السبت، 20 يونيو 2015

ذلك الفراغ بين الإسلام والمسلمين

إن التركيز على هذا الفراغ معناه معرفة الأسباب التي جعلت المسلمين يتخلّفون عن ما أراد لهم الإسلام، أو ما أراد الله تعالى لهم بإنزال رسالته إليهم، ومعرفة تلك الأسباب هو وحده الكفيل بتقليص ذلك الفراغ. ولا شك أن موضوع هذا الفراغ هو الذي ظل يشغل المسلمين في ماضييهم وحاضرهم ابتغاء وجه الله وابتغاء القرب من تعاليم منهجه الحكيم.

بداية فإن لهذا الموضوع جانبين: هما الإسلام والمسلمين، وبينهما فرق شاسع، فبينما يتطلب المعرفة بالملسمين، المعرفة بواقعهم، وما آل إليه حالهم من واقع ثقافي، وعلمي، واجتماعي واقتصادي، إلى غير ذلك من أمور. فإن المعرفة بالإسلام تحتاج إلى دراسة أخرى ينبغي أن تكون بعيدة عن التأثر بالواقع، بل هي علوم لها ضوابطها وشروطها الخاصة، وواقعية الإسلام بطبيعة الحال لا يقصد بها أن يصوغ الواقع الأحكام الإسلامية، بل الأحكام الإسلامية مستمدة من وحي الله تعالى وليس من الواقع أو من التجارب الإنسانية.
 

الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جاء برسالة ربانية تقيم العدل بين الناس وتوجههم تلقاء وجه الله تعالى، فجعلت لحياتهم معان أخرى غير الذي يعهدون، فأزاحت ركامات الجهل والضلال التي كان يعيش بها القوم، وفتحت لهم آفاقا أخرى نحو الإيمان والعلم، ذلك منهج الله الذي يحي به النفوس، ويرفع به الضلالات، ويصل الإنسان بربه ويقيم به الحياة الدنيا قبل الآخرة.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم قام ببناء صرح الإسلام الشامخ في أصحابه، فأرآهم سبل الهدى وعلامات الحق والنور، فلما رأت أبصارهم ذلك النور أحبته عن الظلام الضلال والجهل الذي ألفوه، فإذا بالجموع المؤمنة تنساق إلى الله جل جلاله، وإذا بالمعانديين يحاربون دعوته ويصدون عنها، لكن الإيمان إذا دخل شغاف القلب فإنه لا يتزعزع، لأنه متمكن من النفس متحكم فيها، فكيف يثبت للمعانديين دولة إذا لاقت قلوب مطمئنة بالإيمان ومنهج رباني له نور يسري في نفوس العالمين.

الإسلام منهج متكامل للحياة يشمل العقيدة والعبادة والمعاملة والتشريع والأخلاق، وهو منهج رباني ليس للإنسان فيه إلا أن يحسن التعامل معه، ويحسن فهمه على مراد الله سبحانه، من هنا كان الأمر بالتدبر والتفقه، فهذا الفهم هو الوسيلة لتطبيق شرع الله ولمعرفة أحكامه تعالى.

والمنهج أو الشريعة الإسلامية شاملة لكل جوانب الحياة، وهي بعلاقتها المباشرة بوحي الله تعالى ما زالت قادرة على استيعاب الواقع الحضاري، بل والتقدم على جميع التجارب الإنسانية، هذا إذا أحسن التعامل معها. ولا نقصد هنا التقدم العمراني في تسخير الكون وخواص المواد، بل الأهم من ذلك هو معرفة الله تعالى وعبادته حق العبادة، فبذلك تظهر عظمة الإنسان، ويتحقق معنى التكليف والخلافة.

والآن إلى السؤال الأعظم هنا، وهو إذا كانت شريعة الإسلام قادرة على التقدم الحضاري، فما بال المسلمين في مؤخرة الركب، هل هم فعلا أحسنوا التعامل مع منهجهم الإلهي، وأحسنوا فهم وتدبر شريعتهم الربانية؟!

قد يكون الجواب نعم، إنه في الفهم القاصر لدين الله تعالى، وقد يكون الجواب في أن الأهواء والنزعات السفلية التي ركبت في طينة البشر هي التي ضلت بهم السبيل وحجبت عنهم أنوار الفهم الصحيح لدين الله سبحانه وتعالى، وبين الجوابين فرق لا شك واسع.
 

إن الله يوم خلق الإنسان جعل به نزعات الخير والشر، وهو حرّم الشر لأنه يؤدي إلى الطامات والمصائب، ولا يقتصر ذلك عليه بل ينتشر في أرجاء الكون، ولا شك أنه إذا طال الزمن زادت تراكمات ذلك الشر، وقد يألفها الناس، فتسري في حياتهم أسباب التخلف والجهل، على أنه قد تصوّغ النفس المشربة بالهوى أسباب ذلك الشر وتشرّعه!.

كما أن النفس البشرية مركبة من الخطأ والجهل، فهي قد تخطئ الطريق من حيث تحسب أنها على صواب، وهذا وارد خاصة إذا تنازع القضية الواحدة أكثر من اعتبار واحد في الحكم.

والناس في موقفهم من منهج الله تعالى هم على أحوال ثلاث، فمنهم المؤمن، ومنهم الكافر، ومنهم المنافق الذي ظاهره مع الإسلام وباطنه مع الكفار، وكل من هؤلاء له مساهمته في تكوين ذلك الفراغ الذي نراه بين المسلمين والإسلام.

وسوف نبدأ الكلام عن دور الكفار، قبل أن نتعرض في الكلام عن دور المسلمين أنفسهم في تكوين ذلك الفراغ، ثم نعرض على دور المنافقين، وليس هذا الموضوع جامعا مانعا في عرض مظاهر أو أسباب هذا الفراغ، بل هو مجرد مناقشة بسيطة في بعض جوانب هذا الموضوع الكبير والمهم، وأتمنى من الأخوة العون والتوجيه لإظهار هذه الأسباب على النحو الصحيح الملامس للواقع.

 

الغزو الدخيل على الأمة الإسلامية:

الأمة الإسلامية متفاعلة مع الواقع المحيط بها فهي تؤثر فيه وتتأثر به، فما زالت تتنقل التيارات الفكرية منها وإليها، ولهذا الموضوع شجون طويلة منذ أيام دولة الإسلام الأولى حتى يومنا هذا الذي صارت فيه للكفار دولة وحضارة مادية وثقافية تكاد تستولي على أرباع الأرض.

فكان التفاعل الأول مع التراث اليوناني والإغريقي والفارسي والهندي، فإثيرت تبعا لذلك أسئلة كثيرة، انقسم المسلمون حول بعضها انقساما كبيرا، بينما استطاعوا هضم أكثرها واستفادوا منه بما يخدم حياتهم وعلومهم الإسلامية. ومن أهم الأفكار التي تسللت في تلك الفترة وما زال المسلمون يعانون منها: هو فكر التجسيم وفكر الإرجاء اللذان مازالا ينخران في جسم الأمة الإسلامية، ومنها أيضا التدخل الإسرائيلي في تفسير القرآن الكريم وقصصه.

ثم كان التفاعل الثاني مع الحضارة الغربية الحديثة التي قامت في أوروبا ثم تولت أمريكا الآن زمام أمرها، وهذه الحضارة الحديثة تبحث عن التمكين المادي والثقافي لها، وهي في سبيل ذلك تستخدم ما تملك من طاقات، فأصبحت هي القائدة في العلوم والاقتصاد والاجتماع والسياسة، بل حتى وفي التربية، وأهم ما تستخدمه من أدوات هو الإعلام والتحكم الاقتصادي والعسكري، وهي تحرص على زيادة الفجوات الموجودة أصلا في جسد ونسيج الأمة، فاختراع الفجوات أقل تأثيرا من زيادة سعة الفجوات الموجودة أصلا، وهي كما هو ظاهر تحرص على تشرذم الأمة، وإلهائها بنفسها عن مسايرة الركب فضلا عن التقدم عليه.

والأمة الإسلامية ما زالت في شؤونها عالة على هذه الحضارة، فهي أمة مستهلكة ومهزومة على كافة الأصعدة، فعليها أن تحسن التفاعل مع هذه الحضارة فتأخذ الحسن المفيد، وترمي بالقبيح القذر، وهي حتى الآن لم تستطع أن تهضم ذلك وتستوعبه، لأن التقدم العلمي والثقافي ليس في يدها، كما أنها بعد لم تتقدم في الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية.

وهذه الحضارة الغربية استطاعت أن تميل عقول وقلوب المسلمين لها، فتجد أبناء المسلمين متأثريين بمفردات هذه الحضارة، وقد ظهرت عليهم أثارها في مظهرهم ومخبرهم، في كلامهم وأخلاقهم، بل حتى في مأكلهم ومشربهم وملبسهم، فهل بعد هذا الاستعمار استعمار، إن بعضهم يشعر بالنقص عندما يذكّر بماضيه وحضارته وأصله، فيعرف عن تاريخ مستعمره أكثر من أن يعرف عن تاريخ أمته، بل يعظّم عظمائهم ومشاهيرهم ولا يعرف عن عظماء ومشاهير أمته إلا الشيء القليل. لذلك فهو سهل الاقتناع بمفردات تلك الحضارة وما ينتج عنها، فإن بررت له مثلا بأن الدين الإسلامي وأحكامه معقد للشخصية ومكتم للحرية، كان سهل الإنقياد لذلك. وتحت مظلة تلك التبريرات كانت الدعوات الغربية بمحاربة أحكام الإسلام ورموزة، مستخدمة الدعوات البراقة والمصطلحات المغرضة، من مثل أن الموسيقى تنعش الروح وتزيل الهموم، أو أن الديمقراطية والعلمانية هي الحلم التي تبحث عنه شعوب منطقة الشرق الأوسط الكبير أو الجديد.

وقد كانت هناك دعوات غربية لتشكيك المسلمين في مسلمات عقائدهم، والثابت من أحكام دينهم وفقههم، ودعوتهم إلى التنصر أو الإلحاد أو إلى غير ذلك من دعوات.

ورغم هذا الكم الهائل من التدخل الإجنبي في شؤون الأمة الإسلامية، إلا أن الأمر ما زال بيدها إذا أرادت التقدم الحضاري بين الأمم، وعليها لكي تكون كذلك بأن تأخذ بأسباب الوحدة، وأن تبعد عن أسباب التفرق والتشرذم، وتتنبه لما يحاك لها من دسائس ومهالك، ثم تأخذ بأسباب التقدم العلمي والاجتماعي، وأن تبني لها حضارة مستقلة قائمة على أساس الإسلام منهج ودستور.

ويرى البعض بأن هذا التدخل الأجنبي ما كان ليكون لولا هوان المسلمين وتخلفهم عن ما أراد الإسلام لهم، فالمسلمون أنفسهم وصلوا إلى حالة من التخلف والانحطاط بعيدة عن مراد الله تعالى لهم بإنزال الإسلام إليهم، وهم لمّا وصلوا إلى تلك الحالة كانوا في الوضع الذي مكّن أعدائهم منهم، فماذا كانت حالة المرأة مثلا في المجتمع الإسلامي، إن المسلمين لمّا لم ينصفوا المرأة كما أنصفها دين الله تعالى سهل انقيادها إلى الفكر الغربي، فهم ظلموها في مالها وأبعدوها عن العلم والمساجد، فكان الفكر الغربي هو منتشلها مما كانت تعاني منه من ظلم اجتماعي كانت تشعر به بين المسلمين.

الأمة الإسلامية في ميزان الشرع:

إن الناظر إلى حال الأمة الإسلامية اليوم يرى كثير من أفرادها ومجتمعاتها بعيدة كل البعد عن تعاليم الدين الإسلامي وأحكامه، بل يرى الارتكاب المنتشر بين افرادها للمعاصي والذنوب، وذلك فضلا عن التقصير في الواجبات والفرائض الإسلامية.

هناك تفريط في العبادات الكبرى في الإسلام من قبل شرائح كبيرة من المسلمين: كالترك للصلاة والزكاة، وارتكاب للمحرمات العظمى كأكل الحرام والتعامل بالربا، وذلك فضلا عن تقطيع أواصل الأرحام والجري خلف الشهوات والملذات إلى غير ذلك من طامات تبعد الإنسان عن خالقه وتجعله لعبة في تلبية شهوات نفسه والشيطان.

إن الإبتعاد عن منهج الله تعالى الإسلامي والجري خلف شهوات النفس والشيطان يورث الحسرة والخسران في الدنيا قبل الآخرة، فأين حال المسلمين اليوم عن مراد الله تعالى لهم، أين هم عن تطبيق أحكامه تعالى في سلوكهم ومعاملاتهم، فضلا عن التخلق بأخلاق القرآن، والتسامي بالنفس عن كل الشبهات والملذات، أين هم عن معنى العبادة الحقة لله تعالى بالخضوع له سبحانه، وعمران الأرض بالسعي فيها بالخير والصلاح.

إن المسلم تحت هذه الظروف مطالب بأن يدعو المسلمين إلى صراط الله الحق، وتبصيرهم بمنهج الله القويم في الأخلاق والمعاملات، كما في العقائد والعبادات.
 

الناس اليوم في غفلة كبيرة عن موضوع تقصير المسلمين في عباداتهم والتزامهم بالدين الإسلامي، فإذا سألت أحدهم عن سبب تخلف المسلمين، سارع بالقول إنه الاستبداد السياسي هو الذي أوصلنا إلى هذه الحالة، ونسوا قول الله تعالى (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (محمد:7). بل ما أوصل المسلمين إلى هذا التخلف إلا العصيان لله تعالى والاستهانة بتعاليمه سبحانه، فتخلى المسلمون عن نور الله الساطع وعن منهجه الحكيم فأصابهم ما أصابهم.

ونحن لا نغفل هنا عن أمر الاستبداد السياسي، بل نقول أن أمر الاستبداد السياسي لم يكن يوما برشيد، بل هو السبب الأول لتفريق كلمة المسلمين وظلمهم، فقد أدى إلى تكوين طغاة ليس لهم هم سوى جمع الأموال والجواري، وظلم عباد الله الصالحين، فضلا عن كبت روح الأمة الإسلامية عن الابداع والابتكار والانطلاق في كون الله تعالى بما يرضيه، وكل ذلك ولا شك من المعاصي والذنوب لله تعالى.

إن لهذا الاستبداد السياسي ترسبات وتراكمات كثيرة ما زالت جاثمة على جسد الأمة، كيف لا وقد تدخل في تشويه فكرها وفقهها وعقيدتها، وذلك فضلا عن ما أسفر عنه من تخلف اجتماعي وعلمي، فالناظر إلى تاريخ المسلمين لا يرى سوى الحروب والانقلابات والانقسامات.

ولم يكن الاهتمام بالمعارف والعلوم إلا في ما ندر من قبل أفراد جاد بهم التاريخ علينا، وإلا لم يكن الاهتمام بالعلوم الدنيوية خاصة مغروسا في فكر ساسة ومنظري الأمة، بل إنهم لجئوا في مجال العلوم الدينية إلى غلق باب الاجتهاد، فلا يحق لأحد أن يجتهد بعد قول الائمة الأربعة.

وهذا التخلف العلمي والاجتماعي والسياسي أدى إلى ما يعرف بحقبة التخلف والانحطاط التي ظهرت معالمها على السطح في القرن الهجري الماضي، إبان الاستعمار الأجنبي على ديار المسلمين، أما أسباب هذا التخلف فإنها تضرب بجذورها بعيدا في تاريخ المسلمين ومن لم يعرف هذه الحقيقة فإنه لن يستطيع الوصول إلى تلك الأسباب فضلا عن معالجتها.

ومع هذا التخلف والانحطاط الكبير الذي أصاب المسلمين كان الغزو العسكري والفكري للحضارة الغربية على ديار المسلمين وهو ما تحدثنا عنه سابقا، فكان المسلمون بين خيارين: الاستمساك بتراثهم القديم أو تركه واللجوء إلى المعتقدات الجديدة المتنورة القادمة من الغرب!.

وكلا الخيارين أدى إلى أمراض اجتماعية وثقافية بعيدة عن أصالة الدين الإسلامي الحق، ولهذه الأمراض أعراض واضحة في واقع الأمة الإسلامية اليوم، وسوف نعرض للقليل اليسير منها.

1. البعد عن الهوية الإسلامية

إن الانفصام عن الهوية الإسلامية اليوم واضح في كل شيء، فلم تعد الحاكمية لله تعالى هي المحكمة في شؤون الخلق، كما اختلّت منظومة الولاية والبراءة بين المسلمين والكافرين الرادّين لدين الله تعالى، فأصبح المسلمون بعيدين عن روح الإسلام الحق، وأصبحت عقولهم ونفسياتهم محتلة من قبل الغرب، فأصابهم الإنهزام الداخلي والبعد عن تعاليم وأحكام الإسلام السمحة، فلا بد من غرس هذه التعاليم والمبادئ في المجتمع المسلم، ولا بد من تعظيم الأخلاق والشرائع الإسلامية في النفوس حتى تتجلى فيتفاعل معها المسلمون بعقولهم ووجدانهم.

2. التبعية وعدم الاستقلال

هناك تبعية للغرب ليس فقط في النسخ المباشر للأنظمة الاقتصادية والإجتماعية والتربوية، بل حتى في القضايا الاستهلاكية، وهذا بدوره جعل الأمة الإسلامية غير مستقلة في كلمتها ومواقفها بل هي تبع، فالأمة الإسلامية اليوم عاجزة حتى عن تلبية حاجتها الجسدية فضلا عن أمورها المعرفية والنهضوية. وعامل التحرر الاقتصادي والسياسي والحضاري أمر في غاية الأهمية لأنه يحوّل المرء من عاجز تابع إلى منتج متصرّف حر، فالإنسان المسلم اليوم يشعر بالغربة في وطنه وعلى أرضه، ذلك لأن كل شيء مستورد وما عليه هو إلا أن يتكيّف مع هذا الواقع فيصرّف نفسه بمقتضاه وإلا وصم بالتخلّف والرجعية، فهو متفاعل مع ما حوله وليس منتج له، وهذا يولّد الإحساس بالإنقياد والشعور بالغلبة، فيكون عندها الوهن والعجز عن تحمّل المسؤوليات، فضلا عن مواجهة التحديات المحدقة.

إنك ترى بعض المسلمين اليوم غارق في الترف أو مهتم بأمور تافهة بسبب تدفق الأموال بين يديه، بينما ترى بعضهم الأخر قد غرس حب التملّق والاستجداء في دمه، فلا يتم له أمر إلا أن يذل نفسه مع عدد من الأشخاص الذي يحسب هو أن لهم سلطة في إتمام ذلك الأمر.

 

إن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة إلى نهضة كاملة في أمورها الإقتصادية والإجتماعية والتربوية، كما أنها بحاجة إلى نهضة معرفية حتى في علومها الإسلامية ونهضة ثقافية نابعة من حضارتها وتراثها.
 

3. الجمود الفكري

إن مرحلة التخلف والإنحطاط التي أصابت الأمة قد أورثها العجز والجمود في فكرها وحسها، فحل التقليد محل الإجتهاد والإبتكار، والتقديس للتراث محل التطوير والتجديد، والاستغراق في التفاصيل بدل البحث فيما يهم الأمة والمجتمع، فكانت النظرة القاصرة للأمور، وكانت المبالغة في الاحتياط حاجزا أمام الفهم الصحيح لدين الله تعالى. هذا بالإضافة إلى انحصار العلم عن أفراد المجتمع فحلت فيه الفوضى والجهل والخرافة.

إن أمام الأمة الإسلامية اليوم تراث ضخم من ميراثها الإسلامي الأصيل، كما هي أمام تراكمات كبيرة من مخلفات هذه العصور المتخلفة عن ركاب العلم والإيمان، وهي بنفس الوقت تواجه الإنفتاح العلمي الهائل الذي يأتيها من الغرب موشحا بلباس العلم والتجديد.

 

فالقضية بالنسبة لها ذات ثلاثة محاور: أولها الإستيعاب الكامل لمستجدات العلوم الحديثة وأدواتها المعرفية في خوض هذه العلوم، فالإسلام دين العلم، ونحن بحاجة إلى الإستيعاب لهذه العلوم، لا إلى الإنبهار بما عند الغرب.

كما أننا قبل ذلك بحاجة إلى الفهم الصحيح للديننا الإسلامي المستقى من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وما قعّده وأصلّه المسلمون من قواعد وأحكام يمكن لعلماء الأمة أن يراجعوه وينظروا فيه، فليس المطلوب هنا الرمي بتراث الأمة الزاخر بل المطلوب هو إعادة البريق إليه في ضوء القرآن والسنة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

وفي ضوء هذين المحوريين ينبغي العمل على إنتشال الأمة من الجمود الفكري والشلل العقلي الذي أصابها، وما صاحب ذلك من مظاهر وأسباب.

4. عدم وجود المنهجية العلمية

الإسلام دين العلم، فعبادة الله هي على علم، كما أن خلافة الأرض لابد أن تكون على علم، غير أننا اليوم نرى القصور الكبير في هذا الجانب عند الكثير من المسلمين، فكثير من الناس تسيّره العشوائية من غير تحديد للأهداف أو وضوح للرؤية عنده، بل إن هناك غياب للموازيين المحددة وخلط في المفاهيم والمصطلحات. وأنا هنا أريد أن أضرب مثالا واحدا فقط.

 

الناس متمايزة في توجهاتها وإهتماماتها، غير أن الواقع المحيط والجو العام يؤثر في هذه التوجهات والإهتمامات، فالمجتمع الذي يعلي من شأن لاعبي كرة القدم مثلا، تجد الكثير من شبابه يهتم بهذا الجانب فيتفنن في ايجاد الألقاب لهم، كما يتفنن شبابه في تقليدهم والتشبه بهم. فقضية الألقاب مهمة جدا لأنها قضية إعلامية تبرز أهمية الشخص في المجتمع، لذلك هناك ألقاب كثيرة في كل المجالات: فهناك نجوم الكرة والفن وغيره. وقضية الألقاب هذه قديمة عند بني البشر، وهي في كل فن، لذلك كان في الإسلام ألقاب كبيرة بعضها أطلقها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

 

بينما نجد البعض يطالب بإلغاء هذه الألقاب لأنها برأية لم يأت بها الشرع!، ثم أنها من العوامل التي أدت إلى انحطاط المسلمين لأنها زرعت فيهم حب تقديس العلماء والتقلييد لهم، لذلك ينبغي أن تزول عن الواقع الإجتماعي بين العلماء والدعاة وطلبة العلم.

 

والآن إذا ارتضينا هذا منهجا فإنّا نزيل الألقاب عن الدعاة والعلماء بينما تبقى في نجوم الفن والكرة وغيرهم ممن يقدمهم الإعلام اليوم، فيشتهرون في الناس وترفع هاماتهم وأصواتهم ومبادئهم أيضا. إن قضية التقلييد للعلماء والدعاة مطلوبه، فهؤلاء هم الذين ينبغي أن يكونوا سراة الناس وقادتهم وهداتهم إلى الحق والصواب. أما قضية التقديس والإنقياد المطلق فينبغي أن تعالج بطريقة أخرى، ذلك بأن تفند تلك النصوص والممارسات التي يزخر بها التراث فتظهر الحقيقة ويجلى الصواب بها.
 

هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ:

يزخر القرآن الكريم بآيات كثيرة تحذّر أشد التحذير من المنافقين، ذلك لأنهم لا يبحثون عن الحقيقة ولو جلّيت لهم ظاهرة مثل الشمس، بل تراهم يحاولون إخفائها والتدليس على الناس في أمرها، فهم يقلبون الباطل حقا والحق باطلا طلبا لغواية الناس وسترا لنور الحقيقة أن تظهر، وهم يندسون بين المسلمين ويظهرون الصلاح وحب الخير والرقي بالأمة والمجتمع ومصالحهما.

وهم في وقتنا هذا، ربما أكثر من أي وقت مضى، أكبر أداة في يد أعداء الأمة لهدمها وتحطيمها من الداخل، فلا تكاد ترى أمرا يخدم أعداء الأمة إلا وهم في مقدمته، حتى ولو كان ذلك هو الجيش الذي يغزو ديار المسلمين ويسطوا على ثرواتهم وممتلكاتهم، وقد توفرت في أيد هؤلاء الكثير من الإمكانات العلمية قبل المادية في تأدية أغراضهم ومآربهم.

وهؤلاء المنافقون ينبغي أن يعرّى أمرهم أمام الناس، فتظهر مخططاتهم ومكائدهم، حتى يظهر للناس ما الذي يبحثون عنه، ولا شك أن الحقيقة هي أخر ما يطلبون.

حتى يضيق ذلك الفراغ:

هو أمر ليس بعسير، بل هو أمر يسير بفضل الله ورحمته، فالفقه في دين الله تعالى والتمسك بذلك الدين هو الكفيل بتضييق هذا الفراغ الذي نراه بين المسلمين والإسلام، فعلى المسلمين أن يخلصوا في التوجه إلى الله سبحانه، وعليهم أن يعتصموا به ويتوحدوا تحت رايته، وعليهم أن يأخذوا بأسباب العلم والتقدم في كافة ميادين الحياة ويتوكلوا على الله سبحانه، وأن يبتعدوا عن الشهوات ومغريات الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق