدة، بداية بالمجتمع البدائي حيث الصيد الجماعي، ثم المجتمع الزراعي، ثم المجتمع الصناعي. والمجتمعات الحديثة معقدة التركيب، وهذا التعقيد يجعل المجتمع يفرز بطبيعته آليات تمكنه من تحقيق وتنظيم احتياجاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وإذا كانت الحضارة الأوروبية جعلت المجتمع المدني في مقابل الدولة كأنما هما في صراع، كما زودته بمجموعة من القيّم الخاصة بها، فإن ذلك ليس مما يصدّر إلى غيرها من المجتمعات، بل إن لكل خصوصيته ونظامه وقيّمه التي يؤمن بها. والمجتمع المدني ينبغي له أن يعكس تلك الخصوصية، بل عليه أن يحافظ عليها مما يمكن أن يلوثها أو يسيء إليها، كما عليه أن يعزز وجودها لتبقى له هويته وشخصيته. والملاحظ في الآونة الأخيرة أن مجتمعنا العماني بدأت تتكون فيه عدد من الجمعيات المختلفة، وهي لا شك أنها خطوات نحو مجتمع مدني متقدم.

وهذه وصلة إلى ملف أراه قيّما عن موضوع المجتمع المدني في الإسلام: http://www.balagh.com/islam/xn1c6btc.htm



وفي نهاية هذا الموضوع أحب أن أذكر أن هذا الموضوع، مثل مواضيعي السابقة، يهتم بذكر الهيكل العام للأمور، ذلك لأني أرى أن الاهتمام بالإطار العام هو مما ينبغي أن ينتبه له في ساحتنا الفكرية، فهو اهتمام بما بين الموضيع الفكرية من صلة، وهو مما يؤدي إلى وضوح الرؤية، ومعرفة القضايا المختلفة التي تكتنف الموضوع الواحد. لذلك فلست ممن يرتجل الكتابة، يعرض اليوم ما كتب البارحة، بل إن الموضوع يستمر في جهازي لاسابيع قبل عرضه!

وأنا هنا أطلب من أخواني الكرام النصح والمشورة، بأي طريقة أحب، سواء عبر الانترنت أو حتى عبر اللقاء المباشر.

ولا شك أن كل موضوع يكتنفه الحق والباطل، فما كان من حق فهو من فضل الله، وما كان من باطل فهو من هوى النفس والشيطان، وأنا إذ أحمده سبحانه على الأولى، فإني استغفره على الثانية، كما أستميحكم أنتم من كل خطأ أو خلل، وأنتم أهل للعفو والمسامحة.

هذا والله والموفق لما فيه الخير

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق