الجمعة، 19 يونيو 2015

قراءة في مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي


قراءة في مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي

  يزخر عصر الصحوة الإسلامية الحديث بالعديد من الأسماء الكبيرة التي أنارت سماءه بالأفكار الوقّادة فهدت الأمة إلى آفاق جديدة من أنوار العلم والعمل، وإن كان منطلق هذه النهضة الإصلاحية الحديثة من قبل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فإن أعلاما من مثل سيد قطب والكواكبي ومحمد إقبال والباروني وغيرهم الكثير كان أيضا لهم الدور الأكبر في الحركة الإصلاحية هذه. وإن فهم ما جاء به هؤلاء الأعلام يعد أساسيا لمعرفة الأسس التي قامت عليها الصحوة الإسلامية الحديثة.

ومن تلك المنطلقات كان موضوعنا هذا محاولة متواضعة لإلقاء بعض الضوء على جانب من أفكار أحد من هؤلاء الأعلام، وهو مالك بن نبي.

وتعد تجربة هذا المفكر الجزائري الذي توفي في عام 1973م بما تمثله من محاولة لكشف عناصر الحضارة وسنن قيامها وانداثرها تجربة غنيّة وثريّة. فقد اكتوى قلب هذا المفكر الكبير عندما رأى أمته ترزح تحت نير الاستعمار وهي تتلمس طريقها للخلاص منه، وقد أثقلها عن ذلك ما آل إليه حالها من تخلف كان هو في الحقيقة السبب الذي أدى بها إلى هذه الحالة من القابلية للإستعمار، وذلك كما يحب أن يطلق عليه.

كان الشعار الذي ينادي به مالك بن نبي هو قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)، كما كان شعاره (أنه لن يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها). وابن نبي لا يؤمن بتجزئة وسائل العلاج للنهوض بالأمة فهو يقول (...فرأى رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية، بينما رأى رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ..إلخ... على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه) (شروط النهضة ص45).

إن منطلق مالك بن نبي هو أن مشكلة كل شعب في حقيقتها هي مشكلة حضارة، لذلك نجده يتجاوز الكلام عن أهمية السنن ليفصّل، كما فعل من قبله عالم المغرب الكبير ابن خلدون، في سنن قيام الحضارة وسنن اندثارها مبينا موضع الأمة الإسلامية في ذلك، وناشرا فكره هذا في سلسلة من الكتب جعلها تحت عنوان (مشكلات الحضارة).

 


ولد مالك بن نبي في مدينة قسنطينة في الجزائر عام 1905م، انتقل بعد إكمال الثانوية إلى باريس حيث تخرج مهندسا كهربائيا سنة 1935م. كان مهتما بإبراز مشاكل عالمه الإسلامي الذي كان يعيش تحت الاستعمار الغربي. غلبت على تحليلات مالك بن نبي لمشكلات الحضارة الإسلامية نظرته العميقة لعلمي التأريخ والاجتماع. أصدر كتبه الأولى باللغة الفرنسية، وهي: الظاهرة القرآنية، لبيك، شروط النهضة، وجهة العالم الإسلامي، الفكرة الإفريقية الآسيوية. ثم لجأ في عام 1956م إلى القاهرة حيث اتصل بالعديد من الطلبة فترجم كتبه إلى العربية كما كتب بقية كتبه بالعربية مباشرة.

انتقل إلى الجزائر عام 1963م حيث عيّن مديرا عاما التعليم العالي، وأصدر فيها الكتب التالية: آفاق جزائرية، يوميات شاهد للقرن، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، المسلم في عالم الاقتصاد، ثم استقال من منصبه عام 1967م ليتفرغ لأعماله الفكرية.

 


غيّر نفسك تغيّر التأريخ:
كثيرا ما ينطلق مالك بن نبي في عرض أفكاره من واقع تجربة مقاومة الاستعمار في الجزائر، وليس ذلك بمستغرب فهو إنما يصوغ هذه الأفكار لينير الطريق لها وللأمة الإسلامية جميعا، بل إن أفكاره تحاول استنتاج السنن التي تحكم قيام الحضارة واندثارها، فهي لها طابع عالمي، لذلك نجده واسع الإطلاع كثير الاستشهاد بتواريخ الغرب والشرق.

يقول ابن نبي أن الأزمات تصنع كثيرا من الأبطال الذين لهم سيرة هي أشبه بالأسطورة في مقاومة الاستعمار، غير أنك لو سألت أحدا من هؤلاء عن بواعث كفاحة، لما زاد على أنها دوافع من دينه وشرفه حتمت له بذلك فهو يصنعها ولو كان يرى أن مجهوداته هذه تذهب هباءا.
وعند مالك بن نبي أن هكذا عمل لا يكفي!، فما لم يفهم أي شعب أن مشكلته في جوهرها مشكلة حضارية، وأن فهمها لها لا بد أن يأخذ هذا البعد الإنساني فإنه لن يستطيع حل مشكلته. فهناك ملحمة إنسانية صاغها التأريخ في حلقات لسلسلة واحدة تكونت منذ أن هبط آدم عليه السلام، وفيها أن هناك سننا، ذكرها القرآن الكريم، من تبعها بزغت حضارته ومن أهملها زالت عنه تلك الحضارة.

 


كان شعب الجزائر قد تأثر بما نادى به جمال الدين الأفغاني من صحوة إسلامية، فتنادى القوم بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)، فكثر الحديث في الجوامع وفي كل مكان عن أهمية تغير النفس بإقبالها إلى الله تعالى، وعن أهمية التعليم والعقيدة، وهكذا تكونت المجموعات لتنتشل الناس عن المنكر وتنقي عقيدتهم، فكانت بوادر الإصلاح تسري ببطء ودون أي منهج في الجسم الجزائري. حتى إذا جاء عام 1936م فتغيّر ذلك المشهد حين قرر علماء الجزائر الإتباع لقافلة السياسة، وقد ذهبوا إلى باريس للمشاركة في مؤتمر سياسي.

بعده ذلك المؤتمر أصبح الشعب مخدرا بالانتخابات، فتبدل المشهد الاجتماعي من حالته السابقة إلى إنقياد الناس خلف الأحزاب السياسية فأصبحوا مجموعات من المصفقين الذين يقادون كالقطعان، كما يقول مالك بن نبي، إلى صناديق الاقتراع. وقد تلقف الناس كلمة فاروق مصر بأن الحقوق تؤخذ ولا تعطى، فطالب الجميع بحقوقه من صناديق الاقتراع، وهذا بحسب رأي مالك أنه كان الإنتكاسة، فالحقوق إنما هي ملازمة للواجب، فمن قام بالواجبات في نفسه ومجتمعه نال الحقوق التي هي له، ولا تنال الحقوق من صناديق الاقتراع. كما أن الحكومة والظاهرة السياسية هي في أساسها تابعة لتغيّر الوسط الاجتماعي، غير أننا كما يقول فهمنا الأمور معكوسة!!

إن وضع الأمة الحالية يعاني من أمية ومن كساح عقلي أدى بالبعض أن يذهب إلى صيدلية الغرب طالبا الشفاء وهو لا يعرف المرض الذي يعالجه فضلا من أن يعرف دواءه. كما أن هناك الكثير من الكلام عن أهمية النهضة والإصلاح، ولكنه بمثابة التكديس الذي يخلو من التحليل المنهجي القابل للبناء. العالم الإسلامي يتعاطى هنا حبة ضد الجهل، ويأخذ هناك قرصا ضد الاستعمار، وفي مكان قصي يتناول عقارا كي يشفى من الفقر، ولكنّا حين نبحث عن كثب لن نلمح شبحا للبراء، فرغم هذه المجهودات المحمودة إلا أنك لا تجد البناء الذي يقيم الحضارة. فالحضارة وقبل كل شيء هي التي تلد منتجاتها، أما الشراء لهذه المنتجات من حضارة أخرى فهو الذي يؤدي إلى التكديس، وإذا كانت هناك دول كالصين واليابان قد نجحتا في تكوين حضارة حديثة لكل منهما، بل أنهما سرّعا من وتيرة البناء لحضارتيهما. فإنه يبقى السؤال الملح لنا هو كيف لنا أن ننتج حضارة خاصة بنا.

 


معادلة الحضارة:
يصوغ مالك بن نبي فكرة الحضارة في شكل معادلة كيميائية مختصرة، هي كما يلي:
الناتج الحضاري <= إنسان + تراب +وقت

وهكذا فإن العناصر المركبة للحضارة هي ثلاثة: أولها وأهمها الإنسان بما يحوي من طاقات وإمكانات. ثم التراب والمقصود به هنا الموارد الطبيعية التي بثها الله سبحانه وتعالى في هذا الكون. ثم الوقت وحسن استغلاله فيما هو منتج.

أما العامل الذي يحوّل هذه العناصر الثلاثة إلى حضارة فهو الفكرة الدينية وهو بمثابة العامل الكيميائي كالحرارة مثلا في التفاعل الكيميائي، فالفكرة الدينية هنا بمثابة المركّب للحضارة، وإلا فالعناصر المذكورة موجودة في كل أمّه ولكنها مهملة بدون وجود هذا العامل.

يرى كسرلنج أنه لم تتكون حضارة في التأريخ بدون الفكرة الدينية ذلك لأنها تعطي بعدا آخر لهذه الحياة، فيمتد نظر الناس إلى ما وراء حياتهم الأرضية أو بعيدا عن حقبتهم تلك. ومما ينبغي أن ينبه له أن هذه النظرة الإدارية وإن كانت صحيحة غير أنها ولا شك لا يمكن أن تختزل أهمية العقيدة الدينية في بناء الحضارة الإنسانية!، كما أنها لا تفرّق بين الفكرة الدينية الصحيحة وغير الصحيحة.

وهكذا يخلص مالك بن نبي إلى أنه يمكن تحليل مشاكل الحضارة إلى:
1.
مشكلة الإنسان
2.
مشكلة التراب
3.
مشكلة الوقت

ودراسة هذه المشاكل هو الذي يقضي على التكديس في العالم الإسلامي، ولكنّا قبل أن ندخل في ذلك لا بد لنا من فهم دورة التأريخ التي يتكئ عليها ابن نبي كثيرا، وذلك لكي يتسنى لنا فهم المشاكل السابقة بعمقها الطبيعي عند مالك بن نبي.

 


الدورة الخالدة:
ينطلق مالك بن نبي في عرض تحليلاته عن مشكلات الحضارة من معنى الدورة التأريخية هذه، حيث أن الدراسات التأريخية للحضارات الإنسانية تظهر أن الحضارة تبدأ بقوة ونشاط في أي مجتمع وليد ذلك لأنه مجتمع متمسك ومتمثل بقوة لمبادئه، ويظل كذالك في رقي حضاري حتى يتنكب لتلك المبادئ والقيّم فما يلبث أن يسقط شيئا فشيئا عن ركب الحضارة فيعود مجتمع بدائي كما بدأ، مسجلا بذلك دورة تأريخية، سوف يعود لها كثيرا مالك بن نبي ليزيدها وضوحا ومعنى.

فكوارث التأريخ التي تحيد بالشعوب عن طريقها ليست شاذة بل متكررة عبر التأريخ، وأول كارثة وقع بها الشعب الإسلامي هي وقعة صفين التي أخرجته من الجو الروحي في المدينة إلى مظاهر الترف في دمشق. وإن الذي يطلب العلاج لشعب ما يجب عليه أن يعرف المرحلة التأريخية التي يمر بها هذا الشعب، فتنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، فلا يستورد الحلول من الشرق والغرب لأنها تمثل مرحلة تأريخية تختلف تماما عن ما عليه أمته.

يقول مالك بن نبي: (إن المشكلة التي أحاول دراستها في هذا المؤلف ليست من المشاكل التي تخص عالم 1948م بل هي المشاكل التي تخص عالم 1367هـ) (شروط النهضة ص 53). فكل شعب مسلم يعيش الآن في تلك النقطة من التأريخ، إنها نقطة من دورته التي ستنطلق منها الأحداث الآتية بالنسبة إليه.

وإذا آتينا لدراسة هذه النقطة من تأريخ الأمة الإسلامية وجدنا آثار النوم الطويل لا تزال بادية على هذه الشعوب، بل إن الإنسان فيها مسلوب الحضارة، أو هو في مرحلة ما بعد الحضارة. ذلك لأن الحضارة تبدأ دائما حينما تدخل التأريخ فكرة دينية معينة أو عندما يدخل التأريخ مبدأ أخلاقي معيّن، كما تنتهي حينما تفقد الروح نهائيا الهيمنة التى كانت لها على الغرائز المكبوته أو المكبوحة الجماح. الفكرة الدينية تبعث بالدوافع النامية عنها لتشرق بها أنوار الحضارة، وما إن تنتهي أو تتلاشى تلك الفكرة حتى تجرف المجتمع الفوضى ويستحيل إلى العدم.

ومن الخطأ المقارنة بين الإنسان في مرحلة ما قبل الحضارة وما بعد الحضارة، ذلك لأن الإنسان قبل الحضارة يكون طبيعيا، أما في مرحلة ما بعد الحضارة فيكون إنسانا قد تفسخ حضاريا، فهو مسلوب الحضارة.

 


الفكرة الدينية هي التي تكوّن الحضارة، ولكنّها حسب مالك بن نبي تمر خلال ثلاثة مراحل زمنيّة: مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغرائز.

ودراسة تطور الحضارة هو في الحقيقة دراسة من حيث الأساس للعلاقة التي تربط الفكرة بسندها، فكل القيّم النفسية الزمنية التي تميّز مستوى حضارة ما في وقت معين، ليست إلا الترجمة التأريخية لهذه العلاقة بين فكرة معينة كالإسلام مثلا، والفرد الذي هو المسلم هنا. ومالك بن نبي عندما يقرر ملاحظاته هذه فهو إنما يستفيد من سعة إطلاعه لعلم التأريخ وعلم الإجتماع وأقوال علماء ومفكري الغرب والشرق في هذه العلوم.

وتفصيل هذه المراحل بالنسبة للحضارة الإسلامية هو كالتالي، على أن هذه المراحل لا تقتصر على الحضارة الإسلامية ولكنها متطردة في كل الحضارات:
الجزيرة العربية كانت قبل نزول القرآن عليها بها شعب بدوي لا يعرف عن الحضارة شيئا، لقد كانت مقدراته (الإنسان، التراب، الوقت) راكدة مكدسة لا تؤدي دورا تأريخيا، ويمكن أن تظل كذلك إلى أمد بعيد دون وجود الفكرة الدينية التي تبعثه إلى الحياة، والإنسان في تلك المرحلة يعد إنسانا فطريا لم تتأثر غرائزه بشيء.

حتى إذا بزغ نور التوحيد من غار حراء على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فوثبت القبائل العربية على مسرح التأريخ تكوّن لها حضارة هي من أعظم حضارات التأريخ. والإنسان في هذه المرحلة يتحرر من غرائزه ويخضع وجوده في كليته إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة الدينية في نفسه، بحيث يمارس حياته في هذه الحالة حسب قانون الروح، وما الصيحات التي كان يرددها بلال (أحد أحد) إلا انعكاس على أن سلطة الروح كانت قد جعلت حتى صوت العقل صامتا في تلك المرحلة، فلغة المرحلة كانت روحية المنطق أولا وقبل كل شيء.

حتى إذا جاءت وقعة صفين (عام 38هـ) التي حولت مجرى التأريخ الإسلامي إلى طور القيصيرية الذي يسوده عامل العقل، وتزيّنه الأبهة والعظمة، في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر الفتور الدالة على أفول الروح، عندها خرجت الحضارة الإسلامية من عمق النفوس كقوة دافعه، وأخذت تنتشر على سطح الأرض بما بقي فيها من قوة وجاذبية، حتى إذا ما وهنت فيها قوى الروح وجدناها تخلد إلى الأرض شيئا فشيئا، ثم لم يلبث المسلم بعد مرحلة قضاها في الخلافات والحروب أن عاد إلى حيث هو الآن إنسانا بدائيا. ومن الطبيعي أن الغرائز لا تتحرر دفعة واحدة، وإنما هي تنطلق بقدر ما تضعف سلطة الروح.

وعندما يبلغ هذا التحرر تمامه تبدأ الغريزة تكشف عن وجهها تماما، وهناك تنتهي الوظيفة الإجتماعية للفكرة الدينية التي تصبح عاجزة عن القيام بمهمتها، فيدخل المجتمع في ليل التأريخ، وهذه هي المرحلة التي أعقبت سقوط دولة الموحدين. وهنا يصبح الدين عبارة عن طقوس للدراويش والمتصوفة الذين يحسبون أن سنن الكون في أيديهم.

والشعوب المسلمة الآن على أبواب بزوغ حضارة الإسلام من جديد، وقد بدأ ذلك بتباشير الصحوة الإسلامية الذي بدأها الشيخ جمال الدين الأفغاني، ولكن هذه الشعوب الإسلامية ومنها الشعب الجزائري ما زال لم يستطع التخلص من تبعات الماضي الثقيل.

 


ومما ينبغي التنبيه إليه،كما فعل ذلك الشيخ البوطي، أنّ هذه المراحل تختلف تماما عمّا يقول به الفيلسوف الألماني شبنجلر والذي يتلخص في دعوى أن الحضارات، أيّا كانت، هي طاقة كالطاقة العضوية التي يتمتع بها الإنسان، فهي تنشأ في ضعف، ثم تتجه إلى القوة، ثم لا تلبث أن تعود إلى الضعف فالذبول فالموت، وإنها تتدرّج في هذه المراحل بدافع ذاتي منها، فالبحث عن عوامل خارجية لذلك التدرّج بحث في غير طائل وتفتيش عن مفقود. (منهج الحضارة الإسلامية في القرآن الكريم للشيخ البوطي ص 10-11).

ذلك لأنه أولا وقبل كل شيء هذه الأطوار التي مرت بها الحضارة الإسلامية إنما هي في أنفس الناس وليست في المبادئ والمناهج التي أتى بها الإسلام، وهناك ولا شك فرق بينهما كبير، والناس فيما يخص أنفسهم هم على التخيير، إن اتبعت أنفسهم منهج الله رقوا به في سلّم الحضارة، وإن اتبعوا نفوسهم هواها ضلت بهم الطرق.

ولا يمكن لبذور الحضارة الإنسانية المثلى التي جاء بها خالق الكون والحياة أن تنتهي وتموت، بل كتب لها البقاء ولو تنكب أهلها عنها، ولا يمكن أن تقاس هذه المبادئ والأسس الإسلامية بغيرها من الأسس التي قامت عليها الحضارات الأخرى. فالناس ما زالوا يبحثون عن حقيقة الخير والشر دونما أن يعثروا عليها، لكنه لا سبيل لحل مشاكل الحياة إلا بالإصغاء إلى إرشادات الخالق سبحانه. وقد تكلم الشيخ البوطي في كتابه السابق مظهرا بعد كلام هذا الفيلسوف الألماني.

 


عناصر الحضارة:
ذكرنا سابقا بأن عناصر الحضارة عند مالك بن نبي هي الإنسان والتراب والوقت، وقبل أن نفصّل فيها، نذكر بأن البوطي يعرّف الحضارة بأنها التّفاعل بين الإنسان والكون والحياة (منهج الحضارة الإسلامية في القرآن الكريم ص 19)، ولسنا هنا في مقام المقارنة بين هذين التعريفين أو غيرهما من التعاريف الكثيرة التي جاءت عن الحضارة، كما أنّا سوف نقتصر على إيضاح ما جاء به مالك بن نبي، وإن اعترفنا بفضل وجمال ما جاء به غيره كالبوطي مثلا.

العنصر الأول: الإنسان
الإنسان هو أهم العناصر، ومشكلته تختلف باختلاف وضعه، وبأي مرحلة هو في تاريخ الحضارة. فالحضارة الإسلامية اليوم بحاجة إلى صنع رجال يعتمد عليهم في بناء الحضارة، ذلك لأن الإنسان المسلم الآن هو حامل لروح الهزيمة وهو أشبه بالمعطل، وإذا قارنّاه بوضع الإنسان في الغرب مثلا نجد روح الهزيمة بعيدة عنهم، بل هم قوم مستعمرون.

وقضية الإنسان تتلخص في ثلاثة: فكره، وعمله، وماله، أي أنّا بحاجة إلى توجيه الثقافة (الفكرة)، وتوجيه العمل، وتوجيه رأس المال.

أ‌) توجيه الثقافة:
يهتم هنا مالك بن نبي بقضية ثقافة المجتمع ويجعلها بوابة للتحضر والتقدم، كما يتحدث في جوانب أخرى من كتبه عن أهمية الأفكار بشكل عام، وسوف نرجع لقضية الأفكار قريبا بإذن الله بشيء من التفصيل.

الثقافة عند مالك بن نبي هي دستور حياتنا العامة، من خُلُق وذوق ومنطق، والذي يجمع فيه ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي، فيتلقاها الفرد من المجتمع منذ ولادته، وهي تمثل الصفات الخلقيّة والقيّم الاجتماعية التي يمر بها المجتمع في أي مرحلة من تاريخ حضارته، وهذه الثقافة لها الأهمية الكبرى ذلك لأنها تحفظ هوية المجتمع وتراثه وقيّمه المختلفة سواء منها ما يخص الأخلاق أو المنطق أو الجمال أو أي جانب من جوانب الحياة، كما أنها تعتبر سجلا لتاريخ تلك الأمة، لذلك فإنه لا يمكن تصور تاريخ بلا ثقافة، والشعب الذي فقد ثقافته فهو حتما قد فقد تاريخه.

وثقافة الشعوب الإسلامية اليوم تمثل حدا فاصلا بين عهد الفوضى والجمود وعهد المستقبل بما يحمله من تنظيم وتركيب وتوجيه، فنحن بحاجة إلى تصفية السلبية التي تحملها رواسب الماضي، كما بحاجة إلى تشجيع الإيجابية التي تصلنا بمقتضيات المستقبل.

 


ب‌) توجيه العمل:
والعمل يكاد يكون غير موجود في المجتمع الإسلامي فكيف إذا يوجه!، ولا يعتبر العمل هنا عملا ما لم يؤثر بصورة أو أخرى في التأريخ. وتوجيه العمل معناه سير الجهود الجماعية في اتجاه واحد، بما في ذلك جهد التاجر وطالب العلم والمثقف والفلاح لكي يضع كل منهم في كل يوم لبنة جديدة في البناء، فإذا تآلفت هذه الجهود لتغيّر وضع الإنسان فقد تم توجيه العمل، وعلى قدر ما يصبح في البلاد من فنيين وفنون وحرف تتجه أحوال معيشة الفرد إلى وضعها الطبيعي حتما، والتوجيه هنا لا بد أن يكون منهجيا بمعنى أنه متوازن مع مثلث الإنسان (ثقافته وعمله وماله) فهذا التوازن هو الذي يضمن دائما مستوى أرفع للإنسان.


ت‌) توجيه رأس المال:
علينا تحويل الثروات إلى رؤوس أموال متحركة، وقد سجل التأريخ أن ذلك يكون مع ظهور الصناعات الميكانيكية، والأموال المتحركة تخلق نشاطا وتوظف الأيدي والعقول، ولكنّا نعاني من تكديس الثروة، ولا نحرك المال وننشطه.


العنصر الثاني: التراب
التراب والكون مسخر لبني البشر فمن تتبع سنن تكوينه استفاد منه، وإلا ظل مهملا بغير فائدة، فقيمة التراب تكون بقيمة مالكيه، فعندما تكون الأمة متقدمة يكون التراب غالي القيمة، وعندما تتخلف تنحط قيمة التراب فيها، والسبيل إلى الإستفادة من التراب هو العمل.


العنصر الثالث: الوقت
الوقت هو الحياة وهو رأس مال الإنسان، والوعاء الذي يحمل كسبه، إن هذا الوقت يكون عند البعض ثروة، وعند البعض عدما مخدرا، ويظل السؤال أين يذهب الشعب الإسلامي عندما يدق الناقوس مناديا الرجال والنساء والأطفال إلى العمل في البلاد المتحضرة؟، حقا إن الزمن هو الحياة.

 


عالم الأفكار:
يعتبر مالك بن نبي عالم الأفكار جزء من ثلاثة عوالم، هي: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأفكار.

والإنسان والفرد يتدرج فيها من عالم الأشياء الذي يمثل البدائية ثم إلى عالم الأشخاص فعالم الأفكار الذي يتطور ويرقي عند تطور الحضارة. والأفكار عند شعوب الشرق كما يراها مالك بن نبي تدور حول الفكرة الدينية فلم تبق لديها لمشاغل الأرض إلا القليل، بينما شعوب الغرب ممتلئة بالآدمية التي لم تدع للإلوهية مجالا فيها، أما اليوناني فهو في المنتصف مشتغل بالمشاعر والجمال، والحضارة بدورتها تصعد وتهبط لتركز في أوجها على هذه الأفكار.

وتوضيح هذا التدرج بالنسبة للفرد واضح عند مراحل نمو الطفل، الذي يبدأ أولا بتلمس الأشياء من حوله، ثم يتدرج لمعرفة أمه وأقاربه الذين يمثلون عالم الأشخاص بالنسبة له، ثم بعد فترة يضع قدمه في عالم الأفكار، فيبدأ بالتعبير عن فكره، وهذه بالنسبة له خطوة كبيرة، ذلك لأنه يضع نفسه في محيط ثقافي وأحيانا أنطمة أيدلوجية تكشف له عن آفاق بعيدة لم تكن تخطر له ببال.

ويظهر مالك بن نبي أن للأفكار آثار حيوية على الفرد تغيّر ليس فقط في مظهره الخارجي بل حتى في تعابير جسده ووجهه، وذلك فضلا عن كيفية تعامله مع الحياة، فعضلات الوجه مثلا تعمل بشكل مختلف بين الفرد الجاهل والمتعلم.

 


المجتمع أكثر تعقيدا من الفرد، ففي كل مراحلة توجد هذه العوالم الثلاثة، ولكنّها بنسب مختلفة في كل مرحلة، ولا يتخلف المجتمع بسبب قصور الأشياء فيه، ولكن بسبب أفتقاره إلى الأفكار.

كانت الشعوب العربية في الجاهلية بدائية لم تكد تخرج عن عالم الأشياء، حتى مقدساتها كانت الأوثان التي تصنع من الحجر، وأدواتها الأخرى كانت بسيطة للغاية كالسيف والرمح، أما عالم الأشخاص عندها فقد انحصر في القبيلة وبطولاتها. حتى إذا جاءتها العقيدة الدينية برسالة إقرأ من غار حراء، عندها بدأ يبنى المجتمع الجديد عالمه بالأشخاص الرّواد فتمحورت فيه الحياة حول الأفكار، فالأفكار إنما تمر عبر الأشخاص فتنمو وتتواصل بهم. ثم تنمو هذه الأفكار مكونة شبكة قوية بينها لترقى بالمجتمع في آفاق الحضارة.

حتى إذا جاءت نقطة الإرتداد، عندما تجمد الفكرة الدينية الأولى وتتجه المسيرة ثانية نحو الوراء، نحو عالم الأشياء، عندها يصبح المجتمع استهلاكي مثقل بأشياء خامدة، وهنا يعود عالم الأشخاص ليسوا كما كانوا بل نسخ محرفة من القوم الأوائل كأمثال بعض المتصوفة، وبعض المخادعين والدجالين، وتكون للأشياء سلطة على العقول والوعي.

وهكذا لكي يندمج مجتمع ما في التأريخ فإنه لا بد أن يكون للأفكار دور وظيفي فيه تعمل على رفعه إلى أحداث التأريخ، أما الأفكار التزينية فإنها إنما تكون في مجتمع ما بعد التحضر.

 


الطاقة الحيوية للفكرة:
إن الفكرة التي تنشئ حضارة هي فكرة ذات طاقة حيوية دافعة بقوة، وبدون هذه الطاقة لا تكون هناك حضارة. لقد كانت لفكرة الإسلام طاقة حيوية أوجدت إلزام اجتماعي حوّل ولاء عرب الجاهلية من القبيلة إلى الإسلام، وهذا التحول في العلاقات الاجتماعية هو الخطوة الأولى في تحويل المجتمع من البداوة إلى المدنية والحضارة، وإن أردت أن تعرف شيء من قوة هذه الطاقة الحيوية فانظر إلى استجابة المسلمين عندما حرمت الخمر.

عند انطلاق الحضارة لا يكون التغيير الجذري في الأدوات المستخدمة، بل هي في صورة جذرية في القاعدة الأخلاقية والفكرية للمجتمع، فليس عالم الأشياء الذي يتغيّر، بل الذي يتغيّر هو عالم الأشخاص، فالمسلم هنا تغيّر على أساس ميثاق جديد هو القرآن الكريم.

والأفكار هنا تكوّن لها علاقات تنمو في المجتمع وتتغلغل فيه، لتغيّر من عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء:
ففي عالم الأفكار: تتغير المراتب المنطقية والفلسفية والعلمية وتتناسق فيما بينها
وفي عالم الأشخاص: تتغيّر المراتب الأخلاقية والايدلوجية التي تحكم الأشخاص
وفي عالم الأشياء: تتغيّر المراتب التقنية والاقتصادية والاجتماعية

 


تنمو تلك الفكرة المكونة للحضارة وذات الطاقة الحيوية العالية في كل مفاصل المجتمع، فيرتبط بها من كل جوانبه، حتى إذا تخلى عنها ولو في بعض الجوانب اختل نظام المجتمع وبدأ عقده في الانفراط، لذلك ينبغي أن تكون تلك الفكرة مرتبطة بالجتمع في نواحيه الثلاث (الأفكار، والأشخاص، والأشياء) حتى يحصل التوازن وتستمر الفكرة الأم حيّة في المجتمع، وإلا حل الخلل والفساد فيه.

وعندما يتخلى المجتمع عن أفكاره يبدأ انحسار التماسك الاجتماعي فيه ويبدأ بالتحوّل من الحضارة إلى البداوة مرة أخرى، ويصاب جهازه الإدراكي بالقصور حيث لا يكون التفريق واضحا عنده بين الأسباب والمسببات، كما تكون وسيلة التغيير فيه هي الصراخ. وهذا ما يسميه مالك بن نبي بانتقام الفكرة لذاتها إذا ما تخلى عنها أصحابها.

إن احترام الفعاليةّ أمر تحتمه سنة الكون، فإذا كان على الصعيد التقني هناك آلة سيئة الصنع فإنها سوف تنفجر عن قريب، كما أن الحال هو كذلك بالنسبة للجوانب الأخرى للفكرة (الأفكار، الأشخاص، الأشياء)، فلا بد إذا من احترام المقاييس الثابتة لأي نشاط وإلا أصبح نشاط عبثي.

كما أن التركيز على أحد من العوالم (الأشياء، الأشخاص، الأفكار) يؤدي إلى عدم التوازن الذي عادة ما يعكس افراطا ما، أو هو ضرب من طغيان نشاط على آخر، وإذا نظرنا إلى المجتمع الإسلامي على أي صعيد وجدنا الغلبة لعالم الأشياء فيه واضحة: فتجد الموظف يعد تقدمة بكثرة الأجهزة أمامه لا بانتاجه، كما أن الباحث لا يسأل عن انتاجه المعرفي في بحثه وإنما كم عدد صفحات ذلك البحث، أمّا أذا أرادت شركة أو وزارة ما أن تقوم بإنشاء قسم ما لمهمة أي كانت فإن الإهتمام لا يكون منصبا على البحوث العلمية فيه بقدر الاهتمام بتكديس المكاتب والسيارات والأجهزة الغريبة العجيبة.

أمّا طغيان عالم الأشخاص فهو ظاهر في تقديس الأفراد، بدل احترام فكرهم سواء ذلك على الصعيد الاجتماعي أو السياسي.

 


أصالة الأفكار وفعاليتها:
تلك الطاقة الحيوية التي تدفع بالفكرة لتكون فعّالة في المجتمع لا تنطلق فقط عند الأفكار الصحيحة الأصيلة، ولكنها أيضا قد تكون لأفكار خاطئة، وهكذا ليس كل فكرة فعّالة هي بالضرورة صحيحة، كما أن أصالة الفكرة لا يعني فعاليتها في المجتمع. لقد كانت فكرة الدورة الدموية لابن النفيس غير مفعّلة لأربعة قرون حتى جاء الطبيب الانجليزي هارفي ففعّلها في كل البحوث الطبية بعدها، لذلك قد تفعّل أفكار قديمة في مرحلة لاحقة إذا وجدت لها رجال يقومون بذلك، فعلينا دائما أن ننتصر للفكرة من الوثن (الشيئة) ومن عالم الأشخاص، ثم علينا أن نقوم بتفعيلها.

إن منطق هذا العصر أن اثبات الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي لا يكفي، بل تقاس صحتها بمستوها العملي ولو لم تكن صحيحة في ذاتها، وهكذا فإن الأفكار صحيحة إذا ضمنت النجاح بغض النظر عن أي شيء آخر. فإعلان قدسية القيّم الاسلامية في هذا العصر لا يكفي، بل علينا أن نزوّدها بما يجعلها قادرة على مواجهة روح العصر دون تقديم أي تنازلات فيها، وهذا التزويد لا يكون إلا بحسن التخطيط، والإسلام يشير إلى فضل الفاعلية، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما رجع من غزوة تبوك قال (ذهب المفطرون بالأجر) ذلك لأنهم هم الذين استطاعوا تحمّل الأعباء حتى ولو أدى ذلك إلى ترك الصيام في السفر.

 


أهمية العلاقات الاجتماعية:
المجتمع بدون فكرة حيوية ينشط حولها أفراده ويبحثون عن تحقيقها إنما هو تواجد بشري يحيى خارح التأريخ لا غاية لوجوده سوى المحافظة على بقاءه كجنس بشري. أما المجتمع فله غاية تسيّره، وحركة تغيّر مساره إما إلى الرقي والتحضر وإما إلى الإنهيار. وهذا التغيّر بطبيعة الحال لا يكون عبثيا وإنما هو بسبب فكرة آمن بها هذا المجتمع، لذلك يرى مالك بن نبي أن تسمية الله تبارك وتعالى لابراهيم عليه السلام بالأمة في قوله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) (النحل:120) لأنه هو الذي كان يحمل التغيير لتلك الأمة.

وهكذا فإن المجتمع المتحضر ليس مجموعة من الأفراد غير المتجانسين، الذين لا يربط بينهم أي رابط، بل هو تنظيم ذو طابع إنساني يسعى إلى تحقيق فكرة تقوده من حالته الأولى إلى حياة أرقى وأقوّم، وليس الكلام عن الفرد، بل عن المجتمع ككل، فلا بد من التجانس بين أفراده ليكون سعيهم متكاملا إلى الغاية الي يصبون إليها، وهذا هو أساس وبداية التحضر.

 


وهكذا فإن صناعة التأريخ تتم عندما تتمحور الطوائف الثلاث (عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء) حول فكرة تعمل من أجلها جميعا بتوافق تام لتحقيق الغاية الواحدة التي يسعى من أجلها المجتمع، ولكي يحدث هذا فإنه لابد من عالم رابع هو شبكة العلاقات الاجتماعية المؤمنة لهذا التواصل. لذلك فإن شبكة العلاقات هذه هي العمل التأريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده، ذلكم هو العمل الذي يغيّر الإنسان من الفرد البدائي إلى الشخص الاجتماعي، فالعلاقات الخاصة بعالم الأشخاص هي التي تقدم الروابط الضرورية بين الأفكار والأشياء، سواء ذلك في مدرسة أو جيش أو مصنع، لذلك كله كان المسجد هو أول شيء أقيم في الإسلام.

إن الروح المصاحبة للفكرة هي الطاقة التي تؤدي إلى شبكة العلاقات هذه، والرسول صلى الله عليه وسلم حرص على هذه العلاقة أيما حرص فقال: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا).

ويذكر مالك بن نبي أن أي تتطور في المجتمع يكون مسجلا في شبكة علاقاته، كما أن العلاقات تكون متينة في أوج الحضارة فيذوب الفرد في المجتمع حينها، وعندما تذبل الحضارة تتضخم الأنانية الفردية، ويعيد الفرد استقلاله، فيرجع المجتمع إلى حالة البداوة الأولى.

لذلك كله جاءت كل النظم السماوية والبشرية لحماية شبكة العلاقات الاجتماعية هذه، سواء في ذلك الأخلاق أو القوانين، فينبغي المحافظة على القيّم التي تحكم العلاقات الاجتماعية، وهي المستوحاة من الأفكار الدينية، وهكذا فإن الأفكار الدينية هي الأفكار الأولى التي تقام عليها الحضارة، إن العلاقة الروحية الصحيحة التي تربط الإنسان بربه هي التي تلد العلاقات الاجتماعية الأخرى.

وبهذا أنهي هذه القراءة المتواضعة لمشكلة الحضارة عند مالك بن نبي، وهي في الحقيقة قراءة متواضعة لبعض جوانب فكر هذا العلامّة الكبير، على أنّي أحب غدا بإذن الله تعالى أن اتطرق إلى موضوع النظم الإسلامية في عجالة قبل نهاية الموضوع.

 

النظم الإسلامية:
تتميز كتابات مفكرنا العملاق مالك بن نبي بأنها تحاول معرفة سنن قيام الحضارات وسنن اندثارها معتمدة على علم الاجتماع والتأريخ، فهي مهمة ونادرة في بابها، فمعظم الكتابات التي تخوض في الحضارة الإسلامية عادة ما تكون كتابات وصفية لمنجزات هذه الحضارة، وإعجاب بمظاهرها وآثارها، كالحديث عن علومها من طب وفلسفة وعمران وصناعات مختلفة وربما الفنون الجميلة أيضا.

كما توجد هناك كتابات تبيّن خصائص الحضارة الإسلامية بأنها حضارة شاملة لكل جوانب الحياة، وحاجات الإنسان النفسية والمادية، وأنها حضارة عالمية كافلة للحريات متسامحة مع الآخر، إلى ذلك من خصائص مهمة لحضارتنا الإسلامية المستمدة من وحي الله تعالى.

كما توجد كتابات تبيّن النظم التي تقوم عليها الحضارة الإسلامية، تقوم بشرحها ومقارنتها بغيرها من النظم الوضعية، وعادة ما تعرض إلى مشكلة تنحية هذه النظم الأصيلة عن المجتمع الإسلامي.

وقد ذكرنا سابقا أهمية الغايات التي يسعى لها المجتمع، وذلك كفيل بإظهار أهمية هذه النظم لتحقيق تلك الغايات، فالفرد بنفسه لا يتسطيع أن يلبي جميع حاجاته، ولا أن يتمتع بجميع حقوقه، لذلك وجدت هذه النظم لتحكم شؤون حياة هذا الفرد في إطار المجتمع، لتلبي حاجاته وحاجات المجتمع وغاياته، ومن هذه النظم: النظام السياسي، والنظام المالي، والنظام القضائي، والنظام الاجتماعي، وغيرها الكثير....

وأحب هنا قبل النهاية أن أشير إلى الفرق الواضح بين العلوم التي تدرس هذه الجوانب والنظم التي تمارسها، فما الفرق مثلا بين العلوم الاقتصادية والنظام الاقتصادي؟
لا شك أن الفرق واضح فالعلوم الاقتصادية إنما هي التي تدرّس في الجامعات والمعاهد لإيجاد المتخصصين في فروعه المختلفة، بينما النظام الاقتصدي هو المتمثل في وزارة الاقتصاد التي تقيم الخطط والانشطة والغرف الاتجارية فتسيّر العملية الاقتصادية في البلاد مستفيدة من العلوم الاقتصادية والمتخصصين فيها.

هذا والله الموفق لما فيه الخير

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق