في حدود علمنا
(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(الاسراء: من الآية85)
( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(طـه: من الآية114)
هل أدرك العقل الإنساني بعد طول الطواف، وكثرة التجارب، وتكرر البحث والنظر حقيقة واحدة لشيء من الأشياء؟
يقول القاصرون في إجابة هذا السؤال: نعم! ويقول الراسخون في العلم: لا! العقل الإنساني مجبول على النظر، ومفطور على البحث، مدفوع إلى الجري وراء الحقيقة، فهو دائما يفتش عنها ويندفع وراءها طامعا في الوصول إليها، ولكن الحقيقة دائما تداعبه وقد سخر منه، فكلما قارب أن يدركها أفلتت وتركت بين يديه صفة من صفاتها، وأثرا من آثارها، أو خاصة من خواصها، أما هي نفسها، حقيقتها وكنهها، فتتحداه في ذلك أبلغ التحدي، وتأبى عليه أن يكتشف سرّها كل الإباء.
ومع هذا التحدي العجيب، فإن هناك من الحقائق ما يزال يكل خواصه وصفاته مجهولا غامضا، لم تمتد إليه أشعة العقل الإنساني بعد.
كما أن هناك أيضا من خواص الأشياء، ما لم يستطع العقل الإنساني أن يصل فيه إلا إلى عمل صوري، هو وضع الألفاظ والأسماء لمسميات لا يعلم كنهها، يستر بذلك وجهه.
وكأنما انحصر محصول الإنسانية العلمي في عمرها الماضي الطويل في هذا القدر الضئيل في المعرفة.
يرى الإنسان الماء فيتساءل عن حقيقته، ويصل إلى أنّه أحد عناصر الوجود الأربعة: الماء والهواء والتراب والنار، ولكنه لا يلبث أن يصل إلى أنه كان مخدوعا، وإلى أن هذا الماء الذي ظنه عنصرا مجردا ليس إلا مركبا من عنصرين يسميهما الإنسان الأوكسجين والهيدروجين، ولكن ما الأوكسجين؟ وما الهيدروجين؟؟، ويستنيم العقل الإنساني إلى هذه المعرفة حينا من الدهر، ثم يواصل بحثه فإذا هما مركبان لا عنصران!!.
وهكذا يجري العقل الإنساني وراء الحقيقة فتفر منه وتترك في يديه الخواص والصفات.
حتى فكرة الذرة ونظرية الجواهر الفردة، التي لا تقبل الانقسام، ما زالت عمدة الناظرين في حقائق الكون، حتى حطمها العقل بتحطيم الذرة فقفزت الحقيقة المجهولة، وتركت العقل الإنساني ورائها في عالم من المجاهييل.
وما أحكم ما قاله العالم الفرنسي (شارل ريشيه) في بعض كتاباته في هذا المعنى إذ يقول: "يجب على الإنسان مع احترامه العظيم للعلم العصري، أن يعتقد بقوة أن هذا العلم، مهما بلغ من الصحة، فهو لا يزال ناقصا نقصا هائلا". إن حواسنا من القصور والنقص على حال يكاد يفلت من شعورها الوجود كل الإفلات، فالقوة المغناطيسية العظيمة لم تعرف إلا عرضا. ولو لم يوضع الحديد الحلو بجانب المغناطيس اتفاقا لجهلنا دائما أن المغناطيس يجذب الحديد. وما كان أحد منذ وقت قصير يحلم بوجود أشعة أكس. وقبل اكتشاف الفتوغرافيا ما كان يدري أحد أن النور يؤثر في أملاح الفضة....
لمَ لا نصرح بصوت جهوري بأن كل هذا العالم الذي نفخر به إلى هذا الحد، ليس في حقيقته إلا إدراكا لظواهر الأشياء؟.
وأما حقائقها فتفلت منّا ولا تقع تحت مداركنا، والطبيعة الصحيحة للنواميس التي تقود المادة الحيّة أو الجامدة تتعالى عن أن تلمّ بها عقولنا. إذا ألقينا حجرا في الهواء نراه يسقط إلى الأرض، فلماذا يسقط؟ يجيبنا (نيوتن) بقوله: سقط بجذب الأرض له جذبا مناسبا لكتلته وللمسافة التي سقط منها. ولكن ما هو هذا الناموس، إن لم يكن مجرد تحصيل حاصل؟ وإلا فهل فهم أحد تلك الذبذبة الجاذبة، التي تجعل الحجر يسقط إلى الأرض؟؟ إن ظاهرة سقوط حجر على الأرض من الشيوع بحيث لا تدهشنا، ولكن الحقيقة أنه لا يوجد عقل إنساني فهم ذلك! إنّ هذه الظاهرة عادية وعامة ومقبولة، ولكنها غير مفهومة، ككل ظواهر الطبيعة بلا استثناء.
وأما حقائقها فتفلت منّا ولا تقع تحت مداركنا، والطبيعة الصحيحة للنواميس التي تقود المادة الحيّة أو الجامدة تتعالى عن أن تلمّ بها عقولنا. إذا ألقينا حجرا في الهواء نراه يسقط إلى الأرض، فلماذا يسقط؟ يجيبنا (نيوتن) بقوله: سقط بجذب الأرض له جذبا مناسبا لكتلته وللمسافة التي سقط منها. ولكن ما هو هذا الناموس، إن لم يكن مجرد تحصيل حاصل؟ وإلا فهل فهم أحد تلك الذبذبة الجاذبة، التي تجعل الحجر يسقط إلى الأرض؟؟ إن ظاهرة سقوط حجر على الأرض من الشيوع بحيث لا تدهشنا، ولكن الحقيقة أنه لا يوجد عقل إنساني فهم ذلك! إنّ هذه الظاهرة عادية وعامة ومقبولة، ولكنها غير مفهومة، ككل ظواهر الطبيعة بلا استثناء.
إننا نعيش في وسط ظواهر تتوالى حولنا، ولم نفهم سر واحد منها فهما يليق بدرجتها، حتى إن أكثرها سذاجة لا تزال سرّا من الأسرار المحجوبة كل الاحتجاب! فما معنى اتحاد الهيدروجين بالأوكسجين، ومن الذي استطاع أن يفهم ولو مرّة واحدة معنى هذا الاتحاد، وهو يؤدي إلى إبطال خواص المجسمين المتحدين، وإيجاد جسم ثالث مخالف للأولين تمام المخالفة؟!!.
إن العلماء لم يتفقوا للآن حتى على طبيعة الذرة المادية التي توصف بأنها غير قابلة للوزن. وهي مع ذلك تصير قابلة له، متى اجتمع عدد كبير منها.
فالأولى بالعالم الصحيح أن يكون متواضعا وجريئا في آن واحد. متواضعا لأن علومنا ضئيلة، وجريئا لأن مجال العوالم المجهولة مفتوح أمامه.... فالويل للعلماء الذين يظنون أن كتاب الكون قد أقفل، وأنه لا يوجد شيء جديد يحسن تفهيمه للإنسان الضعيف.
وما أدق ما علق به أحد الإخوان العارفين على هذا الكون الواضح الجميل، حيث قال: "وأستطيع أن أزعم أن العقل الإنساني، لن يصل مهما جاهد إلى كنه حقائق هذا الكون، لأن الحقيقة سر الصنعة، وسر الصنعة عند الصانع وحده، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما"
فإلى الذين يغترون بألفاظ حفظوها، وقشور عرفوها وأسماء وضعوها، فكان هذا الغرور حجابا كثيفا بينهم وبين الوصول إلى الحق والإعتراف بالعجز والوقوف عند الحد, نسوق هذه الكلمات لعلها تذكرهم بأن هناك ميدانا أوسع من ميدان العلم المجرّد، وأرفع في إدراك الحقائق منزلة وأعلى كعبا، ذلك هو ميدان الإيمان. فليجاهدوا في الميدانين، ويعملوا في السبيلين، ويهتدوا بالنورين: نور العقل ونور القلب، فيفوزا بالحسنيين، ويتحقق قول القرآن الكريم: ) يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(المجادلة: من الآية11).
ولتأملوا قول الله العلي الكبير:
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِين، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر:82-85)
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِين، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر:82-85)
حسن البنا، من كتابه (أحاديث الجمعة)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق